التأليف في الهجر بين «المصون» و«طوق الحمامة»

التأليف في الهجر  بين «المصون» و«طوق الحمامة»

يقول أبو إسحاق الحصري: «وكم من ملك قاهر، وسلطان قادر، تذلّ لهيبته الأملاك، وتذعن لسطوته الفتاك، أذلّه الهوى وأهانه، وأذلّ عزّه وسلطانه!». ويقول ابن حزم الأندلسي: «ومن علاماته حبّ الوحدة والأُنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حدّ يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلّب والحركة والمشي!». 
تلك سطوة الحب كما وصفها كتابا «المصون في سرّ الهوى المكنون» للحصري (413 هـ)، و«طوق الحمامة في الألفة والألّاف» لابن حزم (456 هـ)، فكيف انتهج الأديبان التأليف في الهوى؟ وما أبرز ما تضمّنه مؤلفاهما عن عاطفة أذلت الملوك وآنست صاحبها بالانفراد؟ وإن كان هذا مبلغ أثرها، فما ذكر الأديبان عن الهجر ووقوعه؟!

يُعد «المصون» و«طوق الحمامة» من أبرز تناولات ظاهرة الحب نثرًا علميًّا في الفكر العربي القديم، وقد حظي طوق الحمامة بشهرة واسعة وعناية غامرة من الباحثين والدارسين شرقًا وغربًا، في حين قلّ الحديث عن كتاب المصون، رغم ما بين المؤلفين من تقاطعات ظاهرة، وتقارب بالفترة الزمنية في وضعهما! ولعل ذلك يعود إلى تأخر تحقيق كتاب المصون الذي ظُنّ أنه فُقد ككثير من الكتب، حتى وجد د. النبوي شعلان نسخة منه في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، وأصدر تحقيقه عام 1989م. أما طوق الحمامة فقد أصدر المستشرق بيتروف طبعة منه عام 1914م، ثم طُبع عشرات الطبعات بلغات مختلفة، ودخل الغرب ليجد اهتمامًا واسعًا لجدّته وطرافته.

إضاءة حول منهج التأليف
جعل الحصري من كتابه حوارًا بين أليفين عن عاطفة الحب ومظاهرها وأحوال أهلها، وجاء «طوق الحمامة» متميزًا بأسلوبه السردي في تحليل الظاهرة، وذكر خبرات ابن حزم فيها، ورأى د. شعلان أن كتاب ابن حزم يُعدّ في عُرفنا الحاضر مذكّرات شخصية، وأن كتاب «المصون» هو كتاب علم وأدب، إذ جاء مليئًا بنواحٍ علمية وأدبية ونقدية.
ومن بين كتب الحصري يتميز «المصون» بوحدة الموضوع، إذ يتناول سيرة الحب وما يتصل به من عفّة وكتمان سرّ وهجر وغيره، غير أنه في كتابته لم يلتزم بوضع عناوين لما يتحدث عنه، فجاء الكتاب متتابعًا، ينتقل فيه القارئ من موضوع إلى آخر دون فاصل ينبهه، لذا عمد المحقق بنفسه إلى وضع عناوين لكل موضوع.
في حين أن ابن حزم قسّم كتابه إلى ثلاثين بابًا، منها في أصول الحب عشرة، وفي أعراضه اثنا عشر بابًا، وفي الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب، وبابان آخران ختم بهما الرسالة، باب في قبح المعصية وآخر في فضل التعفف.
ومازج الحصري وابن حزم بين النثر والشعر، إذ بدآ بحديث عن عاطفة الحب، ثم أتبعاه بشعر يؤيده، وإن زاوج الحصري بين الإنشاء الشخصي نثرًا وشعرًا وبين الجمع ورواية نصوص من سبقوه، فقد غلب على ابن حزم إيراده شعرًا كثيرًا من تأليفه، وأخبارًا عدة عن العشق وقعت له أو لمعاصريه في الأندلس. وقد غيّب ابن حزم في مؤلفه الشعر المشرقي، خلا بعض الأبيات، وحلّت عنده التجربة الأندلسية على خلاف الحصري، الذي جاءت أكثر شواهده ممن سبقوه في المشرق.
ومهما يكن من شأن الكتابين ائتلافًا واختلافًا، فإن لكل منهما كيانه الخاص الذي ينفرد به عن الآخر ويشكّل طرافته وأهمّيته، وليس الوقوف على بعض تلك النواحي إلا من قبيل التعرّف إلى طريقة التفكير بالتأليف في شأن واحد عند الكتّاب الأوائل، ومثالًا نوجز به القول نتناول الحديث عن الهجر بين الكتابين، إذ اتفق المؤلفان بالاستفاضة في ذكر الهجر، بوصفه من أقسى ما يطال المحب ويُنهك من ابتُلي به، وبعدِّه مما يستطاب بالحب في بعض ضروبه!

