اللغة العربية في زمن العولمة

اللغة العربية في زمن العولمة

إذا كانت التحوَّلات المُتدافعة سِمةً أساسيةً لإيقاع عصرنا الذي تداعت فيه الحواجز المكانية والزمانية، نتيجة الثورة المذهلة في تقنيات الاتصال التي جعلت من الكوكب الأرضي قرية كونية صغيرة، فإن هذه التحولات تفرضُ علينا إعادة النظر في كثير من أفكارنا التي دَرجنا عليها، والمُشكلات التي لم نولِها ما تستحق من الاهتمام والتأمل خصوصًا بعد أن تضافرت العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية مع آليات التحوَّلات التقنية، على نحوٍ غير مسبوقٍ في تاريخ البشرية كلها بوجهٍ عام، وتاريخ وطننا العربي بوجهٍ خاصٍّ. وهو وضع يُحتِّم علينا معرفة الشروط الجديدة المفروضة على كوكبنا الأرضي، وطبيعة العلاقات والصراعات التي أصبحنا طرفًا فيها وحقيقة القوى التي علينا مواجهتها مزوَّدين بوعي جذري مغايرٍ، نابعٍ من عمق إدراكنا لمُتغيَّرات الكوكب الأرضي وشروط أوضاعه الجديدة التي لم تتكشف كاملة بعد.

 لا يظنّن ظانٌّ أن الاهتمامَ بموضوعِ اللغة والثقافة العربية - في علاقتهما بما هو خارج الوطن العربي - هو اهتمامٌ بموضوعٍ لا يتناسب وتحديات الحاضر أو كوارثه التي تداعت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة, في سياق الشروط المُلازمة لأحداث خطيرة, لا تزال تُحدث تغييرات غير مسبوقة في أوضاعنا العربية.
إن الأمر على النقيض من ذلك, فالاهتمام باللغة اهتمام بالوجود الذي تُجسّده وتتجسد فيه, وهو اهتمام بالفكر الذي يواجه شروط هذا الوجود كي يستجيبَ إليها استجابةَ التحدي أو التمرد. وأخيرًا, هو اهتمام بالخطاب الذي يصوغه هذا الفكر, تعبيرًا عن همومه ومطامحه, وتبريرًا لمواقفه, وتحديدًا لقضاياه.
وما أكثر حديثنا في العقود الأخيرة عن الخطاب العربي وحاجته إلى التغيير, سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وثقافيًّا، وذلك على نحوٍ مُتكررٍ في مؤتمرات كثيرة, وكتابات عديدة, جعلت من تجديد الخطاب الثقافي أو نقد الخطاب الديني أو حتى نقض الخطاب السياسي، أو تغيّرات الواقع اللغوي، عناوين لها.

أهمية خاصة
ويكتسبُ موضوع اللغة العربية أهمية خاصة في سياقات التحوَّلات المُعاصرة, خصوصًا في علاقة اللغة العربية بالتحديات المفروضة عليها وعلى الناطقين بها من العلوم الحديثة التي تتزايدُ مُخترعاتها يومًا بعد يوم, مُنتجة وفرة هائلة من الاصطلاحات المُنتسِبة إلى لغة الأقطار المُتقدمة التي تُسهم أكثر من غيرها في تطوير العلوم والإضافة الكمية والكيفية التي تؤدي إلى تسريع عجلة المخترعات أكثر وأكثر.
وهو تحدٍّ تبدو اللغة العربية كما لو كانت تستجيب إليه استجابةَ السلب, نتيجة عدم تطور علاقات إنتاج المعرفة اللغوية وأدواتها في الأقطار الناطقة بها.
ولا تزال اللغة العربية أسيرة هذا الوضع الذي تأخذ فيه أكثر مما تُعطِي, وتنقل أكثر مما تضيفُ, وتتَّبعُ أكثر مما تبتدعُ, نتيجة عوامل سياسية واقتصادية وثقافية، وأهم من ذلك علمية، لا بد من مواجهتها والتصدي لها بالتحليل والنقد.
ويؤكد وجود هذه العوامل حقيقة أن أوضاع اللغة العربية لا يمكن مُناقشتها إلا بمناقشة العوامل المؤثرة فيها، والتي تُبقيها رهينة الشروط التي تجعلها على ما هي عليه.
إن اللغةَ العربية مرآة حاضرها بكل جوانبه وعلاقاته، تقدُّمًا أو تخلُّفًا، اتّباعًا أو ابتداعًا، استقلالًا أو تبعية. 

علاقة دالّة
وعلاقة اللغة العربية بحاضرها وتطلعات هذا الحاضر من ناحية موازية، هي علاقة دالة وكاشفة عن مدى إمكان هذا الحاضر في التقدم وملاحقة أقطار العالم الكبرى، سواء في تطورها المُتسارع، أو إيقاع تَقدُّمِها المُذهِل، عِلميًّا ومعرفيًّا ولغويًّا. وهو وضعٌ تبدو فيه اللغة العربية ديناصورية الإيقاع، فقيرة المفردات والتراكيب. 
ولذلك قد تجد فيها عشرات المفردات لحيوانات الصحراء الجاهلية. ولكن لن تجد فيها من المُفردات والتراكيب التي تلاحق الأقمار الاصطناعية، أو المجرات التي لا نكاد نعرفها، أو فضاءات عوالم المعرفة التي نسمع عن كشوفها كل يوم بواسطة لغات التقدم لا لغات التخلف.
وامسك «الموبايل» في جيبك، أو جهاز الكمبيوتر على مكتبك، وَسَل نفسك عن مفردات اللغة العربية التي تمثّل لك، أو تخبرك عن عناصر كل من الجهازينِ، ضمن عشرات الأجهزة والآلات التي تحيط بك، والتي تدرك استحالة حياتك وأعمالك دونها، بل دَوِّن المُعَّرب والدخيل الذي اقتحم لغتك بواسطتها. 
لقد أصبحت تُسِّيف (Save) على الكمبيوتر، كما يمكن لك أن تُدلِّت (Delete) في الوقت نفسه. فضلًا عن الفرمتة (Format)، والبرمجة (Program). 
هكذا نتحدث عن الآي فون والآي باد وعن الآي بود وعن الدكتافون، وعن آلاف مؤلَّفة من الأجهزة والتطبيقات التي لم يكن لنا بها عهد منذ زمن قريب، مثل فيسبوك، الذي اخترعه شاب اسمه مارك زوكربيرج في جامعة هارفارد سنة 2002 فحسب، أي منذ أقل من عشرين عامًا على وجه التحديد، ومعه أصبح فيسبوك اختراعًا لا تستغني عنه البشرية، كما أصبح مُفردة في لُغاتها الدالة على طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والذي جعله (فيسبوك) مترتبًا على اختراع الكمبيوتر الشخصي الذي تم بواسطة جوبز وزملاء له في أواخر السبعينيات، والذين كان من بينهم بيل جيتس الذي أصبح من أغنى رجال العالم بما ابتدعه في عالم الحواسب الشخصية.

