ذكريات أستاذ عظيم
عرفتُ شكري عياد (1921/1999) منذ أعوام بعيدة، وتحديداً في عام 1961 حين خطوتُ الخطوة الأولى في طريق الجامعة طالباً في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، حيث كان عياد أستاذاً مرموقاً بين أساتذة القسم، جنباً إلى جنب عبدالحليم النجار، وكامل حسين، وعبدالعزيز الأهواني، وسهير القلماوي، وعبدالحميد يونس، وشوقي ضيف، رحمهم الله جميعاً.
كان قسم اللغة العربية، في ذلك الوقت، يحمل ميراثه العظيم الذي صنعه جيل الرواد من أمثال طه حسين، وأحمد أمين، وأمين الخولي، ويضيف إلى هذا الميراث ما جعل منه حضوراً متصلاً من التقاليد الخلّاقة داخل الجامعة، وحضوراً فاعلاً من الإضافة المستمرة إلى الحياة الثقافية العامة خارج الجامعة.
ولعل الدرس الأول الذي تعلَّمته من هذه التقاليد أن البحث العلمي لا ينغلق على نفسه داخل أسوار الجامعة منعزلاً عن قضايا المجتمع وأحلامه في التقدم، وأن دراسة الأدب لا معنى لها ما لم تضع في اعتبارها الدور الاجتماعي الذي يُسهم به نقد الأدب - تأكيداً لدور الأدب نفسه - في الارتقاء بالحياة من وِهاد الضرورة إلى مستوى الحرية، وأن الأستاذ الجامعي الحقيقي هو من يمتد برسالته الإبداعية والتنويرية إلى خارج أسوار الجامعة، مُشيعاً قيم الحرية الفكرية في المجتمع، ومتحدياً التقاليد الجامدة بما يفتح المدار المُغلَق للثقافة على وعود التجديد والحداثة.
ويبدو أن هذا هو السبب الأول الذي جعلني أعرفُ كثيرين من أساتذتي في قسم اللغة العربية قبل أن أراهم في قاعة المحاضرات، أو أجلس منهم مجلس التلمذة المباشرة، فقد كنتُ أقرأُ نقدهم الأدبي، وأتابعُ معاركهم الفكرية، وأتأثرُ بمقالاتهم المنشورة في الجرائد والمجلات العامة والخاصة قبل سنوات من دخولي إلى الجامعة، ولذلك كنتُ على شيء من المعرفة بمعارك طه حسين مع الجيل الجديد في ذلك الزمان؛ أعني جيل محمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس وعبدالرحمن الشرقاوي، على سبيل المثال، فضلاً عن أشكال الصدام التي كانت تحدث بين جبهة لويس عوض ومحمد مندور النقدية في مواجهة جبهة رشاد رشدي وأمثاله أو تلامذته من أتباع «النقد الجديد».
وفي موازاة ذلك كنت أرى اقتراب سهير القلماوي من زكي نجيب محمود في الدعوة إلى القراءة الفاحصة في النصوص الأدبية التي كانت تُرددُ أصداء مدرسة «النقد الجديد» في الولايات المتحدة وإنجلترا، وذلك كله في سياق يصل ما بين الأهواني ويونس في الدعوة إلى الأدب الشعبي وأهمية دراسته، وذلك في اتجاه ليس بعيداً عن اتجاه أمين الخولي الذي أسس للمدرسة الإقليمية في دراسة الأدب الوطني، وألحَّ عليها منذ أن كتب كتابه المهم «في الأدب المصري».
طه حسين
لكن المكان الأحب في قلبي وعقلي كان محجوزاً دائماً لطه حسين الذي فُتنتُ به منذ شبابي الباكر؛ أعني التأثر الذي جعلني أذهبُ إلى قسم اللغة العربية لأتعلم على يدي صاحب «الأيام» في الجامعة التي علَّمني هو - قبل غيره - معاني الانتساب إليها والحلم بمستقبلها.
