نفثة بديعة من سِحْر المتنبي

نفثة بديعة من سِحْر المتنبي

مما‭ ‬وصلنا‭ ‬عن‭ ‬حبيبنا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬‭[‬‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬إن‭ ‬من‭ ‬البيان‭ ‬لسحراً‮»‬،‭ ‬صدق‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المتنبي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬كبار‭  ‬السحرة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬البيان،‭ ‬فقد‭ ‬أودع‭ ‬في‭ ‬بيانه‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬البلاغة‭ ‬والبيان‭ ‬ما‭ ‬يندر‭  ‬أن‭ ‬نراه‭ ‬لدى‭ ‬شاعر‭  ‬آخر،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬جمع‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬موهبته‭ ‬البيانية‭ ‬الفذة،‭ ‬قدرته‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬تلك‭ ‬الموهبة،‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مختلف‭ ‬المعاني،‭ ‬وأبدع‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬معاني‭ ‬الحكمة،‭ ‬حتى‭ ‬أحصى‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬مئات‭ ‬الأبيات،‭ ‬التي‭ ‬ذهبت‭ ‬أمثالاً،‭ ‬يرددها‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬مر‭  ‬العصور،‭ ‬وذلك‭ ‬لجمال‭ ‬معانيها،‭ ‬وحسن‭ ‬بلاغتها،‭ ‬وسحر‭ ‬بيانها‭.‬

يقول‭ ‬أبو‭ ‬البقاء‭ ‬العكبري‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬لديوان‭ ‬المتنبي‭: ‬‮«‬وقد‭ ‬أجمع‭ ‬الحذاق‭ ‬بمعرفة‭ ‬الشعر‭ ‬والنقاد‭ ‬أن‭ ‬لأبي‭ ‬الطيب‭ ‬نوادر‭ ‬لم‭ ‬تأتِ‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬غيره،‭ ‬وهي‭ ‬مما‭ ‬تخرق‭ ‬العقول‮»‬،‭ ‬ويضيف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬عشرات‭ ‬الأمثلة‭: ‬‮«‬وإنما‭ ‬ذكرناه‭ ‬مجملاً‭ ‬ليسهل‭ ‬أخذه‭ ‬وحفظه،‭ ‬ولو‭ ‬تصفحت‭ ‬دواوين‭ ‬المجيدين‭ ‬المولدين‭ ‬والمحدثين‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬لأحد‭ ‬منهم‭ ‬بعض‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬نادراً،‭ ‬ولكن‭ ‬الفضل‭ ‬بيد‭ ‬الله‭ ‬يؤتيه‭ ‬من‭ ‬يشاء،‭ ‬ويؤتي‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬يشاء‮»‬‭. ‬

ومن‭ ‬نفثات‭ ‬سحر‭ ‬المتنبي‭ ‬البياني،‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬بيتين‭ ‬فريدين‭ ‬رائعين،‭ ‬جمع‭ ‬فيهما‭ ‬حصافة‭ ‬الحكمة‭ ‬وجمال‭ ‬البيان‭: ‬