جمودِ وهُمودِ
هذه المفردات القليلة الخاصة بالكمبيوتر هي غيضٌ من فيض مفردات وتراكيب دخلت ولا تزال تدخل لغتنا العربية، وأضربُ لك مثلًا على ذلك إسكايب وإنستجرام وواتساب وماسنجر الذي تراه على صفحة الإنترنت الخاصة بك جنبًا إلى جنب الإيميل وتويتر وما تجده في هاتفك - الآن - من جي بي إس، وهو نظامُ تواصُلٍ وتَعرُّفٍ على الأماكن وتَموضُعِها في الكوكب الأرضي، بما في ذلك الأحياء التي تنتقل إليها في مدينتك أو في بلدك عبر طُرقها السريعة أو الجانبية، وأضِف إلى ذلك ذَاكرة الموبايل الذي تحمله في جيبك، والتي يمكن أن تتسع لمكتبةٍ كاملةٍ مُتخصصة يمكن أن تعودَ إليها في أي وقتٍ، باحثًا عن كتابٍ أو معلومةٍ في كتابٍ داخل مكتبتك الخاصة المُحمَّلة على هاتفك الخاص. 
ولا يعني ذلك إلا أننا أصبحنا إزاء وفرةٍ هائلةٍ من الكلمات المُعرَّبة أو الدَّخيلة التي اقتحمت اللغة العربية، والتي كان على اللغة العربية أن تسمحَ بدخولها في نسيجِ حياتها اليومية، لا لأن الثقافة الغربية قد صنعتها، وإنما لأن العالم المُتقدم قد ابتدعها، بما فرضها على الكوكب الأرضي كله. أعني ذلك الكوكب الذي أصبح قريةً صغيرةً، تتجاوبُ فيها المُخترعات التي أصبحت تفوقُ الخيال أو المُتابعة أو حتى التَّمثُّل الهادئ. 
ومن المؤكد أن المُتابعَ لحركةِ إيقاع اللغة العربية في تَقبُّل هذه المُستحدثات يجد أنها حركة بالغة البُطء إلى درجةِ أن نصفها بالثبات وعدم المُلاحقة.
وإن دلَّ ذلك على شيءٍ فإنه يدل على حال من الجمودِ أو الهُمودِ الذي لا يتيحُ للغة العربية مُجاراة العصر الذي نعيشُ فيه، خصوصًا أننا لا نزال نتمسكُ بقيمٍ ثقافيةٍ ماضوية، قيم تجعلنا نتحرك إلى الأمام وأعيُننا في أقفيتنا، فلا نستطيعُ مُلاحقة مُتغيرات العصر الذي نعيش فيه، أو حتى نتابع الاجتهادات اللغوية التي يفرضُها علينا الإيقاع المُتسارع لهذا العصر الذي لا يكف عن التسارع بما يُعجزنا عن ملاحقته.

لغة ضعيفة
وهكذا نتلقَّى مُفرداته الدالة على مُخترعاته التي لا تتوقف ولا تكف عن التزايد على نحوٍ سلبي، وفي عمليات استقبال لغوي ليس فيها ما يتناسب والسرعة الهائلة لتغيّر الزمن المُتلاحق في الكرة الأرضية التي يُغرقنا عالمها المُتقدم بمئات بل آلاف المُسميات الجديدة والأدوات المُخترعة التي جعلت حياة الإنسان في القرن الحادي والعشرين مختلفة كل الاختلافِ عن حياته في القرن العشرين، أو حتى ما قبله. 
ولن ننسى في هذا السياق أننا نتحدثُ عن أدوات اتصالٍ لا يُجاوز عُمرها رُبع قرنٍ أو نصفه على أكثرِ تقدير. وإن دلَّ ذلك على شيءٍ فإنما يدل على أن لغتنا العربية فقيرةٌ وضعيفةٌ في هذا الاتجاه الذي لا تستطيع أن تُلاحق مُخترعاته التي تنهمرُ عليها من كلِ 
حدب وصوبٍ، وذلك في عملية مُتزايدة متصاعدة، لا أتوقعُ لها أن تتوقف في المستقبل القريب، ما ظلت لغتنا العربية فقيرة في علاقتها بواقع عمليات إنتاج المعرفة في العالم المتغير، اللاهث وراء التقدم الذي يسبق حتى أحلامنا في العالم الذي نعيش فيه، فلا
 نملك سوى إدخال مُفرداته ومسكوكاته وتراكيبه في لغتنا التي فوجِئت بِفقرها لا غِناها الذي حدَّثونا عنه مُتشدقين ببيت حافظ إبراهيم:
أنا البحرُ في أحشائهِ الدُّرُ كامِن 
فهل ساءلوا الغوّاص عن صَدفاتِي؟
 
