ذكريات أستاذ عظيم

ذكريات أستاذ عظيم

عرفتُ‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ (‬1921‭/‬1999‭) ‬منذ‭ ‬أعوام‭ ‬بعيدة،‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬حين‭ ‬خطوتُ‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجامعة‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬عياد‭ ‬أستاذاً‭ ‬مرموقاً‭ ‬بين‭ ‬أساتذة‭ ‬القسم،‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬عبدالحليم‭ ‬النجار،‭ ‬وكامل‭ ‬حسين،‭ ‬وعبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬وسهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬وعبدالحميد‭ ‬يونس،‭ ‬وشوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬رحمهم‭ ‬الله‭ ‬جميعاً‭.‬

كان‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬يحمل‭ ‬ميراثه‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬صنعه‭ ‬جيل‭ ‬الرواد‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين،‭ ‬وأمين‭ ‬الخولي،‭ ‬ويضيف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الميراث‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬حضوراً‭ ‬متصلاً‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬الخلّاقة‭ ‬داخل‭ ‬الجامعة،‭ ‬وحضوراً‭ ‬فاعلاً‭ ‬من‭ ‬الإضافة‭ ‬المستمرة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬العامة‭ ‬خارج‭ ‬الجامعة‭.‬

ولعل‭ ‬الدرس‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬تعلَّمته‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬لا‭ ‬ينغلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬داخل‭ ‬أسوار‭ ‬الجامعة‭ ‬منعزلاً‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬وأحلامه‭ ‬في‭ ‬التقدم،‭ ‬وأن‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬اعتبارها‭ ‬الدور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يُسهم‭ ‬به‭ ‬نقد‭ ‬الأدب‭ - ‬تأكيداً‭ ‬لدور‭ ‬الأدب‭ ‬نفسه‭ - ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬بالحياة‭ ‬من‭ ‬وِهاد‭ ‬الضرورة‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الحرية،‭ ‬وأن‭ ‬الأستاذ‭ ‬الجامعي‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يمتد‭ ‬برسالته‭ ‬الإبداعية‭ ‬والتنويرية‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬أسوار‭ ‬الجامعة،‭ ‬مُشيعاً‭ ‬قيم‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ومتحدياً‭ ‬التقاليد‭ ‬الجامدة‭ ‬بما‭ ‬يفتح‭ ‬المدار‭ ‬المُغلَق‭ ‬للثقافة‭ ‬على‭ ‬وعود‭ ‬التجديد‭ ‬والحداثة‭. ‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أعرفُ‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬أساتذتي‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أراهم‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات،‭ ‬أو‭ ‬أجلس‭ ‬منهم‭ ‬مجلس‭ ‬التلمذة‭ ‬المباشرة،‭ ‬فقد‭ ‬كنتُ‭ ‬أقرأُ‭ ‬نقدهم‭ ‬الأدبي،‭ ‬وأتابعُ‭ ‬معاركهم‭ ‬الفكرية،‭ ‬وأتأثرُ‭ ‬بمقالاتهم‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭ ‬والمجلات‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬دخولي‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولذلك‭ ‬كنتُ‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬بمعارك‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مع‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان؛‭ ‬أعني‭ ‬جيل‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم،‭ ‬وعبدالعظيم‭ ‬أنيس‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الشرقاوي،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أشكال‭ ‬الصدام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬جبهة‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬ومحمد‭ ‬مندور‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬جبهة‭ ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ ‬وأمثاله‭ ‬أو‭ ‬تلامذته‭ ‬من‭ ‬أتباع‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬موازاة‭ ‬ذلك‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬اقتراب‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬من‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬القراءة‭ ‬الفاحصة‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُرددُ‭ ‬أصداء‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وإنجلترا،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬يصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأهواني‭ ‬ويونس‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬وأهمية‭ ‬دراسته،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬ليس‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬اتجاه‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬للمدرسة‭ ‬الإقليمية‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬الوطني،‭ ‬وألحَّ‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ ‬‮«‬في‭ ‬الأدب‭ ‬المصري‮»‬‭.‬

 

طه‭ ‬حسين

لكن‭ ‬المكان‭ ‬الأحب‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬وعقلي‭ ‬كان‭ ‬محجوزاً‭ ‬دائماً‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬فُتنتُ‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬شبابي‭ ‬الباكر؛‭ ‬أعني‭ ‬التأثر‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أذهبُ‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لأتعلم‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬علَّمني‭ ‬هو‭ - ‬قبل‭ ‬غيره‭ - ‬معاني‭ ‬الانتساب‭ ‬إليها‭ ‬والحلم‭ ‬بمستقبلها‭.‬

