هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي؟
منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وفي أقدم توثيق لوصفات الطعام في العالم، وجد كتاب محفور على ثلاثة ألواح من الطين في بابل العراقية، يحتوي على 35 وصفة متنوّعة بين المالح والحلو، ويثبت أهمية بعض الأكلات ونسبها، وهو موجود الآن في جامعة ييل الأميركية.
وفي العصر العباسي، ظهرت في البلاد العربية كتب طبخ متطورة مثل «كتاب الطبيخ» لابن سيّار الوراق في القرن العاشر، و«كتاب الطبخ» عام 1226 لمحمد بن حسن البغدادي، كما عثر أخيراً على كتاب طبخ سوري من العصور الوسطى، هو كتاب «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب»، وهو موسوعة قيمة نجد فيها ما يمكن أن يكون مفيداً حتى لهواة الطبخ المعاصرين ذوي الخبرة القليلة في الطبخ، ووصفات كثيرة مازالت معروفة إلى اليوم، مثل طريقة تحضير بعض الحلوى السورية الشهيرة، مثل: «لقمة القاضي» وَ«كُلْ واشْكُرْ».
وكما يقول تشارلز بيري، مؤرِّخ الطهي والتغذية والطبَّاخ الماهر الذي ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية أخيراً، بأنه: «بقدر ما نعلم فقد كان الناطقون باللغة العربية هم الوحيدون في العالم الذين صنَّفوا كتباً للطبخ في الفترة بين القرنين العاشر والثالث عشر».
أما في أوربا، فمن حيث الشكل، يعتبر أقدم كتاب طبخ معروف هو «دي ري كوكيناريا» الذي يعود إلى القرن الرابع في روما، كما عُرف كتاب طبخ قديم جداً ينتمي إلى الحضارة الإغريقية هو «كتاب شعر» أو ديوان للشاعر الإغريقي «أركسترتوس»، الذي يقال إنّه كتب أكثر من ألف قصيدة حول حبّه الطعام، وذلك نحو عام 400 قبل الميلاد.
وبعد ذلك أخذت كتب الطبخ تتطور إلى أن وصلنا إلى عصرنا الحديث، حيث حدث فجأة انفجارٌ في كتب الطبخ العربية والغربية التي غزت العالم وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من المطابخ حول العالم.
وعلى الرغم من أن القرون القليلة الماضية أدخلت تغييرات عديدة على المطبخ من تطور في التمديدات وأساليب التبريد ودخول أفران الميكروويف والخلاطات الكهربائية وغيرها، ولكن ثابتاً واحداً من أساسيات المطبخ لم يتغير كثيراً، وهو كتاب الطبخ.
الوصفات الغذائية وعصر الإنترنت
الآن، ومع دخول عصر الإنترنت، بدأ المشهد يتغير شيئاً فشيئاً، حيث تراجعت طباعة الكتب الورقية أمام زحف الكتاب الإلكتروني، على الرغم من أن سوق كتاب الطبخ بقي جيداً نسبياً، كما ظهر في معظم معارض الكتب في العالم، حيث سجلت كتب الطبخ مبيعات مرتفعة بالنسبة إلى بقية العناوين، وتأكيداً لذلك أشارت الدورية الأسبوعية لجمعية الناشرين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن مبيعات كتب الطبخ ارتفعت 6 بالمئة في 2016 مقارنة بالسنة التي سبقتها.
