في صحبة بنّاء البَشَر شيخ التربويين د.حامد عمار
لـــم يــكـــن شـــــيخ التربويين حامد عــمار مجرد سيرة فردية، ولكنه اختزل قرناً من عمر مصر أو عصراً بأكمــله امـــــتد من بداية الربع الأول من القرن العشرين إلى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين إلا قليلاً، وهو مسار مواز لمسار نجيب محفوظ، وكذلك الفنانين الكبيرين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، اللذين أمسكا «محفوظ» بالقرن العشرين من بدايته إلى مشارف نهايته، وإن كان الإمداد الزمني لعمار يقترب من نظيره عند نجيب محفوظ، بحيث يمكننا أن نتحدث عن سيرة عصر لا رجل.
لقد كان كتابه حامد عمار «بناء البشر» في منتصف الستينيات قنبلة انفجرت في الوسطين الثقافي والأكاديمي، جعلت الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما كان يتولى دار الهلال ورئاسة تحرير «المصور» يصفه بأنه أهم كتاب صدر في مصر وقتها، وأن هذا الكتاب صاغ مصطلح «الشخصية الفهلوية»، ولاحقاً سوف يطور هذا النمط إلى نمطين آخرين؛ «الهباش» في عصر الانفتاح، و«البلطجي» في عصر مبارك.
ولذا كان حامد عمار بناءً كبيراً للبشر، ومؤرخاً اجتماعياً يقارب عمل جمال حمدان وسيد عويس وجلال أمين وعبدالباسط عبدالمعطي وأحمد أبوزيد وسمير نعيم وأحمد زايد وغيرهم.
وقد جمعت بين الجد (عمار) والحفيد (كاتب هذه السطور) وشائج وصلات مكنتني من أن أقترب من الرجل - فكرياً وإنسانياً - وأن أشهد له أو عليه بصفتي الحفيد المريد، كما كان يصفني دوماً.
وفيما يلي مشاهد من سيرة الرجل، القيمة والقامة، تمزج الفكري بالأكاديمي بالإنساني في ضفيرة واحدة.
(نهار داخلي)
في رحاب مؤسسة الأهرام
ضمتنا قاعة الاحتفالات بمؤسسة الأهرام في الندوة التي نظمها القسم الديني، وأدارها الصديق فتحي أبوالعلا، وتحت إشراف الصديق سيد أبودومة، رحمه الله، ونشرتها «الأهرام» على حلقات أربع في الفترة من 8 إلى 11/ 3 / 1992.
وقد ضمت الندوة شيخنا حامد عمار،
د. جمال الدين محمود (الأمين العام الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية)، د. سعيد إسماعيل علي، أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس،
د. عبدالمجيد مطلوب (حقوق عين شمس)،
د. رفعت سيد أحمد، الباحث السياسي المعروف، وكاتب هذه السطور.
وكانت الندوة مخصصة لقضية التربية والتعليم من أجل تنشئة جيل عصري.
أشار د. عمار في مداخلته، التي استهل بها الندوة، إلى أن أجيالاً ثلاثة تضمها القاعة: جيله، وجيل تلاميذه، ثم جيل الأحفاد، وأشار إليّ.
ظلت تلك الروح، روح المجايلة وتشجيع الحوار بين الأجيال، سمة دائمة في فكر وسلوك شيخنا، وتمثل ذلك في تقديمه عشرات الأسماء الشابة؛ سواء بكتابة مقدمات كتبهم، أو المشاركة معهم في الإشراف والمناقشة على الأطروحات الجامعية، وفتح الأبواب أمامهم للابتعاث إلى الخارج، أو الدفع بهم إلى مواقع المشاركة والعمل والقيادة، ويقدمهم إلى المسؤول التنفيذي، بدءاً من الوزير.
وشهدت كيف سعى وراء ابتعاث الزميلين د. أشرف محرم، ود. صفاء شحاتة، إلى بريطانيا، وكيف كان يتابع تقدمهما هناك، وكيف تحصّل على مليوني جنيه من وزير التعليم وقتها، د. حسين كامل بهاء الدين، لدعم مكتبات كليات تربية عين شمس والأزهر والقاهرة وحلوان، وكيف كان يحمل أحدث المراجع الصادرة في الولايات المتحدة إلى طلابه من معيدي القسم وباحثيه على نفقته أثناء سفره السنوي إلى هناك.
