الألماسة صانسي زيّنت تيجان الملوك وأعناق الأميرات.. قطعة فحم بملايين الدولارات
ما هي ردّة فعلك إذا قيل لك إن واحداً من رجال المليارات، اشترى قطعة من الفحم في مزاد عالمي بملايين الدولارات؟
مؤكد أنك ستعتبر الخبر، على الفور، واحدة من شطحات الصحافة، وستعجب للخيال الواسع الذي «يولف» الحكايات ليُثير القرّاء، ويشدّهم إلى صحيفته؛ لكن الخبر الذي نشرته كل صحف العالم في شهر مايو من العام الماضي عن شراء تاجر من أبناء الخليج العربي واحدة من قطع الفحم بمبلغ 16 مليوناً ونصف المليون دولار، عدّاً ونقداً، في مزاد «سودبي» العلني بجنيف، بعد منافسة حادّة بين كبار تجّار المجوهرات، ذلك الخبر لم يكن «توليفة» صحفية، بل كان حقيقياً مئة في المئة.
وفي الواقع، لم تكن قطعة فحم بكل معنى الكلمة، بل هي حجر من نفس عائلة الفحم، اسمه الألماس، ولا يختلف في تركيبه الكيميائي عن الفحم، إلا بتركيبه الذرّي، وصلادته العالية، ومُعامل انكساره الذي يجعله منبعاً لإشعاع فريد وبريق جداً.
نعم 16 مليون دولار ثمن ألماسة وزنها 100.10 قيراط، فهل تستحق هذا الثمن الخيالي فعلاً؟ أعني ما الذي يجعل للألماس بالذات هذا القدر الرفيع، ويخلي له مكان الصدارة في عالم الأحجار الكريمة المعروفة؟
أقول لكم في البداية إن الألماس كلمة غير عربية، بل هي معرّبة عن «أداماس» اليونانية، وتعني «الذي لا ينكسر»، وينفرد هذا الحجر الكريم ببضع خواص، منها أنه ذو زوايا قائمة، ستاً أو ثماني، وإذا انكسر فلا ينكسِر إلا مثلثاً، وهو يقطع كل حجر يمر عليه، وصلب تُثقب به بقية الأحجار الكريمة كالياقوت والزمرد والدُّر.
وقد ارتبطت به منذ القديم، معتقدات خرافية، فذكروا أنه يفتّت الحصاة في المثانة، ويجلو الأسنان ويبيّضها، ويحفظ الطفل من الصرع إذا عُلِّق عليه لحظة ولادته.
الألماس... تاريخ قديم
بدأت عملية إنتاج الألماس الطبيعي منذ نحو مليون سنة، حيث بدأت الأرض تبرد، وتعرّضت كتلة من السائل الصخري المنصهر في باطن الأرض، لحرارة هائلة وضغط شديد، أدّيا إلى تبلّر المادة المسمّاة «الكربون»، فلما رآها الإنسان لأول مرة، اتّسعت حدقتا عينيه، وخلب لبّه الشعاع الساحر المنبثق من هذا الحجر الشفاف، الذي أصبح من ذلك اليوم، تُحفة الطبيعة الفريدة، وحلم العيون المشتهى، وهدية الملوك للملوك، ولربّات الخدور ذوات الحُسن والدلال.
وفي سجل الألماس الحافل، مجموعة باهرة بعينها، شغلت الناس بحكاياتها، وتناقل الناس أخبارها جيلاً بعد جيل، ومن بينها ألماسة «كولينام» التي قدّمتها حكومة «الترانسفال» (جنوب إفريقيا) هدية لملك إنجلترا، وكانت ألماسة ملكية فعلاً، بحجم حبّة الـ «جريب فروت»، وتزن رطلاً ونصف رطل (3106 قراريط - 605 جرامات)؛ وبينها ألماسة «كوهينور» (جبل النور) بالفارسية، التي اكتشفت في عام 1304م، وتزن 186 قيراطاً، زيّن بها تاج فيكتوريا ملكة إنجلترا، الذي أصبح ضمن مجوهرات التاج في «برج لندن».
وبين الألماسات النادرة ماسة «هوب» أكبر وأجمل ألماسة زرقاء (45 قيراطاً)، تطلق أضواء فوسفورية حمراء، وكان فيليب هوب أول مَن اشتراها عام 1830م، ثمّ تنقّلت بين أكف رجال المال، لتنتهي أخيراً إلى هاري ونستون الأمريكي عام 1947م بمليون دولار، فيهديها إلى متحف سيمشوثيان بالولايات المتحدة.
الألماسة صانسي تنتقل بين قصور ملوك أوربا
لكن الألماسة صانسي المعروفة باسم «مرآة بريطانيا العظمى»، فتبقى من بين كل ألماسات التاريخ الأكثر شهرة وإثارة، وشغلاً للأفكار، وتنقُّلاً بين تيجان الملوك، وأعناق الملكات، وصدور الأميرات الفاتنات.