ولكنني‭ ‬عندما‭ ‬التحقتُ‭ ‬بالجامعة‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قد‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬التدريس‭ ‬للطلاب‭ ‬المبتدئين‭ ‬الصغار‭ ‬من‭ ‬أمثالنا،‭ ‬وترك‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬لتلامذته‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أساتذتنا،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬خفف‭ ‬من‭ ‬صدمة‭ ‬عدم‭ ‬الاستماع‭ ‬المباشر‭ ‬إلى‭ ‬دروسه،‭ ‬فاكتفينا‭ ‬بكُتبه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬مراجعتها‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬مقالاته‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭ ‬التي‭ ‬ظللنا‭ ‬نقرأها‭ ‬فيها‭.‬

وكان‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬أحد‭ ‬تلامذة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذين‭ ‬استمعنا‭ ‬إليهم‭ ‬في‭ ‬عامنا‭ ‬الجامعي‭ ‬الأول،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أنه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الشيخ‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتمتع‭ ‬بالنزوع‭ ‬الصدامي‭ ‬الذي‭ ‬غرسه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬وجداننا‭.‬

فقد‭ ‬كان‭ ‬شكري‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أستاذه‭ ‬الخولي‭ ‬الذي‭ ‬أشرف‭ ‬على‭ ‬أطروحتيه‭ ‬في‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتواره‭. ‬وكلتاهما‭ ‬كانت‭ ‬حدثاً‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الدراسات‭ ‬البلاغية‭ ‬والأدبية‭ ‬على‭ ‬السواء؛‭ ‬أما‭ ‬أطروحته‭ ‬الأولى‭ ‬فكانت‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‭ ‬والحساب‭... ‬دراسات‭ ‬قرآنية‭ ‬أدبية‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬عن‭ ‬الأساليب‭ ‬البلاغية‭ ‬للقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬وأما‭ ‬الثانية‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬كتاب‭ ‬أرسطو‭ ‬طاليس‭ ‬عن‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬العربية‭ ‬والنقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬أستغرب‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬عياد‭ - ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬بتدريس‭ ‬مادة‭ ‬البلاغة‭ ‬لنا،‭ ‬ويقودنا‭ ‬إلى‭ ‬تعرُّف‭ ‬أسرار‭ ‬البيان‭ ‬والمعاني،‭ ‬متجاهلاً‭ ‬علم‭ ‬البديع‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُشر‭ ‬إليه‭ ‬قط‭.‬

 

نوع‭ ‬فريد

كان‭ ‬لمحاضرات‭ ‬عياد‭ ‬مذاقٌ‭ ‬خاصٌّ‭ ‬وأُفُق‭ ‬فكري‭ ‬متميز‭ ‬جذبني‭ ‬إليه‭ ‬عقلياً،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬شعبيته‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬زملائه‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يخلطون‭ ‬الجد‭ ‬بالهزل،‭ ‬أو‭ ‬يؤثرون‭ ‬التعريف‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬أو‭ ‬يتقربون‭ ‬إلى‭ ‬الطلاب‭ - ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬عددهم‭ ‬قليلاً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد‭ - ‬بما‭ ‬يشبع‭ ‬غرور‭ ‬الصغار‭ ‬بمصاحبة‭ ‬الكبار‭. ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬شكري‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء؛‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬نوعاً‭ ‬فريداً‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬يؤثرون‭ ‬الصمت‭ ‬على‭ ‬الكلام،‭ ‬ولا‭ ‬يلقون‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬عَوَاهِنِهِ،‭ ‬نفوراً‭ ‬من‭ ‬التبسط‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات‭ ‬أو‭ ‬خارجها‭. ‬

إذا‭ ‬بادرتَه‭ ‬بسؤالٍ‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬لم‭ ‬تفهمه‭ ‬اتجه‭ ‬ببصره‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى،‭ ‬وتروَّى‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬حذِرة‭ ‬دائماً،‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬التعميم‭ ‬أو‭ ‬الإطلاق‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬اليقين،‭ ‬كأنه‭ ‬لا‭ ‬يستريح‭ ‬إلى‭ ‬إجابة‭ ‬واحدة،‭ ‬ويميل‭ ‬إلى‭ ‬الشك‭ ‬والمساءلة‭ ‬وإيثار‭ ‬الدقة‭ ‬الحذرة‭ ‬عن‭ ‬الاسترسال‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يلتزم‭ ‬بالمنطق‭ ‬الصارم‭ ‬أو‭ ‬الحذر‭ ‬الواضح‭.‬

ولم‭ ‬تكن‭ ‬الجُمَل‭ ‬تتدافعُ‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات،‭ ‬بل‭ ‬تتباطَأ،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬حذره‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الكلمات‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬شدَّ‭ ‬انتباهي‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬تأنِّيه‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الجُمَل،‭ ‬وتدبره‭ ‬في‭ ‬نَظْم‭ ‬ما‭ ‬بينها،‭ ‬يدفعاني‭ ‬إلى‭ ‬التروي‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يفكر‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬أغلب‭ ‬أساتذة‭ ‬الأدب‭ ‬القديم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يدرِّسون‭ ‬لنا‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭.‬

