ليلى العثمان: الكتابة عشق سرّي وتحرير للذّات

ليلى العثمان:  الكتابة عشق سرّي وتحرير للذّات

ترسخت تجربة ليلى العثمان بفعل الكتابة، وما يتبعها من جدل. تتابع السباحة في بحر الكلمات المتلاطم، عروس بحر تلقي بنفسها في يمّ الحكي، تُخرج ما بأعماق البحر لتنشره لآلئ، وصدى الموج. جلسة من جلسات تطلّ على السيرة والهموم وعشق الحياة والتحريض عليها.

-ليلى، كيف أتيت إلى الكتابة؟
- نتيجة ما تراكم في النفس وفي الروح وفي القلب من أشجان ومن متاعب ومن حب، أيضًا. وقد ارتدى كل هذا رداء القدر، وأنا أحب هذا القدر، وأتمسك به، وأغرق فيه.
-لو رجعت قليلا إلى الوراء، وتذكّرت معنا كيف أتيت إلى الكتابة، مع العلم بأنك حوصرت ومُنعت من متابعة دراستك.
- والله، أعتقد أنني منذ أن كنت في رحم أمي بدأت الكتابة على جدار رحمها. أنا تلمّست موهبتي في سنّ صغيرة جدًا، منذ بدأت أكتب على الجدران أول ما وعيت، وأمسك قطعة فحم وأكتب على الجدران، أو أرسم أي شيء. أنت تعرف أن في مجتمعاتنا الشرقية مواهب الأطفال لا تُشجع، لا بد من أن يوجد من يحاصرها أو يمنعها. كنت أرسم، فقيل لي: الرسم حرام، ثم توجهت نحو الموسيقى، فقيل لي: الموسيقى حرام، ثم التمثيل على خشبة المسرح، فرفض والدي التمثيل على الخشبة، لأنه لا ينبغي أن أمثّل أمام الرجال، لأن وزارة التربية تحضر نهاية العام، ويحضر وزيرها وغيره من المسؤولين. فلم أجد غير الكتابة، هذا العشق السرّي الذي لا يعرف به أحد، فظللت أكتب. بدأت أكتب في سنّ مبكرة، ولم أنقطع عن الكتابة، لكن كل هذه الكتابة لم يسمح لها بالظهور أو النشر أو التنفس إلا في عام 1965 عندما تزوجت. بدأت كهواية، واستمرت كحرفة وعشق، كما قلت قبل قليل.

مجتمعاتنا ذكورية
-هذا الارتباط بين الزواج ورفع الحصار عن الكتابة والنشر، هل هو تأكيد لذكورية المجتمع العربي، الشرقي؟
- نعم، طبعًا، أنت تعرف أن مجتمعاتنا ذكورية، وبالطبع في مجتمعاتنا الخليجية بالذات انغلاق كبير، لا يسمح للبنت أن تفعل ما تريد أو أن تعبّر عن موهبتها أو عن أحلامها.
لكن حظي كان سعيدًا، لأنني تزوجت من رجل فلسطيني، وانتميت إلى أسرة فلسطينية، وبالطبع كان مجتمعًا أكثر وعيًا، وأكثر تقديرًا للمرأة من مجتمعاتنا المنغلقة في ذلك الوقت. فالزوج هو الذي كان وراء دفعي نحو الكتابة، وتحفيزي عليها والاستمرار والنشر. 
وعلى العموم أنا أدين للرجال كثيرًا، لأنه حتى والدي الذي ضغط عليّ ومنعني من الكتابة، وكبت كل أحلامي وطموحاتي، كان بهذا الكبت قد أعطاني زخمًا من المشاعر التي استطعت أن أعبّر عنها فيما بعد. ثم جاء زوجي، الفلسطيني الأول، ثم زوجي الفلسطيني الثاني، وليد أبوبكر، وهو ناقد معروف في الوسط العربي، واستمررت بدفع من الرجال، ثم من أصدقائي الذين يقرأون لي ويدفعون بي نحو الكتابة ويتابعونني، والقرّاء أيضًا. لذلك أنا أدين للرجال، بالرغم من أن مجتمعاتنا مجتمعات ذكورية، ومتسلطة، لكن للرجال فضلاً كبيراً عليّ ككاتبة.

