الصين عَبْر قرنين من التعرُّض للغزو إلى إطلاق مسعى إمبراطوري عالمي

الصين عَبْر قرنين من التعرُّض للغزو إلى إطلاق مسعى إمبراطوري عالمي

شهد القرن التاسع عشر انهيار السلطة الإمبراطورية الصينية، وهو ما نجم عنه سلسلة من الهزائم على يد القوى الإمبراطورية الغربية وعلى يد جارتها اليابان. عبر آلاف السنين، حكمت الصين سلالات اتخذ كل منها لنفسه صفة إمبراطور بالمعنى القديم للمصطلح. خلال هذه الأحقاب، وُحدت الصين مرات وتعرضت للانقسام مرات.

كان من سمات الحكم في الصين تركيزه على بسط سيطرته داخلياً. ولم يعرف عن الصين القديمة السعي إلى تبني مسعى إمبراطوري عالمي بالمعنى الحديث للمصطلح، أي التوسع على مستوى المعمورة، والسيطرة على الثروات لإثراء المركز وتوسيع نطاق الهيمنة عالمياً.
وخلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر، تعرضت الصين لعدوان بريطاني اقتصادي وعسكري إمبراطوري، ثم لعدوان بريطاني - فرنسي إمبراطوري مشترك. وطالبت بريطانيا الصين بأن تخضع أسواقها للمنتجات البريطانية، وأن تقنن «الأفيون» الذي كان القرار البريطاني الإمبراطوري يزرعه في الهند ويبيعه في شرق آسيا، وأن تمنح الشركات البريطانية ورعاياها مزايا إدارية وتجارية ودبلوماسية.
ونتيجة لرفضها ذلك، تعرضت الصين لحرب الأفيون الأولى التي امتدت من 1839 حتى 1942، وانتهت بهزيمتها وإذعانها لاتفاق مُملى عليها.
وفي عام 1856، ولأسباب مشابهة، شنَّ القرار البريطاني الإمبراطوري بالاشتراك مع القرار الإمبراطوري الفرنسي حرب الأفيون الثانية التي تمخضت عنها نتائج مشابهة. 
لقد أغرى ضعفُ الصين قوى أخرى ذات طموحات إمبراطورية كالولايات المتحدة، فأخذت تضغط على السلطة الصينية المتهالكة لزيادة حصتها في «كعكة» النفوذ. وقد أبى القرن التاسع عشر الميلادي الوداع قبل أن تتعرض الصين لهزيمة عسكرية أخرى على يد جارتها اليابان، تمخض عنها فرض اتفاق إذعان استحوذت بموجبه الأخيرة على تايوان. 
وقد حفزت تلك الهزائم بروز نزعات ثورية داخل البر الصيني تسعى إلى وضع حد للانهيار. فمع بداية العقد الثاني من القرن العشرين، أطاح الثوريون الجمهوريون أسرة كينج الحاكمة، وأسسوا أول جمهورية. 
لكن الانقسام الأيديولوجي سرعان ما ألقى بظلاله على البلاد، إذ برز الصراع بين التيارين الليبرالي القومي والاشتراكي الشيوعي. وقد دعمت الولايات المتحدة القوميين. كما برز أمراء حرب تمكّن كل منهم من بسط سلطانه في مَحِلّته. وقد سمح هذا الانقسام للقرار الياباني الإمبراطوري بأن يحتل بقاعاً واسعة من الصين ضمن سياق الحرب الصينية - اليابانية الثانية، التي دارت رحاها بين عامي 1937 و1941. عندها اتحدت قوى الشعب الصيني لإخراج اليابانيين. وبعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية سيطرت القوى الصينية الشيوعية على البر الصيني، بينما لجأ القوميون إلى تايوان. 