في عام 1593م، اكتشفت الألماسة الرائعة صانسي (55 قيراطاً)، في الهند، واشتراها مستشار الملك هنري الرابع ووزير المالية الفرنسي نيكولا دي صانسي، ثمّ انتقلت إلى إنجلترا عام 1604م، حين اشتراها الملك جيمس الأول
بـ 60 ألف فرنك فرنسي (204 كيلوجرامات من الذهب)، وصنع منها مع ثلاث ماسات أخرى، عقداً يرصِّع به عنق زوجته الملكة آن.
وقد ورث الملك شارلس الأول الألماسة عام 1625م، وجعلها أروع حلّي زوجته هنرييتا ماريا الفرنسية، ولكن بسبب الظروف القاسية التي ترتبت على حملاته العسكرية، رهنت الملكة مجوهراتها في فرنسا، ثمّ اضطرّت إلى بيع الألماسة صانسي بـ 612 كيلوجراماً من الذهب، لتسترد ما رهنت.
وأصبحت الألماسة ملكاً للكاردينال مازاران، جامع الألماس الشهير في ذلك الزمان؛ وقُبيل وفاته عام 1661م، أوصى بضم الألماسة إلى مجوهرات التاج الفرنسي، وقدّر ثمنها وقتذاك بمليار فرنك فرنسي.
كان الملك لوين الخامس عشر، عام 1721م لايزال صبياً في الحاديـــــة عـــشرة من عمره، حين استقبل سفراء العالم، وقد زيّن قبّعـــتــــه بالألماسّة الـــنادرة، ولم يمضِ غير عام واحد حتى رصّع بـــهــــــا التــــاج الذي توِّج به، وتزوج الملك لويس في عام 1725م من الأمــيرة البـــولــــونية ماري لكزنسكا، فقدّم لعروسه عقــــداً أسطـــــورياً سُمي كاركانــــية مرصّعاً بالألماس، وفــــــي المقدمة كانت الألماسة صانسي تتلألأ ببريق صارخ.
وتنقّلت الألماسة بعد ذلك بين عديد من الملكات، لتصل إلى ماري أنطوانيت التي أبهرت بها العيون، وتغنَّت بتزيين تيجانها وعقودها بها، ولم تكن تظهر بها بالشكل نفسه أكثر من مرة واحدة.
وقد اختفت الألماسة صانسي من مستودع الأثاث بالقصر الملكي الفرنسي عام 1792م، في أثناء عمليات الفوضى والنهب التي رافقت الثورة الفرنسية، ولم تظهر إلا عام 1800م، حين اشتراها الماركيز دوا يراندا، في صفقة مع فرقة الخيّالة الفرنسية بمليون فرنك، وحين عرضت «صانسي» عام 1828 للبيع في باريس، ابتاعها أمين الخزانة الروسي نيكولاي ديميدوف، ليرثها من بعده ابنه بول، وفي حفل زفافه عام 1836م قدّمها لعروسه أورورا هدية مع مجموعة من الحلّي النادرة.
واستقرّت الألماسة سنــوات على صــــدر أورورا حتى عـــام 1865م، حين باعــــتـــــها في لندن، لتنتقل منها الألماسة في رحلة طويلة عـــــائدة إلى موطنها الأصلي؛ الهند، وتنضم إلى مجوهرات السير جيمتي دجبمبهوي في بومباي.
وفي عام 1876م، رأى ولي عهد بريطانيا (أمير ويلز) الألماسة صانسي على عمامة مهراجا باتيالا أثناء حفل استقبال، فاكتفى بإبداء إعجابه، ولم يطل المقام بالألماسة في الهند، إذ ما لبث أن اشتراها وليام آستور أول فيكونت في أسرة آستور البريطانية، عام 1906، وقدّمها هدية لعروس ابنه نانسي لانغورن، وهي الآن ضمن مجوهرات الفيكونت الرابع من أسرة آستور، ولا يعلم أحد كم تطول إقامتها في هذه الأسرة.
وتتملَّك الدهشة كل من تتبّع رحلات الألماسة صانسي طوال السنين بين شرق وغرب، لكن ترحالها المرهق ليس سوى جزء من ضريبة الألق المتفرّد، التي عبّر عنها الشاعر بصدق حين قال:
«إنه الحسن، كم يجرّ على الحسناء شرّاً، وكم يُهين حرائر»
ولكن بحسب «صانسي» أنها لم تعرف المهانة يوماً، بل ظلّت متربّعة على الرؤوس الملكية، والصدور الملائكية، ومطمعاً للعيون، وحُلماً مشتهى على الأيام.
والآن، هل عرفتم لِم كانت قطعة الفحم الكريمة تساوي الملايين، ويتسابق إلى مزاداتها العارفون لقدرها ومكانتها الرفيعة؟ .■