حياة ومصير مكتبة الإسكندرية القديمة عبدالغني داود

حياة ومصير مكتبة الإسكندرية القديمة

كتاب الشهر
المؤلف: الدكتـور مصطفى العبـادي

مكتبة الإسكندرية القديمة كانت جذرا للحركة العلمية المهمة حتى العصور الحديثة.. ورمزا فرض نفسه على أخيلة الناس على مر العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية ومنارا لحركة النهضة الأوربية والإنسانية.. وهذا الكتاب يقد تلميذ أرسطو وهو الإسكندر الأكبر مؤسس المدينة التي حملت اسمه والتي نمت في ظل الدولة البطلمية وأصبحت واحدة من أعظم العواصم الثقافية والتجارية في العالم القديم.

صدر بالإنجليزية كتاب "حياة ومصير مكتبة الإسكندرية القديمة " تأليف الأستاذ الدكتور مصطفى العبادى أستاذ التاريخ بجامعة الكويت.

يرى المؤلف أن أهمية مكتبة الإسكندرية القديمة ترجع إلى أنها كانت جذرا للحـركة العلمية المهمة التي ظلت بلا نظير حتى العصور الحديثة.

ويتضمن هذا الكتاب المكتوب بلغة سهلة تكفل له الترجمة إلى لغات عديدة، مجموعة من اللوحات مأخوذة من المتحف اليـوناني الروماني بالإسكندرية، ويمثل الغلاف صورة المفكـر "أرسطـوبيوس " وهو عمود حجري يحمل نقشا تذكاريا خاصا بالدفن في الإسكندرية من الحجر الجيري في العصر البطلمي. وهناك العديد من الصور تمثل ملامح هذا العصر يبلغ عددها ثلاثا وعشرين صورة إحداها فسيفساء تمثل الإسكندرية كعروس للبحر صنعها "سوفليس" من القرن الثاني قبل الميلاد، وأخريات للمسرح الروماني أو لجندي على صهوة جواده وخريطة للإسكندرية البطلمية، ونماذج من رؤوس شخصيات تاريخية مهمة مثل الإسكنـدر الأكبر وأغسطس قيصر ومارك أنطوني.

ويذكر "فيدريكـو مايـو" في مقدمته للكتاب أن الإسكندر الأكبر هو الذي أسس مدينة الإسكندرية حيث نمت في ظل الدولة البطلمية، وأصبحت واحدة من أعظم العواصم الثقافية والتجارية في العالم القديم.

الإسكندرية مرآة لثقافة الإسكندر

ويقدم المؤلف خلفية تاريخية لفتوحات الإسكندر في القرن الرابـع قبل الميلاد في أوربا وآسيا وإفريقيا مما أدى إلى اتساع حرية السفر والتجـارة، وإلى فتح كثير من المناطق البعيدة في العالم للكشف والبحـث، وكان لمعلمه "أرسطو" التأثير الأكبر على ثقافته وتعليمه، حيث قرأ له العديد من الكتب. كما يصف المؤرخ اليوناني "بلوتارك " الإسكندر بأنه كـان محبا للأدب والقـراءة، ويصف المؤلف استعـدادات الإسكنـدر الحربية، وكيف غزا بابل والمنطقة العربية واتجه إلى مصر. ويـؤكد المؤلف في الفصل الثاني من هذا الجزء وعنوانه "الإسكندرية عاصمة لمنطقة جديدة وتجربة لبيئة متعـددة الأجناس ومتعـددة الثقافـات " أن الإسكندرية في مصر قد أثبتت أنها أعظـم الإنجازات وأبقاها التي حققها الإسكندر حتى بعد وفاته عام 323 قبل الميـلاد وتقسيم إمبراطوريتـه بين قواده. وبالرجوع والبحث في المراجـع القديمة مثل كتاب " حياة الإسكندر" لجلشتين تجد أن البحارة والتجـار الإغريق كانوا يعرفـون كل منطقة بالشاطئ الذي يحتضن جـزيرة "فاروس" وقرية "ماكـوتس" وهي الأرض نفسها التي بنيت عليهـا الإسكندرية، وأن الإغريق منـذ القرن السابع قبل الميلاد بدأوا يستقرون في مصر بأعداد متزايدة، وبعد دخول الإسكندر وضع المعماري اليوناني "دينوكراتس" خطط ورسوم بناء المدينة الجديـدة، وبعد وفـاة الإسكنـدر بدأ الملك بطليموس الأول يبني المعابـد والحصون، وكـانت المعابد الجديدة مقتبسة من معابد "سيرابيس" للدولة، مع مراعاة أن الإسكندر هو حارس المدينة. كذلك بنى مركـز الأبحاث الشهير باسم "مـوزيون Mouseion " والمكتبة الملكية.

