مشاعر وانطباعات حول الجزائر والجزائريين.. قراءة في رحلة الكاتبة الفرنسية لويس ماري ريجيس إلى العمالة القسنطينية

مشاعر وانطباعات  حول الجزائر والجزائريين..  قراءة في رحلة الكاتبة الفرنسية لويس ماري ريجيس  إلى العمالة القسنطينية

تحاول‭ ‬هذه‭ ‬الصفحات‭ ‬المتواضعة‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬من‭ ‬انطباعات‭ ‬ومشاعر‭  ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭  ‬الميلادي،‭ ‬سجّلتها‭ ‬الكاتبة‭ ‬لويس‭ ‬ماري‭ ‬ريجيس،‭ ‬التي‭ ‬أتيحت‭ ‬لها‭ ‬الفرصة‭ ‬لزيارة‭ ‬المنطقة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬الجزائرية،‭ ‬وتحديداً‭ ‬العمالة‭ ‬القسنطينية،‭ ‬فسعت‭ ‬إلى‭ ‬تسجيل‭ ‬أهم‭ ‬مشاهداتها،‭ ‬وإلى‭ ‬إشراك‭ ‬قرائها‭ ‬أقوى‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والتصورات‭ ‬التي‭ ‬عايشتها‭ ‬تجاه‭ ‬الجزائر‭  ‬والإنسان‭ ‬الجزائري‭ ‬المدعو‭ ‬عند‭ ‬الفرنسيين‭ ‬بالأنديجان،‭ ‬أي‭ ‬الساكن‭ ‬الأصلي‭.‬

بهذا‭ ‬ينضم‭ ‬عمل‭ ‬ريجيس‭ ‬إلى‭ ‬سلسلة‭ ‬الرحلات‭ ‬الفرنسية‭ ‬الكثيرة‭ ‬نحو‭ ‬الجزائر،‭ ‬وتندرج‭ ‬أفكارها‭ ‬وصورها‭ ‬ضمن‭ ‬الأفكار‭ ‬والانطباعات‭ ‬الشائعة‭ ‬والمشتركة‭ ‬بين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬حيال‭ ‬الأجنبي‭ ‬والآخر،‭ ‬وهي‭ ‬المترسبة‭ ‬عبر‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بالمخيال‭ ‬الفرنسي‭ ‬الجمعي،‭ ‬الذي‭ ‬ابتدعته‭ ‬مختلف‭ ‬الكتابات‭ ‬المتراتبة‭ ‬حول‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬الشرق،‭ ‬وبلدان‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وآسيا،‭ ‬منذ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬وعهد‭ ‬الحملات‭ ‬الصليبية،‭ ‬وقد‭ ‬خلفت‭ ‬كتب‭ ‬الرحلات‭ ‬الأوربية‭ ‬عموماً،‭ ‬والفرنسية‭ ‬خصوصاً،‭ ‬معرفة‭ ‬متراكمة‭ ‬حول‭ ‬المناطق‭ ‬المكتشفة‭ ‬آنذاك،‭ ‬تغذت‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬متزايد‭ ‬للذات‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬ثقافية‭ ‬وجغرافية‭ ‬غريبة،‭ ‬وأفرزت‭ ‬مزيجاً‭ ‬من‭ ‬التصورات‭ ‬العجائبية‭ ‬والعنصرية،‭ ‬مرجعيتها‭ ‬سمو‭ ‬الجنس‭ ‬الأبيض‭ ‬وتفوقه،‭ ‬وأفرزت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تنافراً‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق،‭ ‬وبين‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلام،‭ ‬ولم‭ ‬تسلم‭ ‬القرون‭ ‬المتأخرة‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬العالمين‭.‬

 

مسار‭ ‬الرحلة‭ ‬وموضوعاتها

لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬كاتبة‭ ‬فرنسية‭ ‬قليلة‭ ‬الشهرة،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬مثقفة‭ ‬ومن‭ ‬عائلة‭ ‬ثرية،‭ ‬ظهرت‭ ‬للقرّاء‭ ‬عام‭ ‬1979‭ ‬بعملها‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬بسكرة‮»‬‭ ‬مقنعة‭ ‬بشخصية‭ ‬رجل،‭ ‬لكن‭ ‬شخصيتها‭ ‬الأنثوية‭ ‬بدت‭ ‬واضحة،‭ ‬واكتشفت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬كتبت‭: ‬‮«‬قسنطينة‭... ‬رحلات‭ ‬وإقامات‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬الرحلات‭ ‬التي‭ ‬قدّم‭ ‬لها‭ ‬الكاتب‭ ‬مزيار،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الأكاديميين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬ثمّن‭ ‬فيها‭ ‬المؤلف‭ ‬الرحلة،‭ ‬واستظهر‭ ‬مواطن‭ ‬الجمال‭ ‬والشاعرية‭ ‬فيما‭ ‬قدّمته‭ ‬الكاتبة‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬للمظاهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬بالجزائر،‭ ‬وما‭ ‬صاغته‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬تخييلية‭ ‬وتصويرية‭ ‬رقيقة‭ ‬حساسة،‭ ‬تنبي‭ ‬عن‭ ‬رقة‭ ‬الكاتبة‭ ‬وخصوبة‭ ‬مخيلتها،‭ ‬وعن‭ ‬شدة‭ ‬ولعها‭ ‬بالطبيعة،‭ ‬لكن‭ ‬مزيار‭ ‬يعترض‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬تقديمه‭ ‬للكتاب‭ ‬على‭ ‬القسوة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬عليها‭ ‬الكاتبة‭ ‬حيال‭ ‬المعمرين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬ونقدها‭ ‬المتكرر‭ ‬لسياساتهم،‭ ‬ومشاريعهم،‭ ‬وعطفها‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬على‭ ‬العرب،‭ ‬ودفاعها‭ ‬عنهم‭. ‬