الثورة الماوية
وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولاً تمثّل في مسعى الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونج إلى إحكام قبضته داخلياً وتعزيز مكانته إقليمياً. 
وسعى ماو إلى تثبيت سلطته المطلقة المرتكزة إلى سلطة الحزب الواحد الشمولية. وذهب في ذلك المسعى بعيداً، إذ سعى إلى فرض الاشتراكية والشيوعية بصيغتها الماوية. كانت الثورة الثقافية بين عامي 1966 و1976م واحدة من الأدوات التي استخدمها ماو في ذلك.
خارجياً، بمجرد إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية في 1949م، أخذت القيادة الصينية تصدر وابلاً من التصريحات مفادها أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يمثّل التهديد الأكبر. 
وقد صممت القيادة الصينية مسعى لتصدير الشيوعية بصيغتها الماوية في محيطها الحيوي الذي نتج فيه فراغ استراتيجي بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.
وبعد أن أخرجت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي اليابان من كوريا واقتسامهما النفوذ واندلاع المواجهة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية (1950 - 1953م)، قررت الصين دعم حليفتها الشمالية في مواجهة الجنوبية التي دعمتها الولايات المتحدة، بغية إيقاف مد نفوذ الاتحاد السوفييتي.
وقد بدأت الحرب بتقدم كوريا الشمالية وبسطها نفوذها في معظم كوريا الجنوبية. لكن تدخّل الولايات المتحدة أجبر الكوريين الشماليين على الانسحاب. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى اشتعل فتيل حرب فيتنام (1955 - 1975م). وإذ دعمت الولايات المتحدة حكومة جنوب فيتنام لإيقاف مد نفوذ الاتحاد السوفييتي، دعمت الصين حليفها الشيوعي Viet Cong، أو حزب التحرير الوطني بمشاركة الاتحاد السوفييتي. 
ومع نهايات القرن العشرين، بات واضحاً أن القرار الصيني قد عزمَ أمرَهُ على تدشين مسعى إمبراطوري عالمي، وفي سبيل تنفيذه اتخذ مجموعة من الخطوات، من أولاها بناء اقتصاد قوي وجعل الصين «مصنع العالم».
أخذ الحزب الشمولي الوحيد يتخلى عن أسس الاشتراكية الشيوعية الماوية، ويتبنى نظماً رأسمالية جوهرها استغلال الكثرة السكانية في صياغة نظام سُخرة مُقننة تسمح بحسم معركة المنافسة السعرية وجذب رؤوس الأموال. 
كما نسج القرار الصيني علاقات مع بلدان لم تربطه بها علاقات دبلوماسية كبلدان الخليج التي انتشرت فيها الشركات الصينية. ووسعت الصين نطاق علاقتها بإيران، كما زاد انتشار الشركات الصينية في الولايات المتحدة وإفريقيا.   

جزر اصطناعية 
ثانياً، قطعت السياسة الخارجية الصينية أشواطاً في تعزيز وضعها الاستراتيجي في بحر جنوب الصين وبحر شرق الصين. وتضم البلدان المتشاطئة كلاً من مكاو وهونج كونج وتايوان والفلبين وماليزيا وبروناي وإندونيسيا وسنغافورة وفيتنام. وتدور رحى النزاعات حول ترسيم حدود المياه الإقليمية والسيطرة على الثروة السمكية وعلى مصادر الطاقة من نفط وغاز.
وأخذت الصين تنشئ جزراً اصطناعية في أرخبيل سبراتلي من خلال ردم المياه، مع تأسيس مطارات عسكرية في الجزر، وقد حفز ذلك البلدان المتشاطئة الصغيرة على اللجوء إلى الولايات المتحدة واليابان لتوفرا لها الحماية.  وقد رأى القرار الإمبراطوري الأمريكي في هذه الخطوة بناء لـ «سور رملي عظيم». 
كما صعدت الصين من حدة خطابها الاحتجاجي الرافض لادعاء اليابان أحقيتها في السيادة على مجموعة من الجزر تسميها الأخيرة جزر senkaku، بينما تسميها الصين جزر diaoyu. 
ثالثاً، عالمياً، أسس القرار الصيني منصات جماعية ضخمة تعزز نفوذه. فخلال التسعينيات، أسست الصين وروسيا منظمة «خماسي شنغهاي» التي ضمت أيضاً كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ثم لاحقاً أوزبكستان في 2001، إذ أصبح اسمها «منظمة شنغهاي للتعاون»، وتمثل إطاراً للتنسيق السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي. 
وجاء تأسيس المنظمة ضمن إطار اهتمام الصين بمنطقة وسط آسيا ومواردها، والاستفادة من حرية الحركة غرباً لموازنة الاحتواء الذي تمارسه الولايات المتحدة و«الناتو» وبعض جيرانها في الشرق والجنوب، أي في منطقة بحر الصين. كل ذلك جعل المنظمة نداً لـ «الناتو».