ولكنني عندما التحقتُ بالجامعة طالباً في قسم اللغة العربية كان طه حسين قد توقف عن التدريس للطلاب المبتدئين الصغار من أمثالنا، وترك هذه المهمة لتلامذته الذين أصبحوا أساتذتنا، الأمر الذي خفف من صدمة عدم الاستماع المباشر إلى دروسه، فاكتفينا بكُتبه التي لم نتوقف عن مراجعتها طوال سنوات الدراسة، كما لم نتوقف عن متابعة مقالاته في جريدة الجمهورية التي ظللنا نقرأها فيها.
وكان شكري عياد أحد تلامذة طه حسين الذين استمعنا إليهم في عامنا الجامعي الأول، وسرعان ما اكتشفتُ أنه أقرب إلى الشيخ أمين الخولي منه إلى طه حسين، ولذلك لم يكن يتمتع بالنزوع الصدامي الذي غرسه طه حسين في وجداننا.
فقد كان شكري أقرب إلى أستاذه الخولي الذي أشرف على أطروحتيه في الماجستير والدكتواره. وكلتاهما كانت حدثاً بالغ الأهمية في تاريخ الدراسات البلاغية والأدبية على السواء؛ أما أطروحته الأولى فكانت بعنوان: «يوم الدين والحساب... دراسات قرآنية أدبية»، وكانت عن الأساليب البلاغية للقرآن الكريم على وجه الخصوص، وأما الثانية فقد كانت عن تأثير كتاب أرسطو طاليس عن «فن الشعر» في البلاغة العربية والنقد العربي القديم على السواء، ولذلك لم أستغرب أن يقوم عياد - رحمه الله - بتدريس مادة البلاغة لنا، ويقودنا إلى تعرُّف أسرار البيان والمعاني، متجاهلاً علم البديع الذي لم يُشر إليه قط.
نوع فريد
كان لمحاضرات عياد مذاقٌ خاصٌّ وأُفُق فكري متميز جذبني إليه عقلياً، رغم أن شعبيته كانت أقل من بعض زملائه الذين كانوا يخلطون الجد بالهزل، أو يؤثرون التعريف بما هو معروف، أو يتقربون إلى الطلاب - الذين كان عددهم قليلاً في ذلك الزمان البعيد - بما يشبع غرور الصغار بمصاحبة الكبار.
لم يكن شكري مثل هؤلاء؛ لأنه كان نوعاً فريداً من الأساتذة الذين يؤثرون الصمت على الكلام، ولا يلقون الكلام على عَوَاهِنِهِ، نفوراً من التبسط معنا في قاعة المحاضرات أو خارجها.
إذا بادرتَه بسؤالٍ عن شيء لم تفهمه اتجه ببصره إلى الأعلى، وتروَّى كثيراً في الإجابة التي تكون حذِرة دائماً، بعيدة عن التعميم أو الإطلاق أو حتى اليقين، كأنه لا يستريح إلى إجابة واحدة، ويميل إلى الشك والمساءلة وإيثار الدقة الحذرة عن الاسترسال الذي لا يلتزم بالمنطق الصارم أو الحذر الواضح.
ولم تكن الجُمَل تتدافعُ على لسانه في قاعة المحاضرات، بل تتباطَأ، ولذلك كان حذره في التعامل مع الكلمات هو أول ما شدَّ انتباهي إليه، كما كان تأنِّيه في اختيار الجُمَل، وتدبره في نَظْم ما بينها، يدفعاني إلى التروي في فهم ما يقول، خصوصاً أنه كان يفكر بطريقة مختلفة عن أغلب أساتذة الأدب القديم الذين كانوا يدرِّسون لنا الشعر العربي القديم.
كان يقرأ معنا كتاب القزويني في البلاغة فصلاً فصلاً، ويتوقف طويلاً عند فصول علم البيان مُتعمقاً كل التعمق في فهم التشبيه والاستعارة والكناية على وجه التحديد، ولم يكن يوافق القزويني على كل ما جاء في كتابه «الإيضاح».
