في صحبة بنّاء البَشَر شيخ التربويين د.حامد عمار

في صحبة بنّاء البَشَر شيخ التربويين د.حامد عمار

لـــم‭ ‬يــكـــن‭ ‬شـــــيخ‭ ‬التربويين‭ ‬حامد‭ ‬عــمار‭ ‬مجرد‭ ‬سيرة‭ ‬فردية،‭ ‬ولكنه‭ ‬اختزل‭ ‬قرناً‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬عصراً‭ ‬بأكمــله‭ ‬امـــــتد‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً،‭ ‬وهو‭ ‬مسار‭ ‬مواز‭ ‬لمسار‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وكذلك‭ ‬الفنانين‭ ‬الكبيرين‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬اللذين‭ ‬أمسكا‭ ‬‮«‬محفوظ‮»‬‭ ‬بالقرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬بدايته‭ ‬إلى‭ ‬مشارف‭ ‬نهايته،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الإمداد‭ ‬الزمني‭ ‬لعمار‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬نظيره‭ ‬عند‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬بحيث‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬سيرة‭ ‬عصر‭ ‬لا‭ ‬رجل‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬كتابه‭ ‬حامد‭ ‬عمار‭ ‬‮«‬بناء‭ ‬البشر‮»‬‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬قنبلة‭ ‬انفجرت‭ ‬في‭ ‬الوسطين‭ ‬الثقافي‭ ‬والأكاديمي،‭ ‬جعلت‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يتولى‭ ‬دار‭ ‬الهلال‭ ‬ورئاسة‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬المصور‮»‬‭ ‬يصفه‭ ‬بأنه‭ ‬أهم‭ ‬كتاب‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وقتها،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬صاغ‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الشخصية‭ ‬الفهلوية‮»‬،‭ ‬ولاحقاً‭ ‬سوف‭ ‬يطور‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬إلى‭ ‬نمطين‭ ‬آخرين؛‭ ‬‮«‬الهباش‮»‬‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الانفتاح،‭ ‬و«البلطجي‮»‬‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬مبارك‭.‬

ولذا‭ ‬كان‭ ‬حامد‭ ‬عمار‭ ‬بناءً‭ ‬كبيراً‭ ‬للبشر،‭ ‬ومؤرخاً‭ ‬اجتماعياً‭ ‬يقارب‭ ‬عمل‭ ‬جمال‭ ‬حمدان‭ ‬وسيد‭ ‬عويس‭ ‬وجلال‭ ‬أمين‭ ‬وعبدالباسط‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬وأحمد‭ ‬أبوزيد‭ ‬وسمير‭ ‬نعيم‭ ‬وأحمد‭ ‬زايد‭ ‬وغيرهم‭.‬

وقد‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الجد‭ (‬عمار‭) ‬والحفيد‭ (‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭) ‬وشائج‭ ‬وصلات‭ ‬مكنتني‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ - ‬فكرياً‭ ‬وإنسانياً‭ - ‬وأن‭ ‬أشهد‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬عليه‭ ‬بصفتي‭ ‬الحفيد‭ ‬المريد،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يصفني‭ ‬دوماً‭.‬

وفيما‭ ‬يلي‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الرجل،‭ ‬القيمة‭ ‬والقامة،‭ ‬تمزج‭ ‬الفكري‭ ‬بالأكاديمي‭ ‬بالإنساني‭ ‬في‭ ‬ضفيرة‭ ‬واحدة‭. ‬

 

‭ (نهار‭ ‬داخلي‭)

في‭ ‬رحاب‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأهرام

ضمتنا‭ ‬قاعة‭ ‬الاحتفالات‭ ‬بمؤسسة‭ ‬الأهرام‭ ‬في‭ ‬الندوة‭ ‬التي‭ ‬نظمها‭ ‬القسم‭ ‬الديني،‭ ‬وأدارها‭ ‬الصديق‭ ‬فتحي‭ ‬أبوالعلا،‭ ‬وتحت‭ ‬إشراف‭ ‬الصديق‭ ‬سيد‭ ‬أبودومة،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬ونشرتها‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬‭ ‬على‭ ‬حلقات‭ ‬أربع‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬8‭ ‬إلى‭ ‬11‭/ ‬3‭ / ‬1992‭.‬