وقد‭ ‬اتبعت‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬رحلاتها‭ ‬مساراً‭ ‬واسعاً،‭ ‬لم‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬الجزائرية،‭ ‬بل‭ ‬تعداها‭ ‬إلى‭ ‬ناحية‭ ‬الوسط،‭ ‬وتحديداً‭ ‬الجزائر‭ ‬العاصمة،‭ ‬والبليدة،‭ ‬والمدية،‭ ‬وهي‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬زارتها‭ ‬في‭ ‬رحلتها‭ ‬الأولى،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬بداية‭ ‬السرد‭ ‬تصور‭ ‬نزولها‭ ‬بميناء‭ ‬سكيكدة‭ ‬المسماة‭ ‬آنذاك‭ ‬‮«‬فيليب‭ ‬فيل‮»‬‭ ‬أيام‭ ‬الاحتلال،‭ ‬لتتوجه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬قسنطينة،‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬عام‭ ‬1879م،‭ ‬ودامت‭ ‬إقامتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر،‭ ‬لتغادرها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬متوجهة‭ ‬إلى‭ ‬باتنة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر،‭ ‬وبعد‭ ‬إقامة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬تصل‭ ‬لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬إلى‭ ‬بسكرة،‭ ‬فتزور‭ ‬المدينة‭ ‬ونواحيها‭ ‬كأولاد‭ ‬نايل،‭ ‬وسيدي‭ ‬عقبة،‭ ‬وتعود‭ ‬بعد‭ ‬خمسة‭ ‬أيام‭ ‬إلى‭ ‬باتنة،‭ ‬فقسنطينة،‭ ‬وقررت‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬الشرقية‭ ‬أن‭ ‬تيمم‭ ‬وجهها‭ ‬غرباً‭ ‬لزيارة‭ ‬بجاية،‭ ‬والجزائر‭ ‬العاصمة،‭ ‬والبليدة،‭ ‬والمدية،‭ ‬وكانت‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬برية‭ ‬من‭ ‬قسنطينة‭ ‬إلى‭ ‬بـــــرج‭ ‬بوعريــــريج‭ ‬بوساطة‭ ‬عربة‭ ‬جياد،‭ ‬ومنـــــها‭ ‬توجهت‭ ‬براً‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬بجاية،‭ ‬لتأخذ‭ ‬طريق‭ ‬البحر،‭ ‬من‭ ‬ميناء‭ ‬المدينة،‭ ‬للوصول‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬دلس،‭ ‬ثم‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭.‬

وبعد‭ ‬اكتشاف‭ ‬المدينة‭ ‬وضواحيها‭ ‬تقرر‭ ‬السفر‭ ‬عبر‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬البليدة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر،‭ ‬ومنها‭ ‬قامت‭ ‬بجولة‭ ‬في‭ ‬الشفة‭ ‬والمدية،‭ ‬وكانت‭ ‬عودتها‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭ ‬ثم‭ ‬فرنسا‭ ‬عبر‭ ‬البحر‭ ‬ومرسيليا‭.‬

واستطاعت‭ ‬لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭ ‬الجزائرية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فوصلت‭ ‬ميناء‭ ‬سكيكدة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬1880م،‭ ‬ثم‭ ‬قصدت‭ ‬قسنطينة‭ ‬فزارت‭ ‬سيدي‭ ‬المسيد،‭ ‬ونعمت‭ ‬بإقامة‭ ‬دامت‭ ‬قرابة‭ ‬الشهرين،‭ ‬ولكنها‭ ‬عادت‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬يونيو‭.‬

 

رحلة‭ ‬ريجيس

وتنوعت‭ ‬موضوعات‭ ‬رحلة‭ ‬ريجيس،‭ ‬وتوزعت‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والدين،‭ ‬والثقافة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬والسياسة‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وكان‭ ‬هدفها‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬هو‭ ‬تعريف‭ ‬قرائها‭ ‬الفرنسيين‭ ‬بما‭ ‬يخص‭ ‬الجزائر‭ ‬والجزائريين،‭ ‬وسياسة‭ ‬التعمير‭ ‬والمعمرين،‭ ‬وركزت‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬عادات‭ ‬الأنديجان‭ ‬بمختلف‭ ‬جنسياتهم،‭ ‬وخصوصياتهم‭ ‬الإثنوغرافية،‭ ‬لكنها‭ ‬خصصت‭ ‬صفحات‭ ‬أكبر‭ ‬للأنديجان‭ ‬العرب،‭ ‬فعرضت‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للرجال‭ ‬والنساء،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬لاحظته‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬رحلاتها،‭ ‬مما‭ ‬يشكل‭ ‬موضوعات‭ ‬مثيرة‭ ‬وفنتازية‭ ‬للأوربيين،‭ ‬واجتهدت‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬معلومات‭ ‬دينية‭ ‬غزيرة‭ ‬ودقيقة‭ ‬مدعمة‭ ‬بنصوص‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والحديث‭ ‬الشريف،‭ ‬وكلام‭ ‬رجال‭ ‬الدين،‭ ‬والسياسة،‭ ‬والمؤرخين،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬موضوعات‭ ‬الكتاب‭ ‬نذكر‭: ‬العيساوة،‭ ‬والإخوان‭ ‬الصلحاء،‭ ‬والإسلام،‭ ‬وكتاب‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والرسول‭ ‬محمد‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬وزوجاته،‭ ‬وكذلك‭ ‬عادات‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬مزاولة‭ ‬أعمالهم،‭ ‬وتفصيل‭ ‬حول‭ ‬مساجد‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين،‭ ‬وزواياهم،‭ ‬وبيوتهم،‭ ‬ومقاهيهم،‭ ‬ومطاعمهم،‭ ‬وحماماتهم،‭ ‬وعادات‭ ‬الدفن‭ ‬عندهم،‭ ‬كما‭ ‬طرقت‭ ‬مسائل‭ ‬عديدة‭ ‬عن‭ ‬عادات‭ ‬الزواج‭ ‬والطلاق،‭ ‬وتعدد‭ ‬الزوجات،‭ ‬ويوميات‭ ‬المرأة‭ ‬العربية،‭ ‬ولباسها،‭ ‬وأوصافها‭ ‬الجسمانية‭.‬