ولعل المرة الوحيدة - حسب علمي - التي يشارك فيها آخر في التأليف مع د. عمار هي
د. صفاء شحاتة، التي تنتمي إلى جيل رابع من أجيال تلاميذه، وذلك في الكتاب قبل الأخير الذي نشره قبل رحيله، وهو «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين في القرن الحادي والعشرين»، وهو مرجع أساس لتعليم المصريين في قرن كامل، بل أكثر من قرن، وخاصة أنه نحت عنوان الكتاب من عنوان كتاب رفاعة الطهطاوي الشهير في القرن التاسع عشر.
وفي الندوة المشار إليها قال شيخنا إنه لا يمكن الحديث عن مستقبل التعليم إلا إذا عرفنا من هو المصري وماذا يريد، وبالتالي تكون وظيفة التعليم تنمية تلك الطاقات والقدرات.
(نهار داخلي)
معهد البيئة بشارع الأصبغ بالزيتون
كانت الأطروحة الجامعية الأولى التي أشارك في الإشراف عليها عام 1993 بمقر معهد البيئة القديم بالزيتون، قبل أن ينتقل إلى مقره الحالي برحاب جامعة عين شمس في العباسية.
كانت الأطروحة بعنوان «توظيف المثل الشعبي في البيئة المصرية» للباحث خالد أبوالفتوح، وكنت أشارك الإشراف د. محمود أبوزيد، أستاذ المناهج، رحمه الله، وضمت اللجنة أستاذ علم النفس الكبير د. قدري حنفي، وشيخنا د. حامد عمار.
وبعد المناقشة، وأثناء المداولة للحكم قال عمار: سأتركك أنت، أصغر أعضاء اللجنة، لاقتراح التقدير الممنوح للباحث، فأنت أدرى بالجهد المبذول فيها، ووافقه د. قدري حفني، وكانت تجربة خصبة تعلمت منها التواضع، وتقدير الآخر حتى لو كان أصغر سناً.
وتكرر الموقف نفسه بعد حوالي 18 سنة بقاعة المناقشة بمعهد البحوث والدراسات العربية، وفي أطروحة ماجستير حول «القيم التربوية في شعر المتنبي» لباحث اسمه أيمن، ولم أكن قد أدرجت اسم شيخي ضمن لجنة الحكم والمناقشة، ولكن عندما عرض التشكيل المقترح في اجتماع قسم التربية بالمعهد، أصر على الاشتراك فيها، وكانت مفاجأة لي، فقد كنت مشفقاً على شيخنا من عبء ساعات المناقشة المجهدة لصحته، وكان ثالثنا في اللجنة د. عبدالمرضي خالد، رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس، وفهمت إصرار الرجل على المشاركة في مناقشة الأطروحة لإعجابه بالموضوع وجدته في تخصصنا «أصول التربية».
منح الباحث درجة الامتياز، وكعادته ترك للمشرف - شخصي - حرية تقدير الدرجة الممنوحة للباحث، باعتباري المدرك لمدى الجهد المبذول فيها.
وما بين المشاركتين الأولى والأخيرة للرجل في مناقشة عمل واحد، تقاسمنا الإشراف في عديد من الأطروحات، أو الأصح أنني شرفت بمشاركته في الإشراف داخل قسم أصول التربية بـ «عين شمس»، وكان يترك لي حرية التدخل والتعديل في مخطوط الأطروحة، وربما شرفت بأن اقترحت على شيخي أن ندعو أستاذ الأنثربولوجي الأشهر، د. أحمد أبوزيد، بجامعة الإسكندرية، ليناقش أطروحة ماجستير شاركته في الإشراف عليها للباحثة سوسن الشريف بعنوان «رؤية العالم لدى طلاب المرحلة الإعدادية»، وكان رابعنا الصديق الأستاذ د. طلعت عبدالحميد زميلنا في القسم نفسه، وتمت المناقشة بعد عودتي بأيام من جامعة الإمارات أستاذاً زائراً، وذلك في شتاء العام الأول من الألفية الجديدة.