وبلغت شهرة وعظمة الإسكندرية أوجها كعاصمة للعـالم في القـرن الثـالث قبل الميـلاد في ظل حكم "فيلاديلفوس " على وجه الخصوص الذي اشتهر في عصره الشاعر "ثيوكراتيس"، على سبيل المثال، وزادت علاقات الإسكندرية بكل البلاد حتى وصلت إلى الهنـد، وجـذبت فـرص العمـل والثروة والشهـرة المهاجرين إليها من كل البلاد في حوض البحر الأبيض المتوسط وآسيا. وقسم المؤرخ " بولينيوس " الذي زار المدينـة عـام 145 ق. م، سكـان المدينـة إلى ثـلاث مجموعات هي: المصريون والتجـار والسكندريون، وكان من السهل التمييز بين هذه المجموعات الثلاث. ولكي تصبح سكندريا كان الملك يمنـح حق المواطنة لمن يطلبها، ونتيجة لوجود عدد من الأجناس في المدينة كانت هناك ألوان الصراع بينهم. واضطر بطليموس الأول أن يختار ديانة توحد بين المصريين والإغريق هي ديانة "سرابيس " التي أصبحت تدل على أوزوريس عند البعض وعلى ديونسيوس عند البعض الآخر.

عقول ومدارس فلسفية

وفي الجزء الثاني وعنـوانه "التاريخ " يتناول الفصل الأول فيه تاريخ مركز الأبحاث الشهير بـ "الموزيون والمكتبات " حيث إنه من المعروف أن تكوين المكتبات هو مرحلة متطورة من مراحل المجتمعات المتحضرة، لذا استمر تقليد دمج المكتبة في المعابد المصرية في العصرين الهلينستي والروماني، فقد كان للسيرابيوم مكتبته الخاصة وكـذلك في "أشوت" بإدفـو في العصر البطلمي، وللسيرابيوم في الإسكندرية والمكتبة الخاصة القيصرية حتى القرن الرابـع الميلادي، وجاء على لسان المؤرخ، أورواسيوس" ذكر وجود خزانات الكتب في معابد الإسكندرية، وتعددت المكتبات. ولكن كـان أشهر هـذه المكتبات في العصـور القديمـة مكتبـة الإسكندرية، ويرجع تاريخ مركز الأبحاث " الموزيزن " والمكتبة إلى الملكين بطليموس الأول وبطليموس الثاني (285- 246 في القرن الثاني قبل الميلاد). وهناك الكثير من آثار منطقة كوم الدكـة بالإسكندرية الذي يكشف عن وجـود قاعات للمحاضرات في هذه المكتبات. ويكشف رسم مركز الأبحاث "الموزيون" أنه اتبع النموذج المعروف في مدرستين شهيرتين من مدارس الفلسفـة الأثينية هما "أكـاديميـة أفلاطـون وليسيوم أرسطو" فكل السمات والخصائص واحدة في المعاهد الثلاثة وتأخذ شكلا واحدا. وقد أطلق المؤرخ "سترابو" كلمة سينودس على المجتمع أو المجمع وهي في الأصل مركز أبحاث، ويستقي من تواريخ حياة بعض المفكرين أنهم كانوا أساتذة أو طلبة لواحد أو لآخر من أعضاء الموزيون البارزين، واستمر الموزيون يؤدي وظيفته في العصر الروماني، وأصبح معهدا للتعليم أكثر من أي شيء آخر، أما المكتبة فقد كـانت هناك في البداية مكتبة قريبة إلى حد ما من الموزيون بين القصور الملكيـة المطلة على الميناء العظيم، لكن بعد حوالي أكثر من نصف قرن زادت كمية الكتب مما أدى إلى زيادة طاقة المكتبة فتقرر فتح مكتبة لاستيعاب الكتب الإضافية، واندمـج هذا القديـم في السيرابيوم الذي بني حديثا على يد بطليموس الثالث الذي كان يقع على مسافة مـن المناطق الملكية في الحي المصري إلى الجنوب من المدينة، وكان يعين لهذه المكتبات مشرف يسمى المشرف على المكتبة الملكية.

