اللوازم النقدية للحداثة

اللوازم النقدية للحداثة

يقول تيري إيجلتون في كتابه «نظرية الأدب» (ترجمة ثائر ديب) ما يلي: «الواقع أن حركة الحداثة الغربية هي التي أنجبت النقد البنيوي وما بعد البنيوى. وبعض أعمال بارت ودريدا هي نصوص أدبية حداثية في حد ذاتها، تجريبية ومُلغِزة ومفعمة بالالتباس، ذلك أن مرحلة ما بعد البنيوية لا تفصل فصلاً واضحاً بين النقد والإبداع، فكلاهما كتابة على حد سواء. ولقد بدأ وجود البنيوية عندما أصبحت اللغة الشغل الشاغل للمفكرين».

والواقع أننا في «فصول» كنا ندرك هذا التلازم بين الحداثة من ناحية، والبنيوية وما بعدها من ناحية ثانية.
ولم يكن من المستغرب، والأمر كذلك، أن نهتم بالحداثة العربية في حركاتها المتتابعة بالتاريخ الثقافي العربي؛ أعني في الثلاثينيات المصرية والخمسينيات اللبنانية، ثم في السبعينيات والثمانينيات العربية بوجه عام، خصوصاً حين أصبح الجميع يتحدثون عن الحداثة وتؤلّف عنها الكتب التي بلغت من كثرتها أنها غطت الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.
وأذكر أن «فصول» عقدت مؤتمراً عن الحداثة في الشعر سنة 1984، بمبنى جامعة الدول العربية، وقد اشتركتُ في هذا المؤتمر مع أبرز النقاد العرب الذين كان منهم جبرا إبراهيم جبرا وخالدة سعيد وعبدالسلام المسدي ومحمد بنيس ومحمد برادة، وعشرات غيرهم على امتداد الوطن العربي.
وقد تحدثتُ فيه عن أشكال الحداثة في الشعر، وكنتُ قد ارتبطت بالحداثة من قبل إسهامي في مجلة «فصول»، ودفعت في اتجاه ارتباط المجلة بتيار الحداثة.
وقد اخترتُ أن أكتب عن أهم شعراء الحداثة المصرية العربية في توجهها الجذري عند أدونيس، متوقفاً بشكل خاص في العدد الثالث من مجلة فصول عند قصيدة «القناع» بوجه عام والتحليل النقدي الذي كنتُ متأثراً فيه بكتابات باشلار عن رمزية العناصر الأربعة، وهي الماء والنار والهواء والتراب، وهو الأمر الذي كشف عن أبنية ودلالات الحديث الرمزي عن العناصر الأربعة للكون، وحاولت استخراج العناصر التكوينية لبنية قناع مهيار الدمشقي، موزّعاً عناصرها التكوينية بين عناصر الكون، الماء والهواء والنار والأرض والتراب. 

مجلة الحداثة الأدبية
أما في بحث مؤتمر الحداثة، فقد كتبت عن الحداثة الشعرية العربية بوجه عام، وكنت قد تركت مجلة فصول لذهابي إلى جامعة الكويت. 
وبعد خمس سنوات عدت إلى القاهرة لأعاود الالتحاق بـ «فصول» التي كانت قد أصدرت عدداً أو عددين عن أبحاث هذا المؤتمر بين دفتيها، ولذلك كان من الطبيعي جداً أن يطلق على أعداد «فصول» مجلة الحداثة الأدبية، وأن ترتبط الحداثة بـ «فصول» كما ترتبط هي بالحداثة في وقت واحد.
ويبدو أن هذا الأمر كان صعباً على كثيرين، خصوصاً الذين اعتادوا على النظريات السائدة بمن فيهم أتباع «نظرية الانعكاس» عند لوكاش، أو أتباع نظرية «النقد الجديد» عند رشاد رشدي ومدرسته، ولذلك كنا نتلقى في «فصول» نوعين من النقد، نقد الماركسيين من المتابعين لنظرية الانعكاس، خصوصاً المتعصبين منهم والأكثر ميلاً إلى الواقعية الاشتراكية، وأتباع نظرية «النقد الجديد» التي زعزعت البنيوية وما بعدها الأرض المستقرة التي كانوا يستندون إليها.
وعندما أتأمل الآن الاستجابات العدائية إزاء «فصول»، أجدني أستعيد على الفور تعليقات رشاد رشدي السلبية عن المجلة، ومنها تعقيبات تشتكي من صعوبة موضوعات المجلة، وهي تعقيبات ارتفعت أصواتها، خصوصاً بعد صدور الجزء الثاني من مناهج النقد الأدبي المعاصر، وما احتواه من محاولة بعض الكتّاب أن يضيِّقوا المسافة بين آخر إنجازات النقد في العالم، وبين الأحرف الأولى من أبجدية النقد لدينا، فجاءت دراساتهم مُحمَّلة بعشرات المصطلحات الأجنبية من قبيل: السميوطيقا مفاهيم وأبعاد، وسيمولوجيا اللغة، والهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، والمدخل الأنطولوجي... إلخ، الأمر الذي أثار عديداً من التساؤلات، وأعلن رشدي أنه لا يوجد نقد حقيقي في مصر، وبأننا متخلِّفون نقدياً مئة سنة، فالنقد النظري عندنا مُتخلِّف، والنقد التطبيقي غير موجود بالمرة. 