 

مشاعر‭ ‬متضاربة

كانت‭ ‬الخيبة‭ ‬أول‭ ‬إحساس‭ ‬للويس‭ ‬ريجيس‭ ‬تجاه‭ ‬الضفة‭ ‬الإفريقية،‭ ‬أو‭ ‬ساحل‭ ‬مدينة‭ ‬Philippe‭- ‬Ville‭ (‬سكيكدة‭ ‬حاليا‭)‬؛‭ ‬فبعد‭ ‬سفر‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬دام‭ ‬خمسين‭ ‬ساعة،‭ ‬لم‭ ‬تر‭ ‬الرحالة‭ ‬في‭ ‬ساحل‭ ‬الجزائر‭ ‬أي‭ ‬ملمح‭ ‬شرقي،‭ ‬فزرقة‭ ‬السماء‭ ‬بدت‭ ‬لها‭ ‬شاحبة،‭ ‬وخضرة‭ ‬الجبال‭ ‬الغارقة‭ ‬سفوحها‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬أيضاً‭ ‬باهتة،‭ ‬وعليه‭ ‬فضّلت‭ ‬شواطئ‭ ‬بروفنس‭ ‬ومرسيليا‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭ ‬بجاذبية‭ ‬مناظرها‭ ‬الساحلية،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نفور‭ ‬الرحالة،‭ ‬وبرودة‭ ‬لقائها‭ ‬الأول،‭ ‬فإنها‭ ‬أكّدت‭ ‬لقرائها‭ ‬أن‭ ‬بلد‭ ‬الجزائر‭ ‬ليس‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬البلدان‭: ‬‮«‬نجده‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ذا‭ ‬سمة‭ ‬متميزة‭ ‬جداً،‭ ‬له‭ ‬ألوان‭ ‬يختص‭ ‬بها‭ ‬وحده‮»‬،‭ ‬وبهذا‭ ‬الخبر‭ ‬التمهيدي‭ ‬تعقد‭ ‬الكاتبة‭ ‬مع‭ ‬قرائها‭ ‬عقداً‭ ‬تضمن‭ ‬فيه‭ ‬لهم‭ ‬المتعة‭ ‬والفائدة‭ ‬لما‭ ‬ستقدّمه‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬ومشاهدات‭ ‬وانطباعات‭ ‬عن‭ ‬رحلتها‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭.     

 

أسلوب‭ ‬جديد

يظن‭ ‬قارئ‭ ‬افتتاحية‭ ‬رحلة‭ ‬ريجيس‭ ‬ذات‭ ‬الانطباع‭ ‬السلبي،‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬ستسير‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬عامة‭ ‬الكتاب‭ ‬الرحالين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬الذين‭ ‬اعتمدوا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الصريح‭ ‬في‭ ‬الحط‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬الجزائر‭ ‬والجزائريين،‭ ‬والرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬فرنسي‭ ‬وغربي‭ ‬أوربي،‭ ‬لكنه‭ ‬سيفاجأ‭ ‬بالأسلوب‭ ‬الجديد‭ ‬الملتوي‭ ‬الذي‭ ‬اتبعته‭ ‬الكاتبة،‭ ‬لأنها‭ ‬بدأت‭ ‬رحلتها‭ ‬باستهجان‭ ‬منجزات‭ ‬الهندسة‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬المدن‭ ‬الجزائرية،‭ ‬وإعطائها‭ ‬الطابع‭ ‬الغربي،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬بنايات‭ ‬مدينة‭ ‬فيليب‭ ‬فيل‭ ‬غير‭ ‬ممتعة،‭ ‬ولا‭ ‬توحي‭ ‬بذكاء‭ ‬مصمميها؛‭ ‬إذ‭ ‬بدت‭ ‬لها‭ ‬معاندة‭ ‬لطبيعة‭ ‬الأرض،‭ ‬ولشمس‭ ‬الجزائر‭ ‬الحارقة،‭ ‬وعدّت‭ ‬الرحالة‭ ‬مسعى‭ ‬المعمرين‭ ‬والمسؤولين‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬ملامح‭ ‬المدن‭ ‬وتغريبها‭ ‬عملاً‭ ‬أهوج‭ ‬وأخرق،‭ ‬ليس‭ ‬نابعاً‭ ‬عن‭ ‬تفكير‭ ‬أو‭ ‬ذكاء،‭ ‬وتفصل‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الأزقة‭ ‬الملتوية،‭ ‬والضيقة‭ ‬للمدن‭ ‬العربية،‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بدخول‭ ‬الرياح‭ ‬والأتربة‭ ‬وحرارة‭ ‬الشمس‭ ‬للمنازل،‭ ‬وحتى‭ ‬النوافذ‭ ‬النادرة‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬الخارج‭ ‬مخطط‭ ‬لها‭ ‬بطريقة‭ ‬عبقرية،‭ ‬تضمن‭ ‬حماية‭ ‬السكان‭ ‬من‭ ‬رياح‭ ‬الجنوب‭ (‬السيروكو‭)‬‮»‬‭.  

