التأثر بالإسلام والبُعد الروحي في حياة تولستوي وأدبه

التأثر بالإسلام والبُعد الروحي  في حياة تولستوي وأدبه

تأثر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الروس‭ ‬بالحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والإعجاب‭ ‬بالسيرة‭ ‬النبوية،‭ ‬وجاء‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القرب‭ ‬الجغرافي‭ ‬والاقتراب‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬المسلمين‭.‬

وجاء‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اطّلاع‭ ‬حقيقي‭ ‬على‭ ‬الترجمات‭ ‬التي‭ ‬صورت‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة،‭ ‬والكتب‭ ‬التي‭ ‬سردت‭ ‬حياة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬‭[‬،‭ ‬بجانب‭ ‬من‭ ‬الصدق‭ ‬والموضوعية‭. ‬نجد‭ ‬هذا‭ ‬التأثر‭ ‬واضحًا‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬الروسي‭ ‬ألكسندر‭ ‬بوشكين‭ ‬وقصائده‭ ‬العذبة‭ ‬في‭ ‬تأثره‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وحياة‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬.‬

‭ ‬قد‭ ‬وصف‭ ‬الروائي‭ ‬العظيم‭ ‬دوستويفسكي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬أنيسًا‭ ‬طوال‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬سجن‭ ‬كاتورغا‭ ‬في‭ ‬سيبيريا،‭ ‬سوى‭ ‬قراءة‭ ‬السيرة‭ ‬النبوية‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬معاني‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬خير‭ ‬رفيق،‭ - ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬إلى‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل‭ - ‬الحالة‭ ‬الوجدانية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬إليه‭ ‬أخوه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬يطلب‭ ‬المزيد‭.‬

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬ليو‭ ‬تولستوي‭ ‬أكثر‭ ‬هؤلاء‭ ‬تأثرًا‭ ‬بالإسلام‭ ‬وبالنبي‭ ‬الكريم‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وأكثرهم‭ ‬اقترابًا‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬المسلمين‭ ‬والتأثر‭ ‬الواضح‭ ‬بمظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إقامته‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬حياته‭ ‬بمزرعته،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الترف‭ ‬ومُتع‭ ‬المدينة‭. ‬ففي‭ ‬آخر‭ ‬تسعة‭ ‬أيام‭ ‬أراد‭ ‬تولستوي‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الروحية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬الكادحين،‭ ‬وكان‭ ‬أغلب‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفلاحين‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬مسلمة،‭ ‬فأبصر‭ ‬صلاتهم،‭ ‬وتركهم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الأذان‭ ‬وافتراشهم‭ ‬الأرض‭ ‬لأداء‭ ‬الصلاة‭. ‬

من‭ ‬قريب،‭ ‬رأى‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬عمق‭ ‬هذا‭ ‬التواصل‭ ‬وماهية‭ ‬الحياة‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬يحياها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفقراء‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬أرضه،‭ ‬وأخذه‭ ‬التأمل‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬حقيقية‭ ‬لكل‭ ‬حياته،‭ ‬وعودة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬سيرة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬‭[‬،‭ ‬التي‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬البعد‭ ‬الروحي‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬حائلاً‭ ‬بين‭ ‬انطلاق‭ ‬الإنسان‭ ‬نحو‭ ‬الكمال‭ ‬وبين‭ ‬اتّباعه‭ ‬طريق‭ ‬الشيطان‭.‬

وفي‭ ‬تصرُّف‭ ‬مفاجئ‭ ‬من‭ ‬الكاتب،‭ ‬ترك‭ ‬المدينة‭ ‬الصاخبة‭ ‬ياسنايا‭ ‬بوليانا،‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬منزله،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬وأحفاده،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬المتع‭ ‬وأبّهة‭ ‬العيش،‭ ‬وفي‭ ‬فجر‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1910‭ ‬غادر‭ ‬تولستوي‭ ‬سرًّا‭ ‬برفقة‭ ‬سكرتيره‭ ‬الخاص‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬طبيبًا‭ ‬له،‭ ‬تاركًا‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تشاركه‭ ‬وجدانيًا‭ ‬تطلعاته‭ ‬الروحية‭ ‬وعالمه‭ ‬الرحب،‭ ‬وكانت‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬خلاف‭ ‬وشجار‭ ‬دائم‭ ‬مع‭ ‬سكرتيره‭.‬

 

حياة‭ ‬الزهد

تخلى‭ ‬تولستوي‭ ‬عن‭ ‬ثرواته‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬شقاق‭ ‬دائم‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬زوجته،‭ ‬التي‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬منحها‭ ‬حق‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬عائدات‭ ‬النشر‭ ‬الخاصة‭ ‬بمؤلفاته‭.‬

كانت‭ ‬زوجته‭ ‬غير‭ ‬مؤمنة‭ ‬بأفكاره،‭ ‬وكانت‭ ‬تقف‭ ‬له‭ ‬وتعارضه،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬تولستوي‭ ‬حلاً‭ ‬سوى‭ ‬البعد‭ ‬عنها‭ ‬والعيش‭ ‬في‭ ‬سلام‭ ‬مع‭ ‬أفكاره‭ ‬التي‭ ‬آمن‭ ‬بها‭ ‬وعاش‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬القاسية‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭.‬