وقد‭ ‬ضمت‭ ‬الندوة‭ ‬شيخنا‭ ‬حامد‭ ‬عمار،‭ ‬
د‭. ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬محمود‭ (‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬الأسبق‭ ‬لمجمع‭ ‬البحوث‭ ‬الإسلامية‭)‬،‭ ‬د‭. ‬سعيد‭ ‬إسماعيل‭ ‬علي،‭ ‬أستاذ‭ ‬أصول‭ ‬التربية‭ ‬بجامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس،‭ ‬
د‭. ‬عبدالمجيد‭ ‬مطلوب‭ (‬حقوق‭ ‬عين‭ ‬شمس‭)‬،‭ ‬
د‭. ‬رفعت‭ ‬سيد‭ ‬أحمد،‭ ‬الباحث‭ ‬السياسي‭ ‬المعروف،‭ ‬وكاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭.‬

وكانت‭ ‬الندوة‭ ‬مخصصة‭ ‬لقضية‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تنشئة‭ ‬جيل‭ ‬عصري‭.‬

أشار‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬في‭ ‬مداخلته،‭ ‬التي‭ ‬استهل‭ ‬بها‭ ‬الندوة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أجيالاً‭ ‬ثلاثة‭ ‬تضمها‭ ‬القاعة‭: ‬جيله،‭ ‬وجيل‭ ‬تلاميذه،‭ ‬ثم‭ ‬جيل‭ ‬الأحفاد،‭ ‬وأشار‭ ‬إليّ‭.‬

ظلت‭ ‬تلك‭ ‬الروح،‭ ‬روح‭ ‬المجايلة‭ ‬وتشجيع‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الأجيال،‭ ‬سمة‭ ‬دائمة‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬وسلوك‭ ‬شيخنا،‭ ‬وتمثل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬عشرات‭ ‬الأسماء‭ ‬الشابة؛‭ ‬سواء‭ ‬بكتابة‭ ‬مقدمات‭ ‬كتبهم،‭ ‬أو‭ ‬المشاركة‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬الإشراف‭ ‬والمناقشة‭ ‬على‭ ‬الأطروحات‭ ‬الجامعية،‭ ‬وفتح‭ ‬الأبواب‭ ‬أمامهم‭ ‬للابتعاث‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬أو‭ ‬الدفع‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬المشاركة‭ ‬والعمل‭ ‬والقيادة،‭ ‬ويقدمهم‭ ‬إلى‭ ‬المسؤول‭ ‬التنفيذي،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬الوزير‭.‬

وشهدت‭ ‬كيف‭ ‬سعى‭ ‬وراء‭ ‬ابتعاث‭ ‬الزميلين‭ ‬د‭. ‬أشرف‭ ‬محرم،‭ ‬ود‭. ‬صفاء‭ ‬شحاتة،‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬يتابع‭ ‬تقدمهما‭ ‬هناك،‭ ‬وكيف‭ ‬تحصّل‭ ‬على‭ ‬مليوني‭ ‬جنيه‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬التعليم‭ ‬وقتها،‭ ‬د‭. ‬حسين‭ ‬كامل‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬لدعم‭ ‬مكتبات‭ ‬كليات‭ ‬تربية‭ ‬عين‭ ‬شمس‭ ‬والأزهر‭ ‬والقاهرة‭ ‬وحلوان،‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬أحدث‭ ‬المراجع‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬طلابه‭ ‬من‭ ‬معيدي‭ ‬القسم‭ ‬وباحثيه‭ ‬على‭ ‬نفقته‭ ‬أثناء‭ ‬سفره‭ ‬السنوي‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭. ‬

ولعل‭ ‬المرة‭ ‬الوحيدة‭ - ‬حسب‭ ‬علمي‭ - ‬التي‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬هي‭ ‬
د‭. ‬صفاء‭ ‬شحاتة،‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬رابع‭ ‬من‭ ‬أجيال‭ ‬تلاميذه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬قبل‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬قبل‭ ‬رحيله،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬المرشد‭ ‬الأمين‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬البنات‭ ‬والبنين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مرجع‭ ‬أساس‭ ‬لتعليم‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬قرن‭ ‬كامل،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنه‭ ‬نحت‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

وفي‭ ‬الندوة‭ ‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬قال‭ ‬شيخنا‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬التعليم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬عرفنا‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬المصري‭ ‬وماذا‭ ‬يريد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكون‭ ‬وظيفة‭ ‬التعليم‭ ‬تنمية‭ ‬تلك‭ ‬الطاقات‭ ‬والقدرات‭.‬

 

 