قراءاتي متعددة
-لو تسترجعين بعض الأسماء التي كان لها حضور في مشوارك وأنت قارئة، في البداية قبل الكتابة، وربما كانت هذه الأسماء لمبدعين لعبوا دور الحافز على زرع بذور القراءة وحبها والانتقال إلى الكتابة.
- من الذين قرأت لهم أو الذين كانوا وراء دفعي نحو الكتابة؟
- الذين قرأت لهم أولاً.
- قرأت لكثيرين، أنا لم أترك كاتبًا عربيًا لم أقرأ له، حقيقة وليس غرورًا، ولا كاتبة عربية لم أقرأ لها ولا أتابعها حتى اليوم. 
القراءة جزء مهم من حياتي، ومتابعة كل جديد، هو جزء من حياتي أيضًا. الأدب العربي والأدب الغربي، فيهما نماذج كثيرة من الذين حلمت أن أكون مثلهم، أو على الأقل أكتب بشكل قريب منهم.
كنت أقول، في أحلامي، سأكتب مثل فلان أو فلانة، لأنني معجبة بفلانة.. فرجينيا وولف، مثلاً، حين قرأت «السيدة دولوراي»، وماكسيم غوركي، حين قرأت رواية «الأم»، أيضًا تأثرت بالأختين برونتيي، حين قرأت رواية «مرتفعات وودرنغ»، الأمر نفسه حين قرأت لناتالي ساروت.

بركات والسمان
من العرب، تأثرت بكل الكاتبات العربيات، أحب سحر خليفة وأقرأها، أحب نجوى بركات وأقرأ نصوصها، هدى بركات، أيضًا... والآن غادة السمان، كانت رائدة ودفعتنا إلى أن نكون محاربات ومناضلات في كتابتنا وفي جرأتنا، كثير من الرجال، أيضًا، أغلب الكتّاب العرب، لا أستطيع التعداد، لأنهم كثر.
والحقيقة، أنه حتى الكتّاب الجدد أتابعهم، لأنني أستفيد من طموح هؤلاء الشباب ومن طرقهم الحديثة في الكتابة، ليس كلهم طبعًا، إذ هناك كثير من الشباب يكتبون لمجرد الكتابة، أو للشهرة، في كتابتهم زيف ونوع من التصنع، ولا يملكون لغة جيدة.
لكن هناك جيل من الكتّاب الشباب، خاصة في الخليج، ليس تميّزًا ولكن فعلاً، أدبنا في الخليج مجهول ولا يلقى عليه الضوء من النقاد العرب، ولكن عندنا من الشباب من يكتبون بلغة حديثة وجميلة جدًا.
أنا أستفيد من كل شيء أقرأه، حتى لو كان الكاتب مبتدئًا، بسيطًا. كل هذه الكتابات تبعث في نفسي نوعًا من الغيرة المشروعة، إذا كان العمل جيدًا، لكاتب أو كاتبة، تدفعني هذه الغيرة المشروعة، لا الحاقدة، إلى أن أكون في مصافّ هؤلاء. أيضًا العمل غير الجيد، الضعيف، «ينرفزني»، كما نقول، فأحاول أن أكتب شيئًا مغايرًا. فضل الكتاب العرب والأجانب، الذين قرأنا لهم وتأثرنا بهم، كبير عليّ.

تغيير مبادئ
-كنت أود أن أسأل، الآن، بعد عمر معيّن مارست خلاله الكتابة وأصبحت حرفة، هل تشعرين أنك حققت بعض أهدافك من الكتابة التي دخلت عالمها كما ندخل حلبة، من أجل صراع أو مقابلة وأحلام النصر وتحقيق الذات يراود قلوبنا؟ وأنت دخلت الحلبة لتغيير مبادئ معيّنة، للفت الانتباه إلى عوالم المرأة وتصحيح آراء متداولة عنها، لإثبات الذات وسط مجتمع ذكوري، شبه منغلق، يومها، والذي حاول، في فترة سابقة منع صوتك من تجاوز أسوار البيت؟ ما الذي حققته عبر الكتابة حتى الآن؟
- أول شيء، قلت بعد هذا العمر من الكتابة، لماذا تخجل؟ قل إنها خمس وثلاثون سنة! (ضاحكة)، خمس وثلاثون سنة، صدقني، وأقولها ليس تواضعًا ولا مبالغة، أنا حتى هذه اللحظة كلما أنهيت كتابًا أشعر أنني لم أفعل شيئًا بعد، ولم أحقق شيئًا بعد.
أشعر دائمًا أنني ما زلت أحبو في دروب الكتابة الشائكة، والشائقة، في الوقت نفسه. هذا الإحساس، الذي يظل يلازمني هو الذي يحفّزني على الاستمرارية وللقراءة أكثر، وللاستفادة من تجارب الآخرين أكثر.
صعب أن أقول إنني حققت شيئًا كبيرًا، لأن حلمي في الكتابة أن أكتب رواية وتكون مثل «ضربة معلّم»، مثلما يقول المصريون لا يزال بعيدًا. حتى الآن يبدو لي أنني أجتهد لأحقق أشياء كثيرة في داخلي. طبعًا، خلال هذه التجربة، أشعر أنني نضجت أكثر، أصبحت الكتابة حرفة جادة بالنسبة إليّ، كما هي القراءة، وأشعر أنني تخلصت من أشياء كثيرة كانت بداخلي، من متاعب ومن آلام طفولة، ومن إحباطات، ومن خيبات في الحياة. 
الكتابة كانت، فعلاً، تعيدني كل يوم من جديد طفلة، طفلة تسعى وتحاول وتبحث عن مكان، وتبحث عن صدر، وتبحث عن نجمة أو غيمة أو فراشة، فهذا العشق، أو هذا الحلم الكبير يجعلني، فعلاً، أواصل بجدية أكبر وبحب أكثر وبصدق أكثر في الكتابة.

