صلاح الدين في عيون الغرب إعجاب وعشق رغم الهزيمة

صلاح الدين في عيون الغرب إعجاب وعشق رغم الهزيمة

من المؤكد، أن شخصية القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي، كانت واحدة من أهم وأعظم الشخصيات المؤثرة على مسرح العلاقات الإسلامية - الغربية في العصور الوسطى. بطل حطين، الذي كسر شوكة الصليبيين في 583هـ/ 1187م، واستنقذ بيت المقدس من بين أيديهم، حيكت حوله كثير من القصص والأخبار في العقل الغربي، بحيث نُظر إليه على أنه نموذج مميز جمع سمات الشهامة والشجاعة والبطولة، وتواترت تلك الحكايات التي تميل إلى المبالغة والغلو في أدبيات الشعراء والمفكرين الأوربيين وملاحمهم.

بدأ صلاح الدين يجد لنفسه مكاناً مهماً في تاريخ الحروب الصليبية عند الغربيين، في مرحلة مبكرة جداً من تلك الفترة التاريخية القلقة.
فوفق ما تذكر المؤرخة البريطانية كارول هيلينبراند في بحثها الموسوم بـ «تطور أسطورة صلاح الدين في الغرب»، فإن وليام الصوري، الذي يُعد من أشهر مؤرخي الحروب الصليبية، قد ذكر بطل حطين في كتابه، حيث وصفه في أحد المواضع بقوله «رجل حاد الذهن، نشط في الحرب، وسخي دونما حد».
وفي موضع آخر يصفه قائلاً: «أمير عادل وحازم وحكيم ومتدين، وفقاً لتقاليد بني جنسه».
أما أرنولد، سائس الفارس باليان أبلين، الذي كان الفارس المكلف بالدفاع عن القدس بعد هزيمة الصليبيين في حطين، فكان شاهد عيان على دخول صلاح الدين إلى بيت المقدس، وقد أشاد مراراً بسلوك السلطان المسلم بعد فتح المدينة، فأظهر في كتابه شفقته على المسيحيين الذين هزمهم، وكيف أنه كان شهماً جداً مع زوجات وبنات المقاتلين الصليبيين.
وإذا كانت الشهادات الغربية المعاصرة لصلاح الدين قد أعطته حقه، فإن الصورة التي رسمتها له المصادر اللاحقة، قد استبدلت الحقائق التاريخية المرتبطة به، بمجموعة من المتخيلات التي حاولت أن تسلبه من جذوره الإسلامية، وأن تلحقه بالعالم المسيحي. ففي كتاب «تاريخ ما وراء البحار، وأصل صلاح الدين»، الذي دوّنه مؤلف مجهول من القرن الثالث عشر، يأتي ذكر صلاح الدين على أنه «ابن لأسرة مسيحية فرنسية نبيلة، وأنه ظل يميل إلى المسيحية طوال حياته، حتى أنه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قسّم مملكته إلى ثلاثة أجزاء، وكان الجزء الأكبر والأفضل للمسيحيين، بينما وزع القسمين الآخرين على كل من المسلمين واليهود».

 

 

قصة غريبة

وفي كتاب آخر يعود إلى نفس الفترة الزمنية، وعنوانه هو «أغنيات المطرب الجوال من مدينة ريمس»، نُسجت قصة غريبة عن العلاقة العاطفية التي ربطت بين الملكة الفرنسية إليانور وصلاح الدين، وكيف أن مدينة صور الشامية قد جمعت بين المحبين، وتناسى المؤلف المجهول للكتاب أن الواقع التاريخي يؤكد زيف تلك القصة، لأن الوقت الذي شهد تربّع إليانور على عرش فرنسا، كان صلاح الدين فيه لا يزال طفلاً يلهو في شوارع دمشق وأزقتها.
ومن الملاحظ أن جميع الكتابات التي تناولت صلاح الدين في القرن الثالث عشر، أكدت إجادة السلطان المسلم التامة للغة اللاتينية، وذلك رغم عدم ذكر تلك المعلومة في أي مصدر تاريخي متقدم.
وبقيت الصورة المشرقة لصلاح الدين في جميع تواريخ العصور الوسطى وعصر النهضة، ولما تطورت النزعة الاستشراقية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، استمرت الإشادة بصلاح الدين، حيث تكلم عنه عدد من مؤرخي تلك المرحلة بشكل إيجابي، رغم نقدهم في كثير من الأوقات لبعض رموز الإسلام.
فعلى سبيل المثال، وصفه الفرنسي تشارلز روزبولت، في كتابه «صلاح الدين أمير الشهامة»، بقوله «بطل متجذر في أسمى مبادئ الفروسية، وفارس لجميع الأزمنة»، أما المؤرخ الإنجليزي هاميلتون جب، فقد وصفه في كتابه «حياة صلاح الدين»، بقوله «نراه قائداً يجاهد في سبيل مثالياته، تجلت بطولته، ليس فقط في انتصاراته، وإنما بالأنموذج الذي يقدمه، وهو أنموذج لإنسان تملكته الآمال والرؤى وأعجزه الزمن عن تحقيقها».