تجمّع بريكس
بجانب منظمة شنغهاي، قادت الصين عملية تأسيس تجمع بلدان BRICS، وهو تجمع أممي تنسيقي يجمع خمسة بلدان تسعى إلى التنسيق فيما بينها؛ هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. وتتسم البلدان الخمسة بأنها دخلت طوراً تنموياً يركز على التصنيع والتصدير.
كما تتسم مجموعة بريكس بضخامة عدد السكان الإجمالي للبلدان الخمسة، إذ يبلغ نحو 3 مليارات نسمة. وقد أسهم التجمع في خفض اعتماد أعضائه على الولايات المتحدة والغرب. فضلاً عن ذلك، قادت الصين في 2013 عملية تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB). 
ويقدر القائمون على البنك أنه سيملأ فجوة تمويلية فيما يتصل بالتمويل التنموي في البلدان الآسيوية قدرها 8 تريليونات دولار. 
وقد رأى القرار الأمريكي في البنك منازعاً لذراعيه الماليتين؛ أي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأنه سيسهم في خفض الاعتماد على الدولار كعملة أساسية في العالم.
 وذهب بعض الخبراء الأمريكيين إلى حد القول إن تأسيس البنك يمثل حجرَ أساسٍ لنظام مالي عالمي جديد يراد له أن يحل محل النظام المالي العالمي الذي وضعه القرار الأمريكي الإمبراطوري منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإضافة إلى ما سبق، دشنت الصين مشروع طريق الحرير البحري وطريق الحرير البري الجديد؛ الأول هو مسار بحري يتضمن مجموعة من الموانئ العملاقة المزودة بأعلى شبكة تقنية، الغرض منه نقل البضائع والركاب بحراً من الموانئ البحرية بالمحيط الهادئ في الشرق الأقصى إلى بقية العالم. 
أما طريق الحرير البري الجديد، فهو طريق ممتد مكون من سكة حديدية عملاقة ومجموعة من الجسور العملاقة وشبكة من الطرق المعبدة لنقل البضائع والركاب براً من الموانئ البحرية بالمحيط الهادئ في الشرق الأقصى الروسي والصين إلى الموانئ البحرية في أوروبا. ويعد ممر الصين ـ باكستان امتداداً لطريق الحرير البري الجديد.
ومن المتوقع أن يتمخض عن إنشاء الموانئ والمحطات البرية بطول مسار الطريقين زيادة نفوذ القرار الصيني في البلدان التي تقع فيها تلك الموانئ والمحطات. 

عظمة استثنائية
ارتكزت عملية تعبئة الشعب الصيني وتحفيزه على خطاب شوفوني فوقي. يتحدث هذا الخطاب عن عظمة استثنائية، ويصف عملية الصعود الإمبراطوري الصيني بأنها مسألة حتمية تحتاج إليها البشرية. 
هذه هي أبرز محطات التحول الذي حصل للصين عبر قرنين. يبقى أن نشير إلى أن المسعى الإمبراطوري الصيني الصاعد أخذ يثير الأسئلة ذاتها التي أثارتها المساعي الإمبراطورية التي سبقته عبر القرون الماضية. 
جُلّ هذه الأسئلة يتصل بالجانب الأخلاقي لفكرة المسعى الإمبراطوري، لماذا في كل مرة يجري استغلال القطاعات الضعيفة داخل البلد الذي تباشر فيه السلطة مسعى إمبراطورياً استغلالاً قاسياً، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان يكون البلد نفسه قد سبق أن تجرع كأس الاستغلال المُرَّة؟ لماذا في كل مرة تتقدم فكرة «الهيمنة» على فكرة التنسيق؟
لماذا في كل مرة تتقدم فكرة إثراء «المركز» على حساب «الأطراف»؟ لماذا تخلو المساعي الإمبراطورية من رسالة أخلاقية للعالم؟
لماذا في كل مرة يرتكز المسعى الإمبراطوري على خطاب شوفوني فوقي استعلائي؟■