مجرد سفسطة
وإذا كنا نأخذ بعض الموجات الحديثة، فإننا نصطنع هذه الموجات، والنقد الذي يزدحم بالمصطلحات هو مجرد سفسطة، فالنقد في حد ذاته هو توضيح العمل الأدبي وليس إبهامه، وكل ما يخدم توضيح العمل هو جائز وشرعي.
أما عبدالعزيز حمودة - تلميذ رشدي - فركَّز على صعوبة المصطلح الجديد، موضحاً أن الناقد الذي ينقل مصطلحاً أجنبياً نقلاً حَرْفياً عن اللغة الأصلية، هو ناقد يهرب من الترجمة، فقد تكون بعض المصطلحات جديدة على لغتنا، فيمكن أن يقدمها مع الشرح والتوضيح، وليس في هذا عيب. وختم حمودة تعليقه باعتراف مؤداه أن كثيراً من المصطلحات التي وردت في العدد الثالث من «فصول» يحتاج فعلاً إلى تفسير حتى للقارئ المثقف. وكان ذلك بجريدة الأخبار في عددها الصادر بتاريخ 27/5/ 1981. 
ولا يعني هذا التعليق السلبي إلا أن حمودة لم يكن متقبِّلاً بسهولة فكرة وجود مجلة متخصصة كتلك التي رأى ما يماثلها في الولايات المتحدة، حيث كان يدرس في إحدى جامعاتها لكي يحصل على درجة الدكتوراه. 
وفيما عدا هذا التعليق وتعليقات أخرى قليلة مشابهة، كان رد الفعل العام لمجلة فصول حماسياً ومفرحاً إلى أبعد حد.
وبعد أن نشرت «فصول» الأبحاث التي أُلقيت في مؤتمرها عن الحداثة، الذي عقدته بجامعة الدول العربية، تزايد الارتباط الوثيق بين كتابات «فصول» من ناحية والحداثة من ناحية أخرى، والعكس صحيح في الوقت نفسه. وأصبحت هذه العلاقة المتبادلة دالة على توجهات المجلة. 