نموذجٍ مهيمنٍ
لا يقتصر المُشكِل في ذلك على مُتغيرات التقدم المُتزايد للعلوم الحديثة ومخترعاتها فحسب, فهناك ظاهرة العولمة التي تتراكم نتائجها في إيقاعٍ مُتسارعٍ على كل المستويات وفي كل المجالات, فتترك آثارها على اللغات الوطنية والقومية, خصوصًا تلك التي تقع في دوائر التأثير المباشر للعولمة, فتغزوها التراكيب والمُفردات القادمة من اللغة السائدة التي تتجسد بها مقولات العولمة وثقافاتها التي تُعادي ثقافة التنوع, وتسعى إلى فرض نموذجٍ ثقافيٍّ مهيمنٍ, خلال عملية تنميطٍ تستبدلُ بالتنوع الوحدة المفروضة ثقافيًّا.
والنتيجة هي اتساع مدى الغزو اللغوي من اللغة الصاعدة عولميًّا إلى اللغات المحلية التي لا تكف لغة العولمة عن اقتحامها والاستيطان المتزايد لتراكيبها ومُفرداتها. أقصد إلى الاستيطان الذي يقوَى مع ضعف المقاومة الداخلية, وانطباق مقولة ابن خلدون عن ولع المغلوبِ بتقليدِ الغالب.
ويضيفُ هذا الوضع إلى رواسب ما ترتب على الأوضاع الاستعمارية التي تركت آثارها اللغوية في العالم الثالث, سواء في ظاهرة استبدال لغة المُحتل باللغة الوطنية, أو ظاهرة الازدواج اللغوي التي تظهر عند ذوي اللسانينِ من الكُتّاب والكاتبات الذين يكتبون بالعربية والإنجليزية, أو العربية والفرنسية, أو العربية والإسبانية أو الألمانية... إلى آخر اللغات التي اقترنت بالحضور  الاستعماري المباشر وغير المباشر في الوطن العربي, فضلًا عن الهجرات التي لا تزال تذهب إلى كثير من المنافي المُعاصرة أو أشكال الهجرة التي فرضتها أشكال القمع السياسي والديني في أقطار العالم الثالث التي تُهاجر عقولها إلى العالم الأول، كي تنعمَ بالحرية والتقدير والكرامة الإنسانية في آن. 

حقيقة ملموسة
وما الكتابات التي تمتد من قوت القلوب الدمرداشية إلى أهداف سويف في مصر, أو من جبران خليل جبران إلى أمين معلوف في لبنان, سوى نماذج في السياق الذي أنتج كتابات محمد ديب وآسيا جبار والطاهر بن جلون في اللغة الفرنسية, وكتابات إدوارد سعيد وعشرات من أشباهه في اللغة الإنجليزية التي تتزايد الفضاءات التي تحتلها عامًا بعد عام.
ولا تزال ظاهرة الاستبدال اللغوي المقرونة بظاهرة الازدواج اللغوي حقيقة ملموسة, لم تنقضِ بانتهاء الاستعمار القديم, وإنما استمرت مقترنةً بأوضاع جديدةٍ, أحدثها- بالقطع- الصعود المُعاصر للعولمة التي استبدلت بالاستعمار القديم أشكالًا أكثر مُراوَغة وعصرية.
ولِحُسن الحظ, لم تكن ظاهرة الاستبدال اللغوي ظاهرة تبعية ثقافية على طول الخط, فقد خلقت الأوضاع الاستعمارية نقيضها, وتولَّدت من علاقاتها أشكال مقاومتها. ومن هذه الأشكال ما اتخذ لغة الاستعمار لغة لمقاومة الاستعمار, كما حدث في حالة كُتّاب الجزائر على سبيل المثال, أو كُتّاب الأقطار الإفريقية والآسيوية الذين اغتربوا عن لُغاتهم القومية, واضطروا إلى الدفاع عن هوياتهم الحضارية ومطامحهم السياسية والاجتماعية بِلُغة الاستعمار التي لم يعرفوا غيرها, وذلك في سياق مرحلة التحرر الوطني التي أنتجت ظواهر مُشابهة على امتداد اللغات التي خضعت أقطارها لأشكال الاستعمار الاستيطاني المتعددة.
يشبه ذلك إلى حدٍّ ما, ومع بعض الاحتراس، ما حدث بعد انتهاء مرحلة الاستعمار القديم, وما اقترن بمقاومة أشكاله الجديدة, خصوصًا في خطاب ما بعد الاستعمار (أو خطاب ما بعد الكولونيالية), الذي صاغه أبناء العالم الثالث الذين استخدموا لغة العالم الأول لنقض دعاواه الاستعمارية المُبطَّنة, والكشف عن آليات سيطرته المعاصرة على مصائر دول العالم الفقير.  والنموذج الأشهر لخطاب ما بعد الاستعمار هو كتابات إدوارد سعيد التي لفتت إليها أنظار العالم كله, منذ أن أصدر كتابه «الاستشراق» سنة 1978، فضلًا عن كتابات رانجات جحا ومجموعة مجلة «النص الثالث».

هويات مزدوجة
اقترنت تجليات خطاب ما بعد الاستعمار في المجالينِ الإبداعي والفكري بظاهرة جديدة لها آثارها اللغوية, هي ظاهرة الهويات المزدوجة إذا شئنا التحديد الصارم, أو ظاهرة الجنسيات المزدوجة إذا شئنا التبسيط 
أو التخفيف, وهي ظاهرة اقترنت بحضور الكُتّاب الذين استبدلوا بلغتهم الأم لغة جديدة مع جنسية جديدة في الوقت نفسه, أو حافظوا على لغتهم الأصلية التي لم تقلل من تميّزهم في الكتابة باللغة الوافدة التي اقترنت بجنسية جديدة, وتلك ظاهرة صاغ مُشكلاتها النفسية والعقلية على نحوٍ كاشف أمين معلوف في كتابه الذي تُرجِم إلى العربية أخيرًا بعنوان «الهويات القاتلة», وذلك في الاتجاه نفسه الذي مضى فيه إدوارد سعيد في كتابه الدال: «خارج المكان», وكلا الكتابينِ نموذج على هذه الظاهرة الجديدة التي تزدوج فيها اللغة ازدواج الهوية, وتؤدي العلاقة المتبادلة والمتوترة بين اللغتينِ (الأصلية والوافدة) 
من الأدوار ما يترك أثره على كلتا اللغتينِ.
ولذلك يحدثنا المختصون عن أثر اللغة العربية (بل حتى العامية المصرية) على التراكيب الإنجليزية للغة أهداف سويف الإنجليزية في رواياتها التي أصبحت مقروءة على امتداد العالم كله. والأمر نفسه, يمكن ملاحظته في الاستخدام اللغوي العربي للذين تعوَّدوا الكتابة بلغة أجنبية, تترك لقوة تأثيرها ملامحها التركيبية والمُعجمية على استخدام اللغة الأم, كتابة وشفاهة، تراكيب نحوٍ، ودلالات معنى.