‭(‬نهار‭ ‬داخلي‭)‬

معهد‭ ‬البيئة‭ ‬بشارع‭ ‬الأصبغ‭ ‬بالزيتون

كانت‭ ‬الأطروحة‭ ‬الجامعية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬الإشراف‭ ‬عليها‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬بمقر‭ ‬معهد‭ ‬البيئة‭ ‬القديم‭ ‬بالزيتون،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬مقره‭ ‬الحالي‭ ‬برحاب‭ ‬جامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس‭ ‬في‭ ‬العباسية‭.‬

كانت‭ ‬الأطروحة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬توظيف‭ ‬المثل‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية‮»‬‭ ‬للباحث‭ ‬خالد‭ ‬أبوالفتوح،‭ ‬وكنت‭ ‬أشارك‭ ‬الإشراف‭ ‬د‭. ‬محمود‭ ‬أبوزيد،‭ ‬أستاذ‭ ‬المناهج،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وضمت‭ ‬اللجنة‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬قدري‭ ‬حنفي،‭ ‬وشيخنا‭ ‬د‭. ‬حامد‭ ‬عمار‭.‬

وبعد‭ ‬المناقشة،‭ ‬وأثناء‭ ‬المداولة‭ ‬للحكم‭ ‬قال‭ ‬عمار‭: ‬سأتركك‭ ‬أنت،‭ ‬أصغر‭ ‬أعضاء‭ ‬اللجنة،‭ ‬لاقتراح‭ ‬التقدير‭ ‬الممنوح‭ ‬للباحث،‭ ‬فأنت‭ ‬أدرى‭ ‬بالجهد‭ ‬المبذول‭ ‬فيها،‭ ‬ووافقه‭ ‬د‭. ‬قدري‭ ‬حفني،‭ ‬وكانت‭ ‬تجربة‭ ‬خصبة‭ ‬تعلمت‭ ‬منها‭ ‬التواضع،‭ ‬وتقدير‭ ‬الآخر‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬أصغر‭ ‬سناً‭. 

وتكرر‭ ‬الموقف‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬18‭ ‬سنة‭ ‬بقاعة‭ ‬المناقشة‭ ‬بمعهد‭ ‬البحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬العربية،‭ ‬وفي‭ ‬أطروحة‭ ‬ماجستير‭ ‬حول‭ ‬‮«‬القيم‭ ‬التربوية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‮»‬‭ ‬لباحث‭ ‬اسمه‭ ‬أيمن،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬أدرجت‭ ‬اسم‭ ‬شيخي‭ ‬ضمن‭ ‬لجنة‭ ‬الحكم‭ ‬والمناقشة،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬عرض‭ ‬التشكيل‭ ‬المقترح‭ ‬في‭ ‬اجتماع‭ ‬قسم‭ ‬التربية‭ ‬بالمعهد،‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬الاشتراك‭ ‬فيها،‭ ‬وكانت‭ ‬مفاجأة‭ ‬لي،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬مشفقاً‭ ‬على‭ ‬شيخنا‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬ساعات‭ ‬المناقشة‭ ‬المجهدة‭ ‬لصحته،‭ ‬وكان‭ ‬ثالثنا‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬د‭. ‬عبدالمرضي‭ ‬خالد،‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والدراسات‭ ‬الإسلامية‭ ‬بجامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس،‭ ‬وفهمت‭ ‬إصرار‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬الأطروحة‭ ‬لإعجابه‭ ‬بالموضوع‭ ‬وجدته‭ ‬في‭ ‬تخصصنا‭ ‬‮«‬أصول‭ ‬التربية‮»‬‭.‬

منح‭ ‬الباحث‭ ‬درجة‭ ‬الامتياز،‭ ‬وكعادته‭ ‬ترك‭ ‬للمشرف‭ - ‬شخصي‭ - ‬حرية‭ ‬تقدير‭ ‬الدرجة‭ ‬الممنوحة‭ ‬للباحث،‭ ‬باعتباري‭ ‬المدرك‭ ‬لمدى‭ ‬الجهد‭ ‬المبذول‭ ‬فيها‭. ‬