لكن وسائل الإعلام الاجتماعية والهواتف الذكية أخذت تبدل هذا الوضع مع دخول الأجهزة الرقمية إلى عالم الطبخ، فتغيرت الطريقة التي نستمد بها وصفاتنا تغيراً جذرياً على مدى العقد الماضي. فلم نعد نعتمد على الوصفات المطبوعة والبرامج التلفزيونية التي تعلم الطبخ بوساطة أشهر الطباخين، بل تحول انتباهنا إلى عالم الإنترنت، حيث ازدهرت مواقع طبخ عديدة وتطور محتواها مع ميزات مثل أشرطة الفيديو وروابط مسارد المصطلحات المدمجة، وبرز مئات من مدوني الغذاء الموهوبين الذين يبتكرون وصفات غذائية مختلفة كل يوم تقريباً. كما بدأ أبرز الطهاة بالالتحاق بالعالم الرقمي واللجوء إلى تأسيس مواقع تعلم تحضير الطعام على الإنترنت تحمل أسماءهم، وعمد عديد منهم إلى إصدار كتبهم الأكثر شعبية في شكل رقمي.
ومع اختراع الألواح الإلكترونية توافرت إمكانيات لطهي الطعام كانت مستحيلة مع جهاز الكمبيوتر المحمول، فقد ساعدت تقنيات مثل النقر وتكبير الشاشة وكل ما يسمح بالتنقل بين المعلومات بلمسة إصبع في الوسائط المتعددة بأن تكون الألواح الرقمية خير مرافق لتجربة الطبخ التي تنطوي على استخدام جميع الحواس بصورة دائمة.
وقد استقطب قطاع الطبخ اهتماماً واسعاً من قبل شركات الإعلام، التي لاحظت أنها قادرة على جذب المشاهدين من خلال مقاطع فيديو طهي مدتها 30 ثانية، صممت لتنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقررت عديد منها أن تحتضن مقاطع فيديو مختصة بتعليم الطبخ بعد انخراطها على مواقع يوتيوب، وبينتيريست، وموقع سكرابوكينج على الإنترنت، وإنستجرام فوتوشارينج، التطبيق الذي يجذب الناس بصور الطعام الجميلة.
يقول ديفيد غرانت رئيس شركة بوبسوغار، شركة الإعلام والتكنولوجيا الأمريكية الموجهة للنساء، إن كل ذلك أضفى بعداً جديداً لعالم الطعام تجاوز مجرد الاطلاع على وصفات الأطعمة الغذائية. فهناك عامل نفسي لا علاقة له بتحضير الطعام زاد من جاذبية هذه المواقع، إذ عمد العديد من الأشخاص للدخول إليها للاستمتاع بصور الطعام الجميلة، حيث إن هناك شعوراً بالرضا والمتعة ينتج عن التواصل مع الطعام.
كما عبر عديد من الأشخاص عن أنهم يدخلون إلى تلك المواقع لمجرد التسلية، وقد أكدت هذه المسألة اسمي ويليامز، نائب رئيس التسويق للعلامة التجارية في Allrecipes.com، موقع الطبخ الأكثر شعبية على الإنترنت، الذي تم إطلاقه في العام 1997، عندما قالت إن «50 بالمئة من الجيل الجديد يبحثون عن الطعام في المحتوى الرقمي يومياً، والسبب الرئيس في ذلك هو شعورهم بالملل».
كتب الطبخ أكثر من وصفات غذائية
أمام هذا التفوق الرقمي وتمدده إلى عالم الطبخ، لابد من طرح السؤال التالي: هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي؟
هناك من يقول إن كتب الطبخ قادرة على تجاوز أدوارها كمجرد وسائل لتعليم الطبخ، إذ إن السبب الذي يشتري بها الناس تلك الكتب يختلف كثيراً عن السبب الذي يشترون بها المؤلفات الأخرى. فغالباً ما ينظر إلى كتب الطبخ على أنها قطع فنية ثمينة تستحق اقتناءها، كما أن كتب الطبخ القديمة من أكثر الهدايا التي نهوى تقديمها في مناسبات اجتماعية عدة، لأنها أشياء جميلة في حد ذاتها.
