رحلتي مع مجلة العربي رحلة طويلة من العلم والثقافة

رحلتي مع مجلة العربي  رحلة طويلة من العلم والثقافة

تصفحت العدد الأول من مجلة العربي عند صدوره، وكنت في المدرسة الابتدائية حديث العهد بالقراءة والكتابة. كنت قد استمعت لمن هم أكبر منّي سناً، وهم يتحدثون بحماس ولهفة عن المجلة الجديدة التي صدرت في الكويت. كان العدد الأول من المجلة لافتاً للنظر ومثيراً للاهتمام، حيث احتوى تقريراً أو استطلاعاً عن ثورة الجزائر وجيش تحريرها. 

كانت تلك الثورة مفخرة للشباب العربي في كل مكان، وكان الأطفال، خاصة في المدارس، يتبرعون بمصروفاتهم الشخصية لتلك الثورة العظيمة. 
وحوى العدد أيضاً، إضافة إلى كثير من المواضيع، مقالاً عن القومية العربية، لم أفهم منه الكثير، كانت فترة النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي مشتعلة بأفكار عبدالناصر القومية، وخاصة بعد انتصار مصر على العدوان الثلاثي تحت قيادته المخلصة الشجاعة. 
كانت تلك فترة الزمن الجميل، حيث كان العرب على اختلافاتهم العقائدية والسياسية على قلب رجل واحد ضد أعداء الدين والوطن. أين نحن الآن من تلك الأيام، أيام الزمن الجميل، أيام العزة والكرامة؟! 
وقد واظبت على شراء المجلة واقتنائها وتصفّح استطلاعاتها وقراءة القليل من مقالاتها خلال فترة الدراسة الإعدادية والثانوية التي امتدت حتى منتصف ستينيات القرن الماضي.
ومن الأمور الطريفة التي حدثت خلال السنوات الأولى لصدور المجلة أن ابن عم لي يصغرني ببضع سنوات، كان رغم حداثة سنه يواظب على شراء المجلة.  وعندما احتل الكيان الصهيوني الضفة الغربية عام 1967 فكّر عمي - رحمه الله - (والده) في المغادرة إلى الأردن، فوزع ابن عمي أشياءه الخاصة على أصدقائه الصغار، باستثناء مجلة العربي التي جمع أعدادها في حقيبة ليحملها على ظهره وهو مغادر. ولحُسن الحظ، فإنهم لم يجدوا تشجيعاً من أحد على المغادرة ولم يغادروا. تحية لابن العم عرفات محمد حلمي المغترب في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي لم نره أو نلتق به منذ فترة طويلة. وأجمل تحية أيضاً الى الأدباء الشباب في ملتقى بلاطة الثقافي في نابلس؛ الذين اعتادوا على مناقشة أعمال المجلة الأدبية وغيرها من الأعمال الثقافية في جلساتهم الدورية.

عدتُ كاتباً
انقطعت عن المجلة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في أثناء دراستي الجامعية للدرجة الأولى بجامعة القاهرة، إذ إن دراسة الفيزياء لا تترك أي مجال آخر لدارسها. وعدت إلى متابعة المجلة بعد التخرج والعمل معيداً بقسم الفيزياء في جامعة الملك سعود (جامعة الرياض في ذلك الوقت)، وانقطعت عنها مرة أخرى منتصف السبعينيات، بسبب الدراسات العليا لدرجة الدكتوراه في الفيزياء من بريطانيا.
خاطبت مجلة العربي في عددها الأول القارئ قائلة: (تريد «العربي» أن تجعل منك كاتباً لا قارئاً فحسب)، وهكذا فقد عدت إلى مجلة العربي قارئاً وكاتباً في منتصف الثمانينيات.  وقد كانت سعادتي غامرة لا توصف، عندما نشرت «العربي» أول مقال لي في عدد فبراير عام 1985، ولا أبالغ إذا قلت إنها أكثر من سعادتي عندما حصلت على درجة الدكتوراه في الفيزياء، فالحصول على تلك الدرجة بعد أربع سنوات من الدراسة والبحث العلمي المضني الجاد يكون أمراً عادياً، أما نشر مجلة العربي لمقالي، وهي المجلة الثقافية الأولى في الوطن العربي، فتلك شهادة مهمة بأنني أصبحت ناضجاً ولديّ من العلم والأفكار ما قد يفيد الآخرين.
كنت أعمل في تلك الفترة أستاذاً مساعداً للفيزياء في جامعة قسنطينة بالجزائر، وكان لي جار أكبر مني سناً برتبة أستاذ في الجامعة، وتعجّب عندما شاهد المقال، قائلاً إنه يحاول منذ فترة طويلة الكتابة في المجلة من دون فائدة. ونشرت لي «العربي» مقالين آخرين فيما بعد، قبل انقطاعي عنها مرة أخرى عند عودتي للعمل في فلسطين المحتلة، حيث شعرت بأنني في سجن كبير معزول عن العالم العربي.

«العربي العلمي»
واستمرت هذه العزلة سنوات عدة، ومع تقدّم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وظهور شبكة الإنترنت العالمية والبريد الإلكتروني، أصبح التواصل مع المجلة أمراً ميسوراً. 
وقد سررت جداً بإصدار مجلة خاصة للعلوم، هي مجلة العربي العلمي، التي تواصلت معها ونشرت مقالات عدة، من دون أن أرى أي عدد ورقي منها، لكنني حزنت عند توقّف المجلة عن الصدور، من دون معرفة أسباب ذلك. 
وبعد توقّف «العربي العلمي» عن الصدور، تواصلت مع المجلة الأم، من خلال البريد الإلكتروني، ونشرت فيها عدة مقالات في العامين الماضيين. ويبدو لي أن رحلة الثقافة والعلم مع تلك المجلة الفريدة مازالت مستمرة.
ختاماً، أود أن أتقدم بالشكر الجزيل للكويت حكومة وشعباً على إصدار هذه المجلة الثقافية المهمة التي أصبحت، بعد ستين عاماً من العمل الجاد، لبنة أساسية في البناء الثقافي للعالم العربي. 
كما أشكر طاقم المجلة الحالي، ومن عمل فيها سابقاً، على الجهود الكبيرة المبذولة لإخراجها بصورتها الحالية المميزة المعروفة لقراء اللغة العربية في كل مكان■