حِراك جغرافي
من المؤكد أن هذه الظاهرة ما كان يمكن بروزها على هذا النحو إلا بعد مُتغيرات عديدة, بعضها قديم يعود إلى الحقبة الاستعمارية, وبعضها حديث يرجع إلى حقبة التحرر الوطني, وبعضها الأخير مُعاصر يرجع إلى صعود العولمة بلوازمها الثقافية والاجتماعية, فضلًا عن نقائضها الفكرية التي لم تفارق المدى الحيوي لخطاب ما بعد الاستعمار, وقد اقترنت هذه المتغيرات بالعديد من عمليات الحِراك الجغرافي الذي أدى إلى نشأة المهاجر العربية التي لم تكف عن الوجود في العالم غير العربي لأسباب اقتصادية وسياسية ودينية, وهي مهاجر سرعان ما لحقت بها المنافي العربية, نتيجة تزايد أعداد الفارين من أوطانهم لأسباب سياسية بالدرجة الأولى.
وقد تجاوبت المهاجر والمنافي في إنتاج أجيال أخذت صلتها باللغة الأم تضعف بالتدريج, إلى أن وصلنا إلى الأجيال الأخيرة. ولذلك أصبح الفارق واضحًا بين الأجيال الأولى من المُهاجرين العرب, خاصة اللبنانيين أو الشوام, في الأمريكتينِ, والأجيال الحالية، فالأجيال الأولى ظلت حريصة على تواصلها الثقافي مع الوطن واللغة الأم, فأنشأت المجلات والجرائد العربية, وأصدرت من الأعمال الأدبية العربية ما أثبت قوة الحبل السُّري الذي يصلها بالأم, وما مُسميات من مثل: «العُصبة الأندلسية» أو «الرابطة القلمية» سوى دليل على ذلك, جنبًا إلى جنب مع غيرها من الأعمال الأدبية التي لم تَضَع هويتها العربية في مرآة الغرب، إذا استخدمنا عنوان أحد أعمال إيليا أبي ماضي.

علاقة وثيقة
مع الأسف, فقد انتهت العلاقة الوثيقة بالوطن واللغة الأم مع الأجيال الحالية التي وُلِدت في الغرب, وانقطع الحبل السُّري مع لغة الأصل في حالات كثيرة, وكانت النتيجة غلبة الاستبدال اللغوي على الازدواج اللغوي, وظهور كُتّاب من أصل عربي لا يعرفون العربية, ويكتبون بغيرها من اللغات التي وُلِدوا في ثقافتها وتعلَّموا في مدارسها, ولا يشغل القارئ الأمريكي أو غير الأمريكي نفسه بأصلهم العربي، وإنما بإبداعهم الذي ينتسب إلى ثقافة الأقطار التي يعيشون فيها بأكثر من معنى, ويضطر بعض أبناء هذه الأجيال من الذين تؤرِّقهم جذور الهوية إلى تعلّم اللغة العربية في الجامعات الأمريكية والأوربية, شأنهم في ذلك شأن المُهتمين بالثقافة من أبناء هذه الأقطار.
هذه الأوضاع الجديدة هي بعض المكونات الحاسمة للسياق المعاصر للغة والثقافة العربية خارج الوطن العربي. أقصد إلى السياق الذي لا يقتصر على الأوضاع التي أشرتُ إليها فحسب, وإنما يشمل إلى جانب ذلك، أوضاع الثقافة العربية في البلدان الإفريقية والآسيوية التي انتشرت فيها اللغة العربية بفضل الإسلام, وعبر وسائط عديدة, فأصبحت قرينة الدين الذي يجمع المسلمين العرب بالمسلمين غير العرب في كل مكانٍ على امتداد الكوكب الأرضي, وذلك بما يؤكِّد الدور الديني للغة العربية في الوصل بين الملايين من المسلمين الذين لا تصح شعائرهم الدينية إلا باللغة العربية, الأمر الذي يُحتّم ضرورة الحرص على هذه اللغة, وضرورة تَعلُّمِها وتعليمها, والاهتمام بأوضاعها وقضاياها وتحدياتها.

إسهام متواصل
وإذا كانت الرابطة القومية المُنعكسة في اللغة هي الرابطة التي تجمع العرب في المهاجر والمنافي, على امتداد الكرة الأرضية, فإن الرابطة الدينية المُتجسدة في اللغة هي عامل الوصل بين المسلمين في كل مكان, وصلة الرحم التي تعطف العرب على غير العرب, أو تضع الناطقين باللغة العربية من غير العرب موضع الحاجة إلى الدعم العربي الدائم والعناية المستمرة, ومع الأسف, فإن جوانب السلب في الرابطة الأخيرة لا تقل عن جوانبها في الرابطة الأولى, ذلك على الرغم من أن مسلمي إفريقيا وآسيا وأوربا لا يزالون يُسهمون إسهامًا متواصلًا في خدمة الثقافة العربية, والإضافة إليها في مجالات التأليف والإبداع والتعليم على السواء, والتعريف بجهودهم ودعمها واجب عربي بالمعنى القومي والديني, خصوصًا أنه لا فاصل بين المعنيينِ في أُفق اللغة العربية التي لا يعرف تراثها المتجدد فاصلًا حاسمًا بين القومي والديني.
وترجع بعض الجوانب السلبية المرتبطة بتقصيرنا في حق الثقافة واللغة العربية, في الأقطار الآسيوية والإفريقية وبعض الأقطار الأوربية التي توجد فيها كثافة سكانية مسلمة, إلى أننا لا نزال - بأكثر من معنى - واقعين تحت هيمنة المركزية الأوربية/الأمريكية ثقافيًّا, الأمر الذي يجعلنا ننظر دائمًا إلى الغرب الأوربي/الأمريكي بوصفه مصدر التقدم الوحيد, ومصدر الخطر الأوحد في الوقت نفسه, ولذلك تتحمس أجهزتنا الثقافية ومؤسساتنا الأكاديمية لمعرفة ما يدور في العالم الأوربي الأمريكي ثقافيًّا, وتقل الحماسة في التعامل مع المشرق الآسيوي أو الجنوب الإفريقي, وما يقع موقعهما, والدليل على ذلك واضح في بعثاتنا التعليمية, وفي مجال الترجمات التي نُقدِّمها عن اللغات الأجنبية, وفي درجة عمق أو اتساع علاقاتنا الثقافية الخارجية, والأمر نفسه ينسحب على الثقافات التي لا تُشارك مشاركة حاسمة في آليات الهيمنة التي ينطوي عليها صعود العولمة, سواء عـن طريق الشـركات المُتعددة والمتعدية الجنسية, أو المنظمات المؤازرة, أو الأجهزة الأيديولوجية التي تشيع ثقافة العولمة عبر الكرة الأرضية, وأعني بهذه الثقافات التي تنتسب إلى اللغة الإسبانية والبرتغالية في أمريكا اللاتينية التي تضم مهاجرها الملايين من ذوي الأصول العربية الذين يحتاجون إلى ما يصلهم وصلًا عميقًا، سياسيًّا وثقافيًّا ولغويًّا بوطنهم العربي الأم.