جرأة وحرية
-متى تكتبين بالجرأة التي تحلمين بها، الجرأة التي تحققينها، أحيانًا، في بعض النصوص التي صدرت لك، وأقلقت جهات معيّنة؟
- أقول لك الآن، عندما أكتب بجرأة وبحريّة، لا أخاف من أحد. كانت لي تجربة أولى عندما كتبت أول تجربة ذاتية لي وألقيتها على خشبة رابطة الأدباء، سبّبت بعض المشاكل لبعض إخواني ولأهلي، لأنني تكلمت عن والدي بشكل صريح جدًا. وأقام عليّ أحد إخوتي دعوى بالمحكمة، كانت هذه الدعوى قبل دعوى الأصوليين. 
-لو تعيدين التذكير بتاريخ هذه «الدعوى الأخوية» (ضاحكًا)؟
- (ضاحكة)، كانت في سنة 1995، الآن أحاول أن أقنع الآخرين بأن ما كتبته وأكتبه هو صدق مع النفس، حتى أقول كيف أصبحتُ كاتبة، لولا جحيم الطفولة، لما أصبحت كاتبة. لما استطعت أن أكتب بصدق، هنا تجد محاذير حولك، لكن ليس لي رقابة على ذاتي، ولا خوف من رقابة الإعلام، أنا لا أخاف من رقابة الإعلام ولا من رقابة المجتمع، ولا من رقابة المتشددين والمتطرفين.

رواية «المحاكمة»
-ولكن لا بد أن تفاجئي الجميع، في لحظة ما، عندما يكتمل النص. الأدب، لا ينتظر، ولا يستحيي.
- طبعًا، طبعًا. في روايتي «المحاكمة»، التي كتبتها عن محاكمتي خلال السنوات الأربع مع المتطرفين والأصوليين، كتبت عن ابني عندما تديّن وتشدد و«تطرّف شوية»، وكيف كان يؤذيني، حتى في لحظة محاكمتي، أيضًا.
وكتبتُ كل ما حدث بشكل موسع، عندما قرأت ابنتي الكبرى الكتاب، وهو مسودة طلبت منّي ودموعها تهطل على خديها: «أرجوك يا أمي، احذفي بعض ما كتبته عن أخي» وهنا ضعفت، وألغيت جزءًا كبيرًا من الحوارات الشديدة والمؤلمة التي كانت تدور بيني وبين ابني. ألغيتها من الكتاب، وأبقيت على ما يدل ويوضح موقف ابني مني، لأني أعتبره موقف الجماعات المتشددة.
في النص ملامح كثيرة عن علاقتي بالدين في طفولتي، ثم لما كبرت وأصبحت لي الحرية في أن أتعرف على الله بطريقتي الخاصة، أحببت هذا الدين، وأصبحت هناك علاقة جميلة وشفافة بيني وبين الله تعالى.
ولو أني أميل إلى المتصوفة أكثر، لكنني استطعت أن أحدد طريقي بنفسي من دون ضرب. ولهذا أنا منذ كان أولادي صغارًا لم أتشدّد عليهم في الدين، هم بدأوا براحتهم، واستمروا في طريقهم كما يشاؤون، وأنا لم أتّخذ منهم أي موقف، بل بالعكس، أطلب من الله أن يثبت إيمانهم، لأنهم على خلق كبير. الأخلاق الإسلامية الحقيقية متمكنة من قلوبهم، وهذا يُفرح قلبي.