أما المرة الوحيدة التي شاركت فيها الرجل - أو غيره - الإشراف على أطروحة لم أعايشها من البداية فهي للباحث المدهش سيد النحراوي بعنوان «تربية القلب في الفكر الإسلامي»، وقد طلب مني شيخنا، أو أمرني، بمشاركته الإشراف على هذا الباحث المميز، ولم أعترض لأنه شرف لي، وتكليف أعتز به، والغريب أن الأطروحة خلصت إلى أن القلب عقل من وجهة النظر الإسلامية، وقد ترك لي أستاذي حرية اختصار الأطروحة التي وصل حجمها إلى 800 صفحة في نصها الأصلي، قبل أن أختصرها بقلب غليظ وقلم حاد يشبه السكين إلى ربع هذا الحجم، ومع الأسف لم يتسنّ لنا مواصلة الإشراف على نفس الباحث في مرحلة الدكتوراه، لأن القسم اختار له مشرفين آخرين بحكم التخصص في التربية الإسلامية.
(ليل داخلي)
«سيمنار قسم أصول التربية»
لم ينقطع سيمنار القسم أسبوعاً عبر 60 عاماً، حسب معرفتي... الخامسة مساء الأحد من كل أسبوع دراسي.
حامد عمار هو رائد الاتجاه النقدي في التربية، وبعد طه حسين، ظل الرجل مدافعاً بشراسة عن العدالة التعليمية، وحق الفقراء في تعليم مجاني وجيد، ومن المدهش أن أطروحته للماجستير، في جامعة لندن سنة 1949، كانت بعنوان صادم «انعدام تكافؤ الفرص في التعليم المصري»، وهو ما أدى إلى انزعاج فؤاد سراج الدين باشا، باعتباره مشرفاً على وزارة المعارف وقتها.
ومرت الأزمة على خير، وخاصة أن اختيار العنوان والموضوع يمكن أن ينسحب على غياب العدالة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة من حكم الملك فاروق.
كنت أراقب تعليقات الرجل على الخطط المقدمة في السيمنار، وكان موقفه عدائياً من الحروفية والشكلانية في كتابة الخطط، وكان الأهم - من وجهة نظره - تفاعل الباحث مع موضوعه، وانشغاله أو تحيزه إلى ظاهرة أو مشكلة ما، وكان دائم التأكيد على التفسير المجتمعي للتعليم، وأن قضايا التعليم لا يمكن أن تُفهم وتدرس بعيداً عن رحم المجتمع، كما كان معادياً للتكميم في منهج البحث، رافضاً لأداة الاستبانة التي سادت في بحوثنا الاجتماعية والتربوية، وما يعنيه ذلك من سطوة الفلسفة الوظيفية، واتسام قراءة الظاهرة الإنسانية بتعقّدها.
كنا نطلق عليه «شاب القسم»، لأن أفكاره أكثر حيوية وتقدمية ونقدية من كثير من شيوخ القسم، وكان يصر على أن يبقى الباحث منحازاً وليس محايداً في المسألة الاجتماعية والصراع الطبقي.
ذات مرة أهداه أحد التربويين المنحازين للنظرة الوظيفية، المنهج الكمي، وحيادية الباحث، كتاباً، فنظر إلى عنوانه، وبعد انصرافه تركه جانباً، وانصرف دون أن يفتحه.
كان مدير السيمنار يختم بتعليقه المناقشات، وخلال السنة الأخيرة كنت أستهل بتعليق حامد عمار على الخطط البحثية، باعتباري مديراً للسيمنار، ويبدو أن قدرته على الصمود حتى نهاية السيمنار قد ضعفت مع تقدمه في العمر.
(نهار - ليل، داخلي - خارجي)
اختلفت معه في ثلاثة مواقف
الأول: تأييده ودعمه لوزير التعليم الأسبق حسين بهاء الدين، الذي كنت أناهض سياسته مع آخرين، لكن الصداقة التي جمعت الرجلين منذ ستينيات القرن الماضي فرضت عليه دعم الوزير، في حين كنا نرى أن السياسة التعليمية المطبقة مظهرية وشكلية وجزئية وفنية، ومن الغريب أن الرجل عندما كان يعود من رحلته السنوية بصحبة زوجته د. ليلى الليابيدي من الولايات المتحدة لزيارة أبنائه وأحفاده الذين يدرسون بالجامعة هناك، كان يهديني ربطة عنق هامساً في أذني: أحضرت اثنتين؛ واحدة لك، والأخرى للدكتور حسين بهاء الدين.