وما‭ ‬بين‭ ‬المشاركتين‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬للرجل‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬عمل‭ ‬واحد،‭ ‬تقاسمنا‭ ‬الإشراف‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأطروحات،‭ ‬أو‭ ‬الأصح‭ ‬أنني‭ ‬شرفت‭ ‬بمشاركته‭ ‬في‭ ‬الإشراف‭ ‬داخل‭ ‬قسم‭ ‬أصول‭ ‬التربية‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬عين‭ ‬شمس‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يترك‭ ‬لي‭ ‬حرية‭ ‬التدخل‭ ‬والتعديل‭ ‬في‭ ‬مخطوط‭ ‬الأطروحة،‭ ‬وربما‭ ‬شرفت‭ ‬بأن‭ ‬اقترحت‭ ‬على‭ ‬شيخي‭ ‬أن‭ ‬ندعو‭ ‬أستاذ‭ ‬الأنثربولوجي‭ ‬الأشهر،‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬أبوزيد،‭ ‬بجامعة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬ليناقش‭ ‬أطروحة‭ ‬ماجستير‭ ‬شاركته‭ ‬في‭ ‬الإشراف‭ ‬عليها‭ ‬للباحثة‭ ‬سوسن‭ ‬الشريف‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬رؤية‭ ‬العالم‭ ‬لدى‭ ‬طلاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الإعدادية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬رابعنا‭ ‬الصديق‭ ‬الأستاذ‭ ‬د‭. ‬طلعت‭ ‬عبدالحميد‭ ‬زميلنا‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬نفسه،‭ ‬وتمت‭ ‬المناقشة‭ ‬بعد‭ ‬عودتي‭ ‬بأيام‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬الإمارات‭ ‬أستاذاً‭ ‬زائراً،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬شتاء‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الألفية‭ ‬الجديدة‭.‬

أما‭ ‬المرة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬فيها‭ ‬الرجل‭ - ‬أو‭ ‬غيره‭ - ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬أطروحة‭ ‬لم‭ ‬أعايشها‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬فهي‭ ‬للباحث‭ ‬المدهش‭ ‬سيد‭ ‬النحراوي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬تربية‭ ‬القلب‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬شيخنا،‭ ‬أو‭ ‬أمرني،‭ ‬بمشاركته‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الباحث‭ ‬المميز،‭ ‬ولم‭ ‬أعترض‭ ‬لأنه‭ ‬شرف‭ ‬لي،‭ ‬وتكليف‭ ‬أعتز‭ ‬به،‭ ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬الأطروحة‭ ‬خلصت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القلب‭ ‬عقل‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬لي‭ ‬أستاذي‭ ‬حرية‭ ‬اختصار‭ ‬الأطروحة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬حجمها‭ ‬إلى‭ ‬800‭ ‬صفحة‭ ‬في‭ ‬نصها‭ ‬الأصلي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أختصرها‭ ‬بقلب‭ ‬غليظ‭ ‬وقلم‭ ‬حاد‭ ‬يشبه‭ ‬السكين‭ ‬إلى‭ ‬ربع‭ ‬هذا‭ ‬الحجم،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬لم‭ ‬يتسنّ‭ ‬لنا‭ ‬مواصلة‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬لأن‭ ‬القسم‭ ‬اختار‭ ‬له‭ ‬مشرفين‭ ‬آخرين‭ ‬بحكم‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬الإسلامية‭.‬

 

‭(‬ليل‭ ‬داخلي‭)‬

‮«‬سيمنار‭ ‬قسم‭ ‬أصول‭ ‬التربية‮»‬

لم‭ ‬ينقطع‭ ‬سيمنار‭ ‬القسم‭ ‬أسبوعاً‭ ‬عبر‭ ‬60‭ ‬عاماً،‭ ‬حسب‭ ‬معرفتي‭... ‬الخامسة‭ ‬مساء‭ ‬الأحد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬دراسي‭.‬

حامد‭ ‬عمار‭ ‬هو‭ ‬رائد‭ ‬الاتجاه‭ ‬النقدي‭ ‬في‭ ‬التربية،‭ ‬وبعد‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ظل‭ ‬الرجل‭ ‬مدافعاً‭ ‬بشراسة‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬التعليمية،‭ ‬وحق‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬مجاني‭ ‬وجيد،‭ ‬ومن‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬أطروحته‭ ‬للماجستير،‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لندن‭ ‬سنة‭ ‬1949،‭ ‬كانت‭ ‬بعنوان‭ ‬صادم‭ ‬‮«‬انعدام‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬المصري‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انزعاج‭ ‬فؤاد‭ ‬سراج‭ ‬الدين‭ ‬باشا،‭ ‬باعتباره‭ ‬مشرفاً‭ ‬على‭ ‬وزارة‭ ‬المعارف‭ ‬وقتها‭.‬

ومرت‭ ‬الأزمة‭ ‬على‭ ‬خير،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬اختيار‭ ‬العنوان‭ ‬والموضوع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينسحب‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬الملك‭ ‬فاروق‭.‬