حتى‭ ‬رجعت‭ ‬وأقلامي‭ ‬قوائل‭ ‬لي

المجد‭ ‬للسيف‭ ‬ليس‭ ‬المجد‭ ‬للقلم

اكتب‭ ‬بنا‭ ‬أبداً‭ ‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬به

فإنما‭ ‬نحن‭ ‬للأسياف‭ ‬كالخدم

ولو‭ ‬تأملنا‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البيتين،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬روعتهما‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬الجميل،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الحكمة‭ ‬البالغة،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬إيصال‭ ‬هذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فقد‭ ‬بدأهما‭ ‬بحرف‭ ‬الغاية‭ ‬‮«‬حتى‮»‬،‭ ‬متبوعاً‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬رجعت‮»‬،‭ ‬ليقول‭ ‬للسامع‭ ‬إن‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬سيتلوها‭ ‬هي‭ ‬نتيجة‭ ‬خبرة‭ ‬طويلة‭ ‬ومعاناة‭ ‬شديدة،‭ ‬ورحلات‭ ‬عديدة،‭ ‬رجع‭ ‬بعدها‭ ‬بهذه‭ ‬الحكمة،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يشأ‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬المعنى‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬بل‭ ‬جعله‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أقلامه،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقول،‭ ‬فجعل‭ ‬الأقلام‭ ‬أحياء‭ ‬شاخصة‭ ‬تتكلم‭ ‬وتحكي‭ ‬خبرتها،‭ ‬وجعلها‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع،‭ ‬فلم‭ ‬يقل‭ ‬‮«‬قلمي‮»‬‭ ‬بل‭ ‬قال‭ ‬‮«‬أقلامي‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬اشتمالها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬العلوم،‭ ‬فكل‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬تعترف‭ ‬بأنها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬محاطة‭ ‬بشوكة‭ ‬تحميها،‭ ‬وقوة‭ ‬تنصرها،‭ ‬وسلطان‭ ‬يتعهدها،‭ ‬فلا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مؤثرة،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬‮«‬تقول‭ ‬لي‮»‬،‭ ‬فالفعل‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬حدث‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬عارضاً،‭ ‬بسبب‭ ‬تجربة‭ ‬معينة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتكرر،‭ ‬ولكنه‭ ‬قال‭ ‬‮«‬قوائل‮»‬‭ ‬بالصيغة‭ ‬الاسمية،‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬الثبوت‭ ‬والديمومة،‭ ‬فهي‭ ‬دائما‭ ‬قوائل،‭ ‬ومعترفة‭ ‬بفضل‭ ‬القوة‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت‭ ‬وحين،‭  ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف،‭ ‬وليس‭ ‬بسبب‭ ‬عارض‭ ‬اختبره‭ ‬الشاعر‭.‬

ومن‭ ‬أكثر‭ ‬الأمور‭ ‬روعة‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البيتين،‭ ‬أن‭ ‬حقيقة‭ ‬فضل‭ ‬السيف‭ ‬على‭ ‬القلم،‭ ‬تعترف‭ ‬بها‭ ‬الأقلام،‭ ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬الكلام‭ ‬بلسان‭ ‬السيف‭ ‬لقال‭ ‬السامع‭: ‬‮«‬السيف‭ ‬يطري‭ ‬نفسه‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬زعماً‭ ‬لا‭ ‬صدق‭ ‬فيه،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬مادح‭ ‬نفسه‭ ‬كاذب‭ ‬ولو‭ ‬صدق‮»‬،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الكلام‭ ‬بلسان‭ ‬الشاعر‭ ‬لقال‭ ‬السامع‭: ‬‮«‬ذاك‭ ‬رأي‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬يصيب‭ ‬وقد‭ ‬يخطئ‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الاعتراف‭ ‬بلسان‭ ‬الأقلام‭ ‬لمصلحة‭ ‬السيوف،‭ ‬فلا‭ ‬يسع‭ ‬السامع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬المعنى،‭ ‬لأن‭ ‬المهزوم‭ ‬يعترف‭ ‬لخصمه‭ ‬ويقر‭ ‬بتفوقه‭ ‬وسبقه،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬أقوى‭ ‬أثراً‭ ‬من‭ ‬شهادة‭ ‬للمليحة‭ ‬تشهد‭ ‬بها‭ ‬ضرتها؟

ومليحة‭ ‬شهدت‭ ‬لها‭ ‬ضراتها‭ ‬

والفضل‭ ‬ما‭ ‬شهدت‭ ‬به‭ ‬الأعداء

ومن‭ ‬جميل‭ ‬البلاغة،‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬جاء‭ ‬وكأنه‭ ‬إنكار‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يدعي‭ ‬أن‭ ‬المجد‭ ‬للقلم،‭ ‬فبدأ‭ ‬بإثبات‭ ‬المجد‭ ‬للسيف،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬فنفى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المجد‭ ‬للقلم،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ترتيب‭ ‬الكلام‭ ‬بشكل‭ ‬معاكس‭ ‬لما‭ ‬شعرنا‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭.‬