الهجر بين «المصون» و«طوق الحمامة»
جاء ذكر الهجر في كتاب الحصري بعد ذكر علل الحب والتقرّب للوصل، إذ أفرد الحديث عن أنواع الهجر، والمجازاة على الهجر، كما أتبعه بالحديث عن البعد في الحب، والصد، والبين والفراق. وأدرج ابن حزم باب الهجر ضمن الآفات الداخلة على الحب، وجاء بذكره بعد باب الواشي وباب الوصل، وأتبعه بالحديث عن الوفاء والغدر، فالبين.
وإذ يبدو لنا أن موضع تناول كل مؤلّف للهجر جاء منتظمًا ومتّسقًا مع سابقه ولاحقه، لاسيما الإتيان به بعد ذكر ضده الوصل؛ الذي يمثّل أعلى مراتب الحب وذروته، فإننا نشير إلى أن الحصري قد تحدّث عن الوفاء والإنصاف والغدر قبل حديثه عن الهجر، في حين أن ابن حزم أخّر هذا الحديث بعد ذكره للهجر، وفي كليهما نرى أن بلوغ الحديث عن الهجر يفضي إلى كل ما من شأنه إنهاء هذا الحب، فإن لم يكن بالهجر فبالفراق والغدر والسلو.
ومما اتفق فيه المؤلفان أن جعلا أنواع الهجر وضروبه منطلق الحديث عنه، إذ ابتدأ الحصري حديثه عن أنواع الهجر مستهلاً بما جاء به ابن داود في تقسيمه: «وقد قسّم ابن داود الهجر على أربعة أضرب هي: هجر دلال، وهجر ملال، وهجر مكافأة على الذنوب، وهجر (يوجبه) البغض المتمكن في القلوب»! واقتضب الحصري في تبيان كل نوع، وجاء في وصفه للهجر الأخير: «وأما الهجر الذي يوجبه البغض، فهو الداء الذي لا دواء له».
أما ابن حزم فابتدأ بذكر كل ضرب ثم تبيانه باستطراد: «ومن آفات الحب أيضًا الهجر، وهو على ضروب: فأولها هجر يوجبه تحفّظ من رقيب حاضر، ثم هجر يوجبه التذلل، ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، ثم هجر الملل، ثم هجر القلى»، واصفًا هجر القلى بقوله: «وهنا ضلّت الأساطير ونفدت الحيل وعَظُم البلاء، وهو الذي خلّى العقول ذواهل».
وكسائر أبواب الكتابين، مزج الحصري وابن حزم في الحديث عن الهجر بين النثر والشعر، فالحصري أورد أشعار سابقيه وأخبارهم، وأورد ابن حزم آراءه الخاصة وأشعاره وأخباره. ومما جاء به الحصري حول هجر العتب واستطابته في الحب قول العباس بن الأحنف:

وأحسنُ أيام الهوى يومك الذي
تُروَّع بالهجران فيه وبالعتبِ
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى
فأين حلاوات الرسائل والكتبِ؟

ومما ذكره ابن حزم في ذلك: ولعمري إن فيه إن كان قليلاً للذّة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود... وإنما يستحسن إذا لطُف وكان أصله الإشفاق. وفي ذلك أقول:

لعلّك بعد عتبك أن تجودا
بما منه عتبت وأن تزيدا
فكم يوم رأينا فيه صحوًا
وأسمعنا بآخره الرعودا
وعاد الصحو بعدُ كما علمنا
وأنت كذاك نرجو أن تعودا

لقد قدّم الأديبان تحليلاً عميقًا لخبايا النفس الإنسانية الواقعة في جبّة الهوى، وأسهم منهج التأليف الذي اتّبعاه في تفسير هذه العاطفة والإلمام بأطرافها، كما جاء تعاطيهما للهجر ملمَّا ومكافئًا لما يوقعه من أثر في نفس الآلاف، ونستطيع أن نرى أن الاختلاف بينهما حكيًا واستشهادًا أفضى لتقديم تحليل أغور تكاملاً عن الهجر وتبيّناته >