 

مشاركته في أهم الملاحم الأوربية

رغم الحضور القوي لصلاح الدين في الكتابات التاريخية الغربية، فإن تأثيرات تلك الشخصية الفريدة في العقلية الأوربية، تأكدت وترسخت، باستدعائها مراراً وتكراراً في عدد من أهم الأدبيات والملاحم الغربية التي تم نسجها عبر القرون.
ففي بدايات القرن الرابع عشر، ومن خلال عمله الخالد «الكوميديا الإلهية»، كان الشاعر الإيطالي دانتي إليجري، من أوائل المبدعين الغربيين الذين استدعوا رمزية شخصية صلاح الدين في أعمالهم الإبداعية.
«الكوميديا الإلهية»، التي تمثّل رحلة دانتي في العالم الآخر، ظهر فيها صلاح الدين، واحداً من عظماء البشرية الذين لم يُدخلهم الشاعر الإيطالي في الجنة أو في النار، حيث حظي القائد المسلم بفرصة لمصاحبة الشاعر هوميروس (صاحب الإلياذة والأوديسا)، والفيلسوف اليوناني أفلاطون، والقائد الروماني العظيم يوليوس قيصر.
وفي منتصف القرن نفسه تقريباً، عاد اسم صلاح الدين إلى واجهة الأدب الإيطالي مرة أخرى، عندما استخدمه بوكاتشيو في قصصه المشهورة المعروفة باسم ديكاميرون، التي كانت تقترب جداً في طريقة سردها من قصص ألف ليلة وليلة المعروفة في المشرق الإسلامي.
ظهر صلاح الدين في بعض تلك القصص، حيث صوّر على كونه بطلاً نبيلاً متسامحاً مع أعدائه، وفي الوقت ذاته يتنكر مع بعض رفاقه ليتفقّد أحوال رعيته، وليلبي لهم حاجاتهم وطلباتهم.
ولم يقتصر ظهور صلاح الدين على أدبيات الفرنسيين والطليان، بل إن ذلك الظهور قد امتد كذلك ليتسرب لبعض الأعمال الأدبية في البلاد التي لم تشارك حتى في الحملات الصليبية على الشام.

 

ناثان الحكيم

وفق ما يذكره د. أحمد درويش في كتابه «صورة صلاح الدين في أدب الفرنجة»، أن الأديب الإسباني جون مانويل قد كتب قصة في منتصف القرن الرابع عشر، ظهر فيها صلاح الدين في صورة المحب العاشق الذي يُعجب بامرأة مصرية بالغة الجمال، وأنها سألته عن أفضل الخصال التي يجب أن يتحلى بها الرجل، فلما لم يجد صلاح الدين إجابة، سافر إلى إيطاليا وفرنسا بحثاً عن الجواب، ثم وصل إلى إسبانيا متنكراً في هيئة شاعر جوال، وهناك وجد إجابة سؤاله عند أحد الحكماء.
أما في 1779م، فقد ظهر صلاح الدين في الأدب الألماني، وذلك من خلال مسرحية «ناثان الحكيم»، التي ألّفها جوتهولد أفرايم ليسنج، والتي صارت واحدة من أهم مسرحيات الأدب الألماني عبر تاريخه.
دارت أحداث المسرحية في القدس، إبان فترة الحروب الصليبية، وكان أبطالها الثلاثة الرئيسيون هم ناثان اليهودي الثري الحكيم، وأحد فرسان الصليبيين، وصلاح الدين.
وحاولت المسرحية أن تشرح وتبيّن قيم التسامح التي ينبغي أن تجمع بين أتباع الديانات الثلاث، وهي تصور صلاح الدين في صورة ممتازة، فهو يتقبل آراء المخالفين له، ويحترمهم، ويحاول أن ينصحهم ويهدئ من ثورة غضبهم كذلك.
وقد صورت المسرحية حواراً فلسفياً عميقاً بين صلاح الدين وناثان، عندما سأل الأول الثاني عن الدين الصحيح، فأجاب اليهودي مستخدماً قصة الخواتم الثلاثة، التي صارت قصة مشهورة في الثقافة الغربية بعد ذلك.
أما في الربع الأول من القرن التاسع عشر، فقد عاد ذكر القائد الكردي مرة أخرى، وسط أجواء سحرية مفعمة برائحة بلاد المشرق المثيرة للغموض والرهبة، عندما نشر الكاتب الإنجليزي والتر سكوت، روايته المعنونة بـ «الطلسم»، التي تدور أحداثها في زمن الحروب الصليبية، وتقوم حبكتها الرئيسة على التعويذة التي أهداها صلاح الدين لأحد الفرسان الإنجليز، والتي بمقدورها شفاء الأمراض.
وقد عمل سكوت في روايته على تصوير كل من صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، على كونهما خصمين عنيدين متنافسين، ويكنان في الوقت ذاته الاحترام والتقدير لبعضهما البعض.

