أين مني «العربي» وأين «العربي» مني؟

أين مني «العربي» وأين «العربي» مني؟

قد‭ ‬يختلف‭ ‬تذكر‭ ‬أيام‭ ‬الشباب‭ ‬عن‭ ‬التذكير‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬لقاء‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ / ‬لقاء‭ ‬يحمل‭ ‬شعلة‭ ‬البهجة،‭ ‬وهذه‭ ‬الشعلة‭ ‬قد‭ ‬تضيء‭ ‬موقع‭ ‬اتهام‭ ‬على‭ ‬نفسية‭ ‬تحمل‭ ‬البسمة‭ ‬والدمعة‭ ‬معًا‭. ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬تنفض‭ - ‬نظريًا‭ - ‬ذاك‭ ‬التعداد‭ ‬من‭ ‬السنين،‭ ‬فيدب‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬بعض‭ ‬دفء‭ ‬لأيام‭ ‬أثلجها‭ ‬الزمن‭.‬‭ ‬وأقول‭: ‬ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالبارحة‭! ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نطقت‭ ‬به‭ ‬عند‭ ‬تسلمي‭ ‬لدعوة‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬لمشاركتها‭ ‬احتفالتها‭ ‬نصف‭ ‬القرنية‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬المديد‭ - ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ -.‬

قسرًا‭ ‬سأعود‭ ‬بذاكرتي‭ - ‬الضعيفة‭ - ‬وأيضًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أوهنها‭ ‬الزمن،‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬شهادتي‭ ‬بميلادها‭.‬

وليعذرني‭ ‬القارئ‭ ‬العزيز‭ ‬إن‭ ‬وقع‭ ‬إبهامه‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬الخلل‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الذاكرة‭ ‬الضعيفة‭ - ‬أصلاً‭ - ‬وقد‭ ‬أوهنها‭ ‬الزمن‭ ‬وزادها‭ ‬ضعفًا‭ ‬على‭ ‬ضعف‭.‬

لقد‭ ‬وطأت‭ ‬قدماي‭ ‬ساحة‭ ‬كلية‭ ‬التجارة‭ - ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬إلا‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬قوامها‭ ‬شهر‭ ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬شهر‭ ‬حتى‭ ‬تعرضت‭ ‬مصر‭ ‬الغالية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬آنذاك‭ ‬بالعدوان‭ ‬‏الثلاثي‭ (‬إنجلترا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإسرائيل‭) ‬فما‭ ‬كان‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أغلقت‭ ‬جميع‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعة،‭ ‬وتوقفت‭ ‬مصر‭ ‬العزيزة‭ ‬عن‭ ‬النشاط‭ ‬سوى‭ ‬بالدفاع‭ ‬العسكري،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منا‭ - ‬كأول‭ ‬بعثة‭ ‬نسوية‭ ‬كويتية‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ - ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أصبحن‭  ‬كأخواتنا‭ ‬المصريات‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬بواسطة‭ ‬التطوع‭ ‬في‭ ‬المستشفيات‭ ‬والتدريب‭ ‬العسكري‭ ‬والدفاع‭ ‬المدني‭ ‬بحضور‭ ‬ناشط،‭ ‬مما‭ ‬قرب‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬إخوتنا‭ ‬وأخواتنا‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬فكانت‭ ‬فرصة‭ ‬للتعرف‭ ‬والتعارف‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الكويت‭ ‬الصغيرة‭ ‬حجمًا‭ ‬والكبيرة‭ ‬قولًا‭ ‬وفعًلا‭ ‬وسمعة‭ ‬ناصعة‭ ‬البياض،‭ ‬فزاد‭ ‬التقارب‭ ‬بيننا،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الكويت‭ ‬آنذاك‭ ‬مازالت‭ ‬تحت‭ ‬الحماية‭ ‬البريطانية،‭ ‬أي‭ - ‬غير‭ ‬مستقلة‭ - ‬وليست‭ ‬كما‭ ‬ظن‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬الوجه‭ ‬القبلي‭ ‬أو‭ ‬البحري‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وأنها‭ ‬سميت‭ ‬بلاد‭ ‬العرب،‭ ‬ليس‭ ‬لكونها‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬نصفها‭ ‬للعرب‭ ‬ونصفها‭ ‬للأعاجم،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬بقعة‭ ‬منها‭... ‬أي‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭.‬