كنت‭ ‬أراقب‭ ‬تعليقات‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬الخطط‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬السيمنار،‭ ‬وكان‭ ‬موقفه‭ ‬عدائياً‭ ‬من‭ ‬الحروفية‭ ‬والشكلانية‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الخطط،‭ ‬وكان‭ ‬الأهم‭ - ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ - ‬تفاعل‭ ‬الباحث‭ ‬مع‭ ‬موضوعه،‭ ‬وانشغاله‭ ‬أو‭ ‬تحيزه‭ ‬إلى‭ ‬ظاهرة‭ ‬أو‭ ‬مشكلة‭ ‬ما،‭ ‬وكان‭ ‬دائم‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬المجتمعي‭ ‬للتعليم،‭ ‬وأن‭ ‬قضايا‭ ‬التعليم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُفهم‭ ‬وتدرس‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬رحم‭ ‬المجتمع،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬معادياً‭ ‬للتكميم‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬البحث،‭ ‬رافضاً‭ ‬لأداة‭ ‬الاستبانة‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬بحوثنا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتربوية،‭ ‬وما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬الفلسفة‭ ‬الوظيفية،‭ ‬واتسام‭ ‬قراءة‭ ‬الظاهرة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بتعقّدها‭.  

كنا‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬شاب‭ ‬القسم‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬أفكاره‭ ‬أكثر‭ ‬حيوية‭ ‬وتقدمية‭ ‬ونقدية‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬شيوخ‭ ‬القسم،‭ ‬وكان‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬الباحث‭ ‬منحازاً‭ ‬وليس‭ ‬محايداً‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والصراع‭ ‬الطبقي‭. ‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬أهداه‭ ‬أحد‭ ‬التربويين‭ ‬المنحازين‭ ‬للنظرة‭ ‬الوظيفية،‭ ‬المنهج‭ ‬الكمي،‭ ‬وحيادية‭ ‬الباحث،‭ ‬كتاباً،‭ ‬فنظر‭ ‬إلى‭ ‬عنوانه،‭ ‬وبعد‭ ‬انصرافه‭ ‬تركه‭ ‬جانباً،‭ ‬وانصرف‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفتحه‭.‬

كان‭ ‬مدير‭ ‬السيمنار‭ ‬يختم‭ ‬بتعليقه‭ ‬المناقشات،‭ ‬وخلال‭ ‬السنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬كنت‭ ‬أستهل‭ ‬بتعليق‭ ‬حامد‭ ‬عمار‭ ‬على‭ ‬الخطط‭ ‬البحثية،‭ ‬باعتباري‭ ‬مديراً‭ ‬للسيمنار،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬السيمنار‭ ‬قد‭ ‬ضعفت‭ ‬مع‭ ‬تقدمه‭ ‬في‭ ‬العمر‭.   

 

‭(‬نهار‭ - ‬ليل،‭ ‬داخلي‭ - ‬خارجي‭)‬

اختلفت‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬مواقف

الأول‭: ‬تأييده‭ ‬ودعمه‭ ‬لوزير‭ ‬التعليم‭ ‬الأسبق‭ ‬حسين‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أناهض‭ ‬سياسته‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬لكن‭ ‬الصداقة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬الرجلين‭ ‬منذ‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬فرضت‭ ‬عليه‭ ‬دعم‭ ‬الوزير،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬التعليمية‭ ‬المطبقة‭ ‬مظهرية‭ ‬وشكلية‭ ‬وجزئية‭ ‬وفنية،‭ ‬ومن‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬رحلته‭ ‬السنوية‭ ‬بصحبة‭ ‬زوجته‭ ‬د‭. ‬ليلى‭ ‬الليابيدي‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لزيارة‭ ‬أبنائه‭ ‬وأحفاده‭ ‬الذين‭ ‬يدرسون‭ ‬بالجامعة‭ ‬هناك،‭ ‬كان‭ ‬يهديني‭ ‬ربطة‭ ‬عنق‭ ‬هامساً‭ ‬في‭ ‬أذني‭: ‬أحضرت‭ ‬اثنتين؛‭ ‬واحدة‭ ‬لك،‭ ‬والأخرى‭ ‬للدكتور‭ ‬حسين‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭. 