ومثل معظم المجلات الموجعة للنساء حيث تلعب الصور الجميلة دوراً أساسياً في تنشيط الخيال والحلم بأشياء جميلة، كذلك تفعل كتب الطبخ، فتماما كما لن نمتلك ذلك المنزل الجميل أو تلك الحديقة الرائعة أو ذلك الثوب الفاخر، كذلك من غير المرجح أن نتمكن من نزع العظام عن ذلك الفروج ولا حشوه وإعادة خياطته بالطريقة المناسبة وتقديمه بتلك الصورة الجذابة، ولكن هناك متعة بالحلم والسعي إلى تطوير ذواتنا.
هناك أيضاً قيمة مضافة لكتب الطبخ، لكونها بقعة من التاريخ الاجتماعي والثقافي. يمكننا أن نتعلم الكثير من قراءة كتب الطبخ، وليس فقط كيفية الحصول على طريقة طهي تلك الفطيرة الممتازة. حين نقلب صفحاتها نرى التطورات والتغييرات الثقافية والاجتماعية والعلمية تمر أمام أعيننا، فمنذ زمن ليس ببعيد، كان لا بد من تعليم طريقة تحضير عجين المكرونة، بينما اليوم توصي كتب الطبخ باستخدامها، علماً بأنه بالإمكان تجنب عناء ذلك وشرائها جاهزة من على رفوف السوبرماركت، كما أصبحنا نقرأ عن وصفات تتضمن بين مكوناتها البازيلاء المثلجة أو أي نوع من الخضراوات الأخرى، بينما كانت الأطباق قديماً محدودة باستخدام الخضراوات الموسمية فقط.
وهناك عديد من كتب الطبخ التي تجمع بين وصفات الطعام والمعلومات التاريخية والثقافية، لنتعلم معها عادات وتراث وتقاليد الشعوب على طول الطريق. ففي كتابها The New Book of Middle Eastern Food عن الأطعمة الشرق أوسطية، هناك أوقات تبدو المؤلفة كلوديا رودن كعالمة الأنثروبولوجيا بقدر ما هي طباخة ماهرة. فعندما نقرأ عن طريقة شي الخروف في ذلك الكتاب، نتعلم عن العيد، والصليبيين، والطريقة التي يمثل فيها الطبخ، بالنسبة إلى الشعوب العربية، تعبيراً عن الحب والكرم وحسن الضيافة.
في لحظات، نسافر معها من مصر إلى تركيا إلى المملكة العربية السعودية، حيث تبعث تفاصيل صغيرة مجتمعات بأكملها إلى الحياة.
أما أحدث كتاب لروني لوندي بعنوان «مؤن» أو Victuals، فهو كتاب طبخ في المبدأ، لكنه في الواقع أكثر من ذلك بكثير، فهو توثيق لثقافة الطعام في مقاطعة أبالاشيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات عن التقاليد الغذائية في تلك المنطقة التي تشبه القصة التي تشد القارئ وتسحره من البداية حتى النهاية.
وإذا ما شرعنا في تطبيق إحدى وصفات الكتاب بعد رواية تلك القصص الممتعة، فلا بد لنا من أن نشعر بحميمية تجاه الأطعمة التي نحضرها، لأننا عرفنا نشأتها وأصولها ولغتها أكثر بكثير من مجرد أخذها من الإنترنت.
لكل تلك الأسباب، وعلى الرغم من شيوع الاستخدامات الإلكترونية، من الممكن أن نرى كتب الطبخ ذات الأغلفة الجميلة لسنوات عديدة قادمة، وبعبارة أخرى، على الرغم من كل التحولات، هناك شيء واحد ثابت، وهو أن كتب الطبخ قدمت - وسوف تقدم دائما – ما لا يمكن لوصفات الطبخ على الإنترنت أن تقدمه، وهو دوامها. إذ إن لكتب الطبخ القدرة على أن تنتقل من جيل إلى جيل، مما له أهمية الآن أكثر من أي وقت مضى، ونحن نحاول الحفاظ على ثقافتنا والتأكيد على أهميتها في عالمنا الحاضر ■