المكتبة بين الجمع والتبويب والفهرسة

ويكشف المؤلف في الفصل الثاني من هذا الجزء عن حركة تجميع الكتب، وأن الكتب كانت تجمع للمكتبة عن طريق العائلات، والمصـادرة، وكـان البطـالمة يفتشون السفن في الميناء يبحثون عن الكتب، فإذا وجد كتاب يؤخذ إلى المكتبة ويتقرر فيما بعد، إما أن يعاد إلى صاحبه أو يمنـح تعويضا مناسبا عنه، وكانت موضـوعات ومعارف هذه الكتب تختلف مـن فلسفة يونانية إلى ديانات شرقية وغيرها، وتجمعت أكوام من هذه الكتب في مكتبات الإسكندريـة، وكانت الكتب تفهـرس في كل حقل من حقـول التعلم والمعرفـة، واشتهر "بينكس" الذي تبقت شـذرات من كتابه بالفهرسة، وكان يفهرس الكتب على حسب الموضوع مثل (الخطابة والقانون والملاحم والمأساة والملهاة والشعر الغنـائي والتاريخ والطب والريـاضيات والعلوم الطبيعية والمتنوعات)، وتحت كل موضـوع يرتب كل مؤلف بشكـل فردي بترتيب أبجدي، ويتبع كل اسم بنبذة قصيرة عن تاريخ حياته وفقرة نقدية لكتابات المؤلف.

ويتابع المؤلف في كتابـه استعراض كيف تفانى الملوك البطالمة في رعاية الثقافة، وازدهرت في عصرهم الملاحم والدراما والفلسفـة على وجـه الخصـوص، وتطورت كذلك مبادئ النظرة العلمية في البحث على أسس مختلفة انتهت بنماذج مهمـة في الريـاضيات والفيزياء والطب والجغرافيـا والفلك، ويقدم لنا شخصية العالم الذي اشتهر بمقاييس الأرض والعلوم الأكاديمية وكـذلك العلوم الإنسانية خاصة الجغرافيا (أراتسـونيس كـايرين) وكيف كـانت لآرائه آثارها المهمة في النقد الأدبي خاصـة في نقد "هوميروس " والشعر عموما، فهو الذي قال: إن هذا الشاعر ليس غرضه أن يعلم بل أن يمنح المتعة، ويقدم كذلك الناقد الأدبي أريستافـونين من بيزنطـة الـذي كـانت أبرز إسهاماته الثقافية تدخل في حقل الدراما الهوميرية. كذلك اجتـذبت الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي في مجال دراسة الطب العالم "جالـن" آخر علماء الفيزياء الكبار في العالم القديم، ويلاحظ المؤلف أنه رغم عدم ازدهار الفلسفـة في عصر البطالمة إلا أنها شهدت في أواخر هذه الدولة اهتماما متزايدا بالفلسفة، وكـان لامتـزاج العقائد الـدينية المختلفـة والملل والنحل الفلسفيـة تأثير كبير على كثير من الضمائر الـدينيـة والعقول الحساسة في ظل الإمبراطورية الرومانية. ويشير المؤلف إلى دور " فيلوجـودايوس " الذي توفي حـوالي عام 40 ميـلادية في دمج المدرسة اليهـودية المسيحيـة في الفكر، فقد كـان شديد الاهتمام بالنص المقـدس، وكان معجبا بالفلسفة اليونانية كـما كـانت تتطور في ذلك الوقت، لكن "فيلو" لم يدع أبدا أنه فيلسـوف بل كـان يفضل أن يكـون مجرد مفسر للنصـوص، وكـانت أهم إسهـاماتـه في مجال علم اللاهوت، لكن كانت أكبر استجابة فلسفية للموقف الديني هي وجـود الأفلاطونية الجديدة، وهي آخر مراحل تاريخ الفلسفـة القديمة التي يجسد قيمتها الفيلسوف "بلوتنيوس" المولود في ليكوبولوس "مدينة أسيوط" بصعيـد مصر، وهي فلسفة مستنبطـة من الاتجاه الانتقائي وفكـرة وحـدة الـوجود والاتحاد الصوفي.

بداية النهاية

ويتناول الجزء الثالث من الكتاب وعنوانه "النهاية" نهاية ومصير مكتبة الإسكندرية ومركـز الأبحـاث، فيبدأ المؤلـف بتساؤل حـول مصير المجمـوعات البديعة من مكتبات الإسكندرية والتي اختلف المؤرخون حـولها منذ القرن الثامن عشر، إذ إن هذه المكتبات قـد دمرت بالتأكيد، لكن كيـف ومتـى؟ وهل كـانت هي المكتبة نفسها أو المكتبات التي تبقت حتى القرن السابع عند فتح العرب لمصر، أم أن هذه المكتبـة قـد اختفت في وقت مبكـر من هـذا التاريخ؟ ويرى المؤلف أن الأدلـة المتـاحـة ليست حاسمـة، وأن كل الأفكـار حـول هـذا الموضـوع. تحليلات شخصيـة وذلك من خلال سياقاتها ولغاتها الأصلية، ويحاول المؤلف كشف بعض الغمـوض، ويركز مناقشته حول ثلاثة أحداث رئيسية هـى: 1 - الحرب السكنـدرية عام 48 قبل الميلاد 2 - تدمير السرابيـوم عام 391 ميلادية 3 - الفتح العربي عام 642 ميلادية.

