مكانة اللغة العربية في الدولة العثمانية
حظيت اللغة العربية بمكانة كبيرة في الدولة العثمانية كلغة للتأليف والتدريس، وظلت محافظة على تلك المكانة دون أن تنافسها أو تنازعها لغة أخرى في هذا المجال، بما فيها اللغة التركية لغة تلك الدولة. والواقع أن اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم، قد احتلت المرتبة الأولى في جهود التأليف والتدريس في المدرسة العثمانية، وأصبحت لغة التعليم بها، كما أن المقررات الدراسية خصصت بشكل كبير لدروس اللغة العربية، التي تحولت إلى شرط أساسي للحياة الدراسية العثمانية بكاملها.
بلغت اللغة العربية تلك المكانة العالية في المدارس الإسلامية عامة والمدرسة العثمانية بخاصة، لأن الغاية الأساسية للتعليم في تلك الفترة كانت هي تعليم المجتمع الشريعة الإسلامية بكل جوانبها، لذا كان من الطبيعي أن تكون اللغة العربية هي لغة المؤسسات التعليمية التي تعد وتخرج الفقهاء والقضاة والمدرسين الذين يتولون العمل في مفاصل الدولة المختلفة. ولأن الفقه في الإسلام يستمد أحكامه من القرآن الكريم والسنة، لذا كان يلزم لدراسته الإلمام الجيد باللغة العربية، للاستفادة من هذه المصادر بشكل مباشر، بذلك احتلت اللغة العربية موقعًا مهمًا بين علوم الآلة وهي علوم الكلام والمنطق والبلاغة، والهيئة والفلسفة، والتاريخ، والجغرافيا، والنحو، والصرف والحساب، وكانت تلك تعد الطالب وتؤهله لدراسة علوم القرآن والتفسير والحديث، والفقه، وهي العلوم المعروفة باسم العلوم العالية.
ولم تحظ اللغة التركية ولا الفارسية بالاهتمام في تلك المدارس، وإن وجدت اللغة التركية مكانًا لها في مكاتب الصبيان الخاصة بتعليم الأطفال، وهي مدارس كانت تشبه الكتاتيب التي عرفها العالم العربي لفترة طويلة. كما أن اللغة التركية قد استخدمت في التعليم الشفهي، وفي تدريس تلك المواد التي كُتبت أساساً باللغة العربية.
ويكفي أن نلقي نظرة على أسماء الكتب الخاصة باللغة العربية التي كانت تدرس في المدارس العثمانية ــ دون ذكر للكتب الأخرى الخاصة بعلوم التفسير والفقه والمنطق وعلم الكلام المكتوبة هي أيضًا باللغة العربية ــ لنعرف مدى عظم الاهتمام الذي حظيت به تلك اللغة في الدولة العثمانية، فالطالب في مراحل التعليم الأولى كان يدرس في الصرف كتب «المقصود» «وعزى» «ومراح الأرواح». وفي النحو يدرس كتب «العوامل» و«المصباح» و«الكافية»، و«ألفية بن مالك». وفي المرحلة المتوسطة كان الطالب يدرس كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي و«الكافية» في النحو لابن حاجب.
لغة التعليم
وقد تمتعت اللغة العربية بتلك المكانة الكبيرة في الدولة العثمانية، حتى قبل أن تدخل الولايات العربية تحت الحكم العثماني، فالتعليم كانت له تقاليد وطرائق ومؤسسات متشابهة في كل الولايات العربية قبل دخول الحكم العثماني إليها، ولم تكن تلك التقاليد تختلف في الواقع عما كانت عليه في أراضي الدولة العثمانية نفسها، لأن التعليم كان دينياً بالدرجة الأولى، كما أن الدولة العثمانية كانت دولة إسلامية تماثل بنيتها الفكرية البنية الفكرية للولايات العربية التي دخلت في حوزتها.
أيضًا على مستوى اللغة لم تكن اللغة العربية غريبة عن البنية الفكرية للدولة العثمانية، بل كانت تدخل في صلب التعليم في المدارس العثمانية ذاتها. وقد ظلت الدولة العثمانية حريصة على عدم التدخل في شؤون التعليم في الولايات العربية التي دخلت تحت حكمها، ولم تحاول أن تجعل اللغة التركية لغة رسمية في تلك الولايات، ومن ثم بقيت اللغة العربية هي لغة التعليم في الولايات العربية خلال هذه المرحلة، وكان على العلماء العثمانيين المرسلين إلى الولايات العربية أن يعلّموا ويدرّسوا بتلك اللغة.
وقد أصبحت اللغة العربية هي لغة العلم في الدولة العثمانية حتى أن حاجي باشا (ت 819هـ/1417م) اعتذر في مقدمة كتابه «التسهيل» الذي يتعلق بعلم الطب والذي رتبه على ثلاثة أقسام: الأول في الطب النظري والعملي، والثاني في الأغذية والأشربة والأدوية، والثالث في أسباب الأمراض وعلاماتها، وأبدى أسفه لأنه كتب ذلك الكتاب باللغة التركية حتى يفهمه كل أفراد الشعب، ولم يكتبه باللغة العربية لغة العلم في ذلك الوقت.