قيود الاتباع
والحق أن العقل العربي الشاب لم ينشغل منذ أواخر الستينيات وما بعدها انشغاله بقضية أخرى مثل الحداثة التي رأى فيها حلاً للمستقبل، وسبيلاً واعداً للخروج من مأزق التخلف الذي زرعته في النفوس على امتداد الوطن العربي كله، هزيمة يونيو 1967 التي لم تكن هزيمة لمصر وحدها، بل هزيمة لأحلام الأمة العربية كلها؛ أعني أحلامها في التقدم إلى الأمام وليس العودة إلى الوراء. وهكذا رُفِعتْ رايات «الحداثة» في علاقتها بـ «التحديث»، بوصفهما حلًّا لمشكلات التخلف من ناحية، وخروجاً من قيود الاتباع والتخلف من ناحية موازية.
هكذا انهمرت كُتب عن «الحداثة» و«التحديث» و«ما بعد الحداثة» على امتداد الوطن العربي كله، حيث أذكر كتاب كمال خير بك «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر»، الذي صدر بالفرنسية 1973، ولكن لظروف خاصة بأحداث لبنان فقد تأخر طبع الكتاب ونشره بالفرنسية حتى عام 1978، ثم ترجمه أصدقاؤه إلى اللغة العربية عن دار الفكر في بيروت سنة 1982، وقد جاء بعده  في سنة 1983 ترجمة كاظم جهاد لكتاب هنري لوفيفر بعنوان «ما الحداثة؟»، وبعدها كتاب الصديق محمد بنيس «عن حداثة السؤال... بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة»، الصادر عن المركز الثقافي العربي 1985، ويلي ذلك كتاب د. محمد حمود «الحداثة في الشعر العربي المعاصر... بيانها ومظاهرها»، الصادر عن دار الكتاب اللبناني في بيروت سنة  1985، ويليه كتاب «الأيديولوجية والحداثة»، وهو قراءات في الفكر العربي المعاصر لسعيد بن سعيدة الصادر سنة 1987 بالدار البيضاء، ثم «بناء الأسلوب في شعر الحداثة» للدكتور محمد عبدالمطلب سنة 1988، ويأتي بعده كتاب «فلسفة الحداثة»، الصادر عن مركز الإنماء القومي لكل من د. فتحي التريكي، ود. رشيدة التريكي سنة 1992، ثم كتاب مي غصوب - يرحمها الله - «ما بعد الحداثة... العرب في لقطة فيديو»، المطبوع في دار الساقي 1992، ثم كتاب مارجريت روز عن «ما بعد الحداثة»، ترجمة أحمد الشامي، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1994.

رهانات الحداثة
وتنشر دار المدى لفاضل العزاوي «بعيداً داخل الغابة... البيان النقدي للحداثة العربية» سنة 1994، وكتاب محمد بنيس «كتابة المحو» عن دار توبقال في المغرب سنة 1994، وكتاب «مجتمع الفرجة... الإنسان المعاصر في مجتمع الاستعراض» لـ جي ديبور، ترجمة أحمد حسان عن دار شرقيات سنة 1994، وقد ترجم أحمد حسان أيضاً «مدخل إلى ما بعد الحداثة» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 1994، ويأتي بعد ذلك «الوضع ما بعد الحداثي» لجان فرانسوا ليوتار عن دار شرقيات سنة 1994، وبعده كتاب مالكولم برادبري «حركة الحداثة 1890 - 1930» ترجمة مؤيد حسن فوزي عن مركز الإنماء الحضاري - الطبعة الثانية سنة 1995، ثم كتاب «ما بعد الحداثة... الحركات الفنية منذ عام 1945»، ترجمة فخري خليل، ومراجعة جبرا إبراهيم جبرا سنة 1995، وكتاب «الحداثة وما بعد الحداثة» لبيتر بروك، ترجمة عبدالوهاب علوب - منشورات المجمع الثقافي في أبوظبي سنة 1995، وكتاب د. لطيفة الزيات «فورد مادوكس فورد والحداثة... دراسات نقدية»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1996.
وتمضي الكتابة لنصل إلى «رهانات الحداثة» لصلاح بوسريف عن دار الثقافة في الدار البيضاء سنة 1966، ويأتي كتاب «مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة... حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر»، ترجمة محمد الشيخ وياسر الطائري عن دار الطليعة - بيروت سنة 1996. وبعدها كتاب آلان تورين: «نقد الحداثة»، ترجمة أنور مغيث سنة 1997، ثم «نهاية الحداثة... الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة»، ترجمة فاطمة الجيوشي لـ جان جياني فاتيمو - دمشق 1998، وبعد ذلك كتاب محمد نورالدين أفاية عن «الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة... نموذج هابرماس»، عن دار إفريقيا الشرق سنة 1988.
وقد صدرت ترجمة أخرى لكتاب تورين عن «نقد الحداثة» بقسميه من صنع صياح الجهيم في سورية، دمشق 1988، وترجمة لكتاب مالكولم برادبري وجيمس مكفارلين «حركة الحداثة... 1890 - 1930» في جُزْأَينِ، ترجمة عيسى سمعان - دمشق 1998.