إذ كانت الإسكندرية هي مسرح الحرب السكندرية عام 48 ق. م، أي الحرب الأهلية الرومانية التي دارت رحاها حـول مطاردة "يـوليوس قيصر" لغريمه "بومبي" ووصوله إلى الإسكندرية فـور علمه بموت "بومبي"، وقيام حرب أهلية أخرى، وكانت هذه المرة بين كليوباترا وشقيقها الأصغر بطليموس الثامن" وانتصار "يوليوس قيصر" بقواته العسكـرية في هذه الحرب. ويستشهد المؤلف بقصيدة " لوسان" الملحمية كيف انتشرت النيران في السفن إلى أحيـاء المدينـة، كـذلك "سنيكـا" الفيلسوف الرواقي الذي أعدم في الحرب، كيف احترق أربعـون ألف كتاب في مكتبات الإسكندرية أثناء حرب قيصر، ويذكر المؤرخ اليوناني "بلوتارك" صراحة في تاريخه عن حياة قيصر، كيف أشعلت النيران ودمرت المكتبة العظيمة، ويوضح في كتابه مصير المكتبة العظيمة والقصور الملكية، وتذكر كتب المؤرخين الذين تلـوا هذه الحقبة نفس الوقعة، إذ يروي المؤرخ "أوليوس جليوس" من القـرن الثـاني أن عـدد الكتب كـان سبعمائة ألف كتـاب احترقت خلال عمليـة اقتحـام ونهب المدينـة، لكن المؤلف يعتمد كثيرا على شهـادة "بلـوتـارك"، ويشير إلى ارتباط مركز الأبحـاث "الموزيـون" بالمكتبة الملكية التي لا بد أن قاعة هذا المركز كانت بها مجموعة عظيمة من الكتب لأن هذا المركز كـان مزدهرا وأثبت وجـوده خـلال القـرنين الأولين من الحكم الـرومـاني، حيث كـانت المكتبات تساعد المثقفين على حمل تقاليد الثقافة السكندرية ونقلها إلى العالم، ولكن سرعان ما ألقت مشاكل الإمبراطورية بظلالها السوداء على حياة الإسكنـدرية، ورغم ذلك كـان مركـز الأبحـاث هو عروس المتاحف، وتمتع بدرجـة من القداسة طوال بقاء المعابد الوثنية دون تدمير. ويروي المؤلف واقعة تدمير السرابيـوم عام 391 ميلادية إذ بعد تدمير المكتبة الملكية عام 48 قبل الميلاد أصبحت "مكتبة الأخت" هي المكتبـة الرئيسية في الإسكندرية، لكن بعد إعلان المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية تهددت قـداسة المعابـد، وتأزم الموقف في ظل حكم الإمبراطور "ثيودوستيوس" 379 - 395 الذي شن حملة واسعـة ضد الوثنية ومعابدها في كل أنحـاء الإمبراطـورية، واستطـاع "ثيـوفيلس" أسقف الإسكنـدريـة المتعصب الحصـول على مـوافقـة الإمبراطور في أن يحول معبد "ديونسيوس" إلى كنيسة، وشعر بعض السكـان الذين كـانوا لا يزالون على وثنيتهم بالخوف من هذه السياسة فبحثوا عن مأوى في السرابيـوم الذي كـان مبنيا على أرض مرتفعة وأشبـه بالحصن، وكثيرا ما شبهه المؤرخون بأنه "أكروبولوس الإسكندرية" لذا طلب الأسقف "ثيوفيلوس" مساعدة قـائد جيش الاحتلال الروماني فرفض، وانتظروا فرمان الإمبراطور الذي صرح لهم باقتحام السرابيوم، ويرى المؤلف أن المكتبة في السرابيوم قـد لاقت نفس مصير المعبد، ويستشهد بالمؤرخ " روفنيوس" الذي شهد أحـداث عام 391 في الإسكندرية وكتب عنها فيما بعد والذي كان قد شهد المعبد قبل تدميره. لكن بعد تلك السنين المليئة بالأحـداث عند نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس استعادت الإسكندرية حياتها الطبيعية وأصبحت مركز الحركـة الفكـرية الجديدة.