وبهدوء‭ ‬تام،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬أحد،‭ ‬ركِب‭ ‬تولستوي‭ ‬القطار‭ ‬متوجهًا‭ ‬إلى‭ ‬مزرعته‭ ‬البعيدة‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬كراسنايا،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬عائلته،‭ ‬لم‭ ‬يصطحب‭ ‬معه‭ ‬سوى‭ ‬ابنته‭ ‬وسكرتيره‭ ‬الخاص‭ ‬ليعيش‭ ‬حياة‭ ‬زهد،‭ ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬ينفصل‭ ‬انفصالاً‭ ‬تامًا‭ ‬عن‭ ‬أسرته،‭ ‬مبررًا‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬فعلت‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬سنّي‭. ‬قرّرت‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيوية،‭ ‬وأقضي‭ ‬أيّامي‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬وعزلة‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬القطار،‭ ‬وقبل‭ ‬الرحلة‭ ‬الطويلة‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬كراسنايا‭ ‬الكائنة‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬والتي‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬مزرعته،‭ ‬رأى‭ ‬تولستوي‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬لزيارة‭ ‬أخته‭ ‬القريبة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬ديرشيماردينو،‭ ‬ثم‭ ‬يبيت‭ ‬ليلته‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الأديرة،‭ ‬ليغادر‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬الساعة‭ ‬الرابعة‭ ‬فجرًا،‭ ‬ميعاد‭ ‬تحرّك‭ ‬القطار،‭ ‬حيث‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭.‬

وقد‭ ‬رأى‭ ‬بعض‭ ‬معاصري‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬هروبه‭ ‬من‭ ‬ياسنايا‭ ‬بوليانا‭ ‬تصرفًا‭ ‬بطوليًا،‭ ‬وتحررًا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تعوق‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬تطلّعه‭ ‬الروحي‭ ‬وإزالة‭ ‬الحواجز‭ ‬الأخيرة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬تلك‭ ‬الحواجز‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬كما‭ ‬وصفت‭ ‬الصحافة‭ ‬الروسية‭ ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الانتصار‭ ‬الروحي‮»‬‭.‬

 

طريق‭ ‬الحياة

وجد‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬والسعادة‭ ‬التي‭ ‬أدركها‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬حياته‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفلاحين‭.‬

وقد‭ ‬صوّر‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬وتطلعاته‭ ‬وإشراقاته‭ ‬الروحية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آخر‭ ‬كتبه،‭ ‬تلك‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬فيها‭ ‬خلاصة‭ ‬فكره‭ ‬وتلخيصًا‭ ‬لحياته‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أخيرًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تأليفه‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الحياة‭... ‬رسائل‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬والموت‭ ‬والحياة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1910،‭ ‬وهو‭ ‬العام‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وقد‭ ‬ترجم‭ ‬الكتاب‭ ‬ونقله‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬المترجم‭ ‬يوسف‭ ‬نبيل‭.‬

يتحدث‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الروح‭ ‬والإيمان‭ ‬والموت‭ ‬والحب‭ ‬والعنف‭ ‬والعقاب‭ ‬والاتضاع‭ ‬والخطايا‭ ‬والإغواءات،‭ ‬وحلم‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الضخم‭ ‬مقروءًا‭ ‬من‭ ‬ملايين‭ ‬القراء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬متقلبة‭ ‬وفترة‭ ‬عصيبة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬الروسي‭ ‬والعالمي‭.‬

كتاب‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬هو‭ ‬النتاج‭ ‬الأخير‭ ‬لتعاليم‭ ‬تولستوي‭ ‬الممزوجة‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التصوف‭ ‬العقلي،‭ ‬والمكتوبة‭ ‬بحسّ‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬وقد‭ ‬تبقت‭ ‬له‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬قبل‭ ‬الموت،‭ ‬فيخرج‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬المنتج‭ ‬الإنساني‭ ‬الشديد‭ ‬العمق‭ ‬والبساطة‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته،‭ ‬إنها‭ ‬شهادته‭ ‬الأخيرة‭.‬

وضع‭ ‬تولستوي‭ ‬خلاصة‭ ‬فلسفته‭ ‬ورؤيته‭ ‬لماهية‭ ‬الحياة،‭ ‬وتأثره‭ ‬الواضح‭ ‬بقيم‭ ‬الإسلام‭ ‬الروحية‭ ‬وبالحياة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وقربه‭ ‬منهم‭ ‬ومشاركته‭ ‬لهم‭ ‬حياتهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬انطلقت‭ ‬رؤية‭ ‬تولستوي‭ ‬الخاصة‭ ‬ودفاعه‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬عندما‭ ‬رأى‭ ‬تحامل‭ ‬جمعيات‭ ‬المبشّرين‭ ‬في‭ ‬قازان‭ - ‬وكان‭ ‬تولستوي‭ ‬قد‭ ‬تخرّج‭ ‬في‭ ‬جامعتها‭ ‬بعد‭ ‬دراسته‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬والفارسي‭ ‬فيها‭ - ‬على‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ونسبتها‭ ‬إلى‭ ‬صاحب‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬أمورًا‭ ‬تنافي‭ ‬الحقيقة،‭ ‬تصور‭ ‬للروسيين‭ ‬تلك‭ ‬الديانة،‭ ‬وتصور‭ ‬حياة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ [ ‬بجانب‭ ‬من‭ ‬الغلوّ‭ ‬والتشويه‭ ‬وعدم‭ ‬الإنصاف،‭ ‬وهي‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬وجدها‭ ‬تولستوي‭ ‬عكس‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فهزته‭ ‬الغيرة‭ ‬على‭ ‬الحق،‭ ‬وكتب‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬وضّح‭ ‬فيها‭ ‬القيم‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬عليها‭ ‬الإسلام‭ ‬ودعوته‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬الخير،‭ ‬والحياة‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬‭[‬،‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬تولستوي‭ ‬حياة‭ ‬زهد‭ ‬وتخلّ‭ ‬عن‭ ‬مباهج‭ ‬الحياة،‭ ‬وهو‭ ‬النبي‭ ‬الخاتم‭.‬