الموقف الثاني في الاختلاف عندما خاصم شيخنا أستاذاً تربوياً شهيراً بالقسم من جيل أصغر، فقد نقل هذا الخلاف الفني إلى صفحات «الأهرام»، وكنت أرى أن الخلاف يجب أن يدور في الجوانب الأكاديمية لا الإعلامية.
أما الثالث، فعندما حدث اختلاف في وجهات النظر مع شيخنا في مسلك خاص، أوثر أن أنساه.
نهار داخلي
«في رحاب القسم»
كنت محظوظاً أن يهدي الرجل كتابه «الإصلاح المجتمعي» إلى شخصي وإلى المؤرخ الكبير الراحل رؤوف عباس، مناصفة، وكانت السابقة الأولى التي يخط الرجل إهداء مطبوعاً إلى شخص معيّن.
وكانت الرابطة الروحية والفكرية تجعله لا يجلس في القسم إلا في حجرتي، تاركاً مكتبه في حجرة أخرى، ومع انشغالي بأعباء رئاسة القسم، إلا أنني كنت أتفرغ للرجل تماماً، وكان يشعر بالضيق إذا تركته لأمر إداري، وكان زميلي د. عادل السكري بالقسم هو السمير الآخر الذي يأنس إليه، والحق أن الزميل كان دائم الاتصال به أثناء إعارته في السعودية بمعدل يومي أثناء مرضه ثم تقاعده خلال العام الأخير.
لكن الغريب أن الجحود طال الرجل، فقد خذله القسم في اختيار الحجرة التي يوضع مكتبه فيها، ووضعوا المكتب في حجرة أخرى، فلم يستعمله قط، وكان يفضل الجلوس معي في حجرتي.
وقد دعانا الرجل على عشاء في فندق من فنادق الدرجة الأولى عندما فاز بجائزة الكويت للتقدم العلمي (كما فاز بعدها بجائزة جامعة الدول العربية في التربية، في إصدارها الأول، مناصفة مع المفكر التربوي العراقي الراحل محمد جواد رضا، وفاز بجائزة الدولة التقديرية في مصر أيضاً)، إلا أنه عندما فاز بأرفع جائزة مصرية في العلوم الاجتماعية، وهي جائزة النيل (مبارك سابقاً) لم يكرمه القسم، ولا الكلية، واكتفت الجامعة بتكريمه في عيد العلم مع آخرين، مع أنه أول أستاذ في جامعة عين شمس يحصل عليها، وأذكر أن أستاذاً بالقسم أجابني، عندما طالبت بإقامة حفل لتكريمه، قائلاً: بكم سيتبرع للقسم؟ وكأننا سنشاركه قيمة الجائزة!
(ليل داخلي)
وصيته الأخيرة
كان حامد عمار يخص العديدين بإعجابه الخاص؛ الأديب والسيكولوجي الشهير يحيى الرخاوي، والإعلامي الكبير الراحل فاروق شوشة، الذي استضافه في حلقتين متتاليتين - على ما أذكر - في التلفزيون المصري في برنامج «أمسية ثقافية» خلال تسعينيات القرن الماضي، وكان دائم الكتابة عن كتبه الجديدة على صفحات «الأهرام»، كما كان يخص رئيس القسم الثقافي بالأهرام الصديق مصطفى عبدالغني بتقدير خاص، والسياسي الشهير حمدين صباحي، وليس سراً أنه شارك في كتابة القسَم التربوي في برنامجه الانتخابي الرئاسي الأول، وكان صباحي يبادله وداً خالصاً.
