دَيْنٌ لا يُسَدَّد

دَيْنٌ لا يُسَدَّد

كنت‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الجامعة،‭ ‬متكئاً‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬الأعمدة،‭ ‬ذاهلاً‭ ‬عما‭ ‬حولي،‭ ‬لا‭ ‬أنتبه‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬أو‭ ‬يخرج،‭ ‬ولا‭ ‬أشعر‭ ‬بأي‭ ‬شيء،‭ ‬لا‭ ‬أسمع‭ ‬أصواتاً‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الطلبة‭ ‬الذين‭ ‬يتحدثون‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬صغيرة،‭ ‬فأنا‭ ‬وسط‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬والتيه‭ ‬والضياع،‭ ‬ساهماً‭ ‬أفكر‭.‬

‭-  ‬خيراً‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬نصف‭ ‬الألف‭ ‬خمسمئة؟‭ ‬

لم‭ ‬أنتبه،‭ ‬هزني‭ ‬برفق‭ ‬قائلاً‭: ‬ما‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬رجل؟‭ ‬فأنا‭ ‬أحدثك‭. ‬فيمَ‭ ‬أنت‭ ‬سارح؟

هززتُ‭ ‬رأسي،‭ ‬سلمتُ‭ ‬عليه‭ ‬معتذراً‭. ‬علاقتي‭ ‬معه‭ ‬عادية‭ ‬تماماً،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أصدقائي‭ ‬المقربين،‭ ‬ولكننا‭ ‬طلاب‭ ‬قسم‭ ‬واحد،‭ ‬وأسبقه‭ ‬بعام‭ ‬دراسي‭.‬

‭- ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يُشغلك؟‭ ‬أراك‭ ‬كأنك‭ ‬تحمل‭ ‬كل‭ ‬هموم‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭!‬

‭- ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬صدقني‭. ‬مُتعب‭ ‬فقط‭.‬

نظرات‭ ‬الشك‭ ‬لم‭ ‬تفارقه،‭ ‬جلس‭ ‬بجانبي،‭ ‬وأخذنا‭ ‬نتحدث،‭ ‬كان‭ ‬مندفعاً‭ ‬للحديث،‭ ‬وكنت‭ ‬بالكاد‭ ‬أتكلم،‭ ‬وبمشقة‭ ‬بالغة،‭ ‬فلم‭ ‬أكن‭ ‬أرغب‭ ‬بأي‭ ‬حديث‭.‬

‭- ‬اسمع،‭ ‬لن‭ ‬أتركك‭ ‬حتى‭ ‬تخبرني‭ ‬بأمرك،‭ ‬فقد‭ ‬تأكدت‭ ‬أنَّ‭ ‬أمراً‭ ‬جللاً‭ ‬يُشغلك،‭ ‬ويجثم‭ ‬على‭ ‬صدرك‭. ‬تحدث‭ ‬يا‭ ‬أخي،‭ ‬فضفض‭.‬

لزمت‭ ‬الصمت،‭ ‬فقد‭ ‬تعودت‭ ‬على‭ ‬كتمان‭ ‬أمري،‭ ‬ولا‭ ‬أشارك‭ ‬أحداً‭ ‬ما‭ ‬أعاني‭.‬

‭- ‬يا‭ ‬رجل،‭ ‬ربما‭ ‬أسافر‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬إلى‭ ‬باكستان‭ ‬لإكمال‭ ‬دراستي‭ ‬هناك،‭ ‬فلا‭ ‬يكن‭ ‬آخر‭ ‬ذكرياتي‭ ‬معك‭ ‬هذا‭ ‬التجهم‭ ‬والصمت‭ ‬والألم‭ ‬الدفين‭.‬

شعرت‭ ‬بالصدق‭ ‬في‭ ‬كلماته‭ ‬ومشاعره،‭ ‬وإصراره‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬بداخلي،‭ ‬فقلت‭:‬

‭- ‬التسجيل‭ ‬لم‭ ‬يبقَ‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬ساعتين‭ ‬أو‭ ‬أقل،‭ ‬وأنا‭ ‬بصراحة‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬المال‭ ‬الكافي‭ ‬للتسجيل،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬فسيضيع‭ ‬عليّ‭ ‬الفصل‭ ‬المقبل‭.‬

لاحظت‭ ‬حزنه‭ ‬وألمه،‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬معاتباً‭: ‬سامحك‭ ‬الله،‭ ‬تكلم‭ ‬يا‭ ‬أخي،‭ ‬اسأل،‭ ‬لعلها‭ ‬تفرج‭.‬

‭- ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬يا‭ ‬صديقي،‭ ‬فكلنا‭ ‬بالكاد‭ ‬يتدبر‭ ‬أمر‭ ‬نفسه؟

‭- ‬اسمع،‭ ‬أنا‭ ‬أنتظر‭ ‬أوراق‭ ‬قبولي‭ ‬في‭ ‬باكستان،‭ ‬وكنت‭ ‬أنوي‭ ‬التسجيل‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الاحتياط،‭ ‬أما‭ ‬وأنك‭ ‬في‭ ‬ورطة‭ ‬فأنت‭ ‬أحق‭ ‬به‭ ‬مني‭.‬

‭- ‬لا،‭ ‬مستحيل،‭ ‬لا‭ ‬أقبل‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أنانياً‭ ‬لهذه‭ ‬الدرجة،‭ ‬المال‭ ‬مالك،‭ ‬وأنت‭ ‬أولى‭ ‬به‭ ‬مني‭.‬

‭- ‬بصراحة،‭ ‬أنا‭ ‬كنت‭ ‬متردداً‭ ‬في‭ ‬التسجيل،‭ ‬ودخلت‭ ‬المسجد‭ ‬لأفكر‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬ووجدتك‭ ‬أمامي،‭ ‬فأرجو‭ ‬أن‭ ‬تقبل،‭ ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬مجبر‭ ‬أن‭ ‬تقبل،‭ ‬لعل‭ ‬الله‭ ‬ييسر‭ ‬لي‭ ‬أمر‭ ‬القبول‭ ‬في‭ ‬باكستان‭.‬

‭- ‬ولكن،‭ ‬كيف‭ ‬سأرد‭ ‬لك‭ ‬المبلغ‭ ‬إن‭ ‬سافرت؟

‭- ‬لا‭ ‬عليك،‭ ‬عندما‭ ‬تفرج‭ ‬عليك،‭ ‬سلم‭ ‬المبلغ‭ ‬لزميلنا‭ ‬أحمد‭ ‬سالم‭ ‬ليوصله‭ ‬إلى‭ ‬والدي،‭ ‬فهو‭ ‬جار‭ ‬لنا،‭ ‬ولن‭ ‬يتخرج‭ ‬قبل‭ ‬سنتين‭.‬

سلمني‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬أحتاجه،‭ ‬ثم‭ ‬وقف‭ ‬قائلاً‭: ‬هيا،‭ ‬أسرع‭ ‬وسجل‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬

عانقته‭ ‬شاكراً‭ ‬مودعاً،‭ ‬ودموعي‭ ‬تتساقط‭ ‬تأثراً‭ ‬وحمداً‭.‬

ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬وأكثر‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬طازجة‭ ‬كأنها‭ ‬جرت‭ ‬بالأمس،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تسديدي‭ ‬المبلغ‭ ‬بعد‭ ‬أشهر،‭ ‬فإنني‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬مديناً‭ ‬لهذا‭ ‬الصديق‭! ‬■