ساحة جامع الفناء العالمية في مدينة مراكش المغربية
تعدّ ساحة جامع الفناء في مدينة مراكش المغربية من أشهر الساحات العالمية وأكثرها جلباً للسياح على مدى سنين عدداً، ومازالت شهرتها تزداد اتساعاً في التاريخ والجغرافيا طولاً وعرضاً، بعد تصنيفها من جهة منظمة اليونسكو العالمية تراثاً شفهياً إنسانياً قلّ نظيره في العالم.
يستهويك في مراكش وجامع الفناء بالخصوص الاستمتاع والتمتع بالروائح ونكهة الأطباق المغربية الشهية، والانتشاء بروائح العطور والبهارات، وهي تتضوع في الأجواء عبقاً، إذ يكفي أن تعصر بين كفيك عند العطارين، الذين يصطفون، بنظام صارم، في الحارات، بتلات الورد أو وريقات الزعتر، حتى تملأ كيانك روائح مميزة، ما تهمّ بشمها حتى تباغتك موجة من العُطاس اللذيذ، تدُمع عينيك، أو تتشمّم حفنة من الإبزار وغيرها من التوابل والبهارات النادرة التي تعبق من السلال القصبية، يطحنها طازجة أمام عينيك غلام متخصص في الطحن والغربلة. هذا علاوة على الروائح الزكية المتصاعدة من المباخر، حيث عود الند والصندل والمسك والعنبر وغيرها كثير، يحرق في مباخر نحاسية رائعة الصنع والصياغة.
تشد ناظريك لوحات فنية ساحرة مدهشة بساحة جامع الفناء. وأنت مار أمام المقاهي الشعبية تلفحك رائحة القهوة الشعبية بالقرفة والزنجبيل والخزامى ولسان الطير. وأمام بائع الأعشاب الطرية النديّة الخاصّة لتحضير كؤوس الشاي تتملى بمعروضاته، فالنعناع والشيبة والحبق و«مرددّ وش» و«فليو» و«السالمية» وزهر الليمون والحناء ورائحة الشاي الذي يعدّ على العربات تجلُب أسراب النحل من ذرى الجبال الأطلسية والشعاب البعيدة والمروج والأودية، فتستيقظ جميع حواسك. وبعد الشم، يأتيك وأنت تتوغل في الساحة هدير الطبول الذي يلعلع في السماء ولا يهدأ أبداً بالليل ولا النهار، حيث تزدحم الساحة بكل أنواع الحلقات، تستمتع في كل حلقة على حدة بالعروض الفنية الشائقة، حيث التمثيل والموسيقى والرقص والآلات الموسيقية من سوس والشاوية وأحمر ودكالة وغيرها من أساليب الفرح والفرجة والابتهاج، من البندير إلى العود إلى الكمنجة والطعريجة والهجهوج، مروراً بالمقص ومروضي الأفاعي، وانتهاء بالدربوكة والطامطام، والرقص على «الجفنة» والطبول الكناوية الغيوانية في سيمفونية رائعة متناغمة، مذهلة، تأسر القلب والألباب.
ولما تجرب أن تتنسم وتتذوق فتلك قصة أخرى، حيث العصائر اللذيذة من البرتقال، والحامض بخليط اللوز والجوز، إلى الطّواجين المغربية وبخاصة «الطنجية» المراكشية اللذيذة ذات الشهرة العالمية، التي تطبخ على نار هادئة، أو تدفن في رماد دافئ، حتى تناديك «هيتَ لك هيْتُ لك».
والحريرة والبصارة والسمك وقوائم البقر بالحمّص، ورؤوس الأغنام المسلوقة، وأنواع المقليات، وكل ما لا يخطر على بال، حتى مشروب الحلزون هناك يجذب المتذوقين والفضوليين على السواء.
وأنت في «السمّارين» اختر ما شئت من الألوان الملوّنة، من الأثواب الحريرية الباذخة النسيج، الناعمة الملمس. صور ولوحات ساحرة لا يمكن أن تجتمع هكذا دفعة واحدة إلا في ساحة جامع الفناء، حتى وإن لم تلمسها فهي تلمس قلبك ودواخلك.
