عبدالمنعم إبراهيم شارلي شابلن العرب

عبدالمنعم إبراهيم شارلي شابلن العرب

لا ينتهي الفنان دومًا مثلما ينتهي بقية الناس، فمع الزمن تزداد لديه مساحات الإبداع، التي تؤهله لتقديم أداء آخر غير ذلك الذي قدّمه سابقًا، وقد تحقّق ذلك للفنان الراحل عبدالمنعم إبراهيم، حيث اكتسب هذه الملامح بمرور الزمن، خليط من اللين والطيبة، والرحمة والصبر، صبر الحكماء الذين اعتادوا غدر الزمن وقسوة الحياة، وكأن سيمياء الكوميديا قد اختفت من ملامحه، وبدا أنّ عينيه تعكسان وميضًا للحكمة، والنضج، وامتناناً للزمن.

 

يعتبر عبدالمنعم إبراهيم محمد حسن الدُعبشي من أهم الكوميديانات في تاريخ السينما المصرية، وعلى الرغم من ميلاده بمحافظة بني سويف في 24 أكتوبر 1924، فإنه دُفن في قرية ميت بدر حلاوة بمركز سمنود بمحافظة الغربية في 17 نوفمبر 1987.
بعدما حصل إبراهيم على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية ببولاق، حصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1949، وكان صديقه في اختبارات القبول بالمعهد رائد مدرسة المدبوليزم، الفنان الراحل عبدالمنعم مدبولي، نجح الاثنان أمام لجنة من أساطين المسرح مكوّنة من جورج أبيض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي وزكي طليمات، والأخير ضمّه إلى فرقة المسرح الحديث، ليبدأ إبراهيم رحلته الفنية في أولى مسرحياته «مسمار جحا» لأحمد باكثير، ثم «ست البنات» لأمين يوسف غراب.
ويستقيل إبراهيم بعدها من العمل الحكومي، ويتفرغ تمامًا للتمثيل في مسرح الدولة، ويترك فرقة المسرح الحديث عام 1955 منضمًا إلى فرقة إسماعيل ياسين، ويقدّم مسرحية «معركة بورسعيد» عام 1956، ثم مسرحيات «الخطاب المفقود» و«جمهورية فرحات» و«جمعية قتل الزوجات» وغيرها.

أول بطولة
دائمًا ما انحاز إبراهيم إلى أدوار الكوميديا، حتى لقّبه البعض بـ «شارلي شابلن العرب»، رضي أن يكون أفضل صديق للبطل، صديق رشدي أباظة في فيلم الزوجة 13، وأيضًا صديق للبطل نفسه في فيلم عدو المرأة، حتى قام ببطولة فيلم «سر طاقية الإخفاء» عام 1959 للمخرج نيازي مصطفى، في دور الصحفي عصفور قمرالدين، الفاشل في مهنته حتى يجد طاقية الإخفاء، التي تكوّن سرها من بودرة سحريّة نتيجة انفجار في معمل والده، وعن طريق تلك الطاقية السحرية ينجح في عمله الصحفي، ويستعد للزواج من آمال (زهرة العلا)، ويحدث الصراع الكوميدي مع أمين (توفيق الدقن) الذي ينافسه في حبّه لفتاته.
الدرعميّ الفصيح
أدى عبدالمنعم إبراهيم أدوار الدرعمي (خريج كلية دار العلوم)، أو الأزهري المعمّم باحتراف منقطع النظير، كان يتحدث بالوزن والقافية، فتخرج الكلمات من فمه أضخم وأوسع، صدقه الفني أتاح له التقمص والتخيّل فصدقّناه، حين كان شابًّا يقدم الدور الثاني، نضحك على الشيخ عبدالبَر عبدالواحد، المجند في «البحرية»، في فيلم إسماعيل ياسين في الأسطول عام 1957 للمخرج فطين عبدالوهاب، وتبقى في الذاكرة الجملة الخالدة التي حيّرت المشاهد وأضحكته في الوقت ذاته: «يالك من شنقيط»، ونخاف على أستاذ حِكَم وهو يصرخ «الغوث... الغوث» ورقبته تحت سكين المعلم عباس الجزار (عدلي كاسب) في فيلم «السفيرة عزيزة» عام 1961 للمخرج طلبة رضوان، والشيخ المعمّم منعم في فيلم «جواز في خطر» عام 1963 للمخرج عيسى كرامة. ولم تتوقف أدواره باللغة العربية الفصحى على السينما، بل امتدت إلى خشبة المسرح في مسرحيات «حلّاق بغداد» و«الإسكافي» وغيرهما.

الدابسماش 
الدابسماش هو تطبيق فيديو، أنشأه جوناس دريبل ودانيل تاشبك ورولاند غرينك عام 2014، وعن طريق ذلك التطبيق يمكن اختيار مقطع صوتي من فيلم أو أغنية أو تسجيل فيديو، يحركون فيه أفواههم بتزامن مع التسجيل الصوتي.
لا يدرك الجميع أن محروس (عبدالمنعم إبراهيم) سبق المخترعين الثلاثة إلى ذلك، في مشهده الشهير بفيلم «إشاعة حب» عام 1960 للمخرج فطين عبدالوهاب، عندما أدّى صوت هند رستم في جملة أصبحت من أيقونات السينما «كده برضه يا سونة يا خاين، أحبّك، أعشقك، أموت في هواك».