 

رسالة‭ ‬قصيرة

وضع‭ ‬تولستوي‭ ‬رسالة‭ ‬قصيرة‭ ‬اختار‭ ‬فيها‭ ‬أحاديث‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬أحاديث‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ [‬‭ ‬أعجب‭ ‬بها،‭ ‬وجعلها‭ ‬منهجًا‭ ‬وسلوكًا‭ ‬عاش‭ ‬بهما‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬حياته‭.‬

اختارها‭ ‬وتأثر‭ ‬بها،‭ ‬وأراد‭ ‬نشرها‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬الفضيلة‭ ‬ونشر‭ ‬الخير‭ ‬والتراحم‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬لها‭ ‬تولستوي‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬حُكم‭ ‬محمد‮»‬،‭ ‬وترجمها‭ ‬من‭ ‬الإنجليزية‭ ‬إلى‭ ‬الروسية‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬عبدالله‭ ‬السهرودي،‭ ‬الكاتب‭ ‬الهندي‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬مختارات‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬تحث‭ ‬على‭ ‬الأخلاق‭ ‬والفضيلة‭ ‬والتسامح‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬ذاع‭ ‬كتاب‭ ‬تولستوي‭ ‬شرقًا‭ ‬وغربًا،‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬مفتي‭ ‬الديار‭ ‬المصرية‭ ‬آنذاك،‭ ‬تلقى‭ ‬الإمام‭ ‬الكتاب‭ ‬بصدر‭ ‬رحب،‭ ‬وتواصل‭ ‬مع‭ ‬تولستوي‭ ‬عرفانًا‭ ‬له‭ ‬وتقديرًا‭ ‬لدفاعه‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬وعن‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ [.‬

 

رسالة‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده

كتب‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬إلى‭ ‬تولستوي‭ ‬رسالة‭ ‬يوضح‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬التقارب‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬ورؤية‭ ‬الأخير‭ ‬الخاصة‭ ‬له،‭ ‬وفي‭ ‬الخطاب‭ ‬يشير‭ ‬الإمام‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يحظ‭ ‬بمعرفة‭ ‬تولستوي‭ ‬شخصيًا،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬التقارب‭ ‬الروحي‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بينهما‭.‬

وقد‭ ‬كتب‭ ‬الإمام‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة،‭ ‬وأرسلها‭ ‬إلى‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬2‭ ‬أبريل‭ ‬1904،‭ ‬تواصلاً‭ ‬معه،‭ ‬وإعجابًا‭ ‬بفكره‭ ‬وفلسفته،‭ ‬ويقول‭ ‬فيها‭: ‬

‮«‬أيها‭ ‬الحكيم‭ ‬الجليل‭ ‬موسيو‭ ‬تولستوي‭... ‬لم‭ ‬نحظَ‭ ‬بمعرفة‭ ‬شخصك،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نُحرم‭ ‬التعارف‭ ‬مع‭ ‬روحك،‭ ‬سطع‭ ‬علينا‭ ‬نور‭ ‬من‭ ‬أفكارك،‭ ‬وأشرقت‭ ‬في‭ ‬آفاقنا‭ ‬شموس‭ ‬من‭ ‬آرائك،‭ ‬ألّفت‭ ‬بين‭ ‬نفوس‭ ‬العقلاء‭ ‬ونفسك‭. ‬هداك‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬سر‭ ‬الفطرة‭ ‬التي‭ ‬فطر‭ ‬الناس‭ ‬عليها،‭ ‬ووفقك‭ ‬إلى‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬هدى‭ ‬البشر‭ ‬إليها،‭ ‬فأدركت‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬لينبت‭ ‬بالعلم‭ ‬ويثمر‭ ‬بالعمل‭. ‬ولأن‭ ‬تكون‭ ‬ثمرته‭ ‬تعبًا‭ ‬ترتاح‭ ‬به‭ ‬نفسه،‭ ‬وسعيًا‭ ‬يبقى‭ ‬به‭ ‬ويربى‭ ‬حسنه،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالشقاء‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬بالناس‭ ‬لما‭ ‬انحرفوا‭ ‬عن‭ ‬سنّة‭ ‬الفطرة،‭ ‬وبما‭ ‬استعملوا‭ ‬قواهم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يمنحوها‭ ‬إلا‭ ‬ليسعدوا‭ ‬بها‭ ‬فيما‭ ‬كدر‭ ‬راحتهم‭ ‬وزعزع‭ ‬طمأنينتهم‭.‬

