تسليع النجومية النجم والجمهور المستهلِك

تسليع النجومية النجم والجمهور المستهلِك

من المؤكد أن القدرات الذاتية لم تعد اليوم وحدها الفاعلة في جعل النجم نجمًا، بل إنها الحلقة الأضعف في صناعة النجومية، حيث تلعب أضواء كاميرات الإعلام الدور الحاسم في ذلك، فبين ليلة وضحاها يمكن أن يبرز إلى الفضاء العمومي الإعلامي العالمي نجم جديد ينسينا نجوم الأمس. 
هكذا نلمس أن النجومية أصبحت صناعة، وأن هنالك نوعًا من المنّ بالنجومية على النجوم، سواء في ميدان الدراما والسينما، أو الموسيقى والغناء، أو الرياضة وغيرها من المجالات التي تشكّل أرضية خصبة لظهور أو إظهار النجوم، الأمران سيّان.

هذا المن بالنجومية يجعل النجم مسلوب الحرية في أن يكون ما يريد، فبعد أن يكون نجمًا يتعرّض لإغراءات المحافظة على هذه النجومية، وهو يحافظ عليها إن أمكنه إرضاء اللوبي الإعلامي - الاقتصادي، عبر الخضوع لمنطق ترويج السلع، وهو ما يؤكده إدغار موران في كتابه «نجوم السينما»، حيث يقول إنه يتم نقل الاهتمام من النجم إلى السلعة، فيتحول بمقتضى ذلك اهتمام الإنسان/ المشاهد/ المستهلك المحتمل، من اهتمام بالنجم إلى اهتمام بالسلعة، فحبّ النجم يفرض على المشاهد/ المستهلك أن يحب ما يحبه ويكره ما يكره.
هنا لا يجد النجوم حرجًا في الترويج لمنتجات استهلاكية متعددة ومختلفة لا يستعملونها، بمعنى أنهم لا يجدون حرجًا في الانفتاح على الكذب، واستغلال حب الجمهور لهم، لأغراض ربحية هي في عمقها غير نبيلة، بل محكومة بهواجس الاقتصاد الرأسمالي.

وعاء حاضن للنجومية
من المعلوم أن السمة المميزة للاقتصاد الرأسمالي عن غيره من الأنماط الاقتصادية المتجاوزة تاريخيًّا أو واقعيًّا، هو كونه اقتصادًا يقوم على حرية المنافسة بين شركات الإنتاج بمختلف أطيافها، وعدم تدخّل الدولة في الاقتصاد. 
هذه الحرية الاقتصادية التي تلزم عنها أنماط مختلفة من الحرية في ظل الترابط الحاصل بين الاقتصاد الرأسمالي والأنظمة الليبرالية السياسية المواكبة له، وعلى رأسها حرية التعبير، تقدّم نفسها اقتصاديًّا على شكل حرية مطلقة - وليست مقيدة بقوانين صارمة - في الترويج للمنتجات الاستهلاكية للشركات المختلفة. إنها حرية تضع شركات الإنتاج وجهًا لوجه أمام المستهلك، عبر الوساطة الإعلامية، وهنا تُستغل مختلف طرق الإغواء والإغراء من أجل استقطابه، وهي طرق يعتبر النجوم هم الفاعلون المباشرون في رسم ملامحها.
لقد تطلّب هذا الوضع الاقتصادي البحث عن السبل الكفيلة لتحقيق هذا المبتغى الربحي، فظهر الإشهار كآلية مبتكرة تحقق هذه الغاية، وتبين في هذا المضمار أن الإشهارات لا تكون على الدرجة نفسها من القوة الإقناعية، كما تبيّن أنه لا يهم الكشف عن معايير جودة المنتج لتحقيق أعلى منسوب من المبيعات، فالمحدد لتحقيق هذه الغاية هو إقناع الجمهور، من حيث أن الأفراد المنتمين له، مستهلكون محتملون، وهنا تظهر سمة جديدة للمجتمعات التي ينشط فيها الاقتصاد الرأسمالي، حيث تقدّم نفسها كمجتمعات استهلاكية، سواء بطريقة واعية أو لا واعية، وهو ما كشف عنه بودريار في كتابه «المجتمع الاستهلاكي»، وكشف عنه ليوتار في كتابه «الاقتصاد الليبيدي».
ضمن هذا السياق تظهر الحاجة إلى النجومية، باعتبارها عنصرًا فاعلاً في الفعل الإشهاري، فالاهتمام بتفاصيل الإشهار واقتناء المنتج رهينان بربطه بمن يحبّه الجمهور، وهو النجم، سواء سطع في مجال السينما أو الموسيقى  والغناء، وفي هذا السياق يؤكد جيل ليبوفتسكي في كتابه «مملكة الموضة» أنه على الرغم من أن السينما هي سبب ظهورهم، فإن النجوم الكبار اقتحموا سريعًا عالم الأغنية وقاعات الموسيقى، ونحن هنا نضيف مجالاً آخر وفد إلى عالم النجومية أخيرًا، وهو مجال الرياضة، خصوصًا رياضيي كرة القدم التي صارت تلقّب بكونها معشوقة الجماهير.
هذه المجالات الثلاثة ما تزال مهيمنة على النجومية، حيث صار النجوم من هذه المجالات الثلاثة وثيقي الصلة برجال الإعلام ورجال الأعمال، بل إن النجومية صارت تُصنع في أفق استغلالها على نحو اقتصادي من أجل تحقيق الأرباح واستهداف جيوب الجماهير.

