انفعالات تشكيلية بـ «ناي موتسارت السحري»

انفعالات تشكيلية بـ «ناي موتسارت السحري»

بعد أكثر من 200 عام على أوبرا «الناي السحري»، تُطلّ «ملكة الليل» بزعابيبها خارج حدود دورها المسرحي، وتفرّ خارج نوتة موتسارت الموسيقية التي منح لها بها صوتًا، حيث تجدّد ظهورها عبر نصوص تشكيلية مُغايرة تُطلق بها من جديد صيحاتها المُدويّة ضد الخير والجمال.
ففي معرض استضافه غاليري «آرتس مارت»، مطلع أكتوبر الماضي بالقاهرة، يطرح أستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، د. كلاي قاسم، عبر 40 لوحة، مرئيات تشكيلية يعكس بها انفعاله المُتأصل بأوبرا «الناي السحري»، التي كتبها الألماني إيمانويل شيكانيدير وألّف موسيقاها موتسارت عام 1791.

 

تعد «الناي السحري» أيقونة في تاريخ الأوبرا، ومازالت مسارح العالم الفنية تعرضها حتى اليوم، وتدور بها رحى الصراع  بين الخير والشر، والحب والكراهية، عبر أبطال العرض، وهم «ملكة الليل» التي تُمثّل الشر وحلكته، في مقابل قوة نورانية متمثلة في ساراسترو، الملك الخيّر المستنير الذي يتكئ دائمًا على الحكمة والبصيرة، وما بين القوتين، تتفتح قصة حبّ بين أمير وسيم، وهو تامينو، والحسناء بامينا، وهي ابنة ملكة الليل، التي جعلت أحداث الحكاية قصة حبهما مُستعصية، لعب بها «الناي السحري» عبر أنغامه الفاتنة ألعابًا مُحرّكة للأحداث العجائبية، حتى نجحت تلك القصة في تحدّي عوائقها وبلوغ مُرادها من السعادة، بمساعدة من الحكيم ساراسترو، وكذلك باباجينو «صديق تامينو»، وهو صيّاد الطيور المرح، الذي كان يملأ الدنيا طربًا وهو ينفخ في صفارات مصنوعة من قصب الغاب، في حين غرقت ملكة الليل وأعوانها في الظُلمة الأبدية.
اكتنز د. قاسم، على مدار سنوات انفعالاته بأوبرا الناي السحري، حتى آلت إلى مرئيات تصويرية تعبر مخيلته وتكدّسها، مما دفعه إلى تكريسها كمشروع بذاته في معرضه الجديد، الذي قام فيه بتفكيك الحمولات الدلالية لتلك الأوبرا الكلاسيكية، بما فيها من شحنات عاطفية وخيالية، ليخلق بها عالمًا موازيًا وأوبرا تشكيلية جديدة.
تجد في اللوحات حضورًا لرموز القصة، بداية من الناي السحري، والغابة الشاسعة، والأفاعي، والأجراس الرنانة، والعربات، والوحوش، وحتى الماء والنار، وجميعها مفاتيح يُوظّفها قاسم لإعادة حكي القصة الخيالية من جديد، محتفظًا بروح الموسيقى كمُكون رئيس لمشروعه الفني، واهتم كذلك بإبراز تقنية السينوغرافيا المسرحية وهو يُحرك مجاميعه في اللوحات، عبر رسم حركة تحتفظ لهم بأدائهم المشحون بالأوبرالية، وهم يتماهون في لغة جسد حُرّ، وكأنهم يتحركون على وقع موسيقى موتسارت.
تسكن اللوحات مشاعر الأسر والقيد والإقصاء في مقابل تعزيزات شعورية ممتلئة بالرغبة في الإنقاذ، كان يُحركها مُعسكر الخير بقيادة الأمير تامينو و«الناي السحري» لتحرير ضحايا الشر المتمثّل في بامينا الفتاة الممتلئة جمالًا، رغم ما يُحيطها من قبح.

تنقّل سلس
احتفظ قاسم لملابس أبطاله بالبهاء المرتبط بحضور ممثلي الأوبرا، في حين تظهر هُويته الشرقية في كثير من اختياراته، لعل أبرزها هيئة عازف الناي الذي جعل له قُبعة وحُلة كتلك التي ترتبط في الذاكرة بعازفي الناي ومروّضي الثعابين في الأسواق الشرقية القديمة، في حين يقوم بالتنقل السلس بين الظلال القاتمة والرائقة باختلاف ظهور أبطال عرضه، حيث تسود الرمادية والزُرقة مع تسيُّد ملكة الظلام ومعاوناتها المشهد، في وقت تصدح الظلال النورانية كطيور حُرّة حول بامينا وأميرها وصديق الطيور، وكأن فرشاته غدت نايًا سحريًّا، تُحيل الحزن فرحًا، وتتبع بحساسية هذا التنقل بين ثيمات الخير والشر.
تمنح حكاية الناي السحرية لصاحب المعرض حريّة إضافية في التعاطي مع ذاكرته المرتبطة بتلك الأوبرا، فانطلق في الفضاء الحُرّ لانطباعاتها، في حين ترك أبطاله مطموسي الملامح أو مرتدين الأقنعة، مكتفيًا بلغتهم الكامنة وراء حركتهم، وحكايتهم العجائبية التي خلّدها موتسارت، ربما ليحيل لأبدية صراع الخير والشر، والمدى الرمزي الأطول للقصة، ومغزاها الأبعد من قصة حب تامينو وبامينا، مانحًا لجميع الوجوه قابلية التجدد والتبدل بوجوه أخرى خارج حدودها التي وضعها إيمانويل شيكانيدير في القرن الثامن عشر ■