قضية التديّن جديرة بالكتابة
-ذكرني هذا الموقف بنص سير ذاتي جميل، لكاتب أمريكي زنجي، هو العملاق ريتشارد رايت عنوانه «بلاك بوي»، (طفولة زنجية)، حين دخل في حوار مرير مع والده لما كبر، وكان والده قد أصبح شيخًا، وتحدّثا عن المرارة التي أذاقها الوالد لأم الكاتب وللكاتب وهو طفل، من دون كلمات. هذه الجرأة من الكاتب في نقل حوارات قوية، وواقعية، وحقيقية، وصادمة في ثنايا نص أدبي، تطبع النص في ذهن القارئ/ المتلقي إلى الأبد، بالرغم مما يقال عن الأسرة، والزاوية التي قد تنظر منها الأسرة إلى ما قيل، وما قد يكون موقف أو رأي أو ردود فعل الأسرة.
- الشيء الذي لم أكتبه مثلًا في سيرتي يهمّ قضية التدين، كما حصلت لابني، هي فعلاً قضية جديرة بالكتابة. أريد أن أكشف هؤلاء البشر، وكيف يستطيعون أن يغسلوا أدمغة الشباب، كيف يؤلّبون الأبناء على أمهاتهم وعلى آبائهم، وهذا نرى الآن نتيجته هذا الإرهاب وهذا العنف الحاصل في الوطن العربي.
طبعًا، الآن، بعد أن سافر إلى كندا للدراسة، وقضى هناك خمس سنوات تغيّر بشكل جيد، وأصبح ملتزمًا بالدين الإسلامي المعقول، المطلوب، وليس التطرف الشديد الذي وصل إليه في مرحلة من المراحل.
في بالي أن أكتب عن هذا الجانب، في رواية أو في قصة، حتى أستطيع أن أتخلّص من كون هذا الوضع عاشه ابني، وتصبح المسألة إنسانية في العموم، عن كل الشباب. طبعًا، هناك نماذج أخرى غير نموذج ابني، نماذج أبناء صديقاتي أو أحد إخوتي في الأسرة أو لبعض الأصدقاء وما تعرّض له أبناؤهم من مشقّة في هذا الغلو من بعض المتطرفين. لذلك لا بد أن يصدر صدى هذا الواقع شبه الخاص في رواية أو في قصص قصيرة، لأنه أصبح واقعًا عامًا.

القصة فني الأساسي
-بداية كتابة الأدب ارتبطت عندك بكتابة القصة القصيرة، ثم انتقلت إلى الرواية، هل تعتبرين كتابة القصة القصيرة في البداية تمثّل قنطرة تعبّد الطريق نحو كتابة الرواية بما قد تمنحه من تمرّس في بناء الشخصية، وتصوير الفضاءات؟ أم أن كتابتها هي بوابة ولوج الكتابة، في الغالب الأعم؟
- قد أفاجئك، عندما أقول لك إنني عندما بدأت الكتابة وكنت في الصف الرابع المتوسط، بدأت بكتابة الرواية. وعندي سبع روايات كاملة، لكنني لا أستطيع ولا أجرؤ على نشرها، لأنها من البدايات، وفيها من السذاجة الشيء الكثير. من دون خبرة، ومن دون معرفة بتقنيات الرواية. ثم لمّا كتبت القصة، وما زلت أكتب القصة وأحبها، وأعتبرها فني الأساسي، حتى أنّي قبل مدة معيّنة، صدرت لي مجموعة جديدة، عنوانها «ليلة القهر»، عن دار شرقيات بمصر، ولذلك لم أترك القصة، ولكنني الآن أصبحت أجد أن القصة القصيرة لا تفي بما يريد الكاتب أن يكتب عن المجتمع وعن مشكلات المجتمع كاملًا. 
الرواية تعطي حيزًا أكبر للتعبير، أيضًا، هي تساهم في أن يدخل معك طرف آخر، وهم الأبطال ليمدوا لك يد المساعدة.
في القصة القصيرة هناك تكثيف، وقد لا تحتاج القصة إلى بطل. لكن، في الرواية، يشاركك أبطال آخرون ويساعدونك في أن تمد رؤيتك إلى مجالات أوسع للكتابة. وتسقط الضوء على جوانب عديدة في المجتمع، أكثر من القصة القصيرة. الآن، أجد نفسي فعلًا مستمرة في كتابة الرواية، لكن القصة القصيرة تبقى قريبة من قلبي. وبيني وبينك، أنا الآن ربما شبعت من الكتابة، لأنني أصدرت عددًا كبيرًا من الكتب ما بين قصة قصيرة ورواية، خلال السنوات الأخيرة. 
الآن، وقد أصدرت كتاب «أيام في اليمن»، وهو كتاب يدخل في أدب الرحلة، بعد أن زرت اليمن، وجدت تشجيعًا كبيرًا في أن أبدأ بكتابة هذا النوع من الأدب، لأن عندي من الأسفار الشيء الكثير، بما في ذلك من طرائف ومن مشكلات ومن هموم، ومن خبرة، ومن تجارب جميلة.