وتظهر‭ ‬الرحالة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ميّالة‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬الجزائري،‭ ‬وإلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬محلي‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬لم‭ ‬تصبه‭ ‬اليد‭ ‬الأجنبية‭ ‬بالتبديل،‭ ‬فتقدّم‭ ‬انطباعاً‭ ‬حسناً‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬قسنطينة،‭ ‬التي‭ ‬وجدتها‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬حتى‭ ‬سنة‭ ‬سفرها‭ ‬إليها‭ ‬تحافظ‭ ‬عموماً‭ ‬على‭ ‬طابعها‭ ‬المحلي،‭ ‬لكنها‭ ‬تأسف‭ ‬لكون‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬لن‭ ‬تدوم‭ ‬طويلاً،‭ ‬لأن‭ ‬مشاريع‭ ‬إنجاز‭ ‬أحياء‭ ‬أوربية،‭ ‬وتهديم‭ ‬البيوت‭ ‬العربية،‭ ‬بدأت‭ ‬تأخذ‭ ‬مجراها‭ ‬الصحيح‭ ‬والسريع‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وهو‭ ‬المسعى‭ ‬الذي‭ ‬عدّته‭ ‬الكاتبة‭ ‬متسرعاً،‭ ‬وغير‭ ‬موفق؛‭ ‬إذ‭ ‬ستفقد‭ ‬قسنطينة‭ ‬زوّارها‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الصحراء‭ ‬الميسورين،‭ ‬وشيوخ‭ ‬القبائل‭ ‬الجنوبية‭ ‬المعتادين‭ ‬على‭ ‬التنقل‭ ‬للإقامة‭ ‬في‭ ‬قسنطينة‭ ‬خلال‭ ‬فصل‭ ‬الصيف‭.‬

وقد‭ ‬يفهم‭ ‬القارئ‭ ‬لأول‭ ‬وهلة‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬تتحسر‭ ‬على‭ ‬افتقاد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الجزائريين‭ ‬للمدينة،‭ ‬وللطقس‭ ‬أقل‭ ‬قساوة‭ ‬من‭ ‬الطقس‭ ‬الصحراوي،‭ ‬لكنه‭ ‬سيكتشف‭ ‬سريعاً‭ ‬أنها‭ ‬تتحسر‭ ‬على‭ ‬الفائدة‭ ‬التي‭ ‬ستضيعها‭ ‬فرنسا‭ ‬بغياب‭ ‬شيوخ‭ ‬القبائل‭ ‬الصحراوية‭ ‬عن‭ ‬قسنطينة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬استفادت‭ ‬منهم‭ ‬طوال‭ ‬مدة‭ ‬غزوها‭ ‬للمدينة‭ ‬والعمالة،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مدّها‭ ‬بالمعلومات‭ ‬الثمينة‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬أطرافها،‭ ‬وهنا‭ ‬تكشف‭ ‬الرحالة‭ ‬عن‭ ‬نواياها‭ ‬الحقيقية‭ ‬عندما‭ ‬تبدي‭ ‬ارتياحها‭ ‬للمساعدات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شيوخ‭ ‬القبائل‭ ‬والزوايا‭ ‬تقدمها‭ ‬لفرنسا‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬البلاد،‭ ‬وتستطرد‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬أسماء‭ ‬الشيوخ‭ ‬المتعاونين،‭ ‬وأثرهم‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬موقف‭ ‬الأهالي‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬الفرنسي‭ ‬ببلادهم،‭ ‬ونبّهت‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬مكافأتهم‭ ‬وترقيتهم‭ ‬بسبب‭ ‬خدماتهم‭ ‬الجليلة‭ ‬لفرنسا‭.‬

 

مظهر‭ ‬متميز

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬استطرادات‭ ‬الرحالة،‭ ‬حاولت‭ ‬ريجيس‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وفيّة‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬لطابع‭ ‬التأليف‭ ‬الرّحلي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬تعداد‭ ‬مراحل‭ ‬التنقل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ووصف‭ ‬أهم‭ ‬المشاهدات‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬السير،‭ ‬وعليه‭ ‬تناولت‭ ‬بالوصف‭ ‬أماكن‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬عمالة‭ ‬قسنطينة‭ ‬كالقنطرة،‭ ‬وسيدي‭ ‬راشد،‭ ‬والحامة،‭ ‬والكدية،‭ ‬والسكوار‭ (‬مستراح‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭)‬،‭ ‬والرحبة،‭ ‬والمقبرة‭ ‬العربية،‭ ‬والحي‭ ‬العربي،‭ ‬وقرية‭ ‬صالح‭ ‬باي‭ ‬الموجود‭ ‬فيها‭ ‬منزله،‭ ‬وقبره،‭ ‬والحديقة،‭ ‬وميلة،‭ ‬وعين‭ ‬الكرمة،‭ ‬وواد‭ ‬الكبير،‭ ‬وباتنة،‭ ‬وبسكرة،‭ ‬كما‭ ‬وصفت‭ ‬معالم‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬كقصر‭ ‬الباي‭ ‬أحمد،‭ ‬والكاتدرائية،‭ ‬والمدرسة‭ ‬العربية‭ ‬لتعليم‭ ‬الشريعة‭.   

وقد‭ ‬مهدّت‭ ‬الكاتبة‭ ‬لوصفها‭ ‬لما‭ ‬شاهدته‭ ‬في‭ ‬قسنطينة‭ ‬بعبارات‭ ‬مغرية‭ ‬للقراء‭: ‬‮«‬فقسنطينة‭ ‬منذ‭ ‬النظرة‭ ‬الأولى‭ ‬تفوق‭ ‬بكثير‭ - ‬بفعل‭ ‬تفرّدها‭ ‬
وأصالتها‭ - ‬كل‭ ‬متوقع؛‭ ‬فهي‭ ‬تقدّم‭ ‬للأجنبي‭ ‬يومياً‭ ‬الجديد‭ ‬والحيوي‭ ‬دائماً‭ ‬عمّا‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مسائل‭ ‬اهتمامه،‭ ‬وما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬هو‭ ‬مظهرها‭ (‬قسنطينة‭) ‬العربي‭ ‬المتميز‭ ‬لمدينة‭ ‬تنتمي‭ ‬لفرنسا‭ ‬منذ‭ ‬1837‮»‬‭.‬