ولما تجرب السماع والإنصات، وتدريب الأذن على الالتقاط وحسن الإصغاء، وسهر الليالي مع «الحكواتيين» فتلك قصة أخرى، فحاجتك حيث يتحلّق السمّار في الحلقات حول عمالقة السّرود الموغلة في العجائبية، بدءا بعنترة العبسي وسيف بن ذي يزن و«عناق بن عواج» و«هيْنة» و«أبي زيد الهلالي وصعاليك الجاهلية وفرسان العرب الأشاوس و... و...». بل تلفي الحكواتي يضيف للحكاية حكايات، ويبدع من خياله نهايات غاية في الدهشة والغرابة، لا كالنهايات، مستهدفاً تعاطف الحضور للإغداق عليه.
تأسرك ليلاً على ضوء القناديل في الساحة عوالم سُرّاد الأزليات والعنتريات وكل السير الشعبية، في سمرهم الليلي، حيث الحكايا الساحرة والمدهشة التي ظلت خالدة في هذه الأجواء الفنية والثقافية، محافظة على عمق الانتماء الأدبي العربي والأمازيغي للجذور الأصيلة في الثقافة المغربية المتعددة المشارب والمتنوعة الروافد.
كما تلاحظ حفاظ الساحة على طابعها الإسلامي الأصيل عندما تختلط أصوات المؤذنين في المآذن بأعالي صوامع المساجد التي تطاول قبة السماء، مردّدة بصوت واحد التهليل والتكبير باسم الله الواحد الأحد، تذكرك بالانتماء إلى مراكش العتيقة، أرض سبعة رجال صالحين، وإلى بلد تحرسه عناية الإسلام منذ سنين خلت وما ارتضى عنه عبر القرون بديلا. كل هذا يشكل في مراكش عالماً أسطورياً فاتناً بامتياز، عالماً موغلاً في السحر والدهشة والجمال، يكاد يكون غريباً خارقاً للعادة لدى السياح الوافدين عليها من كل فج عميق.
مراكش الحمراء قطعة أثرية منفلتة من تاريخ سحيق مازالت تُلهم بعوالمها الآسرة الفاتنة عديداً من مشاهير الأدب وعشاق الفن، فتوحي لهم أرقى الأفكار والمواضيع في عالم السينما والتشكيل والأدب والموسيقى المستوحاة طبعاً من صخب وجلبة ساحة جامع الفناء المكتظة بأنشطة الليل والنهار، ومن همس الأسوار العتيقة التي تحكي ألف حكاية وحكاية. ومن هؤلاء العشاق من اتخذها مستقرا وأحسن مقاما.
أما هواة القراءة فتأسرهم المكتبات العتيقة المكتظة بالكتب النادرة في الدكاكين الصغيرة المنتشرة في متاهات الدروب العتيقة. وأنت تتوغل في هذه الدروب العتيقة والحارات الضاجّة بعبق التاريخ - وهي تدعوك إلى سبر أغوار مكامن الجمال فيها - تبتلعك الأزقة الضيقة في المدينة القديمة، لتلفظك بعد ذلك، في ساحات غريبة تتحدث معالمُها العتيقة لغةً ناطقة بسحر الأمكنة وسطوة التاريخ المجيد وحضوره القوي، وذلك لما يسبغه عليها العطارون وبائعو الأعشاب والجلود والأدوية والحيوانات المحنّطة من فتنة ودهشة متفرّدة تدعو الزائر إلى إعادة التأمل في كل هذا العالم الفاتن الساحر المدهش الذي يأسر الغريب بسطوة أجوائه التي تفوق عوالم ألف ليلة وليلة سحراً ودهشة وغرابة.
وفي بؤبؤ قلب مراكش النابض بالحركة، تشمخ صومعة الكتبية في أنفة وعز، تطاول، بمئذنتها التاريخية، عنان السماء، شمّاء، معتزة بكبريائها، وغنى وثراء تراثها الذي لم تنل منه عوادي الزمن والخطوب على مر العصور والأزمان، تذكرك بماضي الأسلاف العظيم، ومجد وحضارة المغرب الضاربة جذورها في أعماق التاريخ ■
في ساحة جامع الفناء العصائر اللذيذة من البرتقال والحامض بخليط اللوز والجوز
«الكراب» أو الساقي في الزي التقليدي كرمز من رموز حسن الضيافة