أنا والمغرب
-لك أيضًا معرفة بالمغرب، ما دمت زرته مرات.
- أنا كتبت عن المغرب. كل الرحلات التي أقوم بها، وتترك أثرًا في نفسي، أعود إلى الكويت وأكتب عنها صفحة كاملة، وبعد يومين أو ثلاثة أيام أكون قد كتبت الرحلة بكل تفاصيلها في صفحتين أو ثلاث صفحات.
هذه الكتابة الأولى أتوفّر عليها في بيتي عن كل الرحلات التي قمت بها إلى كل البلاد التي زرتها، لذلك سأنقل هذه المقالات من الأسلوب الصحفي الذي كتبت به في البداية إلى كتابة أدبية لتستقر في بطن كتاب. 
يحتاج الأمر إلى بعض التنقيحات، زياراتي إلى المغرب أوحت لي أشياء كثيرة، وكتبت كثيرًا من قصصي في المغرب، وذكرت هذا عن قصة «المقهى»، التي كتبتها في المغرب، وغيرها من القصص.

لا أقيّم نفسي
-ليلى، قبل قليل، سألتك عمّا حققت من خلال الكتابة، وأظن أن من الأشياء التي حققتها، وهي محور هذا السؤال، أنك استطعت أن تفرضي نفسك في الأدب العربي وعلى مستوى بلدك، أولاً، والخليج، ثانيًا، أنك طرحت، ضمن الأدب النسائي، شخصيات نسائية قوية، تطرح قضاياها، وحريتها، وحصارها، وألوان حصارها، وضروبًا من التحدي.
- أنا لا أستطيع أن أقول إنني فعلت هذا. ولكن قيل وكُتب كثير عن كل ما كتبت. وقيل هذا الكلام، وأنا سعيدة به، فأنا عندما أكتب، لا أستطيع أن أقيّم نفسي، هل فعلت هذا أم لم أفعله، لكن ما كُتب عن كل إنتاجي، قيل فيه إن هذا الشيء تحقق لي في الكتابة. وأنا سعيدة بذلك، وهناك كثير من قرائي ومن أصدقائي يقولون لي إن هناك شخصيات من رواياتي في أذهانهم لا تُمحى، وأتمنى أن أكتب المزيد عن الشخصيات التي عانت؛ سواء من الرجال أو من النساء. فهناك ثلاث روايات مما كتبته، وهي «المرأة والقطة»، و«وسمية تخرج من البحر»، و«العصعص»، كلها تتكلم بلسان رجل، ومعاناة الرجال. فأنا أكتب عن الإنسان، ولأنني امرأة لا تعادي الرجل، ولا ترفع سيفًا في وجهه، ولا تعتبره، دائمًا، هو القاسي، وهو الظالم، ولذلك أكتب عنه كإنسان، من حقه أن يعبّر عن نفسه، أيضًا، كإنسان، وعن القهر الذي يلاقيه في مجتمعاتنا الشرقية.

بين الأدب الرجالي والنسائي
-هناك أمر رديف لهذا، هل تعتقدين أن هناك أدبًا «رجاليًا» وأدبًا «نسائيًا»، أم الأدب هو الأدب، يكتبه الرجال والنساء، وأن الفرق الجوهري بين كتابة الجنسين هو في درجة الإبداع، هل تحقق أم لم يتحقق؟
- والله، كما قلتَ أنتَ، وكما أقول دائمًا، هذا السؤال الذي يطرح دائما، والإجابة التي تقول إن الأدب هو واحد... لقد قرأت كتابًا لكاتب عراقي، وظننت أنه كتاب امرأة، وهو جنان حلاوي، وقرأت الكتاب على أساس أن كاتبه امرأة. وقرأت فيه إبداعًا رهيبًا، ثم اكتشفت أن اسم جنان يطلق على الفتاة، وعرفت أن الكاتب رجل، وكانت الرواية بديعة جدًا.
إذًا، عندما تقرأ حتى ولو من دون اسم، يمكن أن تعرف أن هذا أدب حقيقي أو غير حقيقي. لكن يبقى للمرأة في كتابتها أنفاس وهمّ خاصان. أنا لست ضد هذا النفَس، وضد هذا الهمّ. 
على الأقل يبدو في كتابة المرأة شيء من عاطفتها، وشيء من رقّتها، وشيء من جمالها، ومن إحساسها بالحياة، لكن على أن يكون أدبًا جيدًا.
وعلى فكرة أنا ضد الكتابة العارية، ولو أنني متهمة بهذا، إنما هذه تهمة باطلة: يقال إنني جريئة وكتابتي فيها فسق وفجور، وفيها عري فاضح. وهذا ليس في كتابتي، وهذه التهمة التي بلوني بها، وسببت لي مشكلات بعيدة عني.
أنا الآن أقرأ لبعض الكاتبات العربيات اللواتي أسماؤهن غير مشهورة، وأرى في كتاباتهن اندفاعًا نحو الكتابة عن الجنس الفاضح، والعري الفاحش، الذي أتقزز منه أنا كامرأة. أنا ضد هذا الاختيار، وأرى أنه ليس هكذا نستطيع أن نروّج لكتابتنا. ومع الأسف، كتبهم تروّج، فقد وجدن وسيلة للشهرة من وراء هذا الباب. الاعتدال جيد، ولا بد أن نخترق المحظورات، ونكشف المستور، ونفضح المسكوت عنه، لكن بلغة راقية، لا تقزز الجمهور، ولا تجتذب، أيضًا، الشباب الباحثين عن لذة مؤقتة.