دراسة مهمة
ويظهر بعد ذلك كتاب بول. ب. ديكسون «الأسطورة والحداثة» ترجمة خليل
كلفت - القاهرة 1998، وكتاب: «الحداثة والتاريخ» لكمال عبداللطيف، وهو «حوار النقد مع بعض أسئلة الفكر العربي»، صدر عن دار إفريقيا الشرق بالمغرب سنة 1999.
ولم تتوقف الكتابات أو الترجمات عند هذا الحد، فهناك «العبارة الصوفية في الشعر العربي الحديث» لسهير حسانين سنة 2000 عن دار شرقيات، وكتاب «الشعرية البنيوية» تأليف جونثان كيللر، ترجمة السيد إمام، وهو الكتاب العُمْدة في دراسة البنيوية، وقد أصدرته دار شرقيات سنة 2000، ثم تأتي ترجمة ثائر ديب لكتاب تيري إيجلتون بعنوان: «أوهام ما بعد الحداثة» وقد صدر سنة 2000 أيضاً عن دار الحوار السورية.
ويأتي كتاب محمد دكروب: «تساؤلات أمام الحداثة والواقعية في النقد العربي الحديث» عن دار المدى للثقافة والنشر سنة 2001. وبعدها عن الدار نفسها يصدر كتاب إرنست غيلنر «ما بعد الحداثة... العقل والدين»، ترجمة معين الإمام، ثم تظهر الدراسة المهمة للأستاذ نبيل عبدالفتاح عن قضايا الحداثة والعولمة في مصر بعنوان: «اليوتوبيا والجحيم» عن المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، فبراير سنة 2001، ويأتي بعد ذلك كتاب «توجهات ما بعد الحداثة» تأليف نيكولاس رزبرج، ترجمة وتقديم ناجي رشوان، ومراجعة محمد بريري، سنة 2002، ثم كتاب فدوى مالطي دوجلاس بعنوان: «من التقليد إلى ما بعد الحداثة» عن المشروع القومي للترجمة بالقاهرة 2003، ونقرأ «دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة» لـ مادن ساروب، ترجمة: خميس بوغرارة - قسنطينة - الجزائر 2003، وكتاب رضوان جودت بعنوان: «صدى الحداثة... ما بعد الحداثة في زمنها القادم» عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء 2003، وتصدر دار الفكر العربي في دمشق في سلسلة حوارات لقرن جديد - كتاب عن «خطاب الحداثة في الأدب... الأصول والمرجعية» لكل من جمال شحيد ود. وليد قصاب 2005، وكتاب «الحداثة كحَاجةٍ دينية» للدكتور توفيق السيف عن الدار العربية للعلوم - بيروت 2006.

إسهام قوي
وهكذا تمضي الكتابات المتنوعة عن الحداثة وترجماتها ونصوصها ونقدها في الوقت نفسه. وأظن أن صدور مجلة فصول أسهم إسهاماً قوياً في إشاعة مصطلحي «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» على امتداد الوطن العربي كله، بما في ذلك بلدان الخليج والسعودية، وقد روى عبدالله الغذامي جانباً من صراع الحداثة مع خصومها في كتابه «حكاية الحداثة» في المملكة العربية السعودية، خصوصاً بعدما أصبح واحداً من أبرز كُتّاب مجلة فصول التي لم تقتصر على الكُتّاب المصريين فحسب، وإنما جمعت بينهم وأقرانهم من كُتّاب وكاتبات الحداثة على امتداد الوطن العربي كله.
ولذلك وبفضل جهود ومقالات كُتّاب «فصول» ومترجميها على السواء، أصبحت الحداثة قرينة البنيوية وما بعدها من مذاهب أدبية وفكرية. 
وسبق أن كتبتُ عن صعود النقد الحداثي وتأثير مجلة فصول في المجموعات القرائية المصرية على تنوعها، في كتابي «تحديات الناقد المعاصر» الذي صدر سنة 2014 في بيروت، وقُلتُ في نهاية دراسة الاستجابات القرائية لفصول ما نصه: «ولم تكن الطليعة التي تجسدت في حركة السهم الصاعد لمجلة فصول طليعة تستهويها النظريات الغربية البرّاقة، وتقع بسهولة في مركزية الآخر، وإنما كانت في أغلب أفرادها طليعة نقدية بكل معنى الكلمة؛ أعني طليعة تعي حضورها التاريخي، وتدرك أنها تنتسب لثقافة ذات خصوصية تبدأ منها لتعود إليها، طارحة أسئلتها هي بالدرجة الأولى». 
وأحسب أن هذا الوعي النوعي هو الذي جعلنا نبدأ بما كان ينقصنا، ونحاوره محاورة الذي يسعى إلى الإفادة وتوسيع دائرة التطبيق، ولا يتردد في مناقشة أو مساءلة المقولات النظرية والمحاولات التطبيقية على السواء. 