المجاز والتجديد
عندما انتهى معنا عياد من «تفصيص» ما قاله القزويني في هذا الجانب، ترك الكتاب وأملانا محاضرة عن معاني التصوير الأدبي ومجالاته، وهي المجالات التي كانت بمنزلة انتقال من معاني التشبيه والاستعارة والكناية كما وردت في كتاب القزويني إلى دلالات الصورة الشعرية التي كنا نسمعها - اصطلاحاً - للمرة الأولى، وذلك بالقدر نفسه الذي كنا نسمع أفكاراً عن بلاغة جديدة تبدأ بالقاعدة التي تقول: لا مفر لك من المجاز إذا حاولت التجديد، فالمجاز وسيلة علائقية خاصة من حيث إنه تغيير في علاقات اللغة، وتحويل في طرائق إسنادها، وذلك للتعبير عمّا لم يمكن التعبير عنه بغير المجاز.
هكذا عرفتُ أن عياد يتابع تطوير منهج أستاذه المباشر أمين الخولي، ويمضي على خُطاه التي تقول: إن أول التجديد هو قتل القديم فهماً، والتي يترتب عليها القول بأن الفهم تملُّك للمفهوم، واستخدام له في مواطن جديدة لم يكن يعرفها القدماء. وكانت الخطوة التالية بعد ذلك دروس التفسير القرآني، لاكتشاف أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز بواسطة أحدث مناهج البحث اللغوي والأسلوبي في ذلك الوقت، أيام أن كان كتاب «فلسفة البلاغة» للناقد إي. إيه. ريتشاردز (إيفور آرمسترونج ريتشاردز) نموذجاً منهجياً يعد بالكثير في الكشف عن الفاعلية المتبادلة بين الكلمات.
ومن تفسير القرآن الكريم إلى النقد العربي القديم، الذي أوشك عياد أن يختزله لنا في قضية اللفظ والمعنى؛ لأنه رأى في هذه القضية أصل قضايا النقد العربي القديم كلها.
الطريف أنه لم يُشِر مرة واحدة إلى أطروحته التي نال بها درجة الماجستير، وهي دراسة نصية لبعض مشاهد القيامة في القرآن الكريم، وكانت فتحاً في الدراسات البلاغية المحدثة في ذلك الوقت. وكان إيقاع الشعر آخر ما درستُه على يدي عياد في مرحلة الدراسات العليا؛ أعني السنة التمهيدية التي كان لابد أن ندرسها قبل التسجيل لدرجة الماجستير.
أداة فاعلة
اكتشفنا مرة أخرى أن كلمات اللغة ليست أوعية للمعاني، أو مجرد حوامل سلبية للأفكار كأنها ساعي البريد الذي ينقل ما لا علاقة له به، وإنما الأداة الفاعلة التي يبني بها المبدعون رُؤاهم ويكتشفون بها وفيها خصوصية هذه الرؤى، ويصوغون من أصواتها الإيقاعات المائزة في تفرُّدها وجدتها وأصالتها.
وكانت النتيجة ما خرجتُ به من معرفة تأسيسيةٍ بأنظمة النَّبر وعلاقات التنغيم وتفاعل أصوات الحروف في الأوزان، فضلاً عن الدور الذي يقوم به إشباع التوقع وإحباطه في السياقات التي تتجاوب بها الدوال مع الحركة الحيوية للإيقاع الشعري في تموُّجِهِ وتنوُّعِهِ على السواء.
هكذا أدركتُ شيئاً فشيئاً أن الكلمات هي الحامل والمحمول، أو مجال الدرس وأداة الإبداع في عالم شكري الذي شدَّني إليه، فعياد الذي سعى - منهجياً - إلى أن يكتشف عالَم الكلمات في النص الإبداعي، هو نفسه الذي حاول أن يكتشف - إبداعياً - بواسطة الكلمات، خصوصية عالَمه في علاقته بغيره من عوالم الواقع.
ولذلك فإنه حين أراد الجمع بين الأدب الوصفي والأدب الإنشائي بِلُغة طه حسين، اختار النوع الأدبي الذي يتميز بكثافة العلاقة بين الكلمات، وتنقَّل - في سياقات نقده التطبيقي - بين الشعر وكتابة القصة القصيرة التي خصَّها بهواه الإبداعي، وتميز فيها بما جعله من كُتّابها الكبار. ولا غرابة في ذلك، لأن القصة القصيرة هي فن التكثيف اللغوي في المقام الأول.