 أعشق البحر
-في بعض نصوصك القصصية القصيرة، وفي رواية «وسمية تخرج من البحر»، هناك هذا الحضور الطاغي للبحر، هو جزء من فضاءات نصوصك، وقد يكون جزءًا من فضاء بلدك أيضًا والخليج العربي عامة، ولكن قد يبدو في وسمية كمطهر معيّن.
- البحر، يا سيدي، دائمًا يطهر. على فكرة، أنا ولدت على شاطئ البحر، وتربيت على ساحل البحر، مباشرة.
والبحر، يصافحني كل يوم، وفعلاً أنا عاشقة للبحر، عشقًا رهيبًا، وأحب هذا المخلوق العجيب، الذي تفتحت عيناي عليه، وأخذت كثيرًا من خصائصه، ومنها العنف أيضًا، عنف الموج لحظة العواصف. أخذت عنه الحب، والعمق، والصفاء، وأشياء كثيرة أخرى. 
وتعلمت من البحر الشيء الكثير. ولأن البحر طبيعة بلدي، كما أشرتَ إلى ذلك، فلا بد أن أكتب عن البحر، وهو أيضًا متنفس للكتابة، لأنه عالم تستطيع أن تخلق منه أشياء كثيرة. وقد ساهم في حضور البحر في كتاباتي، أنني قرأت رواية «موبي ديك»، وغيرها من روايات الرحلة في البحر، أيضًا قرأت حنّا مينه، كاتب البحر، وهذا أعطاني حافزًا للكتابة عن البحر، الذي يسكن بلدي، والذي نشأت عليه، والذي كان مصدر الرزق.
أنا أحترم هذا البحر الذي كان مجال الرزق للكويتيين، بالغوص أو بالصيد أو بالسفر، جابوا البحر، ووصلوا إلى الصين، وتثقفوا من خلال السفر في البحر.
أنا مدينة له، والكويتيون أيضًا، فقد أعطانا الشيء الكثير، ولو أننا تنكرنا له، الآن، بعد النفط، حيث لم يبقَ هو مصدر الرزق الأساسي. لكن يظل البحر يحتوينا من ثلاث جهات، ونظل نحتويه، وحتى في قصصي القصيرة، تجد البحر موجودًا بالفعل.

أعشق مدينتي القديمة
-ما دمت أشرت إلى البحر، أود أن أشير إلى أن هناك مرحلتين من تاريخ الكويت حاضرتين في نصوصك، هناك نصوص تحيل على العالم الذي ولّى، الكويت التقليدية، القديمة، المحفوفة بنوع من الحنين، ثم هناك الكويت الحديثة.
- لأنني أعشق مدينتي القديمة، وأعشق كل ما هو قديم، وبطبعي، أعشق كل المدن، وحيثما سافرت أبحث في أي بلد عن المدينة القديمة.
المدينة القديمة، أعشق رائحتها في كل بلد أحل به، وأشعر أنني أكتشف رائحة جميلة، عطرة، عميقة، وتهزني هذه المدن.
فما بالك بمدينتي؟ أنا عشت مرحلة بداية النفط، كنا ما نزال في قلب المدينة القديمة، قبل أن ننتقل إلى خارج السور، وكانت الكويت محاطة بالسور.
ليس فيه إلا بوابات، لذلك كتبتُ عنها بشكل موسع. ولعلّ هذا الحضور القوي لهذا البعد في أغلب كتاباتي هو ما ميّز كتاباتي عن كتابات الكاتبات الكويتيات. 
أما الكتّاب فقد كتبوا عن ذلك، منهم سليمان الشطي، وسليمان الخليفي ومن قبلهما... كلهم كتبوا عن الكويت القديمة.
أما أنا ككاتبة، فأنا من ركّز على المدينة القديمة. ولتستطيع أن تنقل التغير الذي حدث لابد أن تقدّم شكل المدينة القديمة، بناسها، وعاداتها، وتقاليدها، بعفويتها وجمالها وصدقها، بعكس مجتمعنا اليوم. 
مجتمعنا اليوم، أنا أراه مزيفًا، وعندما أريد أن أكتب رواياتي الأخيرة، أو كتاباتي الصحفية تجد حضورًا للمدينة الحديثة، وللحياة الآنية، لكن لا أحبها، ولذلك لا أكتب عنها بحب، بقدر ما أكتب عن مدينتي القديمة.

