جيورجيو دي كيريكو «صورة غيوم أبولينير»

جيورجيو دي كيريكو «صورة غيوم أبولينير»

في عام 1911م، وصل إلى باريس رسام شاب في الثالثة والعشرين من عمره، وفي جعبته مذهب فنّي جديد على العاصمة الفرنسية التي كانت تتأرجح بين «ما بعد الانطباعية» وبداية «التكعيب». هذا الرسام هو جيورجيو دي كيريكو، الذي تمكّن خلال فترة وجيزة من احتلال مكانة مرموقة على الساحة الثقافية في فرنسا، ومن ثمّ في أوربا بأسرها، ومهّد بمذهبه الفني المعروف باسم «المدرسة الماورائية»، لظهور السوريالية لاحقًا.
وُلد الرسام الإيطالي دي كيريكو في اليونان عام 1888م، ودرس فن الرسم أولًا في معهد «البوليتكنيك» بأثينا وهو في الثانية عشرة من عمره. 

وفي‭ ‬عام‭ ‬1906‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أكاديمية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‮»‬‭ ‬في‭ ‬شتوتغارت‭ ‬بألمانيا،‭ ‬حيث‭ ‬بقي‭ ‬5‭ ‬سنوات،‭ ‬وأمضى‭ ‬معظم‭ ‬السنوات‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬متنقلًا‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭.‬

خلال‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬درس‭ ‬دي‭ ‬كيريكو‭ ‬الشعر‭ ‬والفلسفة‭ ‬الألمانية،‭ ‬وتأثّر‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬بقراءته‭ ‬لأعمال‭ ‬نيتشه‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬وجود‭ ‬دلالات‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬تختبئ‭ ‬تحت‭ ‬المظاهر‭ ‬السطحية‭ ‬للأشياء‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الفنان‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬استكشاف‭ ‬هذه‭ ‬الدلالات‭ ‬أو‭ ‬الإشارات‭ ‬غير‭ ‬المرئية،‭ ‬وتأسيس‭ ‬اتجاه‭ ‬فنّي‭ ‬جديد‭ ‬أسماه‭ ‬‮«‬المدرسة‭ ‬الميتافيزيقية‮»‬‭. ‬وتميّزت‭ ‬لوحاته‭ ‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬بتشكيلها‭ ‬من‭ ‬فضاءات‭ ‬مسطحة‭ ‬هندسيًا،‭ ‬وباحتوائها‭ ‬على‭ ‬أشياء‭ ‬متناقضة‭ ‬ومنتقاة‭ ‬من‭ ‬مشاهداته،‭ ‬جمعها‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬تركيب‭ ‬غير‭ ‬واقعي‭ ‬وكأنه‭ ‬حلم‭ ‬‮«‬مزعج‮»‬‭.‬

بعد‭ ‬سنتين‭ ‬من‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬باريس،‭ ‬تمكّن‭ ‬الرسام‭ ‬من‭ ‬عرض‭ ‬بعض‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬‮«‬صالون‭ ‬الخريف‮»‬‭ ‬1913م،‭ ‬ولفتت‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬نظر‭ ‬بيكاسو،‭ ‬والشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬غيوم‭ ‬أبولينير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بمنزلة‭ ‬سلطة‭ ‬ثقافية‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عشية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭. ‬ونشأت‭ ‬بين‭ ‬الرسام‭ ‬الوافد‭ ‬والشاعر‭ ‬صداقة‭ ‬متينة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نتيجتها‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬زجّ‭ ‬بالرسام‭ ‬وسط‭ ‬نخبة‭ ‬الفنانين‭ ‬الناشطين‭ ‬آنذاك،‭ ‬كما‭ ‬رسم‭ ‬الفنان‭ ‬صديقه‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لوحة،‭ ‬أشهرها‭ ‬التي‭ ‬نحن‭ ‬بصددها‭.‬