المهم‭... ‬ما‭ ‬إن‭ ‬انطوت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬السوداء‭ ‬حتى‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬جامعتنا‭ (‬جامعة‭ ‬القاهرة‭) ‬كل‭ ‬في‭ ‬موقعه،‭ ‬إلا‭ ‬أنا،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬عداي،‭ ‬كنت‭ ‬رافضة‭ ‬كل‭ ‬الرفض‭ ‬لكلية‭ ‬التجارة،‭ ‬بسبب‭ ‬بسيط‭ ‬وهو‭ ‬لأنني‭ ‬ما‭ ‬اعتدت‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الآلاف،‭ ‬ففصلي‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الرابع‭ ‬الثانوي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الشرقية‭ ‬قوامه‭ ‬عشر‭ ‬طالبات،‭ ‬وكنت‭ ‬فيه‭ ‬شبه‭ (‬زعيمة‭)‬،‭ ‬واليوم‭ ‬مطلوب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أحضر‭ ‬فصلًا‭ ‬يبلغ‭ ‬قوامه‭ ‬ألفا‭ ‬ومائتي‭ ‬طالب‭ ‬وطالبة،‭ ‬ينقسم‭ ‬الفصل‭ ‬إلى‭ ‬نصفين،‭ ‬كل‭ ‬نصف‭ ‬ستمائة‭ ‬طالب،‭ ‬نصف‭ ‬يحضر‭ ‬صباحًا‭ ‬وآخر‭ ‬يحضر‭ ‬بعد‭ ‬الظهر،‮ ‬‭ ‬فوجدت‭ ‬نفسي‭ ‬كطفل‭ ‬ألقي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬اليم،‭ ‬وكان‭ ‬البحر‭ ‬عميقًا،‭ ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬السباحة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬مني‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬قسم‭ ‬آخر‭. ‬
تعهدتني‭ ‬أستاذة‭ ‬جامعية‭ ‬تحمل‭ ‬صفة‭ ‬مثقفة‭ ‬بمعنى‭ ‬مساعدة‭ ‬الطلبة‭ ‬والطالبات،‭ ‬فذهبت‭ ‬اليها‭ ‬أطلب‭ ‬نقلي‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬موقع،‭ ‬ولكنه‭ ‬يكون‭ ‬محدود‭ ‬العدد،‭ ‬وهكذا‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الصحافة‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬آنذاك‭ ‬أصغر‭ ‬قسم‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭.‬

أين‭ ‬مني‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬وأين‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬مني؟

كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬لحضوري‭ ‬في‭ ‬المدرج‭ ‬وفي‭ ‬الصف‭ ‬بين‭ ‬أختين‭ ‬أصبحتا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬صديقتين،‭ ‬هما‭ ‬الدكتورة‭ ‬عواطف‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬وهذه‭ ‬مازالت‭ ‬أستاذة‭ ‬إعلام‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬والثانية‭ ‬نجلاء‭ ‬عز‭ ‬الدين،‭ ‬ومازلت‭ ‬أحتفظ‭ ‬بهما‭ ‬كصديقتين‭ ‬ألتقي‭ ‬بهما‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭.‬

الــــــــيوم‭ ‬الأول‭... ‬كــان‭ ‬حــــضوري‭ ‬بين‭ ‬الأختين،‮ ‬يدخل‭ ‬المحاضرة‭ ‬الدكتور‭ ‬حمزة‭ ‬يبشرنا‭ ‬بمولد‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬فاكرين‭ ‬يا‭ ‬اولاد‭ ‬قولي‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ ‬عربية‭ ‬يقرأها‭ ‬المغاربة‭ ‬مثل‭ ‬قراءة‭ ‬الخليجيين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬لم‭ ‬يجرؤ‭ ‬بلد‭ ‬لتقديمها،‭ ‬اليوم‭ ‬بلد‭ ‬صغير‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬على‭ ‬الخريطة‭ ‬يقدم‭ ‬هذه‭ ‬الخدمة‭ ‬للعرب‭ ‬جميعًا‮»‬‭. ‬استوقفه‭ ‬الطلاب‭ ‬مشيرين‭ ‬إلي‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يقصدون،‭ ‬وعندما‭ ‬أراد‭ ‬إسكاتهم‭ ‬قال‭ ‬أحدهم‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلي‭: ‬هذه‭ ‬كويتية‭. ‬

استغرب‭ ‬وكأنه‭ ‬رأى‭ ‬شيئًا‭ ‬عجيبًا‭ ‬وانتفض‭ ‬ونظر‭ ‬إلي‭ ‬نظرة‭ ‬تمعن‭ ‬قائلًا‭: ‬هل‭ ‬أنتِ‭ ‬شيخة؟‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬لا،‭ ‬أنا‭ ‬مواطنة‭ ‬عادية،‭ ‬المشيخة‭ ‬هي‭ ‬للإدارة‭ ‬السياسية‭ ‬للبلاد‭ ‬فقط‭. ‬فيقول‭ ‬وانتوا؟‭ ‬قلت‭: ‬مواطنون‭ ‬مثلكم،‭ ‬ويضحك‭ ‬الفصل،‭ ‬وشعرت‭ ‬أنهم‭ ‬ألبسوني‭ ‬لباس‭ ‬الفخر‭ ‬بكويتيتي،‭ ‬ولكن‭ ‬المضحك‭ ‬أنهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قلت‭ ‬ذلك‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬سمعي‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬المدرج‭ ‬أحد‭ ‬الطلبة‭: ‬أهي‭ ‬تتكلم‭ ‬عربي‭... ‬ويضحك‭. ‬

ولدت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬باسم‭ ‬ضاحك‭ ‬وستظل‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬دومًا‭ ‬بذات‭ ‬الصحة‭ ‬والعافية‭ .