الموقف‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬الاختلاف‭ ‬عندما‭ ‬خاصم‭ ‬شيخنا‭ ‬أستاذاً‭ ‬تربوياً‭ ‬شهيراً‭ ‬بالقسم‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬أصغر،‭ ‬فقد‭ ‬نقل‭ ‬هذا‭ ‬الخلاف‭ ‬الفني‭ ‬إلى‭ ‬صفحات‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الخلاف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الجوانب‭ ‬الأكاديمية‭ ‬لا‭ ‬الإعلامية‭. ‬

أما‭ ‬الثالث،‭ ‬فعندما‭ ‬حدث‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬مع‭ ‬شيخنا‭ ‬في‭ ‬مسلك‭ ‬خاص،‭ ‬أوثر‭ ‬أن‭ ‬أنساه‭.‬

 

نهار‭ ‬داخلي

‮«‬في‭ ‬رحاب‭ ‬القسم‮»‬

كنت‭ ‬محظوظاً‭ ‬أن‭ ‬يهدي‭ ‬الرجل‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الإصلاح‭ ‬المجتمعي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬شخصي‭ ‬وإلى‭ ‬المؤرخ‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬رؤوف‭ ‬عباس،‭ ‬مناصفة،‭ ‬وكانت‭ ‬السابقة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يخط‭ ‬الرجل‭ ‬إهداء‭ ‬مطبوعاً‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬معيّن‭.   

وكانت‭ ‬الرابطة‭ ‬الروحية‭ ‬والفكرية‭ ‬تجعله‭ ‬لا‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حجرتي،‭ ‬تاركاً‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ومع‭ ‬انشغالي‭ ‬بأعباء‭ ‬رئاسة‭ ‬القسم،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أتفرغ‭ ‬للرجل‭ ‬تماماً،‭ ‬وكان‭ ‬يشعر‭ ‬بالضيق‭ ‬إذا‭ ‬تركته‭ ‬لأمر‭ ‬إداري،‭ ‬وكان‭ ‬زميلي‭ ‬د‭. ‬عادل‭ ‬السكري‭ ‬بالقسم‭ ‬هو‭ ‬السمير‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يأنس‭ ‬إليه،‭ ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬الزميل‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬الاتصال‭ ‬به‭ ‬أثناء‭ ‬إعارته‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬بمعدل‭ ‬يومي‭ ‬أثناء‭ ‬مرضه‭ ‬ثم‭ ‬تقاعده‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الأخير‭. 

لكن‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬الجحود‭ ‬طال‭ ‬الرجل،‭ ‬فقد‭ ‬خذله‭ ‬القسم‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الحجرة‭ ‬التي‭ ‬يوضع‭ ‬مكتبه‭ ‬فيها،‭ ‬ووضعوا‭ ‬المكتب‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فلم‭ ‬يستعمله‭ ‬قط،‭ ‬وكان‭ ‬يفضل‭ ‬الجلوس‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬حجرتي‭. 

وقد‭ ‬دعانا‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬عشاء‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬من‭ ‬فنادق‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬عندما‭ ‬فاز‭ ‬بجائزة‭ ‬الكويت‭ ‬للتقدم‭ ‬العلمي‭ (‬كما‭ ‬فاز‭ ‬بعدها‭ ‬بجائزة‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬التربية،‭ ‬في‭ ‬إصدارها‭ ‬الأول،‭ ‬مناصفة‭ ‬مع‭ ‬المفكر‭ ‬التربوي‭ ‬العراقي‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬جواد‭ ‬رضا،‭ ‬وفاز‭ ‬بجائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أيضاً‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬فاز‭ ‬بأرفع‭ ‬جائزة‭ ‬مصرية‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وهي‭ ‬جائزة‭ ‬النيل‭ (‬مبارك‭ ‬سابقاً‭) ‬لم‭ ‬يكرمه‭ ‬القسم،‭ ‬ولا‭ ‬الكلية،‭ ‬واكتفت‭ ‬الجامعة‭ ‬بتكريمه‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬العلم‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬أول‭ ‬أستاذ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس‭ ‬يحصل‭ ‬عليها،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬أستاذاً‭ ‬بالقسم‭ ‬أجابني،‭ ‬عندما‭ ‬طالبت‭ ‬بإقامة‭ ‬حفل‭ ‬لتكريمه،‭ ‬قائلاً‭: ‬بكم‭ ‬سيتبرع‭ ‬للقسم؟‭ ‬وكأننا‭ ‬سنشاركه‭ ‬قيمة‭ ‬الجائزة‭!‬

 