ونظرت‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬نظرة‭ ‬مزعت‭ ‬حجب‭ ‬التقاليد،‭ ‬ووصلت‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬التوحيد،‭ ‬ورفعت‭ ‬صوتك‭ ‬تدعو‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هداك‭ ‬الله‭ ‬إليه،‭ ‬وتقدمت‭ ‬أمامهم‭ ‬بالعمل‭ ‬لتحمل‭ ‬نفوسهم‭ ‬عليه،‭ ‬فكما‭ ‬كنت‭ ‬بقولك‭ ‬هاديًا‭ ‬للعقول‭ ‬كنت‭ ‬بعملك‭ ‬حاثًا‭ ‬للعزائم‭ ‬والهمم،‭ ‬وكما‭ ‬كانت‭ ‬آراؤك‭ ‬ضياء‭ ‬يهتدي‭ ‬به‭ ‬الضالون،‭ ‬كان‭ ‬مثالك‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬إمامًا‭ ‬يقتدي‭ ‬به‭ ‬المسترشدون،‭ ‬وكان‭ ‬مدادًا‭ ‬من‭ ‬عنايته‭ ‬للضعفاء‭ ‬الفقراء،‭ ‬وإن‭ ‬أرفع‭ ‬مجد‭ ‬بلغته‭ ‬وأكبر‭ ‬جزاء‭ ‬نلته‭ ‬على‭ ‬متاعبك‭ ‬في‭ ‬النصح‭ ‬والإرشاد‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬سمّاه‭ ‬الغافلون‭ ‬بالحرمان‭ ‬والإبعاد‭.‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الرسالة‭ ‬يرجو‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬ألا‭ ‬ينقطع‭ ‬التواصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬تولستوي،‭ ‬وأن‭ ‬يمد‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬عمره‭ ‬ليظل‭ ‬مدافعًا‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬الحق‭ ‬والعدل،‭ ‬وعن‭ ‬حقوق‭ ‬الفقراء‭ ‬وعونًا‭ ‬يساعد‭ ‬المحتاجين‮»‬‭.‬

ويقول‭ ‬الإمام‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭: ‬

‮«‬هذا‭ ‬وإن‭ ‬نفوسنا‭ ‬لتواقة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يتجدد‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬قلمك‭ ‬فيما‭ ‬تستقبل‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬عمرك،‭ ‬وإنّا‭ ‬نسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يمد‭ ‬في‭ ‬حياتك‭ ‬ويحفظ‭ ‬عليك‭ ‬قواك،‭ ‬ويفتح‭ ‬أبواب‭ ‬القلوب‭ ‬لفهم‭ ‬قولك‭ ‬ويسوق‭ ‬النفوس‭ ‬إلى‭ ‬التأسي‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬عملك،‭ ‬والسلام‮»‬‭.‬

 

رد‭ ‬تولستوي‭ ‬على‭ ‬رسالة‭ ‬الإمام

لخّص‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬في‭ ‬الرسالة‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬وتطلعاته‭ ‬الروحية،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬الأخيرة‭ ‬كانت‭ ‬مصدر‭ ‬حديث‭ ‬وإعجاب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سمع‭ ‬بها‭ ‬وقرأ‭ ‬عنها‭.‬

رأى‭ ‬الإمام‭ ‬في‭ ‬تولستوي‭ ‬المصلح‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يهدي‭ ‬الناس‭ ‬ويدافع‭ ‬عن‭ ‬حريتهم،‭ ‬ويبث‭ ‬فيهم‭ ‬روح‭ ‬المحبة‭ ‬وحب‭ ‬الخير‭.‬

كما‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬بمعرفته‭ ‬بالإسلام‭ ‬وبقيمه‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬الناس‭ ‬وهدايتهم‭ ‬إلى‭ ‬الفطرة‭ ‬السليمة‭ ‬التي‭ ‬هدى‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الناس‭ ‬إليها،‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬المتواضعة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬تولستوي‭ ‬واختارها‭ ‬لنفسه،‭ ‬تأثرًا‭ ‬واضحًا‭ ‬بالسيرة‭ ‬النبوية‭ ‬وحياة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬‭[.‬

وقد‭ ‬أجاب‭ ‬تولستوي‭ ‬الإمام‭ ‬برسالة‭ ‬مماثلة،‭ ‬شكره‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬ثنائه،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬تقديره‭ ‬العظيم‭ ‬للإمام،‭ ‬ومتمنيًا‭ ‬التواصل‭ ‬معه‭.‬

وقد‭ ‬جاءت‭ ‬الرسالة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬ورثة‭ ‬تولستوي‮»‬‭ ‬للمترجم‭ ‬أحمد‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬ويقول‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬تلقيت‭ ‬رسالتكم‭ ‬الطيبة‭ ‬الحافلة‭ ‬بالمديح،‭ ‬وهأنذا‭ ‬أسارع‭ ‬بالرد‭ ‬عليها،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬لكم‭ ‬أولاً‭ ‬السعادة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أعطتني‭ ‬إياها،‭ ‬إذ‭ ‬جعلتني‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬برجل‭ ‬متنور،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬إيمان‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬إيماني‭ ‬الذي‭ ‬ولدت‭ ‬فيه‭ ‬وترعرعت‭ ‬عليه‭. ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬فإني‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬ديننا‭ ‬واحد،‭ ‬لأني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬ضروب‭ ‬الإيمان‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتعددة‭.‬

وإني‭ ‬لآمل‭ ‬ألا‭ ‬أكون‭ ‬مخطئًا،‭ ‬إذ‭ ‬أفترض‭ - ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬رسالتكم‭ - ‬بأنني‭ ‬أدعو‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬دينكم،‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالله‭ ‬وبشريعة‭ ‬الله‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬حب‭ ‬القريب‭ ‬ومبادرة‭ ‬الآخر‭ ‬بما‭ ‬نريد‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬يبادرنا‭ ‬به‭.‬

إنني‭ ‬مؤمن‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬المبادئ‭ ‬الدينية‭ ‬الحقيقية‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المصدر،‭ ‬والأمر‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الديانات،‭ ‬وإنني‭ ‬لأرى‭ ‬أنه‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تمتلئ‭ ‬الأديان‭ ‬بضروب‭ ‬الجمود‭ ‬الفكري‭ ‬والأفكار‭ ‬المتّبعة‭ ‬والأعاجيب‭ ‬والخرافات،‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تفرّق‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬توليد‭ ‬العداوات‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تخلد‭ ‬الأديان‭ ‬إلى‭ ‬البساطة‭ ‬وما‭ ‬يصيبها‭ ‬النقاء‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬بلوغ‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬للإنسانية‭ ‬ووحدة‭ ‬الجميع‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬رسالتكم‭ ‬تبدو‭ ‬لي‭ ‬ممتعة،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تتقبلوا‭ - ‬يا‭ ‬جناب‭ ‬المفتي‭ - ‬تعاطف‭ ‬صديقكم‭ ‬تولستوي‮»‬‭.‬