النجم والجمهور والسلعة
من الوظائف الخطيرة التي يقوم بها النجوم اليوم في علاقتهم بالسلعة والجمهور هي أنهم يولّدون بهرجة من فراغ، على حد تعبير ليبوفتسكي، بل إنهم يجعلون سمة العصر هي الفراغ ذاته. وإذا ما ركّزنا في هذا السياق على سلعة بعينها، كما هو الشأن بالنسبة إلى مساحيق التجميل واللباس، فإننا سنجد أن ربط الموضة بالنجومية هو تشكيل لمسرح من الخدع، يتم بمقتضاه الارتقاء بالمهمل إلى مستوى المهم، فالسروال الممزق كان بالأمس القريب رمزًا من رموز الفقر وقلة ذات اليد، أما اليوم فالناس لا يخجلون من اقتناء سراويل ممزقة بأثمان باهظة.
هذا التحول في علاقة الجمهور بالسلعة يتم من خلال دور الوساطة الذي يقوم به النجوم عبر آلية الإشهار، وآلية ملازمة له وهي التكرار، فتتالي الإشهارات وتكرارها خصوصًا في وقت الذروة، يقودان إلى توليد الرغبة لدى المستهلك، بما هي رغبة في الكينونة على نحو ما يكونه النجم، قبل أن تكون رغبة في السلعة ذاتها.
هنا تظهر من جديد دقة وصف ليوتار للاقتصاد الرأسمالي بكونه اقتصاداً ليبيدياً، وتظهر ليبيديته بشكل واضح، عندما تتجاوز حدود التمظهر على هذا النحو، لكي ترتبط على وجه الخصوص هذه المرة بالمرأة النجمة، التي وصفها إدغار موران بأنها نصف إلهة، لكنها مصنوعة إعلاميًّا، وهو ما عبّر عنه ليبوفيتسكي بقوله «النجم هو تركيبة صناعية».
يتميز حضور المرأة كنجمة، أي كوسيط بين الجمهور والسلعة، بتدخّل البُعد الإغرائي بشكل واضح، حيث تستخدم المرأة - النجمة استخدامًا تسليعيًّا تقبله على نفسها في أفق تحويل المشاهد إلى مستهلك، والآلية الميسرة لحصول هذه الغاية هي الإغراء والإغواء، وهو ما يكشف عنه أيضًا ليبوفتسكي بقوله: «مع النجوم لمع شكل الموضة بكل بريقها، الإغواء كان في أوج سحره».
هكذا إذن تتحدد العلاقة بين النجم وجمهوره/ المستهلكين، كعلاقة غير متكافئة، فإذا كان محرّك الجمهور نحو النجم محرك عاطفي ناتج عن المؤثرات الإعلامية للصورة بمختلف تلاوينها، وهو أمر كشف عن سبل تحققه جيل دولوز في كتابين عن السينما، الأول حول الصورة والحركة، والثاني حول علاقتها بالزمن، فإن محرّك النجم نحو الجمهور هو محرك ربحي مادي، يقودنا إلى فهم الإشهار الذي يحثهم من خلاله على اقتناء السلع، على أساس أنه آلية لممارسة العنف الرمزي، علمًا بأن بيير بورديو يؤكد في كتابه «الرمز والسلطة» أن هذا النوع من العنف يُمارس بتواطؤ مع أولئك الذين يُمارس عليهم، وهو يتغلغل في الحقل الاجتماعي من خلال رأس المال الرمزي للنجم، المكتسب بقوة التكرار والتحسينات الإعلامية.

خاتمة
يظهر أن النجومية تنشد من خلال استخداماتها من قبل القوى الإعلامية - الاقتصادية أن توجد سلوكيات محاكية لدى الجمهور مدارها حول الاستهلاك، فالغرض هو ترويج منتجات مختلفة خاصة بشركات بعينها.
هذا الوضع يتطلب يقظة ذهنية، وقبل ذلك تحليلًا نقديًّا من قبل المشتغلين بالحقل الفلسفي والسوسيولوجي والسيكولوجي للاستخدامات الإعلامية والاقتصادية للنجومية، حتى يكون بإمكان الجمهور أن يجد مرتكزًا عقلانيًّا يحفظ من خلاله إنسانيته، أي وعيه وقدرته على التمييز والاختيار، في ظل عصر سمته الاستقطاب والإغراء والإقناع والإغواء .