‭ (‬ليل‭ ‬داخلي‭)‬

وصيته‭ ‬الأخيرة

كان‭ ‬حامد‭ ‬عمار‭ ‬يخص‭ ‬العديدين‭ ‬بإعجابه‭ ‬الخاص؛‭ ‬الأديب‭ ‬والسيكولوجي‭ ‬الشهير‭ ‬يحيى‭ ‬الرخاوي،‭ ‬والإعلامي‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬فاروق‭ ‬شوشة،‭ ‬الذي‭ ‬استضافه‭ ‬في‭ ‬حلقتين‭ ‬متتاليتين‭ - ‬على‭ ‬ما‭ ‬أذكر‭ - ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬أمسية‭ ‬ثقافية‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وكان‭ ‬دائم‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬كتبه‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يخص‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬الثقافي‭ ‬بالأهرام‭ ‬الصديق‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالغني‭ ‬بتقدير‭ ‬خاص،‭ ‬والسياسي‭ ‬الشهير‭ ‬حمدين‭ ‬صباحي،‭ ‬وليس‭ ‬سراً‭ ‬أنه‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القسَم‭ ‬التربوي‭ ‬في‭ ‬برنامجه‭ ‬الانتخابي‭ ‬الرئاسي‭ ‬الأول،‭ ‬وكان‭ ‬صباحي‭ ‬يبادله‭ ‬وداً‭ ‬خالصاً‭.‬

كما‭ ‬كان‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬سامي‭ ‬خشبة‭ ‬يصدّر‭ ‬صفحته‭ ‬بمقالات‭ ‬حامد‭ ‬عمار،‭ ‬ويقدره‭ ‬تقديراً‭ ‬خاصاً،‭ ‬ولعل‭ ‬المفكر‭ ‬التربوي‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬نبيل‭ ‬نوفل‭ ‬كان‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬عقل‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلاميذه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يسبغ‭ ‬الدعم‭ ‬والمساندة‭ ‬والمودة‭ ‬إلى‭ ‬التربويين‭ ‬وهم‭ ‬الدكاترة‭ ‬حسن‭ ‬البيلاوي،‭ ‬وعبدالسميع‭ ‬سيد‭ ‬أحمد،‭ ‬وشبل‭ ‬بدران،‭ ‬وكمال‭ ‬نجيب،‭ ‬ومحمود‭ ‬أبوزيد‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬وسامي‭ ‬نصار،‭ ‬وعبداللطيف‭ ‬محمود،‭ ‬وطلعت‭ ‬عبدالحميد،‭ ‬وأحمد‭ ‬يوسف‭ ‬سعد،‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالخالق‭ ‬مدبولي،‭ ‬وكمال‭ ‬مغيث،‭ ‬وإلهام‭ ‬عبدالحميد،‭ ‬ومحمد‭ ‬السكران،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬ممثلي‭ ‬الاتجاه‭ ‬النقدي‭ ‬التربوي‭.‬

وكان‭ ‬الناشر‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬رشاد‭ (‬صاحب‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭) ‬يحتل‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬عنده،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ناشره‭ ‬المفضل،‭ ‬وأتاح‭ ‬له‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬آفاق‭ ‬تربوية‭ ‬متجددة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬قدم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عشرات‭ ‬الأصوات‭ ‬والوجوه‭.‬

ومن‭ ‬المؤلم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أوقّع‭ ‬للرجل‭ ‬سنوياً،‭ ‬مع‭ ‬زميل‭ ‬له‭ ‬بالقسم،‭ ‬إقراراً‭ ‬يفيد‭ ‬ببقاء‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬لاستمرار‭ ‬صرف‭ ‬معاشه‭ ‬التقاعدي‭ ‬مع‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬بمنظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬16‭ ‬عاماً‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬لغربي‭ ‬آسيا،‭ ‬متنقلاً‭ ‬بين‭ ‬بغداد‭ ‬وبيروت‭.‬

كما‭ ‬شهدت‭ ‬كيف‭ ‬اختار‭ ‬للزميلة‭ ‬د‭. ‬دينا‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬عنوان‭ ‬أطروحتها‭ ‬للدكتوراه‭ ‬حول‭ ‬‮«‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬التربوي‭ ‬المصري‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬شجع‭ ‬باحثاً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬طنطا‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬مفكر‭ ‬المقاومة‭ ‬التربوي‭ ‬الأمريكي‭ ‬هنري‭ ‬جيرو‭ ‬موضوعاً‭ ‬لأطروحته،‭ ‬ونشر‭ ‬له‭ ‬أطروحته‭ ‬بعد‭ ‬إجازتها‭. ‬