 

من الصليبيين إلى «مملكة الجنة»

في عام 1935م، ظهرت شخصية صلاح الدين الأيوبي على شاشات السينما الأمريكية للمرة الأولى، عندما أخرج الأمريكي سيسل دي ميل فيلم الصليبيين، الذي وإن كان قد أظهر صلاح الدين بشكل جيد، فقد حاول في الوقت نفسه أن يشير إلى همجية قواته من المسلمين، وتفوّق الأوربيين عليهم في نواحي التحضر والتمدّن.
وقد تسبب النجاح الذي حققـــته روايــة الطلسم في لفت أنظار صانعي السينما لشخصية صلاح الدين بشكل أكبر في منتصف القرن العشرين، فتم إنتاج فيلم مقتبس عن الرواية عام 1953م، باسم «الملك ريتشارد والصليبيون»، حيث لعب فيه النجم ريكس هاريسون دور الزعيم المسلم.
ولعل ذلك الفيلم تحديداً، كان المصدر الذي انبثقت منه قصة المساعدة العلاجية التي قدّمها صلاح الدين إلى ريتشارد أثناء مرضه، ومن اللافت للنظر أن تلك القصة قد وجدت طريقها للمخيلة الشعبية الإسلامية، حتى وردت تلك الحادثة في الفيلم المصري «الناصر صلاح الدين»، الذي أُنتج عام 1963م، رغم عدم ذكرها في أي مصدر تاريخي معاصر للأحداث.
أما آخر وأفضل الأعمال السينمائية الغربية التي تناولت شخصية صلاح الدين، فكان فيلم مملكة الجنة الذي أنتج في عام 2005م، وأخرجه المخرج البريطاني ريدلي سكوت، وشارك في بطولته نخبة من الممثلين الأمريكيين والعرب، ولعب فيه الفنان السوري غسان مسعود دور صلاح الدين.
وأظهر الفيلم القائد الكردي في شكل متوازن نوعاً ما، فهو يحرص على فتح المدينة المقدسة، ويحارب أعداءه الصليبيين مضطراً، بعدما خانوا عهودهم معه، لكنه في الوقت ذاته، يتسامح مع هؤلاء الأعداء بعد الانتصار عليهم، لدرجة أن أحد المشاهد أظهرته وهو يُعيد نصب صليب مُلقى على الأرض، عقب فتحه للمدينة المقدسة.

 

لماذا صلاح الدين؟

قد يثار سؤال هنا، وهو لماذا تفرّد صلاح الدين تحديداً بكل تلك المكانة المتميزة في العقلية الغربية، رغم الاتفاق على انتصاراته المتعددة على الصليبيين، واستعادته المدينة المقدسة من بين أيديهم؟
الحقيقة أنه لا توجد إجابة بسيطة عن هذا السؤال، وربما ينبغي أن نلتفت إلى عدد من العوامل التي تداخلت مع بعضها البعض لتخليد ذكرى بطل حطين في العقل الغربي.
أول تلك العوامل، أن فترة الحروب الصليبية كانت هي الفترة التي ظهرت فيها ملاحم العصور الوسطى الكبرى، حيث كانت أجواء الحرب الدينية في بلاد الشام، أجواء مثالية لتخليد البطولات الحربية والقتالية.
وثاني العوامل، أن سقوط بيت المقدس، كان أمراً يفوق قدرة المسيحيين على التخيل، ومن ثم فقد ثبت في اعتقادهم أن القائد الذي يستطيع أن يقوم بذلك الفعل هو في الحقيقة بطل عظيم بحق، ويستحق الاحترام والإعجاب.
أما ثالثها فيتمثل في المعاملة الممتازة التي تعامل بها صلاح الدين مع أعدائه المنهزمين، والتي صارت مضرباً للأمثال ومعياراً للتسامح مع الأعداء والعفو عنهم.
فإذا أضفنا إلى كل ذلك، ميل العقلية الفلكلورية دائماً إلى اصطفاء بعض النماذج الموجودة في الجانب المعادي، وإسباغ الصفات الجيدة عليها، في محاولة منه لعقلنة ومَنطَقة سردياته وروايته لأحداث التاريخ، ولإظهاره بمظهر الموضوعية والحيدة والأمانة، لفهمنا لماذا اُختير صلاح الدين تحديداً ليصبح رمزاً إسلامياً فريداً في العقل الغربي■