وقد سبق أن أوضحتُ - في دراسة سابقة - أنه خصَّ القصة القصيرة بهواه، لأنه كان يريد أن يقتنصَ بالكلمات أو يثبتَ بها اللحظات التي سرعان ما تضيع في تعاقب الزمن، أو تفرُّ من تتابع الأحداث، فالقصة القصيرة هي الفن الذي يبدأ وينتهي بتأثيرٍ واحدٍ بعينه، معتمداً على وحدة التأثير أو الانطباع التي تصل بهذا الفن إلى نوعٍ من الشعر الذي يسعى بدوره إلى اقتناص اللحظات المراوِغة، وإبطاء تدافعها بما يتيحُ للوعي إدراكها بالكلمات التي يتجسدُ بها ما يَنِدُّ عن التجسد.
تجربة جديدة
هذا هو الدرس الذي تعلَّمتُه منه في كتاباته عن فن القصة القصيرة وتحليله لها، وهو ما يمكن أن يصلح مدخلاً لاكتشاف إيثاره لهذا الفن الذي يقوم على «الاقتصاد» في استخدام الكلمات.
ويمكن أن أدلل على ذلك بعباراته هو في كتابه عن «القصة القصيرة»، وهو دراسة في تأصيل هذا الفن، خصوصاً حين يتوقف عند «الاقتصاد»، بوصفه الخاصية النوعية الأولى لفن القصة القصيرة، وهو الشرط الذي لابد منه لأداء وحدة الانطباع، وذلك من حيث هو عملية تكثيف لغوي لا يشعر بها القارئ ولا الكاتب على أنها نوع من الحذف أو الضغط، بل على العكس، إنَّ كل زيادة عن التعبير المُقتصِد تبدو افتعالاً أو عجزاً عن الوصول إلى التعبير المُطابِق.
ويبدو أن ذلك هو ما دفع عياد إلى الاقتناع بأن كل قصة قصيرة هي تجربة جديدة في التقنية؛ ذلك لأنه لا يمكن أن يوجد انطباعان متشابهان كل التشابه نوعاً وعُمقاً وشمولاً، وهو ما تجلَّى أثره في ممارسته الإبداعية لكتابة القصة القصيرة، فكل قصة من قصصه كونٌ صغيرٌ مُتفرِّدٌ في بناء اللحظة التي تقتنصها الكلمات.
وانتقاله مع الزمن من الواقعية إلى الرمزية، ومزجه بين الحاضر والماضي في الإشارة، والشعبي والفردي في الكتابة، علامات على تنوع العوالم التي تُدخلُنا إليها قصصه القصيرة. ورهافة لمسة الواقع في المجموعات الأولى، في موازاة التمثيلات الرمزية للمجموعات الأخيرة، فضلاً عن حسِّ السخرية العميق الذي يلازم الوعي اليقظ بالمفارقة المُتكررة في المشاهد والبسمة المراوغة التي تبدو من خلال الوصف المحايد ظاهرياً، كلها صفات مُتأصَّلة في تراكيب السرد الذي يتميز بشعرية لا تخلو من مكر الصَّنعة اللغوية.
وهي صنعة تدل - بدورها - على أن إبداعات عياد القصصية تصلحُ دليلاً على تنظيره الذي يقول: إنه ما دام تصميم القصة القصيرة قائماً على الأداء الدقيق للانطباع، والتجسيد المُحدَّد المُكثَّف للَّحظة، فلابد أن يختلف تصميم كل قصة قصيرة عن تصميم غيرها.
نظري وعملي
رأيي الذي لم أتراجع عنه أن كل ما قاله شكري عياد نظرياً في كتابه عن القصة القصيرة حققه عملياً فيما كتبه منها.
وربما كان الأدق أن أقلب التعبير وأقول: إن ما تعلَّمه عياد من ممارسة كتابة القصة هو ما سعى إلى تأصيله نظرياً في الكتابة عنها، فقد صدر كتابه عن القصة القصيرة سنة 1968، بعد أن كان قد نشر مجموعتين مُتميزتين في هذا الفن، هما: «ميلاد جديد» سنة 1958، و«طريق الجامعة» سنة 1961.