تكيفات نقدية
ولعل هذا الوعي بأهمية المساءلة هو الذي كان وراء دراسات تأخذ صيغة السؤال من مثل ما كتبته نبيلة إبراهيم بعنوان «البنائية من أين وإلى أين؟». وأضيف إلى ذلك دراسة فتوح أحمد عن «الشكلية... ماذا يبقى منها؟». ولا أنسى محاولة شكري عياد عن مساءلة البنيوية ضمن دراسته «موقف من البنيوية»، أو ما طرحتُه عن البنيوية التوليدية في كتابته عنها. وكانت المساءلة النظرية تكملها التكيفات النقدية المرتبطة بواقع الممارسة الفعلية التي تجلَّت في الدراسات النصية لكل من صلاح فضل وسيزا قاسم وعبدالسلام المسدي وحمادي صمود وكمال أبوديب ومحمد برادة ومحمد بنيس وعبدالله الغذامي وفؤاد زكريا وغيرهم».
ولا شك في أننا عندما نؤرِّخ للنقد العربي الحديث، سوف نجد أن مجلة فصول تمثّل علامة فارقة على الانقطاع المعرفي بين ما قبل «فصول» وما بعدها، وذلك على مستوى اللغة النقدية والمفاهيم والمصطلحات وطرائق المعالجة والتحليل في الوقت نفسه. 
وإذا كان تاريخنا الثقافي يذكر المعركة التي دارت بين محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس من ناحية، وطه حسين والعقاد من ناحية ثانية، وذلك حين كتب طه حسين مقاله «يوناني فلا يُفهم» في الخمسينيات الباكرة. وهو المقال الذي رد عليه العالِم وأنيس في بيان منشور بكتابيهما «في الثقافة المصرية» (سنة 1955)، فإن ما أحدثته «فصول» من تغيير في لغة النقد ومفاهيمه ومصطلحاته، فضلاً عن فتح آفاق جديدة لتياراته، كان بمنزلة القطيعة المعرفية الأعلى صوتاً، والأكثر تأثيراً من تلك التي حدثت بين العقاد وطه حسين من ناحية، وجيل الشباب الصاعد الذي مثَّله في ذلك الوقت العالِم وأقرانه من شباب النُّقاد في ذلك الوقت البعيد من ناحية أخرى.
أعني بذلك جيل أساتذتنا الذي بدأ يؤكد حضوره منذ منتصف الخمسينيات، وبعد قيام ثورة يوليو سنة 1952، وظهور جيل جديد عبَّر عنه لويس عوض بأنه أمل مصر الحزينة في مستقبل واعد، وذلك في مقال كتبه بجريدة الجمهورية القاهرية في عدد الجمعة الصادر في الثالث عشر من يناير 1954؛ أي منذ أربعة وستين عاماً على وجه التحديد. وهو مقال يتحدث عن الأجيال الواعدة من أصحاب الأدب الجديد الذي جاء ليتمرد على أدب جيل العمالقة الذين حملوا القُبة الزهراء: طه حسين، والعقاد، والمازني، وهيكل.

شياطين وادي عبقر
ويصف لويس عوض أقرانه من أبناء الجيل بأنهم «لا يزالون يتعذبون كأنهم شياطين تعوِي في وادي عبقر، يفصحون ولا يفصحون. وهم أمل مصر الحزينة. ويا بؤسنا لو خاب الأمل: محمود العالم، إبراهيم عبدالحليم، علي الراعي، نعمان عاشور، أحمد بهاءالدين، فتحي غانم، بدر الديب، مصطفى سويف، يوسف إدريس، شكري عياد، عباس صالح. براعم لا يسقط عليها ندى ولا يرويها طل، فمتى تخرج الزهرة من البراعم؟!». 
وكان عوض في كلماته السابقة يعلن تمرّد أبناء ذلك الجيل على جيل أساتذتهم الذين حملوا القبة الزهراء. ويشير إلى الأفق المغاير الذي بدأت كتابة هذا الجيل ترسم ملامحه وتجسّد وعوده. ويستصرخ البراعم الفتية كي تشق الأرض، وتطلق ثمارها التي تضيف إضافة المغايرة إلى الجيل السابق. 
وأخيراً، كانت الأسماء التي ذكرها عوض تنتسب إلى حقبة زمنية واحدة، وإلى مجموعة متقاربة الأهداف والمطامح وزمن المولد على السواء، فأغلب أبناء هذا الجيل وُلِد في عقد العشرينيات، ابتداء من سنته الأولى 1921 التي وُلِد فيها شكري عياد وكثير من النقاد الذين عاصروا أبناء هذا الجيل أخرجوا الزهور من البراعم، وأنجزوا وحققوا به أمل لويس عوض، فكانوا بمنزلة أساتذتنا الذين تعلَّمنا عليهم في جامعة القاهرة، وتعلَّمنا منهم حق الاختلاف عنهم.

