ثقافة التدوين

ثقافة التدوين

في الأعمال الأمريكية تحديداً، أفلاماً ومسلسلات، نلاحظ في قصص الجريمة والغموض والمشاهد المتعلقة بهما، أمرين يستحقان التوقف عندهما، الأول أن المحققين يحرصون على التنقيب بين صفحات دفتر يوميات الضحية، خاصة الأسطر الأخيرة، لعلهم يجدون بين المواعيد والأسماء المتناثرة ما يصلح لأن يكون بداية الخيط لكشف ملابسات القضية التي هم بصددها، الأمر الثاني هو عدم انتماء الضحية لفئة الكتَّاب، وهنا جوهر هذا المقال.
إن تفشي فعل الكتابة في الدول المتقدمة، وتعود الناس على إخراج ما هو كامن في صدورهم على الورق، أمر يتم بشكل عفوي وكأسلوب حياة لا يخلو من الكتابة ولو كانت مجرد «خربشات» في دفتر صغير، ولأنها كذلك فلا يوجد لها قانون واضح يحدد ملامحها كونها صادرة من فضاء الخصوصية والاختيار الحر، ومن الناس من يفضل الفصل بين دفتر العمل ودفتر الحياة الشخصية، وهناك من يخلط بين الاثنين، ومن يتوسع ويلصق الصور وقصاصات الصحف، ومن يجيد الرسم يضيف تعبيراته المرسومة التي تغنيه عن الكتابة. 
أعلم جيداً أن التعليق الأول الذي يطرأ الآن على ذهن القراء الشباب هو «لم تعد الكتابة تتم الآن على الورق»، والقصد أن «التدوين» التقليدي على الورق أخذ بالتحول التدريجي نحو فضاءات جديدة، جميعها ينتمي لعالم التكنولوجيا الرقمية، مثل المدونات الإلكترونية وبقية عائلة منصات التواصل الاجتماعي، وأخيراً التدوين على الهاتف الذكي. أتفق تماماً مع هذا الرأي لأن قضيتي ليست الوعاء وإنما استمرار فعل الكتابة بغض النظر عن الشكل، مع يقيني بأن «الصراحة» ستتأثر حتماً بعامل العلنية أو الكتابة أمام الناس.
إننا أمام مشهد مليء بالثراء المعرفي وفرص لا محدودة لتوثيق التاريخ والسير الذاتية من أطراف وزوايا عديدة لكل شيء وأي شيء قد لا يطرأ على تفكيرنا، هذا المشهد لا يخلو من حقيقة يعرفها الجميع، وهي أن هذه البيئة المخضبة بالقراءة والكتابة من القاعدة إلى رأس الهرم ملأت المكتبات بمئات الآلاف من العناوين التي تجعل أي باحث يعيش في حيرة انتقاء أفضل المصادر. ولعل من أسرار تميز السينما الأمريكية في عرض أدق التفاصيل لحقب سابقة يعود لوجود قاعدة متينة من المعلومات التي يسهل الوصول إليها، نمت بفضلها وترعرعت وظائف وتخصصات فرعية، منها ما يخدم صناعة السينما ومنها ما يخدم البحث العلمي.
إذاً هي ثقافة التدوين التي يجب أن تسود بيننا كي نخلق مجتمعاً واعياً بما يدور من حوله وقادرا على التعبير عن أفكاره بأقل الكلمات عددا وأوقعها تأثيراً، دون أن يكون بالضرورة منتميا لفئة الكتاب والأدباء والمثقفين، لقد أعجبني حقاً مسلسل «عوالم خفية» في جزئية التدوين، وأعتقد أن البطل الرئيس لهذا العمل هو مذكرات القتيلة وليس الفنان عادل إمام■