تتألف‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الصورة‭ ‬الشخصية‮»‬‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬تمثال‭ ‬نصفي‭ ‬من‭ ‬الجصّ‭ ‬لا‭ ‬يمتُّ‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬الشاعر،‭ ‬فهو‭ ‬ذو‭ ‬ملامح‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التماثيل‭ ‬الإغريقية،‭ ‬يخفي‭ ‬عينيه‭ ‬تحت‭ ‬نظارة‭ ‬سوداء‭ ‬وكأنّه‭ ‬أعمى‭ ‬جمّده‭ ‬الزمن،‭ ‬لكنّه‭ ‬يتطلّع‭ ‬مباشرة‭ ‬إلينا،‭ ‬لأنّه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أعماقنا،‭ ‬ولأنّ‭ ‬شكلنا‭ ‬الخارجي‭ ‬ليس‭ ‬ما‭ ‬يهمه‭... ‬ومن‭ ‬خلف‭ ‬مستطيل‭ ‬أبيض‭ ‬رسم‭ ‬عليه‭ ‬الفنان‭ ‬بالقلم‭ ‬الفحمي‭ ‬سمكة‭ ‬وصَدَفة،‭ ‬يطلّ‭ ‬ظل‭ ‬أسود‭ ‬لرجل‭ ‬هو‭ ‬حتمًا‭ ‬الشاعر‭ ‬أبولينير‭ ‬المعروف‭ ‬بأنفه‭ ‬الطويل‭ ‬والمعقوف‭ ‬قليلًا‭ ‬والمستدق،‭ ‬وعلى‭ ‬صدغه‭ ‬الأيسر‭ ‬رسم‭ ‬الفنان‭ ‬دائرة‭ ‬بيضاء‭ ‬تشبه‭ ‬دوائر‭ ‬أهداف‭ ‬الرماية‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1920م،‭ ‬اكتشف‭ ‬الكاتب‭ ‬السوريالي‭ ‬أندريه‭ ‬بروتون‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬الشاعر‭ ‬أبولينير،‭ ‬وأثارت‭ ‬دهشته،‭ ‬فحرص‭ ‬مع‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الصاعدين‭ ‬على‭ ‬الالتفاف‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬الفني،‭ ‬وكان‭ ‬هؤلاء‭ ‬نواة‭ ‬التيار‭ ‬السوريالي‭ ‬التي‭ ‬تشكّلت‭ ‬حول‭ ‬بروتون‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1924م‭.‬

لكنّ‭ ‬التفافهم‭ ‬حول‭ ‬دي‭ ‬كيريكو‭ ‬جاء‭ ‬متأخرًا،‭ ‬لأنّ‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬فاجأ‭ ‬الفنانين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬1919م،‭ ‬بمقالة‭ ‬كتبها‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الحرفية‮»‬،‭ ‬دعا‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الرسم‭ ‬وفق‭ ‬الأصول‭ ‬التقليدية‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬وراء‭ ‬تحوّل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬أدى‭ ‬تدريجيًا‭ ‬إلى‭ ‬استعداء‭ ‬السورياليين‭. ‬

تبقى‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬عند‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬تم‭ ‬استدعاء‭ ‬أبولينير‭ ‬إلى‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكرية‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1917م،‭ ‬أصيب‭ ‬بشظية‭ ‬قذيفة‭ ‬في‭ ‬صدغه‭ ‬الأيسر،‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أحاطه‭ ‬دي‭ ‬كيريكو‭ ‬بالدائرة‭ ‬البيضاء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬قبل‭ ‬3‭ ‬سنوات‭. ‬ولأنّ‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬يحبّ‭ ‬‮«‬الخوارق‮»‬‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الدهشة،‭ ‬رأى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬‮«‬تنبّأ‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬بما‭ ‬سيحصل‭ ‬للشاعر‭ ‬لاحقًا،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الصورة‭ ‬التنبوئية‭ ‬لغيوم‭ ‬أبولينير‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬تُعرف‭ ‬به‭ ‬الآن‭ ‬■

جيورجيو‭ ‬دي‭ ‬كيريكو،‭ (‬1888‭ - ‬1978م‭)‬،‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬غيوم‭ ‬أبولينير‮»‬،‭ ‬زيت‭ ‬وفحم‭ ‬على‭ ‬قماش،‭ (‬81.5×‭ ‬65‭ ‬سم‭)‬،‭ ‬1914م،‭ ‬مركز‭ ‬جورج‭ ‬بومبيدو،‭ ‬باريس‭.‬