دور حيوي
لا يخفى على أحدٍ أن الجاليات العربية المدعومة ثقافيًّا يمكن أن تؤدي من الأدوار السياسية في مهاجرها ما يخدم الأهداف القومية, ويُسهم في تحقيق مطالبها العادلة من المجتمع الدولي الذي ينبغي أن يساند الحقوق المشروعة للشعوب العربية, وعلى رأسها الشعب الفلسطيني, والدور الحيوي الفاعل الذي يقوم به أكثر من خمسة ملايين من المسلمين لهم تمثيلهم في الحكومة الفرنسية أوضح من أن أُشير إليه.
وأضيفُ إلى ذلك مئات الملايين من الناطقين باللغة العربية في آسيا وإفريقيا الذين لا بد أن تزداد وسائل اتصالهم بالثقافة واللغة العربية, فالعمل على توسيع آفاق معارفهم الثقافية باللغة التي تجمعنا بهم مهمة لا تقل أهمية عن تحديث هذه المعارف ووصلها بالمُتجدد الواعد في حياتنا العربية.
ويقتضي ذلك، بالقطع، العمل الدؤوب على استكمال معرفتنا بأحوال العرب وذوي الأصول العربية الموجودين على امتداد المهاجر والمنافي المنتشرة عبر أقطار الكرة الأرضية, وتشجيع البحوث المرتبطة بدراسة أحوال اللغة العربية وثقافاتها في هذه الأقطار مسألة واجبة, تستحق التشجيع والرعاية, ويمكن للمؤسسات الأكاديمية والثقافية أن تُسهم في هذه المهمة بإصدار المجلات والدراسات المهتمة بأحوال اللغة العربية خارج حدودها, وليت الجامعة العربية تفكر جديًّا في إنشاء مركزٍ علميّ يهدف إلى الدراسة والتعريف بالعرب وذوي الأصول العربية في المهاجر والمنافي, ووصلهم بأوطانهم التي لا تزال في خواطرهم, ولا يزالون في حاجةٍ إلى معرفة المُتجدد من أحوالها, ويؤكد حاجتنا إلى وجود هذا المركز المتخصص نقص معلوماتنا الفادح عن امتداداتنا العربية عبر الكرة الأرضية من ناحية, وعن أوضاع اللغة العربية والقائمين عليها في أقطار العالم العديدة غير الناطقة باللغة العربية.
وإذا كان من واجبنا تحقيق التواصل الحميم مع أبناء لغتنا والناطقين بها في كل مكان خارج العالم العربي, تأكيدًا لإيماننا بما يربطنا بهم ثقافيًّا, فمن واجبنا بالقدر نفسه أن نُعينهم في مواجهة المشكلات التي يواجهونها, ودعمهم في الاتجاه الواعد الذي يؤكد صعودنا وصعودهم, ولن يتحقق ما نصبو إليه في هذا المجال, إلا إذا كانت الطاقة التي نضخها في اتجاههم هي ثقافة عربية مُتجددة, تخلو من التعصبِ والتطرف وكل لوازم الأصولية, وتعمر بالتسامح وقبول الاختلاف, أعني ثقافة إبداعية تمنح المنتسبين إليها قوة خلّاقة لا تكف عن الإبداع في مدى واعد من ثقافة التنوع البشري الخلّاق الذي لا نهاية لإمكاناته الرائعة.
 
أوضاع كارثية
لكن لكي تواجه اللغة العربية تحدياتها الخارجية، فإنها ينبغي أن تواجه تحدياتها الداخلية أو أزماتها الموجودة داخل نطاقها العربي، فقد تكاثرت هذه الأزمات، وذلك إلى الدرجة التي جعلتنا نتحدث عن أوضاع كارثية للغة العربية داخل نطاقها العربي، تعليمًا وتثقيفًا وإعلامًا على السواء. ولذلك كثُرت الشكوى من تدهورها على ألسنة الناطقين بها، سواء في المحافل العامة أو المنتديات النوعية. لا فرق في ذلك بين التجمعات السياسية أو الثقافية أو الملتقيات الإبداعية أو حتى الجامعات. 
ولم تَعُد الخطابة السياسية نموذجًا للسلامة اللغوية والفصاحة الأسلوبية، كما كان يحدث في جيل الليبراليين الكبار، سعد زغلول والنحاس والعقاد وطه حسين... وغيرهم، وإنما غدت نموذجًا للركاكة وخلل الأداء اللغوي، خصوصًا حين يترك الخطيب النص الذي لا يُحسن قراءته إلى اللهجة العامية وما يشوبها من رواسب لا علاقة لها باللغة العربية الفصحى في نقائها وصفائها، ويوازي ذلك تدهور الأداء اللغوي حتى في الحياة الجامعية التي غلبت العامية على مُحاضراتها، وفشت الأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية في الرسائل العلمية والكتب الجامعية، وشاع اللحن في خطاب الأساتذة والأستاذات، حتى أولئك الذين ينتسبون إلى أقسام اللغة العربية ومعاهدها وكُلياتها، وأضف إلى ذلك الكليات والمعاهد الأزهرية.
كما لو كان وَاقع الحال يذكّرنا بالمَثَل الشعبي الذي يتحدث عن «باب النجار المُخَلَّع». وأضف إلى ذلك كله الانحدار الكارثي في مستوى الأداء اللغوي للطالب الجامعي في جامعاتنا.