 

‮«‬حُكْم‭ ‬محمد‮»‬

تلك‭ ‬الروح‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬إلا‭ ‬بين‭ ‬نفس‭ ‬صافية‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الروحانية‭ ‬والصفاء،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬صخب‭ ‬الحياة‭ ‬وثورتها‭ ‬المادية،‭ ‬روح‭ ‬تولستوي‭ ‬الكاتب‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الذي‭ ‬أدرك‭ ‬سر‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬فابتعد‭ ‬عنها،‭ ‬وظل‭ ‬في‭ ‬مزرعته‭ ‬يتأمل‭ ‬مصدر‭ ‬السعادة‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الفلاحين‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬لازمهم‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭.‬

يلخّص‭ ‬تولستوي‭ ‬رسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬‭[ ‬هداية‭ ‬للبشرية‭ ‬ورحمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حُكم‭ ‬محمد‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭:‬

‮«‬خلاصة‭ ‬هذه‭ ‬الديانة‭ ‬التي‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬محمد‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬هو،‭ ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬رحيم‭ ‬عادل،‭ ‬وأن‭ ‬مصير‭ ‬الإنسان‭ ‬النهائي‭ ‬متوقف‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه،‭ ‬فإذا‭ ‬سار‭ ‬حسب‭ ‬شريعة‭ ‬الله‭ ‬وأتم‭ ‬أوامره‭ ‬واجتنب‭ ‬نواهيه،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى‭ ‬يؤجَر‭ ‬أجرًا‭ ‬حسنًا،‭ ‬وإذا‭ ‬خالف‭ ‬شريعة‭ ‬الله‭ ‬وسار‭ ‬على‭ ‬هواه‭ ‬فإنه‭ ‬يُعاقب‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى‭ ‬عقابًا‭ ‬شديدًا‭. ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬زائل،‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬ذو‭ ‬الجلال،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬وإتمام‭ ‬وصاياه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حياة‭ ‬حقيقية،‭ ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬يأمر‭ ‬الناس‭ ‬بمحبته‭ ‬ومحبة‭ ‬بعضهم،‭ ‬ومحبة‭ ‬الله‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الصلاة،‭ ‬ومحبة‭ ‬القريب‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مشاركته‭ ‬في‭ ‬السراء‭ ‬والضراء،‭ ‬ومساعدته‭ ‬والصفح‭ ‬عن‭ ‬زلاته،‭ ‬وأن‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالله‭ ‬واليوم‭ ‬الآخر‭ ‬يقتضي‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يبذلوا‭ ‬وسعهم‭ ‬لإبعاد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إثارة‭ ‬الشهوات‭ ‬النفسانية،‭ ‬والابتعاد‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬الملذات‭ ‬الأرضية،‭ ‬وأنه‭ ‬يتحتم‭ ‬عليهم‭ ‬ألا‭ ‬يخدموا‭ ‬الجسد‭ ‬ويعبدوه،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يخدموا‭ ‬الروح‭ ‬وأن‭ ‬يزهدوا‭ ‬في‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب،‭ ‬وأنه‭ ‬محرّم‭ ‬عليهم‭ ‬استعمال‭ ‬الأشربة‭ ‬الروحية‭ ‬المهيّجة،‭ ‬ومحتّم‭ ‬عليهم‭ ‬العمل‭ ‬والجد‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‮»‬‭.‬

لعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الخلاصة‭ ‬الذي‭ ‬لخّص‭ ‬فيها‭ ‬تولستوي‭ ‬مضمون‭ ‬رسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬والقيم‭ ‬التي‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬سبيلًا‭ ‬اتخذه‭ ‬منهجًا‭ ‬لحياته‭.‬

 

الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة

أحب‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالروح‭ ‬وتزكيتها،‭ ‬وترك‭ ‬ملذات‭ ‬الجسد‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الزهد‭ ‬فيها،‭ ‬ورأى‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬خلاص‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬المادة‭ ‬وانطلاقها‭ ‬نحو‭ ‬الحرية‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬اتباع‭ ‬أوامر‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬وترك‭ ‬نواهيه،‭ ‬والسعي‭ ‬نحو‭ ‬طريق‭ ‬الآخرة،‭ ‬والتعفف‭ ‬عن‭ ‬شرب‭ ‬الخمر،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يقتل‭ ‬طموح‭ ‬النفس‭ ‬نحو‭ ‬الصفاء‭ ‬الروحي‭ ‬والعروج‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬السمو‭ ‬والطمأنينة،‭ ‬لتدرك‭ ‬النفس‭ ‬ماهية‭ ‬وجودها‭ ‬ورسالتها‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭.‬

آمن‭ ‬تولستوي‭ ‬أيضًا‭ ‬بقيمة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬سر‭ ‬الوجود،‭ ‬ووصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬أعظم‭ ‬هبات‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬للإنسان‭. ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬نرى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬صورته،‭ ‬ونصل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التأمل‭ ‬والتفكير‭ ‬إلى‭ ‬عظمة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬وقدرته‭ ‬وإبداعه‭.‬