خاصيتان مهمتان
وكانت «فصول» إعلاناً لهذا الاختلاف، لكن مع ملاحظتين أساسيتين؛ أولاهما أن هذا الاختلاف لم يعد أمراً مصرياً فحسب، وإنما أصبح أمراً عربياً يمتد من المحيط إلى الخليج، ويؤكده أن أبرز كتّاب «فصول» كانوا من الشباب الذين ولدوا مع نهايات الحرب العالمية الثانية، وتفتحت آفاقهم مع الخمسينيات وحلموا بمستقبل واعد نتيجة أحلامهم القومية الممتدة من المحيط إلى الخليج، لكن هذه الأحلام سرعان ما انكسرت بعد هزيمة العام السابع والستين.
والملاحظة الثانية أن هذا الجيل في امتداده العربي كان مزوَّداً بخاصيتين مهمتين؛ أولاهما وعيه بتراثه من ناحية، وتطلعه إلى آفاق جديدة بعد أن عاصر وَوَعَى وعياً نقدياً الإنجازات النقدية للعالم الآخر على الضفة الأخرى من البحر المتوسط أو في امتداده الذي يصل أوروبا بالولايات المتحدة.
وبقدر ما كان هذا الجيل يعِي أن عليه أن يؤسس لنقد جديد بكل معنى الكلمة، فقد كان مدركاً أن نقده الأجد أو الحداثي سوف يُحدِث صدمة عند المنحازين للنقد القديم، سواء في صيغته المقترنة بالواقعية الاشتراكية، أو المقترنة بالمحاكاة الساذجة للنقد الجديد الذي رفع شعار «المعادل الموضوعي» عَلَماً على اتجاهه. 

تنوع مذهل
ولذلك شهد ذلك النقد الحداثي تنوَّعاً مذهلاً، جمع بين المغاربة والمشارقة. وبقدر ما برز اسم إدوارد سعيد في النقد اليساري الجديد بالولايات المتحدة، برز اسم عبدالفتاح كيليطو في كتاباته النقدية التي أخذت في التصاعد منذ السبعينيات وازدهرت عبر الثمانينيات، ولذلك لم يكن مُستغرباً أن يقبل دعوة المنتمين إلى «فصول» لحضور أحد مؤتمراتها، جنباً إلى جنب محمد برادة ومحمد بنيس وغيرهما من المغاربة والمشارقة الذين أسهموا فعلاً في صياغة نقد أدبي حداثي وما بعد حداثي في آن.
وهكذا كانت حركة الحداثة العربية كما كانت البنيوية وما بعدها من تيارات مرادفة أو موازية، تأسيساً لنوع جديد من الخطاب النقدي، سرعان ما أخذ يجمع بين المشرق والمغرب، وذلك على نحو تحوَّلت البراعم الواعدة فيه إلى إنجازات نقدية عربية مغايرة، تمتد من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، في أكبر موجة من موجات الحداثة العربية التي كانت بدورها رد فعل على كل ما أدى إلى هزيمة 67 فكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً في آن. 
ولذلك كان تعريفي للحداثة قائماً على التفرقة بين حداثة المذهب وحداثة المنزع. وكان تركيزي على حداثة المنزع التي لا ترتبط بزمن بعينه، وإنما ترتبط باللحظة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك، سواء أكان إدراك نفسها من حيث حضور متعين فاعل في الوجود، أو إدراك علاقاتها بواقعها من حيث هي حضور مستقل في الوجود.