عقدة نقص
من الطبيعي أن يقترن بذلك كله خطاب الذين يتحدثون ليل نهار عن احترام التراث، وضرورة العودة إلى الماضي، بوصفه الوضع الأمثل، ومبدأ الزمن الذهبي الذي يتدهور، كلما مضينا إلى الأمام، وكلما ابتعدنا عن التأسّي به في كل تطلع إلى المستقبل، كما لو كنا أمّة عينها في قفاها، وتغفو عن حاضرها ومستقبلها كما تغفو عن ماضيها الذي تتشدق بالعودة إليه وإلى ميراثه الديني الذي تتأوَّله فتشوِّهه. أقول من الطبيعي أن يقترن ضعف الأداء اللغوي بِدُعاة التراث على هذا النحو، الأمر الذي يدفعهم إلى التلويح بِتُهم التكفير التي يطلقونها كالرصاص على خصومهم. وذلك حال يكشف عن تناقض موقف هؤلاء التراثيين المتُعصبين الذين يتعصبون لتراث لا يُحسنون لُغته، ولا يُريدون من يُسْرِها إلا عُسرها.
    ولا يختلف عن هؤلاء المتعصبين نقائضهم الذين يُمثِّلون الوجه الآخر من العُملة، أقصد أولئك الذين لا يزالون ينطوون على عُقدة «الخواجا». وهي عقدة نقص لا يزال يُعانيها أبناء الأقطار التي تحررت من الاستعمار العسكري، لكنها لم تتحرر من عُقد الدونيَّة التي خلَّفها هذا الاستعمار دون بُرء، ولذلك لا تزال قاعدة ابن خلدون عن وَلَعِ المغلوب بتقليد الغالب سارية، تتمثل في جعل النماذج الثقافية للآخر المُتقدِّم الغالب هي النماذج العُليا المحتذاة شعوريًّا ولا شعوريًا، بما في ذلك لغته التي تداخلت حتى في عاميات هذه الأقطار التي لا تزال تعاني سلبيات الفرانكوفونية والأنجلوفونية، خصوصًا الأولى التي لا تزال تسعى إلى إكمال عمليات «التعريب» التي هي - في النهاية - البديل المُلازم لظاهرة التعريب اللغوي السائدة، والتي لا تزال مستمرة، خصوصًا في دول شمال إفريقيا.
 
مصطلحات حديثة
من أشمل تعريفات «التعريب» - في هذا الاتجاه - ما ورد في الوثيقة الصادرة عن وزارة التربية الوطنية بالمغرب الأقصى، مقدمة لمؤتمر التعريب الأول المُنعقد في الرباط سنة 1961، حيث نقرأ «التعريب بالمغرب هو إحلال اللغة العربية في التعليم محل اللغات الأجنبية، وتوسيع اللغة العربية بإدخال مصطلحات جديدة عليها، وإلزام الإدارة بعدم استعمال لغة دون اللغة العربية، والعمل على أن تكون لغة التخاطب اللغة العربية وحدها، والدعاية لها، ومقاومة كل الذين يناهضون لغتهم للتفاهم فيما بينهم بلغة أجنبية، وبالجملة، فإن التعريب هو جعل اللغة العربية أداة صالحة للتعبير عن كل ما يقع تحت الحس، وعن العواطف والأفكار والمعاني التي تختلج في ضمير الإنسان الذي يعيش في عصر الذَّرة والصواريخ».
والواقع أنه على الرغم من تبنِّي المؤسسات الرسمية في أقطار المغرب هذا المفهوم للتعريب، وعملها على إحلاله وإشاعته، فإن المجموعات الشعبية وأصحاب الحِرف التقليدية، في الأسواق الشعبية، لا تزال محافظة على رواسب «الفرانكفونية» التي لا تزال سائدة في خطاب الشارع والتجمعات الشعبية. 
وهو الأمر نفسه الذي لا يزال يدفع عددًا دالًا من كُتّاب هذه الأقطار إلى الكتابة بالفرنسية إلى هذا اليوم، كما يفعل الجيل الذي تلقَّى تعليمه بواسطة الأدوات الأيديولوجية للاستعمار الفرنسي سابقًا، ولولا ذلك لَكُنّا نقرأ باللغة العربية عشرات من كُتّاب الدول المغاربية، ومنهم على سبيل المثال: محمد ديب، والطاهر بن جلون، ومولود معمري، ومالك حداد، وإدريس شرايبي، وآسيا جبار، ورشيد بوجدرة، وكاتب ياسين، وغيرهم من الكُتّاب الذين تختلف أجيالهم واتجاهاتهم الفنية.
ومهما تحدثنا عن أوجه الاختلاف بين الدول العربية المتحررة من الاستعمار الفرنسي وشقيقاتها المتحررة من الاستعمار البريطاني، فإن الرواسب المنعكسة على أنواع الأداء اللغوي لا تزال واحدة، مؤتلفة في الجوهر، مختلفة في المظهر فحسب، حتى دول الخليج التي لا تزال تحمل لهجاتها مفردات فارسية وأوُردية وهندية، ولا تزال تشيع بعض لغات أجنبية بين مجموعات العمل المُنتشرة فيها إلى الحد الذي ينطبق معه معنى بيت المتنبي:
كأن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان

تنوّع عرقي
على من لا يصدق ذلك أن يمضي في بعض أسواق دُبي أو غيرها من أقطار الخليج التي بدأ الأطفال فيها يحسنون لغة العمالة المحيطة بهم، خصوصًا في المنازل، أكثر مما يحسنون لغتهم الأم. وهو أمر لا بد أن يدق جرس الإنذار في هذه الأقطار التي ينتج فيها عن التنوع العرقي غير المنضبط تنوّع لغوي يوازيه في القوة والخطر على اللغة العربية وأبنائها على السواء. 
وأنا أفهم وجود تنوّع عرقي في عمالة هذا القُطر الخليجي أو ذاك، ولكن تحوُّل هذا التنوع إلى تنوع سلبي له مخاطره المُمكنة 
في مدى الثقافة واللغة الحاملة له والمُبقية عليه، فهذا هو الخطر بعينه الذي ينبغي أن يحتلّ موضع الاهتمام، ويتطلب المُعالجة في مجلس التعاون الخليجي، ما ظلت دوَله تسعى إلى الحفاظ على نقاء وسلامة اللغة العربية التي تكوَّنت وأُسست في فضاءاتها التاريخية التي أصبحت مدى لإمكان انحدارها.
ويزداد هذا الإمكان انحدارًا، حين نضع في اعتبارنا غير ذلك من مجالات الاستخدامات اللغوية المختلفة، أو حقول عملها، وعندئذ، يمكن أن نضيف إلى ما سبق ما يلي:
أولًا: التعليم اللغوي الذي لا يشك أحد في عدم ارتفاعه إلى آفاق التحديات المعاصرة الواقعة على اللغة العربية، فأنظمة تعليمنا لا تزال على ما كانت عليه من تقاليد بالية في مجالات كثيرة، على رأسها مجالات التعليم اللغوي التي لم تتطور إلى اليوم بما يتناسب واحتياجات العصر، بل بما يتجاوب والدوافع المُلحَّة لإصلاح التعليم اللغوي بوجه عام. 
والنتيجة هي تقليص تعليم اللغة العربية، مقابل التوسع في تعليم الإنجليزية في بعض دول الخليج. والواقع أنه لا فارق كبيرًا بين تعليم اللغة القومية واللغات الأجنبية في هذا المجال، فالخَلل في آليات ومناهج تعليم اللغات عام وشائع، يُلقِي بثقله على تعليم اللغة القومية التي توضع مشكلات تعليمها في ذيل قوائم الأولويات لعدم أخذها مأخذ الجد في التعليم. 

أفقٍ جديد
وإلى اليوم، لا تزال في انتظار مخططات واستراتيجيات أكثر ثورية، وأكثر عصرية، في التدريب على النطق، وحل مشكلات الكتابة، وتحسين الخط، وتبسيط النحو، وتضييق المسافة بين المنطوق والمكتوب، أو العامية والفصحى، وغير ذلك من عمليات التحديث المُبتكر التي تنقلنا إلى أفقٍ جديدٍ من التعليم، وأفق أحدث من البحوث التربوية التقنية في آليات التعليم اللغوي وأساليبه. وأتصورُ أن هذا البُعد الأخير للمشكلة هو بُعدها الأول، ذلك لأن التعليم، خصوصًا في مراحله الأولى، هو حَجر الزاوية في التثقيف اللغوي للناشئة الذين لا بد أن ينشأوا نشأة لغوية سليمة في المدرسة على الأقل، خصوصًا أن الكثير مما حولهم يُربك هذه النشأة؛ ازدواجًا في اللغة ما بين العامية المُتكثرة والفصحى المُتقلِّصة، لغة الرموز السياسية والاجتماعية والفنية والدينية... إلخ.
ولن تنصلح حال تعليم اللغة القومية في المدرسة إلا إذا تشرَّب التلامذة حب اللغة من أساتذتهم الذين يجب أن يُعُّدوا إعدادًا تربويًّا وعلميًّا مغايرًا، وأن يواصلوا البحث والتدريب دون انقطاع، أو على الأقل يُلحقوا بدورات تدريب متواصلة لتطوير أدائهم، وأن يكونوا قدوة لِطُلابهم في تجنبِ الخطأ في الوقت نفسه، وإيثار السلاسة الفصيحة في التعبير.

مسابقات جادة
يمكن أن نضيف إلى ذلك أهمية تشجيع الطلاب على التميز في معرفة لغتهم وامتلاك ناصيتها التعبيرية بمسابقات جادة لها احترامها (في الولايات المتحدة: مسابقات - على مستوى الولايات - في هجاء الكلمات، والقراءة)، وفي الوقت نفسه، تشجيع الباحثين على مواجهة مشكلات تعليم اللغة وتدريسها في المراحل المختلفة، وخلال فترات زمنية محددة، بما في ذلك تعليم اللغة لغير الناطقين بها بأيسر السُّبل وأنجعها، ولا ينفصل عن ذلك تطوير اللغة القومية ضمن منظومة أشمل لتطوير تعليم اللغات كلها؛ ذلك لأن ضعف عملية التعليم وسلبية نواتجها أمر عام، تتبادل أطرافه التأثر والتأثير في مدارسنا العربية التي لا يزال نظامها التعليمي في خطر إلى اليوم.
 ثانيًا: الإعلام الذي لا يزال عاملًا من عوامل تهديد اللغة الفصحى، وذلك بتشجيعه العاميات المحلية واستخدامها الجاذب في المسلسلات والأغاني، وغيرها، والتي تتحول إلى نماذج للتقليد، وخصوصًا بين الناشئة، ويتصل بذلك عدم التقديم الناجح لبرامج تعمل على جذب الأطفال إلى لغتهم الجميلة، وتبصير الكبار بكنوز هذه اللغة وإتاحتها لهم على أيسر وجهٍ وأجذبه. ومع الأسف، فإن أغلب أجهزة الإعلام القائمة تعمل في اتجاهٍ مضادٍ، وتشيع نوعًا من الاستهانة باللغة القومية في صحافتها أو تلفزيوناتها، في المسلسلات الضاحكة أو الأفلام (ولنتذكر نموذج الأستاذ حمام - نجيب الريحاني - في فيلم «غَزل البنات» الذي تكرر في نماذج لاحقة)، وقارِن بين الأفلام العربية في هذا المجال وما يُقابلها من نماذج غربية، كانت تهدف إلى تأكيد أهمية اللغة ودورها في الصعود الاجتماعي، كما حدث مع بطلة «بيجماليون» في مسرحية الكاتب الإنجليزي برنارد شو (التي تحوَّلت إلى فيلم شهير بعنوان «سيدتي الجميلة»).
 