وقد أكمل هاتين المجموعتين، بعد صدور كتابه التأصيلي للفن الذي أَحبه، بأربع أخرى هي: «زوجتي الجميلة الرقيقة» سنة 1976، و«رباعيات» سنة 1984، و«كهف الأخيار» سنة 1985، و«حكايات الأقدمين» سنة 1985. وهي المجموعة الأخيرة في نشاطه الإبداعي المتميز الذي أضاف إليه روايته الوحيدة «الطائر الفردوسي» التي صدرت عن دار الهلال بالقاهرة (نوفمبر1997)، فضلاً عن سيرته الذاتية اللافتة بعنوان «العيش على الحافة»، وهي عمل أدبي، ظل محافظاً على الخاصية اللغوية الأساسية للقصة القصيرة: الاقتصاد في الأداء، والاهتمام البالغ باللغة في تعدد مستوياتها ووظائفها. وكثيرة هي أشكال الاقتصاد اللغوي وتجلياته وصفاته في قصص عياد.
شأن الاقتصاد في ذلك شأن تنوّع استخدام الكلمات ومستوياته التي أرجو أن يتوقف عندها النقد التطبيقي طويلاً، فاللغة أسرع المداخل إلى عالم عياد الإبداعي وأدلها على خصائصه.
ولقد سبق لي أن كتبتُ مقدمة عن هذا الجانب، تصديراً للمختارات التي أصدرتها الهيئة العامة للكتاب احتفاءً بشكري أثناء حياته الخصبة.
الناقد الفيلسوف
الأمر الآخر الذي أريدُ تأكيده في عالم عياد، الناقد الأدبي المتميز، هو إلحاحه على أن الناقد الأدبي الحقيقي يجب أن يكون دارساً للفلسفة، وصاحب رؤية فلسفية خاصة، وقدرة على النفاذ عبر الممارسات التطبيقية للنقد الأدبي إلى ما يكمنُ وراءها ويدعمها نظرياً من صياغات فلسفية.
وأعتقدُ أن هذا هو ما دفعني شخصياً إلى الاهتمام بالنقد النظري والكتابة الكثيرة في نقد النقد.
وأضيفُ إلى ذلك ما ظل يلفتُ نظري إليه، من أنه ينبغي ألا تحول التفاصيل العملية بيني وإدراك الرؤى الفلسفية الكامنة وراءها أو المحركة لها، ولهذا كان يقول لي: «إنه لا يمكن أن يوجد ناقد أدبي حقيقي إلا إذا كان وراءه موقف فلسفي ينطلق منه ابتداء، وقدرة على استبطان وإدراك هذا الموقف الذي هو نوع من رؤية العالَم وراء كل أديب كبير ثانياً».
ومن المؤكد أنه هو الذي لَفَتَ نظري إلى أن النقد الغربي يدور حول تيارين أساسيين، ما كان يسميه بـ «التيار الأرسطي» الذي كان يركز التركيز كله على الفحص النصي والقراءة الفاحصة لهذا النص في ماديته المحسوسة، وذلك في مقابل التيار النقيض، وهو «التيار الأفلاطوني» الذي كان يبحث عن الرؤى الكامنة وراء النصوص من حيث هي علامات دالة على هذه الرؤى التي ينبغي أن يستشفها الناقد. وأحسبه كان في ذلك متأثراً بما كتبه ديتشيز عن مناهج النقد الأدبي، وكان كتاباً أثيراً لديه.
والحق أن هذه الإشارة بالذات هي ما جعلت عياد يتحدث عن الرؤى الكامنة وراء الأشكال النقدية.
وقد وصف هو الرؤية التي تتحكم في نقده بأنها «الرؤيا المقيدة»، وهو عنوان واحد من كُتُبه أهداه لي بعد صدوره من الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 1978، وقد جعل للكتاب عنواناً فرعيًّا هو «دراسات في التفسير الحضاري للأدب».
رائد النقد الثقافي
أعتقدُ أن هذا العنوان يمكن أن يجعل من عياد رائداً من رواد «النقد الثقافي»، ذلك النوع من النقد الذي شاع في السنوات الأخيرة، والذي يدَّعي نقاد كثيرون ريادته والاجتهاد فيه. والفارق بين معنى الحضارة والثقافة عند عياد فارق يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد.