انقسام الوعي
على المستوى الأول، تبدأ الحداثة من انقسام الوعي المتمرد على نفسه، ليصبح ذاتاً فاعلة وموضوعاً منفعلاً، وذاتاً فاعلة تعيد إنشاء موضوعها الذي هو هي من ناحية، وتعيد صياغة أدوات إنتاج معرفتها بهذا الموضوع من ناحية أخرى. 
وعلى المستوى الثاني، فإن الوعي المنقسم على نفسه ينشق على واقعه، فيتمرد على أدوات إنتاج المعرفة السائدة في هذا الواقع وعلاقاتها، ويبحث عن أدوات جديدة يؤسس بها معرفة مغايرة، تحرره في علاقته بنفسه على المستوى الأول، وعلاقته بواقعه على المستوى الثاني. 
ولا يتم هذا التمرد إلا بنوعٍ من الوعي الضدي، ينبع من الإحساس بأن ما أُنجِز لم يَعُد كافياً. وأن ما هو واقع يمثل عائقاً أمام تشوق الأنا وأحلامها، وأن القيود صارت كثيرة، وأن الهوية تتمزق بين نقيضين أو نقائض متكثِّرة، وأن الأفق يخايل بالوعد. هذا الوعي الضدّي علامة فارقة من العلامات التي تؤسس الشروط المُلازمة للحداثة، ذلك لأنه وعي مناقض لصفات الإطلاق أو اليقين أو النقل أو التقليد أو الإجابات الجاهزة... أو الذات العارفة بكل شيء، وهو الوعي الذي يستبدل بالمطلق النسبي، وباليقين الشك، وبالإجابة الثابتة السؤال الدائم.
هذا الأفق المعرفي الجديد وَجد من يعبّر عنه على نحو يختلف عن الوعي الخاص بجيل مصطفى سويف أو يوسف إدريس أو شكري عياد أو محمد غنيمي هلال أو محمد مندور، ولذلك كان من الطبيعي أن تصدم كتابات الحداثة النقدية والحداثة الفكرية التي انتقتها «فصول» وعبَّرت عنها تنظيراً وتطبيقاً، الأذهان التقليدية التي أصابها الجمود، أو التي تناست سنوات تمردها على التقاليد العتيقة، أو التي خدَّرتها العادة أو الحاجة أو تثاقل الأيام، فكانت استجاباتها إلى «فصول» استجابة متضاربة، سبق أن شرحتُها في الفصل الأول من كتابي «تحديات الناقد المعاصر». 

نقض جذري
ولهذا لم يكن غريباً أن يهاجمنا جيل شكري عياد، ويتهمنا بأننا قلَّصنا من دائرة النقد الأدبي وجعلناه لخاصة الخاصة، وهو الاتهام نفسه الذي وجَّهه عبدالعزيز حمودة، ولكن بصيغة أكثر عنفاً، عندما تحدث في كتابه عن «نادي نخبة النخبة» من ممثلي الحداثة العربية. وهو ناد يجمع بالطبع كُتّاب مجلة فصول منذ إنشائها إلى العام الذي صدر فيه كتاب حمودة في أبريل 1998 بعنوان: «المرايا المحدبة... من البنيوية إلى التفكيك». 
ولا أغالي لو قلتُ إن النقض الجذري إلى جانب التعرف النقدي على البنيوية بجناحيها قد بدأ منذ الأعداد الأولى لمجلة فصول. صحيح أن بعض الدراسات لم تكن في مستوى المجلة، وكانت تلجأ إلى الإغراب؛ تغطية لعدم الفهم الأصيل أو العجز، لكن هذه الدراسات نادرة وقليلة جدًّا، إلى جانب الأكثرية من المقالات التي كانت ولا تزال تمثّل نمطاً جديداً من الكتابة لا يزال مستمراً إلى اليوم في أصالته وجِدَّتهِ.
وأمامي وأنا أكتب هذا التقديم، العدد 100 الأخير من مجلة فصول عن «الإدراكيات»، وهي ترجمة اجتهادية لما أُسميه أنا بـ «العلوم المعرفية»، ويتوزع كُتّابه بين الجزائر ومصر والسعودية والمغرب وتونس وفلسطين وليبيا، الأمر الذي يؤكد أن المسيرة الطليعية لـ «فصول» لا تزال متواصلة، معتمدة على الأصول الأولى، أو على قوة الدفع الأولى، رغم كل الاعتراضات وأشكال الهجوم على منهجية «فصول» من ناحية، وعلى النقد الحداثي من ناحية أخرى■