ويرى‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬عمل‭ ‬يمكن‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭ ‬هو‭ ‬التفكير‭ ‬والتأمل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العقل‭ ‬‮«‬الفكرة‭ ‬العقلية‭ ‬الوحيدة‭ ‬عن‭ ‬حياتنا‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬ننفّذ‭ ‬مشيئة‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬أرسلنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‮»‬‭. ‬وتزداد‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬وضوحًا‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬آنا‭ ‬جيرمانوفنا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقطن‭ ‬بإحدى‭ ‬مقاطعات‭ ‬أستونيا‭ ‬الشمالية،‭ ‬والتي‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬يذهب‭ ‬ربحها‭ ‬لمصلحة‭ ‬المجذومين،‭ ‬وقد‭ ‬توجهت‭ ‬إلى‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬مايو‭ ‬1894‭ ‬كي‭ ‬يمنحها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬أعماله،‭ ‬ليشارك‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬تودّ‭ ‬إصدارها،‭ ‬لكنه‭ ‬انشغل‭ ‬بأعمال‭ ‬كثيرة،‭ ‬فأرسلت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬سبتمبر‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ - ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬إنهاء‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬يشارك‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مجموعتها‭ - ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عن‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسئلة‭ ‬أرسلتها‭ ‬إليه‭ ‬ليشارك‭ ‬بها‭ ‬فيها،‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬هي‭:‬

 

أسئلة‭ ‬جيرمانوفنا

1‭ - ‬هل‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬البشر‭ - ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحوزون‭ ‬قدرات‭ ‬عقلية‭ ‬رفيعة‭ - ‬أن‭ ‬يسعوا‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬توصلوا‭ ‬إليها‭ ‬عن‭ ‬حياتهم‭ ‬الروحية‭ ‬عبر‭ ‬كلمات‭ ‬واضحة؟‭ ‬

2‭ - ‬هل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬واضح‭ ‬وكامل‭ ‬للحياة‭ ‬الروحية؟

3‭ - ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الصراع‭ ‬والشك‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الضمير‭ ‬يتحدث‭ ‬إلينا،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬طغى‭ ‬عليه‭ ‬الضعف؟‭ ‬وقد‭ ‬أجاب‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬طويلة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬التي‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬رؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتأمل‭ ‬وروح‭ ‬العقل‭ ‬وقدرته‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الإيمان‭ ‬الخالص‭.‬

كتب‭ ‬تولستوي‭ ‬الرسالة‭ ‬وأرسلها‭ ‬في‭ ‬26‭ ‬نوفمبر‭ ‬1894،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لتصادمه‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأخيرة‭ ‬مع‭ ‬الكنيسة،‭ ‬فقد‭ ‬رفضت‭ ‬الرقابة‭ ‬نشر‭ ‬خطابه‭ ‬الذي‭ ‬يتضمن‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬هذه‭ ‬السيدة،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مضمون‭ ‬آخر‭ ‬خطاب‭ ‬أرسلته‭ ‬جيرمانوفنا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬18‭ ‬ديسمبر‭.‬

تعمقت‭ ‬قراءات‭ ‬تولستوي‭ ‬الروحية،‭ ‬وامتدت‭ ‬رؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الأديان‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬مضمونها‭ ‬الروحي‭ ‬تصل‭ ‬بالبشرية‭ ‬إلى‭ ‬سبيل‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬طوق‭ ‬الحياة‭ ‬المادية‭.‬

وهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬شرط‭ ‬الحياة‭ ‬الضروري‭ ‬لكل‭ ‬إنسان،‭ ‬وأن‭ ‬الأخلاق‭ ‬ليست‭ ‬بمعزل‭ ‬منه،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتأسس‭ ‬الأخلاق‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الدين؛‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬تنتج‭ ‬عنه‭ ‬وعن‭ ‬مفهوم‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الإنسان‭ ‬بالعالم،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬لأنها‭ ‬تتضمن‭ ‬بداخلها‭ ‬روح‭ ‬الدين‭ ‬ومقتضياته‮»‬‭.‬

 

قراءة‭ ‬متعمقة

من‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬أفكار‭ ‬تولستوي‭ ‬تحث‭ ‬على‭ ‬الفضيلة‭ ‬ومكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬والتسامح،‭ ‬وقد‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬الإسلام‭ ‬قراءة‭ ‬متعمقة‭ ‬استشف‭ ‬فيها‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬والإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬طرحه‭ ‬طويلاً،‭ ‬عن‭ ‬الخلاص‭ ‬الروحي‭ ‬وعن‭ ‬إصلاح‭ ‬الروح‭ ‬وتهذيبها،‭ ‬فكانت‭ ‬بعض‭ ‬قصصه‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬اكتسبها‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬قراءة‭ ‬حقيقية‭ ‬لسيرة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬ومعايشته‭ ‬مع‭ ‬جيرانه‭ ‬وعمال‭ ‬مزرعته‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬أغلبهم‭ - ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬المسلمين‭.‬