دور سلبي
 الواقع أن التلفزيون يؤدي دورًا سلبيًّا في هذا الاتجاه، وبدل أن يكون عامل تأكيدٍ لحضور اللغة العربية الفصحى، فإنه يتحول إلى قوةِ هدمٍ غير مباشرٍ بتشجيع العامية في المسلسلات والحوارات التي تتحول إلى نماذج لغوية يقتديها بوعي وغير وعي المتلقّون من مختلف الأعمار، خصوصًا حين يرون «نجوم» مجتمعهم في أغلب المجالات يتحدثون إما بفصحى ركيكة أو بعامية تقتحم حتى الفصحى وتَعدِيها بالركاكة.
ثالثًا: ويتصل بذلك الخطر الأخير الذي تواجهه اللغة العربية على نحوٍ غير مباشرٍ، ويتصل بالعولمة وما اقترن بها من تغيير جذري، غير مسبوق، في وسائل الاتصالات، ومنها شبكات الإنترنت التي أدَّت إلى شيوع اللغة الإنجليزية، وجعلها لغة مُهيمنة، بسبب تركُّز أسباب القوة في البلاد الناطقة بها، والنتيجة غَلبتها على اللغات المُستخدمة في وسائل الاتصال الحديثة، وذلك بالقياس إلى اللغة العربية، التي يتقلص نفوذها ومدى انتشارها الدولي على السواء. ويُعيدنا هذا الخطر الجديد إلى غيره من الأخطار التي أصبحت تتمثل فيما تفرضه العولمة الاقتصادية من غزو الكلمات الأجنبية لأسماء الشركات العالمية والمحلية التابعة لهذه الشركات، أو المرتبطة بها على نحوٍ أو غيره.

شرط أساسي
نتيجة لذلك كله، لا يكف الغيورون على لغتهم القومية عن الدعوة إلى ضرورة مواجهة طوفان الكلمات الأجنبية التي غزت اللافتات والإعلانات في المجلات والصحف، خصوصًا بعد أن أصبحت الصحف العربية في مصر وغيرها، لا تتردد في نشر إعلانات كاملة باللغة الإنجليزية، وبعد أن أصبحت الكلمات الأجنبية على كل لسان، وأصبحت أسماء للجديد المتزايد من الشركات والمشروعات والمدن الجديدة والمحلات التي ينتسب أصحابها أو القائمون عليها إلى الثقافة العربية، الأمر الذي دعا وزير التجارة المصري الأسبق، أحمد جويلي، وهو أستاذ جامعي أصلًا، إلى إصدار قرار بمراجعة الشركات والمحال التي تحمل أسماء أجنبية، وإنذارها بتعديل أسمائها وفقًا للقانون رقم 155 لسنة 1958، وهو القانون الذي ينص على استخدام اللغة العربية في المعاملات والإعلانات التجارية. وكان دافع الوزير الأسبق (إلى إعمال القانون الذي طواه النسيان) ينطلق من الوعي بضرورة الحفاظ على لغتنا التي هي عنوان هويتنا القومية، كما يقوم على أساس أنه لا يصح في 
معنى الاستقلال الوطني أو القومي تجاهل أو تشويه أو استبدال هذه اللغة بأي حال من الأحوال.
وتلك خطوة لا بأس بها بالتأكيد، ويستحق موقف وزير التجارة الأسبق التنويه والتقدير. لكني لا أعرف مدى إمكان تنفيذ قراره عمليًّا، الآن، خصوصًا بعد أن اتسع الخرق على الراقع، كما يقول المَثل القديم، وتجاوز الأمر مصر إلى غيرها من الأقطار العربية، بل قامت أجهزة الدولة نفسها، وفي أعلى مستوياتها، بالموافقة على إنشاء شركات ومشروعات جديدة ذات أسماء أجنبية، وأصبحت الإعلانات باللغة الإنجليزية بوجهٍ خاص لازمة من لوازم التصاعد المُتزايد في عدد الشركات المرتبطة بمشروعات العولمة الاقتصادية بأكثر من سبب، كما أصبح إتقان اللغة الأجنبية شرطًا أساسيًّا من شروط القبول في الوظائف المُتميزة بالشركات والمشروعات الاستثمارية المُتدافعة مع موجة الانتقال إلى الاقتصاد الحُر، ومن ثم مصدرًا أعلى للدخل وعلامة على التميز الوظيفي.

استبعاد تدريجي
لم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن تُقدِم بعض كليات التجارة وغيرها، في الجامعات المصرية، مثلًا، على فتح أقسام للتدريس باللغة الإنجليزية من الألِف إلى الياء، أو تسعى بعض الدول إلى تغليب اللغة الأجنبية السائدة على غيرها من اللغات، مع الاستبعاد التدريجي للغة العربية في البرامج العلمية المختلفة. 
أضف إلى ذلك ارتباط الرطانة الأجنبية التي تتزايد معدلات شيوعها في تداولات الخطاب اليومية بالتميز الاجتماعي الثقافي الذي لا يخلو من المُباهاة بمعرفة اللغات الأجنبية، وترصيع الكلام بمُفرداتها أو اصطلاحاتها، حتى يبين الذين لا يتقنون هذه اللغات أو يعرفون منها القشور دون اللُباب، ويمضي هذا الوضع في قران دالّ مع تدهور معرفة اللغة العربية على مستويات عديدة، وارتفاع درجات فقر الأداء اللغوي حتى بين الذين يطالبون بحماية هذه اللغة.
ولكن يبقى بعد ذلك أهم نقطة في القضية كلها. وهي نقطة تتصل بعلاقات المعرفة وأدوات إنتاجها في المجتمع كله من ناحية، كما تتصل بتقدم علاقات المعرفة (خصوصًا العلمية) وأدوات إنتاجها في علاقتها بعمليات تجسيدها لغويًّا وأدوات توصيلها وتواصلها واتصالاتها في المجتمع من ناحية موازية. وإذا كان الاستمرار في التقدم العلمي، فضلًا عن التشجيع عليه والاستمرار فيه، وإتاحة كل شروط الحرية المطلوبة له وفيه، مسائل أساسية وضرورية، فإن المرونة الواجبة في فهم قضايا التغير اللغوي، وتطوير آليات قبول الدخيل، وإعادة النظر في مواصفاته الصرفية وغير ذلك من مسائل تقنية، تستلزم إعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها إلى أقصى درجة.
إن لغتنا العربية هي بعض وجودنا وهويتنا في عالم قاسٍ، لا يرحم المتباطِئ أو المتواني، ومن ثمّ فلا سبيل أمامنا سوى مواجهة التحدي الذي يفرضه التقدم المُذهل لعوالم لا نستطيع مُلاحقة تقدُّمها، فضلًا عن التحدي الأصعب الذي لا بد أن نُواجه به عناصر التخلف المُتجذّرة في ثقافتنا، بل التي لا تزال عالقة بِلُغَتنا.