رفقًا بالمواهب
-لكن، في «وسمية تخرج من البحر»، نجد هذا الحضور لجانب التقاليد التي تحاول أن تخنق هذه العاطفة، عاطفة الحب، وتريد أن تقتلها.
- هذا صحيح، هذه الدكتاتورية القديمة موجودة، وصدقني ما تزال. بعض الآباء والأمهات يمارسون، اليوم، عنفًا على الأبناء. 
ويمارس هذا العنف خاصة على المواهب، ودائمًا نقول لهم رفقًا بهذه المواهب، رفقًا بأولادكم. 
بعض الأسر تعتبر الكتابة خروجًا عن المألوف، وهذا حرام، وهذا قلّة أدب. يعني هناك حصار على من يكتبون اليوم من الأولاد والبنات، يخافون عليهم؛ لذلك، خاصة في الخليج، عندما أقرأ لكاتبة وأجد عندها هذا الزخم، وهذه اللغة الجميلة، وهذا الإبداع، ثم أجدها، في مناطق معيّنة ومواضيع، تخجل وتهرب، وتكتب بخجل وبخوف، ما زالت الكاتبة في الخليج، لم تتخلص من هذا الخوف، وهذا ما يحد من إبداعها.

الحب المفقود
-نلاحظ في «وسمية تخرج من البحر»، و«المرأة والقطة»، هذا العذاب الذي يولّده الخوف من الحب، أو محاربة الحب كعاطفة إنسانية.
- بالفعل، وأول شيء يحاربونه، حتى اليوم، هو الحب. أول شيء يُحارَب هو الحب، وكأنه خطر كبير، مع أن العالم قائم، كما الحياة قائمة على الحب، الطبيعة قائمة على الحب. وكل شيء في الوجود هو حب، ولو أننا استطعنا أن نحب دائمًا، نحب البشر، نحب الله، نحب الناس، نحب الطبيعة، نحب كل شيء في الحياة، لتحولت حياتنا، بالفعل، من هذا العنف إلى كثير من الود.
المحبة مفقودة، الآن، في وطننا العربي بالذات. والحب الصادق مفقود، لم يعد الحب مثل حب زمان، كنا نعيش الحب الرومانسي، الجميل، انتظار الحبيب، الرعشة عندما نتسلم أول رسالة. نكتب رسائل جميلة. الآن، حتى الرسائل فقدت، هناك هاتف نقال أو جوال يبعث الرسائل المختصرة، لا طعم، ولا رائحة، ولا إحساس، ولا مشاعر.
فقد الحب، حتى الزيجات أصبحت الآن خائبة، يتزوجن وبعد سنتين أو ثلاث تجد النساء مطلقات. نسبة الطلاق عندنا كبيرة، في الوطن العربي، وليس في الخليج فقط، لأنه ليس هناك حب حقيقي، كما كان في السابق.
أنا أحمد الله أنني عشت في زمن كان الحب الرومانسي موجودًا. الآن هو مفقود، وأنا أسقطت الضوء على كل هذا، ليس فقط حرمان البنت من الحب، بل الرجل غير مسموح له بالحب. هناك أبناء تخرجوا في جامعات أمريكا، وروسيا، وإنجلترا، ويعودون إلى الكويت، فيجد الواحد منهم أن أباه يفرض عليه أن يتزوج ابنة عمه أو ابنة خاله، الأميّة التي لا تقرأ أو تكتب، ويضطر إلى أن يخضع لرغبة الأب، لأن تقاليد القبيلة أو تقاليد الأسرة تريد ذلك. وعندما أتحدث عن القهر، أتحدث عن قهر الرجل قبل قهر المرأة.