جاء‭ ‬بعض‭ ‬قصصه‭ ‬يحمل‭ ‬طابعًا‭ ‬عربيًا،‭ ‬وأسماء‭ ‬عربية‭ ‬تمثّل‭ ‬أحداثًا‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬فكره‭ ‬وتأثره‭ ‬بالإسلام‭ ‬وآداب‭ ‬المشرق،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬الطويلة‭ ‬‮«‬الحاج‭ ‬مراد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمتها‭ ‬أخيرًا‭ ‬للكاتب‭ ‬المترجم‭ ‬هفال‭ ‬يوسف،‭ ‬وقد‭ ‬كتبها‭ ‬تولستوي‭ ‬عام‭ ‬1904‭. ‬في‭ ‬بداية‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬نجد‭ ‬وصفًا‭ ‬بديعًا‭ ‬لقرية‭ ‬محكت‭ ‬الشيشانية‭ ‬القابعة‭ ‬وسط‭ ‬الحقول‭ ‬الجبلية،‭ ‬ويصف‭ ‬تولستوي‭ ‬مشهد‭ ‬وصول‭ ‬الحاج‭ ‬مراد‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬وصوت‭ ‬الأذان‭ ‬مصاحبًا‭ ‬لوصوله،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬تأثره‭ ‬بهذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬وتلك‭ ‬الشعائر‭.‬

نجد‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬أيضًا‭ ‬ألفاظًا‭ ‬مثل‭ ‬إلقاء‭ ‬السلام‭ ‬وردّ‭ ‬السلام،‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬الحاج‭ ‬مراد‭ ‬وشيخ‭ ‬القرية،‭ ‬وكلها‭ ‬دلالة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬إيمان‭ ‬تولستوي‭ ‬وتأثره‭ ‬بهذه‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته‭.‬

 

أسير‭ ‬القفقاس

وفي‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬أسير‭ ‬القفقاس‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬قصصه‭ ‬المختارة‭ ‬الصادرة‭ ‬أخيرًا،‭ ‬التي‭ ‬جمع‭ ‬بعضها‭ ‬الكاتب‭ ‬والمترجم‭ ‬غائب‭ ‬طعمة‭ ‬فرمان،‭ ‬يشير‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬قصة‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬الحقيقة‭ ‬تصور‭ ‬حياة‭ ‬ضابط‭ ‬في‭ ‬جبال‭ ‬القفقاس‭.‬

وتشكل‭ ‬أحداث‭ ‬القصة‭ ‬تأثره‭ ‬الواضح‭ ‬بتلك‭ ‬المعايشة‭ ‬والتقارب‭ ‬عبر‭ ‬أبطال‭ ‬القصة‭ ‬وطريقة‭ ‬الحوار‭ ‬والأمثلة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أبطال‭ ‬القصة،‭ ‬وحوار‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬جيلين‭ ‬ورؤيته‭ ‬لهذا‭ ‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬محافظًا‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬الصلاة،‭ ‬ويصف‭ ‬تولستوي‭ ‬مشهده‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬كان‭ ‬جيلين‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬يأتي‭ ‬ليصلي‭ ‬في‭ ‬المسجد‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬صاغ‭ ‬تولستوي‭ ‬القصة‭ ‬بطابع‭ ‬نرى‭ ‬فيه‭ ‬بوضوح‭ ‬إيمان‭ ‬الكاتب‭ ‬بقيم‭ ‬الإسلام‭. ‬

وقد‭ ‬أدرك‭ ‬تولستوي‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬وآمن‭ ‬بها،‭ ‬ورأى‭ ‬في‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬‭[ ‬اكتمال‭ ‬عقد‭ ‬الأنبياء‭ ‬الذين‭ ‬اختارهم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لنشر‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭.‬

وقال‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬‭[ ‬إنه‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يقل‭ ‬إنه‭ ‬نبي‭ ‬الله‭ ‬الوحيد،‭ ‬بل‭ ‬اعتقد‭ ‬أيضًا‭ ‬بنبوّة‭ ‬موسى‭ ‬وعيسى‭ ‬المسيح،‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬اليهود‭ ‬والنصارى‭ ‬لا‭ ‬يُكرهون‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬دينهم،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتمّموا‭ ‬وصايا‭ ‬أنبيائهم‮»‬‭.‬

ويذكر‭ ‬كيف‭ ‬تحمّل‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ [ ‬الأذى‭ ‬من‭ ‬قومه‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬دعوته،‭ ‬فازداد‭ ‬صبرًا‭ ‬وعزيمة‭ ‬حتى‭ ‬أتم‭ ‬تبليغ‭ ‬الرسالة‭.‬

ويقول‭ ‬‮«‬في‭ ‬دعوة‭ ‬محمد‭ ‬الأولى‭ ‬احتمل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭ ‬أصحاب‭ ‬الديانات‭ ‬القديمة،‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬نبي‭ ‬قبله‭ ‬نادى‭ ‬أمته‭ ‬إلى‭ ‬الحق،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الاضطهادات‭ ‬لم‭ ‬تثن‭ ‬عزمه،‭ ‬بل‭ ‬ثابر‭ ‬على‭ ‬دعوة‭ ‬أمّته‮»‬‭.‬

 

حديثه‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬والصحابة‭ ‬

يذكر‭ ‬تولستوي‭ ‬جانبًا‭ ‬من‭ ‬نشأة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬‭[‬،‭ ‬ومولده‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬570،‭ ‬من‭ ‬أبوين‭ ‬فقيرين،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬حداثة‭ ‬عهده‭ ‬راعيًا،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬‭[ ‬مال‭ ‬منذ‭ ‬صباه‭ ‬إلى‭ ‬الخلوة‭ ‬والأمكنة‭ ‬الخالية‭ ‬بغار‭ ‬حراء‭ ‬في‭ ‬الأعالي،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬جبال‭ ‬مكة،‭ ‬وعمّا‭ ‬يدور‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬فيها،‭ ‬وهناك‭ ‬كان‭ ‬يتأمل‭ ‬الوجود‭ ‬وينظر‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬وصفه‭ ‬لحال‭ ‬الصحابة‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭ ‬بالرسالة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬إشراقها‭ ‬وتحمّلوا‭ ‬مع‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬‭[ ‬كل‭ ‬أذى‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬نشر‭ ‬الدعوة‭ ‬والذود‭ ‬عنها،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأصفياء‭ ‬الذين‭ ‬اختارهم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬ليكونوا‭ ‬عونًا‭ ‬وسندًا‭ ‬لرسوله‭ ‬الكريم،‭ ‬تحدث‭ ‬تولستوي‭ ‬عن‭ ‬تواضعهم‭ ‬وزهدهم‭ ‬وتخليهم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مباهج‭ ‬العيش‭ ‬والترف‭ ‬وحبهم‭ ‬للعمل‭ ‬والإيثار‭ ‬ومساعدة‭ ‬الفقراء‭ ‬والمحتاجين،‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬تولستوي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬وتمثّلها‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬حياته‭. ‬