كما كان الناقد الكبير الراحل سامي خشبة يصدّر صفحته بمقالات حامد عمار، ويقدره تقديراً خاصاً، ولعل المفكر التربوي الكبير محمد نبيل نوفل كان الأقرب إلى عقل د. عمار من بين تلاميذه، كما كان يسبغ الدعم والمساندة والمودة إلى التربويين وهم الدكاترة حسن البيلاوي، وعبدالسميع سيد أحمد، وشبل بدران، وكمال نجيب، ومحمود أبوزيد (رحمه الله)، وسامي نصار، وعبداللطيف محمود، وطلعت عبدالحميد، وأحمد يوسف سعد، ومحمد عبدالخالق مدبولي، وكمال مغيث، وإلهام عبدالحميد، ومحمد السكران، وهم من ممثلي الاتجاه النقدي التربوي.
وكان الناشر الكبير محمد رشاد (صاحب الدار المصرية اللبنانية) يحتل مكانة خاصة عنده، وخاصة أنه كان ناشره المفضل، وأتاح له الإشراف على سلسلة «آفاق تربوية متجددة»، التي قدم من خلالها عشرات الأصوات والوجوه.
ومن المؤلم أنني كنت أوقّع للرجل سنوياً، مع زميل له بالقسم، إقراراً يفيد ببقاء الرجل على قيد الحياة لاستمرار صرف معاشه التقاعدي مع الأمم المتحدة، حيث عمل بمنظمة اليونسكو 16 عاماً في إدارة الموارد البشرية لغربي آسيا، متنقلاً بين بغداد وبيروت.
كما شهدت كيف اختار للزميلة د. دينا جمال الدين عنوان أطروحتها للدكتوراه حول «المقاومة في الفكر التربوي المصري»، وقد شجع باحثاً آخر من جامعة طنطا على اختيار مفكر المقاومة التربوي الأمريكي هنري جيرو موضوعاً لأطروحته، ونشر له أطروحته بعد إجازتها.
وخلال ظهوره الأخير في السيمنار الأول للقسم من العام الماضي، تحدث نحو ربع الساعة، أوصى فيها الزملاء والباحثين بوصيته الأخيرة، ووفقني الله أن أوعز إلى زميل بتصويرها ووضعها على موقع القسم، وأثناء كلمته أحسست بأنها الإطلالة الأخيرة للرجل، وكان في بداية أزمته الصحية، فكتبت ورقة دفعتها إلى زملائي الأساتذة ضياء زاهر وفكري شحاتة وطلعت عبدالحميد وسعيد طعيمة (رحمه الله)، كتبت فيها «إنها أغنية البجعة الأخيرة»، وتمثل كلمته القصيرة الأخيرة وصية خصبة لكل باحث تربوي أو مشتغل بالبحث الاجتماعي، مؤكداً قيم العدالة والحرية الأكاديمية والانحياز المجتمعي وتربية الأمل والعمل الجمعي والأمانة العلمية.
كانت وصيته الشخصية الأخيرة أثناء زيارتي المتكررة في داره بمدينة نصر أن طلب مني مناقشة آخر أطروحة أشرف عليها للباحث محمد عبدالرءوف حول «تدويل التعليم في مصر»، الذي كان يواجه تعثّراً شخصياً وإشرافياً، وبعد أن انتهى من قراءة المخطوطة وإنجازها، إضافة إلى بطء الباحث وكسله مع تحمّس د. عمار له، لأنه يرى هذا المدرس المساعد مشروعاً بحثياً واعداً، ولم يفتأ أثناء عزاء رفيقته التي رحلت قبله بأربعة أشهر أن حمّلني متابعة مناقشة الرسالة، باعتباري رئيساً للقسم، وكان يطمح إلى أن يغادر فراش المرض ليشارك في مناقشتها، إلا أن الموت كان أسبق.
طيف
أتطلع إلى باب حجرتي بقسم أصول التربية، أترقب خطواته البطيئة الزاحفة، أتخيل طيفه مقتحماً باب الحجرة لأتلقاه بالأحضان، أجلسه إلى مكتبي، مستمتعاً بابتسامته المشرقة والوثابة التي تعلو قامة سامقة تشبه قامات المصريين القدماء، وأسأله عما يشرب، وأستدعي زميلنا عبداللطيف ليعد له مشروبه.
وأستفيق من خاطري... هل يعود الموتى؟! ■