كان‭ ‬يقرأ‭ ‬معنا‭ ‬كتاب‭ ‬القزويني‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬فصلاً‭ ‬فصلاً،‭ ‬ويتوقف‭ ‬طويلاً‭ ‬عند‭ ‬فصول‭ ‬علم‭ ‬البيان‭ ‬مُتعمقاً‭ ‬كل‭ ‬التعمق‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬التشبيه‭ ‬والاستعارة‭ ‬والكناية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يوافق‭ ‬القزويني‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الإيضاح‮»‬‭.‬

 

‭ ‬المجاز‭ ‬والتجديد

عندما‭ ‬انتهى‭ ‬معنا‭ ‬عياد‭ ‬من‭ ‬‮«‬تفصيص‮»‬‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬القزويني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬ترك‭ ‬الكتاب‭ ‬وأملانا‭ ‬محاضرة‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬التصوير‭ ‬الأدبي‭ ‬ومجالاته،‭ ‬وهي‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بمنزلة‭ ‬انتقال‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬التشبيه‭ ‬والاستعارة‭ ‬والكناية‭ ‬كما‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬القزويني‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نسمعها‭ - ‬اصطلاحاً‭ - ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نسمع‭ ‬أفكاراً‭ ‬عن‭ ‬بلاغة‭ ‬جديدة‭ ‬تبدأ‭ ‬بالقاعدة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬المجاز‭ ‬إذا‭ ‬حاولت‭ ‬التجديد،‭ ‬فالمجاز‭ ‬وسيلة‭ ‬علائقية‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬اللغة،‭ ‬وتحويل‭ ‬في‭ ‬طرائق‭ ‬إسنادها،‭ ‬وذلك‭ ‬للتعبير‭ ‬عمّا‭ ‬لم‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬بغير‭ ‬المجاز‭. ‬

هكذا‭ ‬عرفتُ‭ ‬أن‭ ‬عياد‭ ‬يتابع‭ ‬تطوير‭ ‬منهج‭ ‬أستاذه‭ ‬المباشر‭ ‬أمين‭ ‬الخولي،‭ ‬ويمضي‭ ‬على‭ ‬خُطاه‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬إن‭ ‬أول‭ ‬التجديد‭ ‬هو‭ ‬قتل‭ ‬القديم‭ ‬فهماً،‭ ‬والتي‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الفهم‭ ‬تملُّك‭ ‬للمفهوم،‭ ‬واستخدام‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مواطن‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفها‭ ‬القدماء‭. ‬وكانت‭ ‬الخطوة‭ ‬التالية‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬دروس‭ ‬التفسير‭ ‬القرآني،‭ ‬لاكتشاف‭ ‬أسرار‭ ‬البلاغة‭ ‬ودلائل‭ ‬الإعجاز‭ ‬بواسطة‭ ‬أحدث‭ ‬مناهج‭ ‬البحث‭ ‬اللغوي‭ ‬والأسلوبي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬أيام‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬البلاغة‮»‬‭ ‬للناقد‭ ‬إي‭. ‬إيه‭. ‬ريتشاردز‭ (‬إيفور‭ ‬آرمسترونج‭ ‬ريتشاردز‭) ‬نموذجاً‭ ‬منهجياً‭ ‬يعد‭ ‬بالكثير‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الفاعلية‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭. ‬

ومن‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬الذي‭ ‬أوشك‭ ‬عياد‭ ‬أن‭ ‬يختزله‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬اللفظ‭ ‬والمعنى؛‭ ‬لأنه‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬أصل‭ ‬قضايا‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬كلها‭.‬

الطريف‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُشِر‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬أطروحته‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬بها‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير،‭ ‬وهي‭ ‬دراسة‭ ‬نصية‭ ‬لبعض‭ ‬مشاهد‭ ‬القيامة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وكانت‭ ‬فتحاً‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬البلاغية‭ ‬المحدثة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬وكان‭ ‬إيقاع‭ ‬الشعر‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬درستُه‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا؛‭ ‬أعني‭ ‬السنة‭ ‬التمهيدية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬ندرسها‭ ‬قبل‭ ‬التسجيل‭ ‬لدرجة‭ ‬الماجستير‭.‬

 

أداة‭ ‬فاعلة

اكتشفنا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬كلمات‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬أوعية‭ ‬للمعاني،‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬حوامل‭ ‬سلبية‭ ‬للأفكار‭ ‬كأنها‭ ‬ساعي‭ ‬البريد‭ ‬الذي‭ ‬ينقل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬به،‭ ‬وإنما‭ ‬الأداة‭ ‬الفاعلة‭ ‬التي‭ ‬يبني‭ ‬بها‭ ‬المبدعون‭ ‬رُؤاهم‭ ‬ويكتشفون‭ ‬بها‭ ‬وفيها‭ ‬خصوصية‭ ‬هذه‭ ‬الرؤى،‭ ‬ويصوغون‭ ‬من‭ ‬أصواتها‭ ‬الإيقاعات‭ ‬المائزة‭ ‬في‭ ‬تفرُّدها‭ ‬وجدتها‭ ‬وأصالتها‭.‬

وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬ما‭ ‬خرجتُ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬تأسيسيةٍ‭ ‬بأنظمة‭ ‬النَّبر‭ ‬وعلاقات‭ ‬التنغيم‭ ‬وتفاعل‭ ‬أصوات‭ ‬الحروف‭ ‬في‭ ‬الأوزان،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬إشباع‭ ‬التوقع‭ ‬وإحباطه‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬التي‭ ‬تتجاوب‭ ‬بها‭ ‬الدوال‭ ‬مع‭ ‬الحركة‭ ‬الحيوية‭ ‬للإيقاع‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬تموُّجِهِ‭ ‬وتنوُّعِهِ‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

هكذا‭ ‬أدركتُ‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬هي‭ ‬الحامل‭ ‬والمحمول،‭ ‬أو‭ ‬مجال‭ ‬الدرس‭ ‬وأداة‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬شكري‭ ‬الذي‭ ‬شدَّني‭ ‬إليه،‭ ‬فعياد‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ - ‬منهجياً‭ - ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬عالَم‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الإبداعي،‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ - ‬إبداعياً‭ - ‬بواسطة‭ ‬الكلمات،‭ ‬خصوصية‭ ‬عالَمه‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬الواقع‭.‬

ولذلك‭ ‬فإنه‭ ‬حين‭ ‬أراد‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬الوصفي‭ ‬والأدب‭ ‬الإنشائي‭ ‬بِلُغة‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬اختار‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بكثافة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الكلمات،‭ ‬وتنقَّل‭ - ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬نقده‭ ‬التطبيقي‭ - ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬وكتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬خصَّها‭ ‬بهواه‭ ‬الإبداعي،‭ ‬وتميز‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬جعله‭ ‬من‭ ‬كُتّابها‭ ‬الكبار‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬لأن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬هي‭ ‬فن‭ ‬التكثيف‭ ‬اللغوي‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭.‬

وقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أوضحتُ‭ - ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬سابقة‭ - ‬أنه‭ ‬خصَّ‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬بهواه،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقتنصَ‭ ‬بالكلمات‭ ‬أو‭ ‬يثبتَ‭ ‬بها‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تضيع‭ ‬في‭ ‬تعاقب‭ ‬الزمن،‭ ‬أو‭ ‬تفرُّ‭ ‬من‭ ‬تتابع‭ ‬الأحداث،‭ ‬فالقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬هي‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬وينتهي‭ ‬بتأثيرٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬بعينه،‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬التأثير‭ ‬أو‭ ‬الانطباع‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬اقتناص‭ ‬اللحظات‭ ‬المراوِغة،‭ ‬وإبطاء‭ ‬تدافعها‭ ‬بما‭ ‬يتيحُ‭ ‬للوعي‭ ‬إدراكها‭ ‬بالكلمات‭ ‬التي‭ ‬يتجسدُ‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يَنِدُّ‭ ‬عن‭ ‬التجسد‭.‬

 

تجربة‭ ‬جديدة

هذا‭ ‬هو‭ ‬الدرس‭ ‬الذي‭ ‬تعلَّمتُه‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬عن‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬وتحليله‭ ‬لها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصلح‭ ‬مدخلاً‭ ‬لاكتشاف‭ ‬إيثاره‭ ‬لهذا‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬الاقتصاد‮»‬‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الكلمات‭. ‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬أدلل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بعباراته‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬القصة‭ ‬القصيرة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬تأصيل‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬خصوصاً‭ ‬حين‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬‮«‬الاقتصاد‮»‬،‭ ‬بوصفه‭ ‬الخاصية‭ ‬النوعية‭ ‬الأولى‭ ‬لفن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وهو‭ ‬الشرط‭ ‬الذي‭ ‬لابد‭ ‬منه‭ ‬لأداء‭ ‬وحدة‭ ‬الانطباع،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬تكثيف‭ ‬لغوي‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬القارئ‭ ‬ولا‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحذف‭ ‬أو‭ ‬الضغط،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬إنَّ‭ ‬كل‭ ‬زيادة‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬المُقتصِد‭ ‬تبدو‭ ‬افتعالاً‭ ‬أو‭ ‬عجزاً‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬المُطابِق‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬عياد‭ ‬إلى‭ ‬الاقتناع‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التقنية؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬انطباعان‭ ‬متشابهان‭ ‬كل‭ ‬التشابه‭ ‬نوعاً‭ ‬وعُمقاً‭ ‬وشمولاً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلَّى‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬ممارسته‭ ‬الإبداعية‭ ‬لكتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬فكل‭ ‬قصة‭ ‬من‭ ‬قصصه‭ ‬كونٌ‭ ‬صغيرٌ‭ ‬مُتفرِّدٌ‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تقتنصها‭ ‬الكلمات‭.‬