لا حياة بدون حب
-هناك هذه المقولة التي عرضنا لها في المرة السابقة، ليلى، وهي مقولة الروائي الفرنسي ستندال، الذي قال: «الحب هو الشيء الوحيد الذي خلصت له في إبداعي، طوال حياتي» ويبدو هذا الأمر قريبًا من واقع كتابتك، حينما نطلع عليها.
- والله، الحب شيء أساسي في حياتي. ومازلت لا أستطيع أن أعيش من دون حب، حقيقة. حتى ولو كان حبًّا رومانسيًّا، ولو كان حبًّا من طرف واحد. هذا الحب يبعث في نفسي سعادة، يبعث في جسدي الذي كبُر شبابًا جديدًا. الحب، يجدد القلب، نحن لا نستطيع أن نعيش دون هذا الحب. لذلك عندما أكتب أجعل أبطالي يحبون بصدق وبقوة. الحب جزء أساسي في الحياة، يجب أن يكون هكذا حتى أستطيع أن أواصل الحياة، وليس فقط من أجل الكتابة، بل من أجل الحياة نفسها، من أجل البشر الذين يحيطون بي، من أجل أولادي، من أجل أصدقائي، من أجل العالم. عندي حب كبير، كبير، احتياطي لن ينضب حتى للطبيعة، حتى للحشرات الصغيرة، أراقبها، وأُعنى بالطيور. أنا عاشقة للحمام وللعصافير، لا أشعر أنني أكره شيئًا، ولا أشعر أنني أكره بشرًا.

شاعرية خاصة
-لو انتقلنا إلى بُعدي الشكل والعناية باللغة، نلمس في نصوصك شاعرية خاصة تكتبين بها، هذا جانب، ثم هناك جانب آخر، وهو إلى أيّ مدى يحضر لديك، وأنت تكتبين نصًّا روائيًّا، جانب الشكل، هل تعنين به وقت الكتابة، تشكيل النص؟ أم تطلقين العنان للكتابة، ويتشكل النص من تلقاء ذاته، واللحظة، أم يتشكل عبر وعي.
- أولاً، بالنسبة إلى الشاعرية الحاضرة في كتابتي، أقول إنني منذ طفولتي أحببت الشعر، وقرأت الشعر، وما زلت أقرأ الشعر كثيرًا. وكما تعرف، فقد بدأت شاعرة، ثم تحولت إلى كتابة القصة والرواية.
هذه الشاعرية تسكن كتابتي، ثم إنني امرأة عاطفية بالتأكيد ستكون كتابتي شاعرية. بالنسبة إلى الشكل في الرواية، أقول بصدق عندما تكون الفكرة مختمرة في ذهني، وأكون صنعت أبطالي في رأسي، وأريد البدء في الكتابة، لا أجزم بقرار أن يكون شكل الرواية هكذا، أو آخذ الشكل السردي القديم، بداية ووسطًا ونهاية.
شكل الرواية يأتي عبر الكتابة، لأنني امتلكت خبرة من كثرة قراءتي لروايات متعددة، عربية وغير عربية.

لا بد من التجديد
أحس أنه لا بد من التجديد في الشكل، ولكن لا أفرضه على نفسي، إن جاء ضمن السياق بوعي أيضًا، لا بد أن يكون هناك مونولوج، لابد أن يكون هناك تداعٍ، لابد أن يكون هناك حوار مكثّف، لابد أن تكون هناك أزمنة متداخلة، أمكنة متسعة... إلخ.
هكذا يأتي الشكل، مثلاً في روايتي ما قبل الأخيرة، التي صدرت عن دار الآداب، وعنوانها «صمت الفراشات»، بدأتها بشكل، وعندما طبعتها وصححتها، وقرأتها القراءة النهائية، في لحظة وجدت أن فصلاً من الفصول يجب أن يكون هو المبتدأ، ويليه الفصل الذي افتتحت به الرواية. فحصل هنا التحول، وهكذا مع الخبرة استطعت أن أكتشف أن هناك خللاً ما في الرواية، فعالجت هذا الخلل في اللحظات الأخيرة. 
هنا لا آخذ الأمور بقرار، لكن وأنا أكتب يكون التركيز منذ البداية على موضوع الرواية، ثم هو يأخذ شكلًا وحده. 
أجد نفسي مثلاً أقفز من زمن إلى زمن، من مكان إلى مكان، وهكذا تتداخل فصول الرواية. أنا أكتب، كما أشرت إلى ذلك، بعفوية، أرجو ألا أفقد هذه العفوية، صحيح، هناك خبرة وتجربة، لكن لو تخلصت من هذه العفوية الجميلة، التي تساعدني على أن أكون قريبة من القارئ، لتأثرت كتابتي.
-كم مرة تكتبين النص، عامة، مرة... أكثر من مرة؟
- والله، شوف، كل رواية تأخذ مراتها المتعددة. «صمت الفراشات» كتبتها خمس عشرة مرة، بالعدد، قبل أن أسلّمها إلى الناشر. أتعب كثيرًا في الإعادة وفي الترتيب، وفي الإيجاد، وفي تغيير الحوار... إلخ.
الكتابة تتعبني، وكل مرة أراجع العمل قبل أن أخرجه. أراجع كل فصل على حدة، ثم أراجع الرواية بعد أن تكتمل أكثر من مرة.