هذا‭ ‬وإن‭ ‬الشاعر‭ ‬لو‭ ‬سكت‭ ‬بعد‭ ‬تقرير‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أي‭ ‬لو‭ ‬سكت‭ ‬عند‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬المجد‭ ‬للسيف‭ ‬ليس‭ ‬المجد‭ ‬للقلم‮»‬،‭ ‬لكنا‭ ‬اتهمناه‭ ‬بإنكار‭ ‬أهمية‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬وسائر‭ ‬المعارف،‭ ‬ولكنه‭ ‬فطن‭ ‬لذلك،‭ ‬فاستدرك‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الثاني،‭ ‬وأكد‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الأقلام،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والمعارف،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬التمكين‭ ‬لها‭ ‬بالقوة‭ ‬والسلطان،‭ ‬ولله‭ ‬دره‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬أكتب‭ ‬بنا‭ ‬أبداً‭ ‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬به‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يقل،‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬القتال‭ ‬به‮»‬،‭ ‬ولو‭ ‬قال‭ ‬ذلك،‭ ‬لما‭ ‬زاد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬جعل‭ ‬السيف‭ ‬أداة‭ ‬للقتل‭ ‬وللبطش،‭ ‬ولكنه‭ ‬لما‭ ‬قال‭ ‬عن‭ ‬السيف‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬به‮»‬،‭ ‬جعله‭ ‬كالقلم،‭ ‬أداة‭ ‬لكتابة‭ ‬الحضارة‭ ‬والمجد‭ ‬والتاريخ،‭ ‬وليس‭ ‬أداة‭ ‬قتل‭ ‬وبطش،‭ ‬وما‭ ‬أحسن‭ ‬السيف‭ ‬إذا‭ ‬وضع‭ ‬في‭ ‬موضعه‭ ‬الصحيح،‭ ‬لنصرة‭ ‬الحق‭ ‬وحماية‭ ‬الحضارة،‭ ‬وما‭ ‬أشد‭ ‬سوءه‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬أداة‭ ‬قتل‭ ‬وكفى،‭ ‬وقد‭ ‬جعله‭ ‬المتنبي‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فيه،‭ ‬هي‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬بدل‭ ‬‮«‬القتال‮»‬،‭ ‬ليطلق‭ ‬بذلك‭ ‬العنان‭ ‬لخيال‭ ‬السامع،‭ ‬حتى‭ ‬يتخيل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتبه‭ ‬السيف،‭ ‬فهو‭ ‬أداة‭  ‬حضارية،‭ ‬لا‭ ‬وسيلة‭ ‬قهرية‭.‬

على‭ ‬أنه‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يغمط‭ ‬حق‭ ‬الأقلام‭ ‬وقدرها،‭ ‬أي‭ ‬حق‭ ‬العلوم‭ ‬والسياسة‭ ‬والأدب‭ ‬وغيرها،‭ ‬فكلمة‭ ‬‮«‬أبداً‮»‬‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬اكتب‭ ‬بنا‭ ‬أبداً‮»‬،‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬القلم،‭ ‬دائماً‭ ‬وأبداً،‭ ‬ولكن‭ ‬بحماية‭ ‬القوة‭ ‬والسلطان،‭ ‬ولم‭ ‬يحُطَّ‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬القلم‭ ‬بجعله‭ ‬خادماً‭ ‬مطلقاً‭ ‬للسيف،‭ ‬بل‭ ‬قال‭ ‬‮«‬كالخدم‮»‬،‭ ‬فمكانة‭ ‬الأقلام‭ ‬وما‭ ‬ترمز‭ ‬له‭ ‬عظيمة،‭ ‬ولا‭ ‬يليق‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬خدماً‭ ‬للسيف،‭ ‬ولكنها‭ ‬‮«‬كالخدم‮»‬،‭ ‬تدعمه‭ ‬وتنصره‭ ‬وتسهل‭ ‬أمره‭ ‬وتيسر‭ ‬له‭ ‬بلوغ‭ ‬أهدافه،‭ ‬ولو‭ ‬قال‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأقلام‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬للسيوف‭ ‬خدم‮»‬،‭ ‬لكان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬انتقاص‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الأقلام‭ ‬وما‭ ‬تمثله‭.‬

صدق‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬‭[‬،‭ ‬‮«‬إن‭ ‬من‭ ‬البيان‭ ‬لسحراً‮»‬‭ .‬■