وانتقاله‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬إلى‭ ‬الرمزية،‭ ‬ومزجه‭ ‬بين‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضي‭ ‬في‭ ‬الإشارة،‭ ‬والشعبي‭ ‬والفردي‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬علامات‭ ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬العوالم‭ ‬التي‭ ‬تُدخلُنا‭ ‬إليها‭ ‬قصصه‭ ‬القصيرة‭. ‬ورهافة‭ ‬لمسة‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬المجموعات‭ ‬الأولى،‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬التمثيلات‭ ‬الرمزية‭ ‬للمجموعات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬حسِّ‭ ‬السخرية‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬يلازم‭ ‬الوعي‭ ‬اليقظ‭ ‬بالمفارقة‭ ‬المُتكررة‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬والبسمة‭ ‬المراوغة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوصف‭ ‬المحايد‭ ‬ظاهرياً،‭ ‬كلها‭ ‬صفات‭ ‬مُتأصَّلة‭ ‬في‭ ‬تراكيب‭ ‬السرد‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بشعرية‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مكر‭ ‬الصَّنعة‭ ‬اللغوية‭.‬

وهي‭ ‬صنعة‭ ‬تدل‭ - ‬بدورها‭ - ‬على‭ ‬أن‭ ‬إبداعات‭ ‬عياد‭ ‬القصصية‭ ‬تصلحُ‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬تنظيره‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭: ‬إنه‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬تصميم‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬قائماً‭ ‬على‭ ‬الأداء‭ ‬الدقيق‭ ‬للانطباع،‭ ‬والتجسيد‭ ‬المُحدَّد‭ ‬المُكثَّف‭ ‬للَّحظة،‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يختلف‭ ‬تصميم‭ ‬كل‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬عن‭ ‬تصميم‭ ‬غيرها‭.‬

 

نظري‭ ‬وعملي

رأيي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أتراجع‭ ‬عنه‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬نظرياً‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬حققه‭ ‬عملياً‭ ‬فيما‭ ‬كتبه‭ ‬منها‭.‬

وربما‭ ‬كان‭ ‬الأدق‭ ‬أن‭ ‬أقلب‭ ‬التعبير‭ ‬وأقول‭: ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تعلَّمه‭ ‬عياد‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تأصيله‭ ‬نظرياً‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عنها،‭ ‬فقد‭ ‬صدر‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬سنة‭ ‬1968،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬مجموعتين‭ ‬مُتميزتين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬هما‭: ‬‮«‬ميلاد‭ ‬جديد‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1958،‭ ‬و«طريق‭ ‬الجامعة‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1961‭. ‬

وقد‭ ‬أكمل‭ ‬هاتين‭ ‬المجموعتين،‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬التأصيلي‭ ‬للفن‭ ‬الذي‭ ‬أَحبه،‭ ‬بأربع‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭: ‬‮«‬زوجتي‭ ‬الجميلة‭ ‬الرقيقة‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1976،‭ ‬و«رباعيات‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1984،‭ ‬و«كهف‭ ‬الأخيار‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1985،‭ ‬و«حكايات‭ ‬الأقدمين‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1985‭. ‬وهي‭ ‬المجموعة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬الإبداعي‭ ‬المتميز‭ ‬الذي‭ ‬أضاف‭ ‬إليه‭ ‬روايته‭ ‬الوحيدة‭ ‬‮«‬الطائر‭ ‬الفردوسي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الهلال‭ ‬بالقاهرة‭ (‬نوفمبر1997‭)‬،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬اللافتة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬العيش‭ ‬على‭ ‬الحافة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عمل‭ ‬أدبي،‭ ‬ظل‭ ‬محافظاً‭ ‬على‭ ‬الخاصية‭ ‬اللغوية‭ ‬الأساسية‭ ‬للقصة‭ ‬القصيرة‭: ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬الأداء،‭ ‬والاهتمام‭ ‬البالغ‭ ‬باللغة‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬مستوياتها‭ ‬ووظائفها‭. ‬وكثيرة‭ ‬هي‭ ‬أشكال‭ ‬الاقتصاد‭ ‬اللغوي‭ ‬وتجلياته‭ ‬وصفاته‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬عياد‭. ‬

شأن‭ ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬تنوّع‭ ‬استخدام‭ ‬الكلمات‭ ‬ومستوياته‭ ‬التي‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬عندها‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬طويلاً،‭ ‬فاللغة‭ ‬أسرع‭ ‬المداخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬عياد‭ ‬الإبداعي‭ ‬وأدلها‭ ‬على‭ ‬خصائصه‭. ‬

ولقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬كتبتُ‭ ‬مقدمة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬تصديراً‭ ‬للمختارات‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ ‬احتفاءً‭ ‬بشكري‭ ‬أثناء‭ ‬حياته‭ ‬الخصبة‭.‬

 