وبعبارات‭ ‬شعرية‭ ‬جذابة،‭ ‬وصفت‭ ‬مناظر‭ ‬الخضرة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬القنطرة‭: ‬‮«‬أول‭ ‬مرحلة‭ ‬تشاهد‭ ‬فيها‭ ‬الطبيعة‭ ‬المشرقية‭ ‬حقا‮»‬،‭ ‬ومدينة‭ ‬بسكرة‭ (‬مدخل‭ ‬الصحراء‭) ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬تستشف‭: ‬‮«‬الحياة‭ ‬الإقطاعية‭ ‬للعربي‭ ‬مقابل‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬والطبيعة‭ ‬بحلْيتها‭ ‬الطبيعية‭ ‬بجانب‭ ‬الحدائق‭ ‬التي‭ ‬صفت‭ ‬بأيدي‭ ‬الكولون‭ (‬المعمّرين‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬بسكرة‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‮»‬‭.‬

 

الإنسان‭ ‬الجزائري‭ ‬

أما‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬الإنسان،‭ ‬فإن‭ ‬ريجيس‭ ‬تصنّف‭ ‬الجزائريين‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الفئات‭ ‬المظلومة‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬لم‭ ‬يحسن‭ ‬الفرنسيون‭ ‬فهمهم،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬اجتهدت‭ ‬في‭ ‬إعطائهم‭ ‬العذر‭ ‬كلما‭ ‬سجلت‭ ‬ظاهرة‭ ‬سلبية‭ ‬فيهم،‭ ‬والأنديجان‭ ‬الجزائري‭ ‬حسب‭ ‬الكاتبة‭ ‬متدين،‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬ديناً‭ ‬آخر‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬الإسلام،‭ ‬الذي‭ ‬بلّغه‭ ‬محمد‭ [ ‬للعرب،‭ ‬وهم‭ ‬مكرّمون‭ ‬به،‭ ‬فإن‭ ‬تخلوا‭ ‬عنه‭ ‬أذلهم‭ ‬الله،‭ ‬ولذلك‭ ‬رأت‭ ‬الكاتبة‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يرفض‭ ‬هؤلاء‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬أوربا‭ ‬واعتناق‭ ‬ديانتها،‭ ‬ما‭ ‬داموا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بهذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬إعجابها‭ ‬بصوت‭ ‬المؤذن،‭ ‬وكذلك‭ ‬بإخلاص‭ ‬الأنديجان‭ ‬لدينهم؛‭ ‬فهم‭ ‬يجتمعون‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬لأداء‭ ‬الصلوات‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬تام،‭ ‬ويكونون‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬أوفر‭ ‬عدداً،‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬حتى‭ ‬بالوافدين‭ ‬على‭ ‬المسجد‭ ‬من‭ ‬الأجانب،‭ ‬وهم‭ ‬يؤدون‭ ‬شعائرهم‭ ‬الدينية،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تأسفت‭ ‬لحرمان‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬المساجد‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬باستثناء‭ ‬عين‭ ‬ماضي‭.‬

 

طقوس‭ ‬مخيفة

وأكدت‭ ‬لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬نفاه‭ ‬رحالون‭ ‬سابقون،‭ ‬إذ‭ ‬قالت‭ ‬إن‭ ‬العربي‭ ‬–‭ ‬وتقصد‭ ‬المسلم‭ ‬الجزائري‭ - ‬دائم‭ ‬النظافة،‭ ‬وأسنانه‭ ‬بيضاء،‭ ‬يكفلهما‭ ‬له‭ ‬الوضوء‭ ‬لأداء‭ ‬الصلوات‭ ‬الخمس‭ ‬يومياً،‭ ‬وهو‭ ‬يعمل‭ ‬بما‭ ‬يُنصح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬دينه‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬المبالغة،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يتوانى‭ ‬في‭ ‬الركوع‭ ‬والسجود‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬بعد‭ ‬نزع‭ ‬نعليه،‭ ‬ولا‭ ‬يستحي‭ ‬من‭ ‬المارة،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬الأجانب‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يظهرون‭ ‬تبسماً‭ ‬استهزائياً‭ ‬حيال‭ ‬تلك‭ ‬المناظر‭.‬

ويظهر‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الكاتبة‭ ‬ريجيس‭ ‬رجالاً‭ ‬بسطاء‭ ‬وكرماء،‭ ‬حيث‭ ‬حظيت‭ ‬بضيافة‭ ‬عدد‭ ‬منهم،‭ ‬وبخاصة‭ ‬شيوخ‭ ‬القبائل،‭ ‬والقادة،‭ ‬وهم‭ ‬أيضاً‭ ‬ذوو‭ ‬أخلاق‭ ‬وعادات‭ ‬حسنة،‭ ‬تُستشف‭ ‬من‭ ‬حرارة‭ ‬لقاءاتهم،‭ ‬وتواضعهم،‭ ‬ولهم‭ ‬عزة‭ ‬نفس،‭ ‬لكنهم‭ ‬يحترمون‭ ‬المراتب‭ ‬والطبقات،‭ ‬يبدون‭ ‬احتراماً‭ ‬شديداً‭ ‬لكبار‭ ‬السن،‭ ‬ووقاراً‭ ‬لرجال‭ ‬الدين‭ ‬والعلم،‭ ‬والمرابطين‭ ‬والصالحين،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬ولحث‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬معاملة‭ ‬أهل‭ ‬الكتاب،‭ ‬يحترم‭ ‬الأهالي‭ ‬أيضاً‭ ‬الكهنة‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭ ‬المسيحيين،‭ ‬وتستثني‭ ‬فئة‭ ‬العيساوة،‭ ‬الذين‭ ‬وجدتهم‭ ‬غريبي‭ ‬الأطوار،‭ ‬لهم‭ ‬طقوس‭ ‬مخيفة،‭ ‬وغير‭ ‬ملتزمين‭ ‬بدينهم،‭ ‬مهملين‭ ‬لصلواتهم،‭ ‬يعيشون‭ ‬حياة‭ ‬كسل،‭ ‬ولهو،‭ ‬يتعاطون‭ ‬‮«‬الحشيش‮»‬،‭ ‬ويتمددون‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬والشوارع‭ ‬نصف‭ ‬أموات‭ ‬بسبب‭ ‬مفعول‭ ‬تلك‭ ‬المخدرات،‭ ‬وترجع‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬أصولهم‭ ‬المغربية،‭ ‬فتفصل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جدهم‭ ‬الأول،‭ ‬وأتباعه‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصى،‭ ‬وسبب‭ ‬توزعهم‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬الجزائر‭ ‬وتونس‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭.‬