ولذلك يقول عياد في تقديمه لهذا الكتاب: «إن أديب هذا العصر الذي حوصرت حريته من كل جانب، يدركُ أن الفن هو أسمى فعل من أفعال الحرية يُمكن أن يأتيه الإنسان، وهو أوضح بصيرة من سلفه الرومانسي الذي كان يتوهم أن شخصيته جوهر غريب نادر لا يخضع لشيء من مواصفات المجتمع إلا مرغماً، وأن الفن هو وسيلة للفِكاك من هذه المواصفات.
أديب هذا العصر يعلم أن شخصيته نتاج مجتمعه، وأن كل ما يتلقاه من أفكار ومشاعر هو من صُنع هذا المجتمع، حتى فنه هو أيضاً صورة لمجتمعه، ولكن الفن يختلف عن غيره من دروب النشاط البشري في أنه لا يتوقف أبداً، ولا يُسلِّم أبداً بما هو موجود، بل يحاول دائماً أن يقفز من الآني إلى الدائم، ومن الجزئي إلى الكلي، وأن يتجاوز حدود الزمان والمكان ليصل إلى المطلق».
ولكن لهذا المطلق وجود مُتعالٍ عن الإنسان ورؤيته - مهما تعددت صفاته وأسماؤه - هي رؤية مقيدة، ذلك لأن المبدعين لا يستطيعون الوصول الكامل أو الاتحاد بذلك المطلق؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقطعوا الوشائج الخفية التي تصلهم بقومهم: تاريخاً، وثقافة، وعملاً، وحضوراً مستمراً.
فقَطْعُ الصلة بينهم وبين عوالمهم التي تمدُّهم بدم الحياة هو إنهاء لحياة الأديب نفسها وتدمير لرؤيته، ولذلك: «تظل رؤية الفنان دائماً مقيدة بطابع الحضارة التي ينتمي إليها، تتأثر به هذه الحضارة من عوامل، ولكنها تطمح لتستشرف المطلق، وتجذب الحضارة - لا حضارة قومه فحسب، بل حضارة البشرية جمعاء - إلى رحابه».
رؤية مقيدة
لو استبدلنا بكلمة «الحضارة» كلمة «الثقافة» ما تغيّر المعنى كثيراً، فالأديب في النهاية ابن ثقافته، وهو مقيد بهذه الثقافة، ولذلك فإن رؤيته الإبداعية تتحيز في البناء الأشمل لهذه الثقافة، وتتقيد بقيودها التي لا تخرج عنها مهما كانت محاولة الكاتب مجاوزة هذه الثقافة إلى ما يعلو عليها، فالثقافة في النهاية هي نوع من الدماء التي تسري في شرايين المبدع بما يَسِمُ إبداعه بِسَمْتِها، فتربطه بها بما يجعل من رؤيته دائماً رؤية مُقيَّدة.
هكذا يتحدثُ عياد في القسم الأول عن الأُطُر الحضارية للأدب العربي، كما يتحدث عن مفهوم الأصالة في ارتباطه بمفهوم المعاصرة. وكلا المفهومين أساسيّ عند عياد، مؤكداً أن الأصالة ضد التقليد، وأنها ينبغي أن تُفهم على أنها الارتباط بالجذور التاريخية والثقافية للفرد بما لا يُضيِّع الهوية، أو ينزع الإنسان من الثقافة التي ينتسبُ إليها، أما المعاصرة فهي فهمُنا العميق للعصر الذي نعيش فيه كي نتعايش معه ونستفيد منه.
والعلاقة جدلية بين الاثنين؛ فنحن لابد أن نعيش عصرنا بكل ما فيه من جدة وتغيُّرات، ولكن دون أن نتخلى عن هويتنا أو جذورنا الضاربة في تراثنا بكل معانيه.
والعلاقة جدلية بين الأصالة والمعاصرة، فكلاهما يرتبط بالآخر في نوعٍ من الجدل الخلّاق الذي لا ينغلق بالأنا الحضارية في حدود واحد من الطرفين؛ الأصالة والمعاصرة.
ولذلك لم يكن عياد مُنغلقاً في موقفه النقدي، وإنما كان مُنفتحاً إلى أبعد حد، لكن انفتاحه كان منطوياً على وعي نقدي صارم، حريصاً كل الحرص على التوازن بين الموروث العقلاني والجديد الذي لا يخلو من عقلانية.