براءة الفتح العربي من الحريق

وعند فتح مصر على يد عمرو بن العاص يستشهد المؤلف بـالمؤرخين "عبـد اللطيف البغـدادي وابن القفطي" اللذين قالا إن عمرو بن العاص قد أحرق مكتبة الإسكندرية القديمة موردا بعض الجمل من كلام البغدادى ومن كتاب ابن القفطي "تاريخ رجل حكيم " فيذكر أن في سياق حـديثهما حرق عمرو لمكتبة الإسكندرية إذ يقال إنه أرسل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يسأله في أمر مكتبة الإسكندرية فأجابه: إذا كانت هذه الكتب تتفق ما جاء به كتاب الله فلا تمس، وإذا وجد فيها ما لا يوافق كتاب الله فتدمر، فأمر عمرو بأن توزع الكتب على حمامات الإسكندرية وتستخدم كـوقود لها، واستغرق حرقها ستة شهور حتى استنفدها جميعا، وقد نقل المؤرخـون العرب عن "ابن القفطي" هذه الواقعة كـاملة أو باختصار. ويرى المؤرخ " بتلر" أن هذه الواقعة مشكوك فيها، واختلاف الكتـاب والمؤرخين يعكس اهتمام الكتـاب العـرب والبيزنطيين بالمكتبة وبتاريخها، لكن أحدا منهم لا يعرف شيئا عن بقائها حتى الفتح العربي، وأن الرسالة التي تبـادلها عمرو بن العـاص مع الخليفة عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه هي مجرد اختراع تـم في القرن الثاني عشر، وهو عصر الغزوات والحملات الصليبية، لكن المؤلف يؤكـد ازدهار صناعة الكتب في العالم الإسلامي وكـذلك في الأديرة، ويستشهد على ذلك بعدة وقائع تاريخية منها اضطرار الخليفة الفاطمي المستنصر لبيع المكتبة الفاطمية الفخمة في القاهرة ليدفـع رواتب الجند الترك،. وكانت تحتوي على آلاف آلاف الكتب، ويتتبع المؤلف عدة وقائع مهمـة ذكرت في كتب المؤرخين من أمثال المقريزي وابن شامة تبين مدى أهمية وجود المكتبات لدى العرب، وحرصهم على اقتنـاء الكتب واعتبـارهـا من ضمن كنـوزهم وثرواتهم مثل واقعة حصار مدينة طرابلس أثناء الحصار الصليبي ونهبهم لكتبها، وواقعة أخرى تتعلق بحزن القـائد "أسامة بن منقـذ" على مكتبته التي سرقت، وواقعة إعلان صلاح الدين عن مزاد لبيع المكتبة الفـاطمية الشهيرة بما يبرز الاهتمام المتـزايد بالكتب لدى العرب.

ويورد المؤلف في خاتمة الكتاب وعنوانها "خاتمة من الإسكندرية إلى بغداد" قصة أخـرى بعيدة عن قصة عمرو بن العاص والمكتبة، وهي قصة أكثر صدقا وأكثر إثارة مع الثقافة السكندرية التي قامت من قبل بدور مؤثر في الإنجازات الفكرية في العصرين الهيليني والروماني، فيلقي الضـوء على تأثير هذه الإنجازات على أذهان المفكرين العرب، حيث استدعى الأمر في القرنين الأولين لحكم العرب للمنطقة وجود مترجمين لتيسير النواحي الإدارية، وتبع ذلك حركة ترجمة كبرى في العصرين العباسي والأموي مما جعل الحركة الثقافية العربية تمر بثلاث مـراحل هي: الترجمة ثم التعليق والنقد وأخـيرا النصوص، كـذلك يبين المؤلف تأثر العلماء العرب بمنهج مدرسة الإسكندرية العلمية التي تقوم على التجريب والملاحظة الدقيقة والتقييم النقدي أكثر من الاستناد على نص الكتاب. هذه المدرسة التي انطلق منها "كوبرنيكوس" ليصحح معرفتنا بالكون إذ تمتد جذور أبحاثه إلى العالم السكندري "شيشرون" في كتابه "أكاديميكا".

إن هذا الكتاب جهد رائع لمؤلفه الأستاذ الدكتور مصطفى العبادي، وهو خطوة أولى وأساسية نحو مزيد من البحوث العلمية التفصيلية حول موضوع مكتبة الإسكندرية التي نتطلع لإعادة بنائها والمساهمة في تكـوينها، لتكـون من جديد منارة للعلم ومركزا لالتقاء الثقافات والحضارات الإنسانية التي تربط بين البشر برباط من الحب والإخاء.

 

عبدالغني داود






غلاف الكتاب





الإسكندر الأكبر