كما‭ ‬تنتقد‭ ‬الكاتبة‭ ‬فئة‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمانع‭ ‬من‭ ‬الجلوس‭ ‬بجانب‭ ‬الدكاكين،‭ ‬ومراقبة‭ ‬المارة،‭ ‬والزبائن،‭ ‬وخوض‭ ‬الكلام‭ ‬الفارغ،‭ ‬وحتى‭ ‬القول‭ ‬بالنميمة،‭ ‬وعدم‭ ‬استغلال‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬المطالعة‭ ‬مثلا،‭ ‬ولاحظت‭ ‬كذلك‭ ‬ذلك‭ ‬التمييز‭ ‬الذي‭ ‬يحس‭ ‬به‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬الابن‭ ‬والبنت،‭ ‬فولادة‭ ‬أنثى‭ ‬هي‭ ‬أقل‭ ‬إثارة‭ ‬للفرحة‭ ‬في‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬ولادة‭ ‬ذكر،‭ ‬وتعلل‭ ‬ذلك‭ ‬بالطبيعة‭ ‬المحاربة‭ ‬للعربي،‭ ‬حيث‭ ‬يعد‭ ‬مجيء‭ ‬ولد‭ ‬عنده‭ ‬حدثاً‭ ‬سعيداً،‭ ‬لأنه‭ ‬مصدر‭ ‬قوة‭ ‬وسيطرة‭. ‬

 

بين‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬وقسوتها

تسجل‭ ‬لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬ظاهرة‭ ‬جمال‭ ‬المرأة‭ ‬القسنطينية،‭ ‬وتهجو‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬المرأة‭ ‬اليهودية،‭ ‬وهنا‭ ‬نلاحظ‭ ‬التناقض‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬كتاب‭ ‬الرحلات‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬الذين‭ ‬نفى‭ ‬أكثرهم‭ ‬وجود‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭.‬

لقد‭ ‬انبهرت‭ ‬الرحالة‭ ‬بجمال‭ ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬اللواتي‭ ‬صادفتهن‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬قسنطينة،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬القنطرة‭ ‬المعروفة‭ ‬خصوصاً‭ ‬بجمال‭ ‬نسائها،‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬إحدى‭ ‬النساء‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬تركتنا‭ ‬تقريبا‭ ‬مشدوهين‭ ‬لجمالها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يضاهى،‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬لون‭ ‬بشرة‭ ‬أبيض‭ ‬شفيفاً،‭ ‬وكأنه‭ ‬رخام‭ ‬جزيرة‭ ‬باروس‭ ‬اليونانية‭ (‬الشديد‭ ‬البياض‭ ‬والشفافية‭)‬،‭ ‬لها‭ ‬أنف‭ ‬صغير‭ ‬يوناني،‭ ‬وعينان‭ ‬متناسقتان‭ ‬مع‭ ‬ابتسامة‭ ‬شبيهة‭ ‬بابتسامة‭ ‬جيوكاندا‭ ‬اللوفر،‭ ‬ورقيقتان‭ ‬مجعدتان‭ ‬قليلاً،‭ ‬مزينتان‭ ‬بتسريحة‭ ‬شعر‭ ‬لطيفة،‭ ‬فوقهما‭ ‬رموش‭ ‬بنية،‭ ‬فم‭ ‬صغير‭ ‬كأنه‭ ‬مرسوم‭ ‬بريشة‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التحرر،‭ ‬شفتان‭ ‬ورديتان،‭ ‬رقيقتان‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬مبالغة،‭ ‬وذقن‭ ‬مع‭ ‬أسفل‭ ‬وجه‭ ‬أكثر‭ ‬ضيقاً‭ ‬من‭ ‬جبهتها‭ ‬العريضة‭ ‬تنضم‭ ‬لتلك‭ ‬اللوحة‭ ‬الأكثر‭ ‬نقاء،‭ ‬ولها‭ ‬قامة‭ ‬متوسطة‭ ‬ورشاقة‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬الطيات‭ ‬الواسعة‭ ‬للحاف‭ (‬الملحفة‭ ‬القسنطينية‭) ‬المشدودة‭ ‬إلى‭ ‬كتفيها‭ ‬بمشابك‭ ‬فضية‭ ‬منقوشة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬خضاب‭ ‬ليصبح‭ ‬جمالها‭ ‬العفوي‭ ‬مذهلا‮»‬‭.‬

‭ ‬

أعباء‭ ‬ثقيلة

وتميزت‭ ‬الكاتبة‭ ‬لويس‭ ‬ريجيس‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬مواطنيها‭ ‬الرحالين‭ ‬بملاحظة‭ ‬وجود‭ ‬شبه‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬البدوية‭ ‬والقرويات‭ ‬الفرنسيات‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬النشاط‭ ‬والعمل‭ ‬الدائم،‭ ‬ولعلها‭ ‬محاولة‭ ‬من‭ ‬الكاتبة‭ ‬لعقد‭ ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭ ‬ونظيرتها‭ ‬الفرنسية‭ ‬حتى‭ ‬تتحقق‭ ‬مساعي‭ ‬الإدماج‭.‬