الناقد‭ ‬الفيلسوف

الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬أريدُ‭ ‬تأكيده‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬عياد،‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬المتميز،‭ ‬هو‭ ‬إلحاحه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحقيقي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬دارساً‭ ‬للفلسفة،‭ ‬وصاحب‭ ‬رؤية‭ ‬فلسفية‭ ‬خاصة،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬النفاذ‭ ‬عبر‭ ‬الممارسات‭ ‬التطبيقية‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يكمنُ‭ ‬وراءها‭ ‬ويدعمها‭ ‬نظرياً‭ ‬من‭ ‬صياغات‭ ‬فلسفية‭.‬

وأعتقدُ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفعني‭ ‬شخصياً‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالنقد‭ ‬النظري‭ ‬والكتابة‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬النقد‭.‬

وأضيفُ‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ظل‭ ‬يلفتُ‭ ‬نظري‭ ‬إليه،‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬تحول‭ ‬التفاصيل‭ ‬العملية‭ ‬بيني‭ ‬وإدراك‭ ‬الرؤى‭ ‬الفلسفية‭ ‬الكامنة‭ ‬وراءها‭ ‬أو‭ ‬المحركة‭ ‬لها،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬ناقد‭ ‬أدبي‭ ‬حقيقي‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬وراءه‭ ‬موقف‭ ‬فلسفي‭ ‬ينطلق‭ ‬منه‭ ‬ابتداء،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬استبطان‭ ‬وإدراك‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬العالَم‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬أديب‭ ‬كبير‭ ‬ثانياً‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لَفَتَ‭ ‬نظري‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬الغربي‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬تيارين‭ ‬أساسيين،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسميه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬التيار‭ ‬الأرسطي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يركز‭ ‬التركيز‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬الفحص‭ ‬النصي‭ ‬والقراءة‭ ‬الفاحصة‭ ‬لهذا‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬ماديته‭ ‬المحسوسة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التيار‭ ‬النقيض،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬التيار‭ ‬الأفلاطوني‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الرؤى‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬علامات‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرؤى‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يستشفها‭ ‬الناقد‭. ‬وأحسبه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬متأثراً‭ ‬بما‭ ‬كتبه‭ ‬ديتشيز‭ ‬عن‭ ‬مناهج‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وكان‭ ‬كتاباً‭ ‬أثيراً‭ ‬لديه‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإشارة‭ ‬بالذات‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬جعلت‭ ‬عياد‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الرؤى‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬الأشكال‭ ‬النقدية‭. ‬

وقد‭ ‬وصف‭ ‬هو‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬الرؤيا‭ ‬المقيدة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كُتُبه‭ ‬أهداه‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬صدوره‭ ‬من‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬للكتاب‭ ‬عنواناً‭ ‬فرعيًّا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬دراسات‭ ‬في‭ ‬التفسير‭ ‬الحضاري‭ ‬للأدب‮»‬‭. ‬

 

رائد‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي

أعتقدُ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬عياد‭ ‬رائداً‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الثقافي‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬والذي‭ ‬يدَّعي‭ ‬نقاد‭ ‬كثيرون‭ ‬ريادته‭ ‬والاجتهاد‭ ‬فيه‭. ‬والفارق‭ ‬بين‭ ‬معنى‭ ‬الحضارة‭ ‬والثقافة‭ ‬عند‭ ‬عياد‭ ‬فارق‭ ‬يدني‭ ‬بالطرفين‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭. ‬

ولذلك‭ ‬يقول‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أديب‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬حوصرت‭ ‬حريته‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬يدركُ‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬أسمى‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬الحرية‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتيه‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬أوضح‭ ‬بصيرة‭ ‬من‭ ‬سلفه‭ ‬الرومانسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتوهم‭ ‬أن‭ ‬شخصيته‭ ‬جوهر‭ ‬غريب‭ ‬نادر‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لشيء‭ ‬من‭ ‬مواصفات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلا‭ ‬مرغماً،‭ ‬وأن‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬وسيلة‭ ‬للفِكاك‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المواصفات‭.‬

أديب‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬شخصيته‭ ‬نتاج‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتلقاه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬ومشاعر‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬صُنع‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬حتى‭ ‬فنه‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬صورة‭ ‬لمجتمعه،‭ ‬ولكن‭ ‬الفن‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬دروب‭ ‬النشاط‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬أبداً،‭ ‬ولا‭ ‬يُسلِّم‭ ‬أبداً‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬موجود،‭ ‬بل‭ ‬يحاول‭ ‬دائماً‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬الآني‭ ‬إلى‭ ‬الدائم،‭ ‬ومن‭ ‬الجزئي‭ ‬إلى‭ ‬الكلي،‭ ‬وأن‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬المطلق‮»‬‭.‬

ولكن‭ ‬لهذا‭ ‬المطلق‭ ‬وجود‭ ‬مُتعالٍ‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬ورؤيته‭ - ‬مهما‭ ‬تعددت‭ ‬صفاته‭ ‬وأسماؤه‭ - ‬هي‭ ‬رؤية‭ ‬مقيدة،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬المبدعين‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الوصول‭ ‬الكامل‭ ‬أو‭ ‬الاتحاد‭ ‬بذلك‭ ‬المطلق؛‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬أن‭ ‬يقطعوا‭ ‬الوشائج‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬تصلهم‭ ‬بقومهم‭: ‬تاريخاً،‭ ‬وثقافة،‭ ‬وعملاً،‭ ‬وحضوراً‭ ‬مستمراً‭.‬