التأصيل والحضارة
على أساسٍ من هذه الرؤية المتوازنة تصدى عياد لكل ما هو جديد وفَحَصَه فحصاً نقدياً، بالمعنى الفلسفي لكلمة «نقد».
ولذلك كان يؤمن بأنه إذا كان الميراث الحضاري أو الثقافي للأُمَّة مُتصفاً بالمرونة، فإنها تستطيع أن تقبل عناصر حضارية أو ثقافية كثيرة، فتُطوِّر بذلك من كيانها دون أن يتحطم الإطار العام للحضارة أو الثقافة أو تضيع مقوماتها، ولذلك كتب عياد كثيراً عن «التأصيل» بوصفه كلمة جديدة على اللغة العربية، لا من حيث هي ترجمة لكلمة أجنبية، وإنما من حيث هي كلمة عربية الأصل تشير إلى أن معناها يؤكد حيوية الثقافة التي تفتح نوافذها إزاء كل تيار مُفعَمٍ بالحياة، ولكن بشرط أن تكون جذوره راسخة في الأرض، ولذلك فإنه يؤكد أن «فكرة التأصيل لا تُولِّي ظهرها للثقافة الغربية، بل إنها ما كانت لتوجد لولا لقاؤنا بهذه الحضارة، وإلا فما اشتغالنا بأن يكون لنا مسرح، وأدب روائي واقعي، وقد كان في المُغنِّي والمُنشِد والمَدّاح والشاعر غذاء فني كافٍ لأجدادنا؟ وما دامت فكرة التأصيل راجعة إلى لقائنا بالحضارة الغربية، فيجب ألا نتجاهل هذا اللقاء في أي مرحلة من مراحل الفكرة».
هكذا لا يمكن أن يحدث التأصيل - في مفهوم عياد - إلا إذا اقترن بالحرية الكاملة، يقصد تحرر المبدع أو المُفكّر من القديم، وتحرره من الجديد في الوقت نفسه، ويختم عياد كلامه عن التأصيل بجملة لا تُنسَى، هي أن «الأثر الذي يُنتجه الأديب في هذه الحالة (يعني التأصيل) هو رمز لحرية الأمة كلها».
ناقد أصيل
هذه الكلمات قالها عياد عام 1969، ومن المؤكد أنها تشرحُ لنا المنحى الذي مضى فيه عندما حاول أن يؤصل لاتجاهات البحث الأسلوبي سنة 1985، أو للقصة القصيرة قبل ذلك في كتابه الذي جعل عنوانه «دراسة في تأصيل فن أدبي»، وهو الأمر نفسه الذي دفعه إلى الانتهاء من كتابه «دائرة الإبداع» الذي جعل منه مقدمة في أصول النقد، وقد أصدره عام 1987، وكان محاولة منه لاستخلاص تجاربه وخبراته في صياغةِ عمليةِ تأصيلٍ للنقد الأدبي من منظوره العربي الذي اختزلته كلمة «تأصيل»، وهو المنظور الذي جعل منه ناقداً أصيلاً بكل معنى الكلمة، نافراً كل النفور من محاولات التقليد الأعمى، فكتابه عن «دائرة الإبداع» ككل الكتب التي سبقته أو لحقت به، محاولات لعقل نقدي مشغول بعملية التأصيل التي أراد لها أن تكون موقفاً نقدياً مبنياً على مساءلة الشرقي والغربي على السواء، فيما يتصل بكتابةٍ نقديةٍ تنطلق في حدود دائرة الإبداع بوصفها رؤية خلّاقة لا تعرف التقليد الساذج للوافد أو الموروث، وإنما محاولة لتأسيسِ فكرٍ إبداعي، يضعُ العالم الذي يعيش فيه، والثقافة التي ينتسبُ إليها، والثقافة التي تأتي إليه من الضفاف الأجنبية، يضع ذلك كله موضع المُساءلة ليصل إلى الدائرة الحقيقية للإبداع الخلّاق للنقد الأدبي، الذي هو تأصيلٌ لموقفٍ نادرِ المثال في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة في آن ■