أدواره النسائية
بداية أدوار الفنان عبدالمنعم إبراهيم النسائية كانت عام 1959 في فيلم «لوكاندة المفاجآت» للمخرج عيسى كرامة، حيث تنكّر زغلول (عبدالمنعم إبراهيم) في هيئة امرأة تُدعى نرجس ريحان، بهدف القبض على عصابة تسرق نزلاء اللوكاندة، ويأتي الدور الثاني بعد عام واحد في فيلم «سكّر هانم» للمخرج السيد بدير، لكنّ شخصية سكّر هانم، التي كتبها أبوالسعود الإبياري كانت للفنان إسماعيل ياسين، الذي منعته الرقابة من الظهور في أدوار نسائية بعد فيلمه «الآنسة حنفي»، ليقوم عبدالمنعم بدور سكّر هانم، بعد أن رشّحه إسماعيل ياسين لأداء تلك الشخصية. وكان آخر أدواره النسائية الثلاثة في فيلم «أضواء المدينة» للمخرج فطين عبدالوهاب عام 1972، وأدّى فيه دور الجدة التركية النزقة للفرقة الفنية المغمورة الآتية من طنطا للقاهرة.

أم ياسين
على عتبات السبعينيات لم يعد الفنان عبدالمنعم إبراهيم فنانًا كوميديًّا، صارت مسحة الحزن أعمقَ وأصدق، أدواره ممتلئة، لم يعد ذلك الفنان الذي يبحث عن الفيل في علبة مجوهرات صغيرة في حجم كفّ اليد تحت صفعات توفيق الدقن.
البداية كانت في عام 1964 حين لعب عبدالمنعم أعظم أدواره، في فيلم بين القصرين للمخرج حسن الإمام، ياسين عبدالجواد، الابن البكر للسيد أحمد عبدالجواد (يحيى شاهين)، الشاب اللعوب المحبّ للحياة، كان يشرع ذراعيه ويرقص، يشدّ هامته ويتمايل في بيت زبيدة العالمة، أداء ماكر لشخصية تتغير تجلّياتها بين لحظة وأخرى، لهو يُخفي مأساة ابن امرأة مزواجة (زوزو نبيل)، ليمنح روحه المهترئة نسيانًا.
ربما كان يريد إبراهيم أن يتأكد أولًا من ملاءمته لأدوار التراجيديا، التي أجادها في الكِبَر، كما أجاد الكوميديا في الصِغَر، أضحك المجنون في فيلم «بين السماء والأرض» عام 1959 المشاهدين، كما أبكاهم عم آدم عام 1986، وهو يقف مأخوذًا من فاجعة فشله في تربية أبنائه بمسلسل «أولاد أدم» للمخرج جلال غنيم، ظل واقفًا وهو يتطلع إلى خربشة الطمع في عيون مَن ظن أنه أحسن تربيتهم، معقود اللسان كأنه نسي الكلام، عاجزًا عن صون أمانة هو فقط من يحمل وِزرها. كما أبكانا أيضًا عم جعفر وهو عاجز عن الوقوف بجوار ابنته زينب (عفاف شعيب) وأيتامها الأربعة في مسلسل «الشهد والدموع» عام 1985 للمخرج إسماعيل عبدالحافظ.

الرحيل
بينما يُتلى القرآن الكريم، كان أهل قرية ميت بدر حلاوة يغلقون القبر بإخلاص وخشوع، على جسد الفنان عبدالمنعم إبراهيم عام 1987، بعد 63 عامًا من العطاء الفني، والعبء العائلي الذي كافح ضده كي تستمر حياته وحياة 11 نفسًا وجد نفسه مسؤولًا عنها، فبعد أن تُوفيت زوجته الأولى، وتركت له أربعة أطفال، أصغرهم لم يتجاوز العامين، تُوفي شقيقه عن 35 عامًا، تاركًا له ستة أبناء ووالدتهم، ليجد عبدالمنعم إبراهيم نفسه يعول أسرة لم يكن له رفاهية اختيارها.
رحل صاحب الثلاثمئة عمل فني، ما بين سهرة تلفزيونية ومسلسل وفيلم ومسرحية، بعدما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1983، ودرع المسرح القومي عام 1986.
ربما ضرورات الحياة هي التي شجعته على مواصلة التنكّر لمآسي العمر، أو أن بريق الشغف بالفن أغراه، فجنح به للشعور بأن لديه الكثير مما يجب فعله. في شهر نوفمبر من كل عام تحلّ ذكرى وفاته، حين قُضي الأمر وأغمض عينيه وخرج جسده من المسرح القومي لمثواه الأخير، كما هي وصيّته، نتذكر الغفير حسّان في «الزوجة الثانية» ولمعي في «آه من حواء» وجمعة الكبش في «بيت الكوامل»، وندعو له بالرحمة والمغفرة ■