فقَطْعُ‭ ‬الصلة‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬عوالمهم‭ ‬التي‭ ‬تمدُّهم‭ ‬بدم‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬إنهاء‭ ‬لحياة‭ ‬الأديب‭ ‬نفسها‭ ‬وتدمير‭ ‬لرؤيته،‭ ‬ولذلك‭: ‬‮«‬تظل‭ ‬رؤية‭ ‬الفنان‭ ‬دائماً‭ ‬مقيدة‭ ‬بطابع‭ ‬الحضارة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬تتأثر‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬من‭ ‬عوامل،‭ ‬ولكنها‭ ‬تطمح‭ ‬لتستشرف‭ ‬المطلق،‭ ‬وتجذب‭ ‬الحضارة‭ - ‬لا‭ ‬حضارة‭ ‬قومه‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬حضارة‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭ - ‬إلى‭ ‬رحابه‮»‬‭. ‬

 

رؤية‭ ‬مقيدة‭ ‬

لو‭ ‬استبدلنا‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الثقافة‮»‬‭ ‬ما‭ ‬تغيّر‭ ‬المعنى‭ ‬كثيراً،‭ ‬فالأديب‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ابن‭ ‬ثقافته،‭ ‬وهو‭ ‬مقيد‭ ‬بهذه‭ ‬الثقافة،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬رؤيته‭ ‬الإبداعية‭ ‬تتحيز‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬الأشمل‭ ‬لهذه‭ ‬الثقافة،‭ ‬وتتقيد‭ ‬بقيودها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عنها‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬محاولة‭ ‬الكاتب‭ ‬مجاوزة‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعلو‭ ‬عليها،‭ ‬فالثقافة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الدماء‭ ‬التي‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬شرايين‭ ‬المبدع‭ ‬بما‭ ‬يَسِمُ‭ ‬إبداعه‭ ‬بِسَمْتِها،‭ ‬فتربطه‭ ‬بها‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬رؤيته‭ ‬دائماً‭ ‬رؤية‭ ‬مُقيَّدة‭. ‬

هكذا‭ ‬يتحدثُ‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الأُطُر‭ ‬الحضارية‭ ‬للأدب‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الأصالة‭ ‬في‭ ‬ارتباطه‭ ‬بمفهوم‭ ‬المعاصرة‭. ‬وكلا‭ ‬المفهومين‭ ‬أساسيّ‭ ‬عند‭ ‬عياد،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬الأصالة‭ ‬ضد‭ ‬التقليد،‭ ‬وأنها‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تُفهم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الارتباط‭ ‬بالجذور‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬للفرد‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُضيِّع‭ ‬الهوية،‭ ‬أو‭ ‬ينزع‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬ينتسبُ‭ ‬إليها،‭ ‬أما‭ ‬المعاصرة‭ ‬فهي‭ ‬فهمُنا‭ ‬العميق‭ ‬للعصر‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬كي‭ ‬نتعايش‭ ‬معه‭ ‬ونستفيد‭ ‬منه‭.‬

والعلاقة‭ ‬جدلية‭ ‬بين‭ ‬الاثنين؛‭ ‬فنحن‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬عصرنا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جدة‭ ‬وتغيُّرات،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتخلى‭ ‬عن‭ ‬هويتنا‭ ‬أو‭ ‬جذورنا‭ ‬الضاربة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬بكل‭ ‬معانيه‭.‬

والعلاقة‭ ‬جدلية‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬فكلاهما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالآخر‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬الخلّاق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينغلق‭ ‬بالأنا‭ ‬الحضارية‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الطرفين؛‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭.‬

ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عياد‭ ‬مُنغلقاً‭ ‬في‭ ‬موقفه‭ ‬النقدي،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬مُنفتحاً‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬لكن‭ ‬انفتاحه‭ ‬كان‭ ‬منطوياً‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬نقدي‭ ‬صارم،‭ ‬حريصاً‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الموروث‭ ‬العقلاني‭ ‬والجديد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬عقلانية‭.‬

 

التأصيل‭ ‬والحضارة

على‭ ‬أساسٍ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المتوازنة‭ ‬تصدى‭ ‬عياد‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬وفَحَصَه‭ ‬فحصاً‭ ‬نقدياً،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الفلسفي‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬نقد‮»‬‭.‬