ولم يقتصر الأمر على الفترة الأولى من عمر الدولة العثمانية، فقد ظلــــت اللغة العربية تحتفظ بتلك المكانة الكبيرة كلغة للعلم في فترات تالية، فقد ظهر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثلاثمائة وخمسة وعشرون كتاباً في الفلك، وضعها عدد من علماء الدولة العثمانية، منها مئتان وسبعة كتب باللغة العربية وحدها، وستة وستون باللغة التركية، واثنان وخمسون باللغة الفارسية. وفي مجال الرياضيات ظهر ستة وأربعون كتاباً منها اثنان وأربعون باللغة العربية، وأربعة فقط باللغة التركية.
كما أن كثيراً من العلماء العثمانيين قد قدموا إسهامات وإضافات مهمة إلى التراث المكتوب باللغة العربية، ولعل من أشهرهم أحمد بن مصطفى طاشكوبري زاده (901-968هـ/ 1495-1561م)، قد كتب جميع أعماله باللغة العربية التي يحار المرء من دقتها وبلاغتها مع كون مؤلفها ليس عربي الأصل.
وقد ترك طاشكوبري زاده تراثًا ضخمًا من المؤلفات ما بين مطبوع ومخطوط في مجالات كثيرة، مثل السياسة وعلم الكلام والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والفقه واللغة والتصوّف والتفسير وتصنيف العلوم والتاريخ، وغيرها، كلها باللغة العربية، منها مؤلفات تعد متفردة في بابها مثل: كتاب «الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية» (مطبوع)، وكتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» (مطبوع)، وكتاب «نوادر الأخبار في مناقب الأخيار» (مخطوط). كما جاءت بعض مؤلفاته في صميم علوم اللغة العربية، مثل: «الإنصاف في مشاجرة الأسلاف في اجتماع الاستعارتين التمثيلية والتبعية وعدمه» (مطبوع)، و«مفتاح الإعراب» (مخطوط)، و«رسالة العناية في تحقيق الاستعارة والكناية» (مخطوط). وهناك أيضًا شيخ الإسلام أبو السعود أفندي الذي ترك مؤلفات باللغة العربية لعل من أهمها تفسير القرآن الكريم المسمى «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم».
وهناك أيضًا كاتب جلبي أو حاجي خليفة الذي ترك كتابًا باللغة العربية من أهم الكتب في بابه وهو كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون».
وقد ظل اهتمام العثمانيين باللغة العربية دون انقطاع حتى أواخر القرن التاسع عشر، فالسلطان عبدالحميد الثاني أدخل اللغة العربية على مناهج الدراسة في المدارس المدنية، وشجع استخدام اللغة العربيـــــة في المجالات الثقافـــية والإدارية، وحاول أن يجعل اللغة العربية فــــي مركــــز مساوٍ للغة التركية كلغة رسمية للدولة يشهد على ذلـــــك أن أول كتاب أُلف في البلاغة التركية كان قد ظهر في هذا القرن التاسع عشر، وكان ذلك على يد سعيد باشا الديار بكري (ت 1309 هـ/1891م)، والذي ألف كتاباً أسماه «مـــيزان الأدب»، في حين أن كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي في البلاغة العربية قد جرى تدريسه في المدارس العثمانية منذ نشأتها، حتى أن إحدى المدارس قد سميت باسمه وأطلق عليها مدارس المفتاح.
وفي الختام يمكن القول إن الادعاء بأن الدولة العثمانية قد سعت لفرض لغتها على العالم العربي الذي سيطرت عليه بداية من عام 922هـ/ 1516م لعدة قـــرون هو ادعاء كما أوضحنا فـــيما سبق لا يستند إلى حقائـــق تاريخية ثابتـــــة، بل ينطلــــق من تحيز واضح ضد كل ما قامت به تلك الدولة التي نجحت إلى حد بعيد في حماية العالم العربي، وصون مقدساته. كما أن الزعــــم بأن الـــــدولة العثمانية قد اتخذت إجراءات من شأنها منع الجهود العلمية في تلك الولايات هو تحليل سطحي لا يستند إلى أي أساس علمي، فهناك كثير من الدراسات الحديثة لمؤرخين جادين قامت بنقد السرديات المهيمنة على حد وصف الدكتورة نيللي حنا، وخلصت إلى أنه وإن كانت الولايات العربية تحت الحكم العثماني شهدت ضعفًا على المستويين العلمي والفكري في القرن السابع عشر، إلا أنه كان يحمل إرهاصات نهضة علمية وفكرية ما لبثت أن تشكلت في القرن الثامن عشر وتم خنقها مع مقدم الحملة الفرنسية أواخر ذلك القرن.
ويبقى أن الدولة العثمانية كانت تجربة بشرية لا تخلـــو من أخطاء, ولكن أن يقتــــرن بها كـــــل ما هو سلبي فهذا أمر يخالف الإنصاف التاريخي والعلمي اللذين يليقان بالبحث العلمي المتجرد ■