وإن‭ ‬كانت‭ ‬الرحالة‭ ‬قد‭ ‬سجلت‭ ‬الجمال‭ ‬لدى‭ ‬القسنطينيات،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تخف‭ ‬نفورها‭ ‬من‭ ‬مظهر‭ ‬المرأة‭ ‬الصحراوية‭ ‬البعيد‭ ‬عن‭ ‬الأناقة‭ ‬والأنوثة،‭ ‬وأرجعت‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها،‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬مجبرة‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬وتناولت‭ ‬الكاتبة‭ ‬بشكل‭ ‬مفصل‭ ‬مسألة‭ ‬تهاون‭ ‬المجتمع‭ ‬الجزائري‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬المرأة،‭ ‬وتقييدها‭ ‬في‭ ‬الخروج،‭ ‬والسفر،‭ ‬وهنا‭ ‬تقدّم‭ ‬لنا‭ ‬الصورة‭ ‬المقابلة‭ ‬للمرأة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬زمن‭ ‬الرحلة،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬متحررة،‭ ‬مثقفة‭ ‬ومتعلمة،‭ ‬منخرطة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬لكن‭ ‬الكاتبة‭ ‬أظهرت‭ ‬أسفها‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬لأنها‭ ‬حُمّلت‭ ‬أعباء‭ ‬ثقيلة‭ ‬أصبحت‭ ‬لا‭ ‬تقوى‭ ‬عليها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بالغ‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أمور‭ ‬الحياة‭ ‬والأسرة،‭ ‬وهنا‭ ‬توصي‭ ‬بالتعقل‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬فيما‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬المرأة‭ ‬الغربية،‭ ‬فالواجب‭ ‬تعليمها‭ ‬بعض‭ ‬أساليب‭ ‬الخياطة‭ ‬والطرز‭ ‬والحياكة‭ ‬الحديثة‭ ‬لتستطيع‭ ‬إفادة‭ ‬أسرتها‭ ‬وربما‭ ‬توفير‭ ‬دخل‭ ‬بسيط‭ ‬لها،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬تستنتج‭ ‬أن‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬يشتركن‭ ‬في‭ ‬شيئين،‭ ‬هما‭: ‬نبل‭ ‬القلب،‭ ‬وعاطفة‭ ‬الأمومة‭. ‬

    ‬من‭ ‬ملاحظات‭ ‬ريجيس‭ ‬الدقيقة‭ ‬مسألة‭ ‬احترام‭ ‬الأنديجان‭ ‬العرب‭ ‬لموتاهم‭ ‬لدرجة‭ ‬السماح‭ ‬لنسائهم‭ ‬بزيارة‭ ‬المقابر‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬فحتى‭ ‬النساء‭ ‬المحجبات‭ ‬تجدهن‭ ‬يخرجن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬الخادمات،‭ ‬راكبات‭ ‬على‭ ‬الحمير‭ ‬والدواب،‭ ‬برغم‭ ‬قصر‭ ‬المسافة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬للعرب‭ ‬طقوساً‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الدفن‭ ‬والتأبين،‭ ‬وتأسف‭ ‬لعدم‭ ‬احترام‭ ‬المعمرين‭ ‬لمقابر‭ ‬المسلمين،‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يتحرجون‭ ‬من‭ ‬إزالة‭ ‬مقبرة‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬ضمن‭ ‬مخططاتهم‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬طرق‭ ‬أو‭ ‬مستعمرات‭ ‬جديدة‭.‬

وتقف‭ ‬الكاتبة‭ ‬موقف‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬الأنديجان‭ ‬العرب‭ - ‬ضمن‭ ‬مشروع‭ ‬التنصير‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التعليم‭ - ‬فتتمنى‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الجزائري‭ ‬يغتنم‭ ‬الفرصة‭ ‬ويتقرب‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬فرنسا‭ ‬التعليمية،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬أقل‭ ‬ذكاء‭ ‬من‭ ‬الأوربي،‭ ‬لكنه‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭: ‬‮«‬من‭ ‬جنس‭ ‬محارب،‭ ‬وطبعاً‭ ‬مستغرق‭ ‬في‭ ‬تأمله‭ ‬الديني،‭ ‬ولذلك‭ ‬فلن‭ ‬يندمج‭ ‬معنا‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مجهودات‭ ‬قوية،‭ ‬وبقرار‭ ‬حاسم‭ ‬سيكلفه‭ ‬الكثير،‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬دخول‭ ‬مجرى‭ ‬الحياة‭ ‬والكينونة‭ ‬الأوربية‮»‬‭.‬

لكنها‭ ‬بحثت‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬قلة‭ ‬إقبال‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬الدراسة،‭ ‬فرأت‭ ‬أن‭ ‬المشكل‭ ‬واقع‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬الحكومة‭ ‬ذاتها،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تفتح‭ ‬أمامهم‭ ‬أبواباً‭ ‬واسعة‭ ‬للعمل‭ ‬والوظائف،‭ ‬فليس‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬أربع‭ ‬مراتب‭: ‬قايد،‭ ‬أو‭ ‬قاض،‭ ‬أو‭ ‬شيخ،‭ ‬أو‭ ‬صبايحي،‭ ‬ولعله‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬سبب‭ ‬ترك‭ ‬هذه‭ ‬الوظائف‭ ‬للجزائري،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬جميعها‭ ‬تخدم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬والسياسة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬فالقايد‭ ‬حامي‭ ‬أراضي‭ ‬المعمرين،‭ ‬والقاضي‭ ‬المتخرج‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬فرنسا‭ ‬الثلاث،‭ ‬سيحكم‭ ‬بما‭ ‬ترتضيه‭ ‬هي‭ ‬لا‭ ‬بما‭ ‬يرتضيه‭ ‬دينه،‭ ‬والشيخ‭ ‬يوجه‭ ‬قبيلته‭ ‬نحو‭ ‬السلم‭ ‬والمصالحة،‭ ‬والصبايحي‭ ‬يعين‭ ‬على‭ ‬إرساء‭ ‬قواعد‭ ‬الأمن‭ ‬والطاعة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭.‬