ولذلك‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الميراث‭ ‬الحضاري‭ ‬أو‭ ‬الثقافي‭ ‬للأُمَّة‭ ‬مُتصفاً‭ ‬بالمرونة،‭ ‬فإنها‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقبل‭ ‬عناصر‭ ‬حضارية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية‭ ‬كثيرة،‭ ‬فتُطوِّر‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬كيانها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتحطم‭ ‬الإطار‭ ‬العام‭ ‬للحضارة‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭ ‬أو‭ ‬تضيع‭ ‬مقوماتها،‭ ‬ولذلك‭ ‬كتب‭ ‬عياد‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬‮«‬التأصيل‮»‬‭ ‬بوصفه‭ ‬كلمة‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬ترجمة‭ ‬لكلمة‭ ‬أجنبية،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬كلمة‭ ‬عربية‭ ‬الأصل‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬معناها‭ ‬يؤكد‭ ‬حيوية‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬نوافذها‭ ‬إزاء‭ ‬كل‭ ‬تيار‭ ‬مُفعَمٍ‭ ‬بالحياة،‭ ‬ولكن‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جذوره‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنه‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فكرة‭ ‬التأصيل‭ ‬لا‭ ‬تُولِّي‭ ‬ظهرها‭ ‬للثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتوجد‭ ‬لولا‭ ‬لقاؤنا‭ ‬بهذه‭ ‬الحضارة،‭ ‬وإلا‭ ‬فما‭ ‬اشتغالنا‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬لنا‭ ‬مسرح،‭ ‬وأدب‭ ‬روائي‭ ‬واقعي،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المُغنِّي‭ ‬والمُنشِد‭ ‬والمَدّاح‭ ‬والشاعر‭ ‬غذاء‭ ‬فني‭ ‬كافٍ‭ ‬لأجدادنا؟‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬فكرة‭ ‬التأصيل‭ ‬راجعة‭ ‬إلى‭ ‬لقائنا‭ ‬بالحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬فيجب‭ ‬ألا‭ ‬نتجاهل‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬الفكرة‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬التأصيل‭ - ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬عياد‭ - ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬اقترن‭ ‬بالحرية‭ ‬الكاملة،‭ ‬يقصد‭ ‬تحرر‭ ‬المبدع‭ ‬أو‭ ‬المُفكّر‭ ‬من‭ ‬القديم،‭ ‬وتحرره‭ ‬من‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ويختم‭ ‬عياد‭ ‬كلامه‭ ‬عن‭ ‬التأصيل‭ ‬بجملة‭ ‬لا‭ ‬تُنسَى،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬يُنتجه‭ ‬الأديب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ (‬يعني‭ ‬التأصيل‭) ‬هو‭ ‬رمز‭ ‬لحرية‭ ‬الأمة‭ ‬كلها‮»‬‭.‬

 

ناقد‭ ‬أصيل

هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬قالها‭ ‬عياد‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنها‭ ‬تشرحُ‭ ‬لنا‭ ‬المنحى‭ ‬الذي‭ ‬مضى‭ ‬فيه‭ ‬عندما‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يؤصل‭ ‬لاتجاهات‭ ‬البحث‭ ‬الأسلوبي‭ ‬سنة‭ ‬1985،‭ ‬أو‭ ‬للقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬دراسة‭ ‬في‭ ‬تأصيل‭ ‬فن‭ ‬أدبي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬دائرة‭ ‬الإبداع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬مقدمة‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬النقد،‭ ‬وقد‭ ‬أصدره‭ ‬عام‭ ‬1987،‭ ‬وكان‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬لاستخلاص‭ ‬تجاربه‭ ‬وخبراته‭ ‬في‭ ‬صياغةِ‭ ‬عمليةِ‭ ‬تأصيلٍ‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬من‭ ‬منظوره‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬اختزلته‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬تأصيل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬المنظور‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬ناقداً‭ ‬أصيلاً‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬نافراً‭ ‬كل‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬التقليد‭ ‬الأعمى،‭ ‬فكتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دائرة‭ ‬الإبداع‮»‬‭ ‬ككل‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ ‬أو‭ ‬لحقت‭ ‬به،‭ ‬محاولات‭ ‬لعقل‭ ‬نقدي‭ ‬مشغول‭ ‬بعملية‭ ‬التأصيل‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موقفاً‭ ‬نقدياً‭ ‬مبنياً‭ ‬على‭ ‬مساءلة‭ ‬الشرقي‭ ‬والغربي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بكتابةٍ‭ ‬نقديةٍ‭ ‬تنطلق‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬دائرة‭ ‬الإبداع‭ ‬بوصفها‭ ‬رؤية‭ ‬خلّاقة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬التقليد‭ ‬الساذج‭ ‬للوافد‭ ‬أو‭ ‬الموروث،‭ ‬وإنما‭ ‬محاولة‭ ‬لتأسيسِ‭ ‬فكرٍ‭ ‬إبداعي،‭ ‬يضعُ‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه،‭ ‬والثقافة‭ ‬التي‭ ‬ينتسبُ‭ ‬إليها،‭ ‬والثقافة‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الضفاف‭ ‬الأجنبية،‭ ‬يضع‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬موضع‭ ‬المُساءلة‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬الدائرة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للإبداع‭ ‬الخلّاق‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬تأصيلٌ‭ ‬لموقفٍ‭ ‬نادرِ‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬في‭ ‬آن ■