وخلال‭ ‬ظهوره‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬السيمنار‭ ‬الأول‭ ‬للقسم‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬تحدث‭ ‬نحو‭ ‬ربع‭ ‬الساعة،‭ ‬أوصى‭ ‬فيها‭ ‬الزملاء‭ ‬والباحثين‭ ‬بوصيته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ووفقني‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬أوعز‭ ‬إلى‭ ‬زميل‭ ‬بتصويرها‭ ‬ووضعها‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬القسم،‭ ‬وأثناء‭ ‬كلمته‭ ‬أحسست‭ ‬بأنها‭ ‬الإطلالة‭ ‬الأخيرة‭ ‬للرجل،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬أزمته‭ ‬الصحية،‭ ‬فكتبت‭ ‬ورقة‭ ‬دفعتها‭ ‬إلى‭ ‬زملائي‭ ‬الأساتذة‭ ‬ضياء‭ ‬زاهر‭ ‬وفكري‭ ‬شحاتة‭ ‬وطلعت‭ ‬عبدالحميد‭ ‬وسعيد‭ ‬طعيمة‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬كتبت‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬إنها‭ ‬أغنية‭ ‬البجعة‭ ‬الأخيرة‮»‬،‭ ‬وتمثل‭ ‬كلمته‭ ‬القصيرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬وصية‭ ‬خصبة‭ ‬لكل‭ ‬باحث‭ ‬تربوي‭ ‬أو‭ ‬مشتغل‭ ‬بالبحث‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬مؤكداً‭ ‬قيم‭ ‬العدالة‭ ‬والحرية‭ ‬الأكاديمية‭ ‬والانحياز‭ ‬المجتمعي‭ ‬وتربية‭ ‬الأمل‭ ‬والعمل‭ ‬الجمعي‭ ‬والأمانة‭ ‬العلمية‭.‬

كانت‭ ‬وصيته‭ ‬الشخصية‭ ‬الأخيرة‭ ‬أثناء‭ ‬زيارتي‭ ‬المتكررة‭ ‬في‭ ‬داره‭ ‬بمدينة‭ ‬نصر‭ ‬أن‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬مناقشة‭ ‬آخر‭ ‬أطروحة‭ ‬أشرف‭ ‬عليها‭ ‬للباحث‭ ‬محمد‭ ‬عبدالرءوف‭ ‬حول‭ ‬‮«‬تدويل‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬تعثّراً‭ ‬شخصياً‭ ‬وإشرافياً،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬المخطوطة‭ ‬وإنجازها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بطء‭ ‬الباحث‭ ‬وكسله‭ ‬مع‭ ‬تحمّس‭ ‬د‭. ‬عمار‭ ‬له،‭ ‬لأنه‭ ‬يرى‭ ‬هذا‭ ‬المدرس‭ ‬المساعد‭ ‬مشروعاً‭ ‬بحثياً‭ ‬واعداً،‭ ‬ولم‭ ‬يفتأ‭ ‬أثناء‭ ‬عزاء‭ ‬رفيقته‭ ‬التي‭ ‬رحلت‭ ‬قبله‭ ‬بأربعة‭ ‬أشهر‭ ‬أن‭ ‬حمّلني‭ ‬متابعة‭ ‬مناقشة‭ ‬الرسالة،‭ ‬باعتباري‭ ‬رئيساً‭ ‬للقسم،‭ ‬وكان‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬فراش‭ ‬المرض‭ ‬ليشارك‭ ‬في‭ ‬مناقشتها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬كان‭ ‬أسبق‭.  

 

طيف

أتطلع‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬حجرتي‭ ‬بقسم‭ ‬أصول‭ ‬التربية،‭ ‬أترقب‭ ‬خطواته‭ ‬البطيئة‭ ‬الزاحفة،‭ ‬أتخيل‭ ‬طيفه‭ ‬مقتحماً‭ ‬باب‭ ‬الحجرة‭ ‬لأتلقاه‭ ‬بالأحضان،‭ ‬أجلسه‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي،‭ ‬مستمتعاً‭ ‬بابتسامته‭ ‬المشرقة‭ ‬والوثابة‭ ‬التي‭ ‬تعلو‭ ‬قامة‭ ‬سامقة‭ ‬تشبه‭ ‬قامات‭ ‬المصريين‭ ‬القدماء،‭ ‬وأسأله‭ ‬عما‭ ‬يشرب،‭ ‬وأستدعي‭ ‬زميلنا‭ ‬عبداللطيف‭ ‬ليعد‭ ‬له‭ ‬مشروبه‭.‬

وأستفيق‭ ‬من‭ ‬خاطري‭... ‬هل‭ ‬يعود‭ ‬الموتى؟‭! ‬■