يقـول‭ ‬تولستـــوي‭: ‬‮«‬امتـــاز‭ ‬المؤمــــنون‭ ‬بتواضعهــــم‭ ‬وزهدهم‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬وحب‭ ‬العمل‭ ‬والقناعة،‭ ‬وبذلوا‭ ‬جهدهم‭ ‬لمساعدة‭ ‬إخوانهم‭ ‬في‭ ‬الإيمان‭ ‬لدى‭ ‬حلول‭ ‬المصائب‭ ‬عليهم،‭ ‬ولم‭ ‬يمض‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬الناس‭ ‬المحيطون‭ ‬بهم‭ ‬يحترمونهم‭ ‬احترامًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬ويعظّمون‭ ‬قدرهم‮»‬‭.‬

 

تأمّل‭ ‬ورحيل

هكذا‭ ‬تأثر‭ ‬تولستوي‭ ‬بالإسلام‭ ‬وبالنبي‭ ‬الكريم‭ [‬،‭ ‬ومثّلت‭ ‬قيمه‭ ‬ومبادئه‭ ‬روح‭ ‬حقيقة‭ ‬طافت‭ ‬بهذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الروحانية،‭ ‬وانعكست‭ ‬بالتالي‭ ‬على‭ ‬صوغ‭ ‬أفكاره‭ ‬وأدبه‭.‬

في‭ ‬آخر‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي،‭ ‬أخذه‭ ‬التأمل‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬الوجود،‭ ‬وبعد‭ ‬تأثره‭ ‬بالإسلام‭ ‬وبحياة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ [‬،،‭ ‬وتمثّل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بُعده‭ - ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الترف‭ ‬والمُتع،‭ ‬وهروبه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المغريات،‭ ‬وعيشه‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬ملازمًا‭ ‬لحياة‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬زهد‭ ‬وتأمّل‭ ‬وصفاء‭ ‬روحي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البلدة‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تكسوها‭ ‬الخضرة،‭ ‬تأخذه‭ ‬المشاهدة‭ ‬وجواره‭ ‬للمسلمين‭ ‬إلى‭ ‬اعتناق‭ ‬حقيقي‭ ‬لقيم‭ ‬الخير‭ ‬والسماحة‭ ‬والدعوة‭ ‬إليها،‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬الإسلام،‭ ‬وقد‭ ‬أخذ‭ ‬يبحث‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬يصله‭ ‬بالله‭ ‬تعالى،‭ ‬فوجد‭ ‬غايته‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وعاش‭ ‬مؤمنًا‭ ‬يحسن‭ ‬إلى‭ ‬الفقراء‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬تأمل‭ ‬وزهد‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭.‬

توفي‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬عام‭ ‬1910،‭ ‬عن‭ ‬82‭ ‬عامًا،‭ ‬إثر‭ ‬إصابته‭ ‬بالتهاب‭ ‬رئوي‭ ‬حاد‭ ‬أصيب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬ودُفن‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬ضيعة‭ ‬ياسنايا‭ ‬باليانا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رفض‭ ‬الكهنة‭ ‬دفنه‭ ‬وفق‭ ‬الطقوس‭ ‬الأرثوذكسية‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬الأخيرة‭ ‬كانت‭ ‬بعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬الكنيسة‭ ‬ومعتقدها،‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬اعتباره‭ ‬مسيحيًّا،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬البعض‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬اعتنق‭ ‬الإسلام‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬أيامه،‭ ‬حسب‭ ‬رأي‭ ‬مترجمة‭ ‬معاني‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬الروسية،‭ ‬الأديبة‭ ‬فاليريا‭ ‬بروخافا،‭ ‬حيث‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬تولستوي‭ ‬أسلم‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته،‭ ‬بعد‭ ‬دراسته‭ ‬الإسلام،‭ ‬وأوصى‭ ‬بأن‭ ‬يدفن‭ ‬كمسلم،‭ ‬وقد‭ ‬استدلت‭ ‬على‭ ‬قولها‭ ‬بأنه‭ ‬يلاحظ‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬إشارة‭ ‬الصليب‭ ‬على‭ ‬شاهد‭ ‬قبره،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬العرف‭ ‬والمعتقد‭ ‬المسيحي‮»‬‭. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬عمره،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬وهروبًا‭ ‬بالروح‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬فسيحة،‭ ‬وقد‭ ‬صاغ‭ ‬أدبه‭ ‬متأثرًا‭ ‬بقراءاته‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬وعن‭ ‬سيرة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ [‬،‭ ‬فكان‭ ‬مثالًا‭ ‬لرسالة‭ ‬الأديب‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬السمو‭ ‬والصفاء‭ ‬الروحي‭ ‬وعن‭ ‬حب‭ ‬الإنسانية‭ ‬وحريتها‭.