 

نظرة‭ ‬على‭ ‬المشاريع

انتقدت‭ ‬لويس‭ ‬ماري‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬المعمرين،‭ ‬ووجدتها‭ ‬غير‭ ‬صالحة،‭ ‬كمشروع‭ ‬الصحراء‭ ‬الداخلية،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تقتنع‭ ‬به‭ ‬الكاتبة،‭ ‬فبيّنت‭ ‬عيوبه،‭ ‬ومخاطره،‭ ‬كما‭ ‬استهجنت‭ ‬هدم‭ ‬البيوت‭ ‬العربية‭ ‬والمورسكية‭ ‬التي‭ ‬وصفتها‭ ‬بالشاعرية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬متقنة‭ ‬وغير‭ ‬عملية‭ ‬كالبيوت‭ ‬الأوربية،‭ ‬لأنها‭ ‬تجد‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬مضيعاً‭ ‬للمميزات‭ ‬الخاصة‭ ‬للبلد،‭ ‬ولألوانه‭ ‬الأصيلة،‭ ‬كما‭ ‬عابت‭ ‬على‭ ‬المعمرين‭ ‬إكثارهم‭ ‬من‭ ‬المشاريع‭ ‬دون‭ ‬إكمالها،‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬البلد‭ ‬فتي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فتدعوهم‭ ‬إلى‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬القليل‭ ‬وإنجازه‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬تستعير‭ ‬لإقناع‭ ‬المعمرين‭ ‬بكلامها‭ ‬أبياتاً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬للشاعر‭ ‬لافونتين،‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬

‮«‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحيل‭ ‬قد‭ ‬تفسد‭ ‬الصفقة‭ ‬نضيع‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬الاختيار،‭ ‬نبادر،‭ ‬ونريد‭ ‬فعل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ليكن‭ ‬عندنا‭ ‬شيء‭ ‬واحد‭ ‬فقط،،‭ ‬لكنّه‭ ‬جيد‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬المقابل‭ ‬استحسنت‭ ‬مشاريع‭ ‬إنشاء‭ ‬سكك‭ ‬حديدية‭ ‬للنـــــقل‭ ‬البري،‭ ‬لأنهــــا‭ ‬هي‭ ‬الكفيل‭ ‬بتطوير‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬والسياحة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬ورأت‭ ‬أن‭ ‬سياسة‭ ‬التعمير‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬وصبر،‭ ‬وأن‭ ‬رغبة‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬مؤسسة‭ ‬قوية‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة‭ ‬أمر‭ ‬خطير،‭ ‬وقد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬عكسية،‭ ‬وقدمت‭ ‬المثــــــال‭ ‬والعبرة‭ ‬بالــــــقرطاجيـــــين‭ ‬الذين‭ ‬احتاجوا‭ ‬إلى‭ ‬مئتي‭ ‬سنة،‭ ‬والرومان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئتين‭ ‬سنة‭ ‬ليضعوا‭ ‬القواعد‭ ‬الصلبة‭ ‬للتعمير‭.‬

ويشكل‭ ‬مقطع‭ ‬توديع‭ ‬الرحالة‭ ‬لقسنطينة‭ ‬مفارقة‭ ‬مع‭ ‬مقطع‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الساحل‭ ‬الجزائري،‭ ‬فقد‭ ‬أبدعت‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬محاسن‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬لها‭ ‬وكأنه‭ ‬قد‭ ‬تزين‭ ‬بمظاهر‭ ‬الحسن‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬حتى‭ ‬ينال‭ ‬إعجابها،‭ ‬وحتى‭ ‬يترك‭ ‬فيها‭ ‬ذكريات‭ ‬حية‭ ‬وجميلة‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الهواء‭ ‬صافياً‭ ‬لدرجة‭ ‬عجيبة،‭ ‬وهذه‭ ‬اللوحة‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬قسنطينة‭ ‬جالسة‭ ‬على‭ ‬صخرتها‭ ‬العظيمة،‭ ‬مع‭ ‬القنطرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬المؤدية‭ ‬إليها،‭ ‬والنخلة‭ ‬التي‭ ‬نبتت‭ ‬قرب‭ ‬بابها‭ ‬الكبير‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬تغطت‭ ‬بطبقة‭ ‬طلاء‭ ‬برّاق،‭ ‬الشمس‭ ‬مضيئة‭ ‬والحرارة‭ ‬ناعمة،‭ ‬والنهار‭ ‬يعلن‭ ‬بأنه‭ ‬سيكون‭ ‬جميلا‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬القطار‭ ‬القاسي‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬السير‮»‬‭.‬

وأخيراً،‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الكاتبة‭ ‬لويس‭ ‬ماري‭ ‬ريجيس‭ ‬ظهرت‭ ‬بوجه‭ ‬عطوف‭ ‬على‭ ‬الجزائريين،‭ ‬وقدّمت‭ ‬انطباعاتها‭ ‬بأسلوب‭ ‬شاعري‭ ‬متميز‭ ‬عما‭ ‬ألفناه‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الرحلة‭ ‬الفرنسية‭ ‬المعاصرة‭ ‬لها،‭ ‬لكنها‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬انخرطت‭ ‬ضمن‭ ‬مساعي‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬الجزائريين،‭ ‬إذ‭ ‬فرّقت‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬وقبائل‭ ‬البربر،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬إخفاء‭ ‬وطنيتها،‭ ‬أو‭ ‬النزعة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬التضحية‭ ‬بأحلام‭ ‬بلدها‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭  ■