صلاح أبو سيف حكّاء يرصد بالكاميرا تفاصيل الواقع

 صلاح أبو سيف حكّاء يرصد بالكاميرا تفاصيل الواقع

 صلاح أبوسيف أحد أبرز مخرجي السينما العربية و إحدى علاماتها الناتئة، قدّم خلال مسيرته الفنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن 42 فيلمًا، حملت إرهاصات فنية لكل أشكال السينما الواقعية، صنع أفلامه بحسّ متفرد ينأى عن الجمود والقولبة، فتنوعت داخليًا بطرْق كثير من الأبواب على عوالم متباينة تحتشد بتجليات ومباغتات وأنماط تدعو إلى التأمل. ونظرًا لمقدرته الكبيرة على توفيق لغة سينمائية خاصة، توظف كل تجليات الخطاب الإنساني في الحارة الشعبية، ولَدَى المهنيين والأفندية وأولاد البلد، وحتى القرية المصرية وعالم الفلاحين المعدمين.

 استطاع أبوسيف أن يتوجه بأعماله السينمائية إلى كل أطياف الشعب ومختلف الشرائح الاجتماعية؛ فإذا كان كمال سليم أول من أخرج فيلمًا واقعيًا هو «العزيمة» (1939)، فإن أبو سيف حكّاء، يروي بالكاميرا تفاصيل الواقع، واستطاع أن يقدم تنويعات على الواقعية، من خلال عالم متسع ومنفتح على مختلف الطبقات الاجتماعية، واعتنى في ذلك - على نحو خاص - بقصص البسطاء وحياتهم اليومية.
 تعتبر أفلام أبوسيف معبّرًا قويًّا عن طبيعة المجتمع المصري في القرية والمدينة والحارة الشعبية، وما مرّ بمختلف أطياف الناس من تحولات، وهو أكثر المخرجين توظيفًا للحي الشعبي والمقهى ومجسدًا لطبيعة العلاقات بين أولاد البلد من المهنيين والأفندية، وتفاصيل حياتهم اليومية، واستطاع أن يعبّر عن أجواء المعلمين داخل سوق الخضار من خلال فيلم «الفتوة»، واستطاع أن ينقل في أفلامه صورة صادقة عن المجتمع المصري في مختلف أحواله، إذ نقل أفراح المصريين وأحزانهم ومواجعهم، وتبنى في أغلب أفلامه أحوال المهمشين في المدينة والقرية.  
  ومنذ أفلامه الأولى: «نمرة 6» (1942)، و«دايما في قلبي» (1946)، و«المنتقم» (1947)، وحتى أفلامه الأخيرة «البداية» (1986)، «المواطن مصري» (1991)، و«السيد كاف» (1994)، اختار أبوسيف أن يكون بجوار «الناس» بالمعنى الأعمق، وأن يكون حكاءً بالكاميرا، التي جعلها ترصد كل تفاصيل حياتهم وعبر بها عن مختلف شؤونهم اليومية.
 
 الاتجاه الواقعي
 تم اختيار أحد عشر فيلمًا من أفلام أبوسيف في قائمة أفضل مئة فيلم في ذاكرة السينما المصرية، هي الأكثر اختيارًا بعد يوسف شاهين الذي زاد عليه بفيلم واحد، وهذه الأفلام هي: «شباب امرأة»، و«بداية ونهاية»، و«الفتوة»، و«الزوجة الثانية»، و«القاهرة 30»، و«ريّا وسكينة»، و«السقا مات»، و«لك يوم يا ظالم»، و«بين السماء والأرض»، و«الوحش»، و«أنا حرة». 
 اتسمت أعمال أبوسيف بارتباطها بالاتجاه الواقعي، ليعبّر عن سينما متّسعة، عميقة، لها خصوصيتها على مستوى تعدد الرؤى الفنية للمحتوى، وعلى مستوى البناء الداخلي لمعمار الفيلم وتوظيف تقنيات الصورة في التعبير عن الحدث الدرامي والمشاعر الإنسانية من ناحية أخرى، وقد تعددت اتجاهات الواقعية في أفلامه منذ أن تعرّف إلى اتجاه الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، وظل مرتبطًا بها حتى أعماله الأخيرة في التسعينيات، وخاصة «المواطن مصري»، وقدّم في حقبتي خمسينيات وستينيات القرن الماضي مجموعة من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعربية، مثل: «الفتوة»، و«القاهرة  30»، و«الزوجة الثانية»، و«السقا مات»، و«البداية»،... وغيرها، فضلًا عن «شباب امرأة» (1956)، الذي مثّل مصر في «مهرجان كان السينمائي الدولي» حينذاك. 

تجليات الواقعية
طوال مشواره مع السينما أصبح كل ما يقدمه من ثيمات ورؤى فنية، عبارة عن تجليات للواقعية عبر اتجاهات مختلفة، مثل الاتجاه الرومانسي، والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه النفسي، أو توظيف البعد الرمزي، والفانتازيا، فضلاً عن التجربة الجريئة التي قام بها في فيلم «بين السماء والأرض» (1959)، والتي دارت أحداثها داخل مصعد كهربائي يحدث به عطل مفاجئ في الأدوار العليا، وتتعرض الشخصيات لمأزق يجعل كل واحد منهم يعيد التفكير في حياته، فيكون هذا المأزق سببًا لوقفة مع الذات وإعادة الحساب مع النفس، لكن مع التطور الدرامي للأحداث وانفراج الأزمة، تعود الشخصيات إلى ما كانت عليه... فهي الرؤية الفنية الواقعية التي تخاطب الإنسان على اختلاف ثقافته، دون شطحات الخيال ودون إسراف في أمل التغيّر. 
يعتبر التنوع الفني داخل الاتجاه الواقعي أشبه بعباءة مطرزة بخيوط ملوّنة، فالواقعية عند أبوسيف هي هذه العباءة التي تمثل زيًّا شعبيًّا معبرًا عن ثقافة المجتمع، والتنوع داخل الأفلام هي خطوط التطريز بتنوع ألوانها وملمسها والجمال الناتج عن تناسقها، وقد أبدع أبوسيف في تطريز الواقعية بخيوط درامية من كل لون وترصيعها بمواقف إنسانية بالغة الخصوصية، ولذلك جاءت العباءة لافتة وجذابة ومعبّرة عن الواقع بإفرازاته وتطوراته. 
أما المواقف الإنسانية فهي الاختبار الذي تتعرض له الشخصيات في مسيرتها الحياتية، مثل أغلب الشخصيات المحورية في أفلام: «الأسطى حسن»، و«الفتوة»، و«بداية ونهاية»، و«القاهرة 30»، و«الزوجة الثانية»، وغيرها.    
 ويعزى النجاح الجماهيري لأعمال أبوسيف السينمائية ووصولها إلى مختلف الشرائح الاجتماعية إلى ما تتميز به رؤيته الفنية من صدق فني وتنوع واضح داخل الاتجاه الواقعي، وأيضًا مدى القابلية لدى الجمهور نتيجة لتمثيلات الطرح الواقعي، أي قبول الجمهور لفكرة الرومانسية من خلال رؤية واقعية يتم تحييدها بناء على الظروف المحيطة بالأحداث والشخصيات، ففيلم «الوسادة الخالية» (1957) يقوم على قصة رومانسية بين حبيبين وحبكة درامية تستلهم البعد الواقعي الاجتماعي، ويأتي التطور الدرامي نابعًا من تضافر الرومانسية والبعد الواقعي، وبالتالي تكون الأحداث مقبولة فنيًّا.
  وبالطريقة نفسها يقدم ثيمة الرومانسية أيضًا في فيلمَي «البنات والصيف» (1960) مع عبدالحليم حافظ، و«رسالة من امرأة مجهولة» (1962) مع فريد الأطرش، والفيلمان يطرحان إشكالية الحب عندما تصطدم المشاعر الصادقة بمعطيات الواقع.
 
التعبير عن أحوال الأسرة المصرية
 أما البعد الاجتماعي نفسه فقد جاء منبثقًا عن الرؤية الواقعية، معبّرًا عن أشكال التصدع في البنية الاجتماعية للمجتمع المصري نتيجة لتدني أحوال المعيشة خلال مراحل زمنية معيّنة، فعبرت أفلام أبوسيف عن تردي الأوضاع الاقتصادية وأثرها على المجتمع وعلى الأسرة المصرية، من خلال مآزق تتعرض لها الشخصيات المحورية أو الأسرة الفقيرة كما في أفلام «الأسطى حسن» (1952)، و«بداية ونهاية» (1960)، ففي الأول يعاني حسن (فريد شوقي) الفقر وسوء المعيشة، فيترك أسرته ويقع في براثن الانحراف، ويتم اتهامه في جريمة قتل، لكنه ينجو منها ويعود إلى صوابه. 
وفي «بداية ونهاية» يقدم أبوسيف رؤية واقعية للمجتمع من خلال رواية تحمل الاسم نفسه لنجيب محفوظ، حيث يكون الفقر والمعاناة والإحساس بالدونية سمات أساسية تمرّ بها الشخصيات وتعبّر عن حقها في الحياة، كما أن الصدق الفني وحرفية الصناعة هما ما جعلا المشاهد يتقبل فيلم «ريا وسكينة» (1953) المأخوذ عن تحقيق صحفي عن أشهر قاتلتين في تاريخ مصر.
 كذلك فيلم «لا أنام» (1957) الذي يتناول البعد النفسي لشخصية «الابنة» (فاتن حمامة) التي تغار على أبيها، ويتطور الحدث الدرامي إلى المرض النفسي، ويرتكز أبوسيف في تطور الشخصيات الرئيسة على رؤية واقعية جادة تتفهم طبيعة الإنسان، وهناك أيضًا فيلم «السقا مات» (1977) الذي تناول البعد النفسي من خلال فلسفة الحياة والموت. 

رائد أفلام الفتوات
يعتبر أبوسيف رائد أفلام الفتوات، فهو أول من طرح هذا العالم في فيلم «الفتوة» (1957) عبر رؤية واقعية تغوص في عالم الكبار، وتتناول احتكار السوق من قبل مجموعة من كبار التجار تدهس تحت أقدامها الصغار الذين يحاولون الاقتراب من هذا العالم.
واختار أبوسيف سوق «روض الفرج» أكبر أسواق الجملة حينذاك، ليرصد هذا الصراع بين الكبار بقوتهم وجبروتهم، والصغار بضعفهم وشقائهم وسعيهم من أجل لقمة العيش، ووظف أبوسيف في هذا الصراع بنية رمزية لقضايا إنسانية كبرى.
 واتكأ أبوسيف على الفانتازيا في فيلم «البداية» (1986)، من خلال أحداث تمرّ بها مجموعة من الناس يبحثون عن العدل والحريّة والخلاص بعد أن سقطت بهم الطائرة في الصحراء، وتتطور الأحداث، ليصبح أحدهم زعيمًا عليهم ويمارس أساليب الحاكم المستبد، فيتحدون ضده ويواجهون الظلم، ويرصد الفيلم تجليات الرفض والاستبداد بأسلوب رمزي ساخر. 
 
قضايا المرأة
أما قضايا المرأة فإنها تحضر بقوة في أعماله وجلّها يتجلى حول المآزق التي تواجه المرأة في المجتمع، سواء تجاه الرجل أو تجاه السلطة، ويتناول التحديات التي تواجه المرأة في واقعها الاجتماعي، فجاءت أفلامه في هذا السياق تعبيرًا عن المرحلة الزمنية وهموم المرأة، ومن هذه الأفلام ما يعتبر علامات في ذاكرة السينما المصرية، مثل: «القاهرة 30» (1966)، و«الزوجة الثانية» (1967)، و«بداية ونهاية» (1960) الذي توقف عند إشكالية الفقر التي يعانيها البسطاء، و«أنا حرة» (1959) الذي تناول اصطدام المرأة بالمجتمع والسلطة، وجاءت رؤيته محرّضة على خدمة الوطن أولًا.
 فضلًا عن عديد من الأفلام الأخرى التي قدمها أبوسيف تعبيرًا عن قضايا المرأة مثل «الطريق المسدود»، و«هذا هو الحب»، و«رسالة من امرأة مجهولة»، و«ثلاث نساء»، و«حمام الملاطيلي»، وغيرها.  
استكمل أبوسيف مشروعه السينمائي بمختلف تجلياته الواقعية بفيلمه قبل الأخير «المواطن مصري»؛ حيث تناول أحوال المعدمين المقهورين في القرية، وسلّط الضوء بقوة على طبقة الإقطاعيين (كبار الملّاك) التي قامت على استغلال الفلاحين، وأكد في هذا الفيلم حضوره الفني كمخرج مخضرم، وأحد أهم المخرجين القلائل في تاريخ السينما المصرية والعربية. يجمع الفيلم بين البعدين الرومانسي والنفسي، والرمز أو الإحالة، والقهر، وغيرها من البنى الفنية التي حفلت بها أعماله.
 
حقبة الخمسينيات والمسيرة الفنية
إذا تأملنا رحلة أبوسيف الفنية حتى وصوله إلى فيلم «المواطن مصري» سنجد أن حقبة الخمسينيات هي المرحلة الأهم في هذه الرحلة؛ حيث قدّم أهم روائعه التي تعد - في الوقت نفسه - من أهم روائع السينما المصرية، مثل: «لك يوم يا ظالم»، و«الفتوة»، و«ريا وسكينة»، و«الوحش»، و«شباب امرأة»، و«أنا حرة»، و«الوسادة الخالية»، و«لا أنام»، و«بين السما والأرض»،... وغيرها.
وعلى الرغم من أنه قدّم خلال حقبة الستينيات أعمالاً على درجة كبيرة من الأهمية، مثل: «بداية ونهاية»، و«القاهرة 30»، و«الزوجة الثانية»، مثلًا، فإنها أقل على المستوى الكمي، وكذلك حقبة السبعينيات التي قدم خلالها سبعة أفلام فقط، أبرزها «السقا مات» (1977)، و«حمام الملاطيلي» (1973)، وهو إعادة صياغة لفيلمه «لك يوم يا ظالم» (1951)، الذي حقق نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا.
وفي الثمانينيات قدّم فيلمين، هما: «القادسية» (1981)، الذي تم تصويره في العراق، وشهد مشاركة عربية كبيرة، حيث جمع ممثلين من مصر، والكويت، والعراق، وسورية، والمغرب، وغيرها. 
أما الفيلم الآخر فهو «البداية» (1986)، الذي احتفى به الجمهور والنقاد، حيث طرح شكلاً جديدًا في السينما المصرية يمزج بين الدراما والكوميديا في صورة رمزية.

رؤية عميقة
الملاحظ أنه منذ أن أخرج «نمرة 6» (1942)، ثم «دايما في قلبي» (1946)، وحتى آخر أفلامه «السيد كاف» (1994)، لم يتوقف خلال خمس سنوات إلا مرتين فقط، الأولى كانت عقب فيلم «القادسية» (1981)، ليعود بفيلم «البداية» عام 1986، ثم توقّف مرة أخرى ليعود بواحد من أهم أفلامه هو «المواطن مصري»، الذي يُعتبر أيضًا أحد أهم أفلام التسعينيات، ويلاحظ أنه حينما يتوقف مدة طويلة نسبيًّا؛ فإنه يعود بفيلم مهم يضاف إلى روائعه.
 صلاح أبوسيف صاحب الأعمال البارزة الذي طالما أدهشنا وأسعدنا وأبكانا أيضًا على ما يحشده الإنسان في نفسه من حب لذاته ومن قهر للآخر، قدّم «المواطن مصري» موظفًا رؤيته المتعمقة وإحساسه بالتفاصيل الصغيرة التي ينقلها عبر الكاميرا بلغة الحوار الموحية وتفاصيل الصورة حتى في أدق الأمور، وباصطحاب موسيقى شجيّة تعبّر عن حالة إنسانية معبّرة عن المهمشين المعدمين في القرية المصرية. 
 يختلف هذا الفيلم إلى حد ما مع كثير من أفلام أبوسيف السابقة؛ لكنه يعدّ استكمالًا لثيمة الفقر والثراء، كما جاءت في أفلام: «الأسطى حسن»، و«بداية ونهاية»، و«الزوجة الثانية»، و«القاهرة 30»؛ فيرتكز على إبراز فكرة «الآخر» الثري المسيطر، حتى أن هذا الآخر/ العمدة، ينال الأرض والابن، ويحصل على مجد زائف بأنه أبو الشهيد، ويبدو في مشهد النهاية يمرح بحصانه متغطرسًا؛ بينما يجلس عبدالموجود (الضحية) في الحقل مكلومًا.
 ثمة تشابه بين شخصية «أبو العلا» التي أدّاها شكري سرحان في فيلم «الزوجة الثانية»، وشخصية «عبدالموجود» (عزت العلايلي)، فالشخصيتان من الفلاحين الفقراء في القرية، وعملا خفرًا للعمدة، وهما من هؤلاء الناس الطيبين الذين سقوا الأرض بعرقهم، وهما خادمان أمينان للعمدة الجشع: «عتمان» (صلاح منصور) في الأول، و«الشرشابي» (عمر الشريف) في الآخر، كأن العمدة في الفيلمين شخصية واحدة، والخفير في الفيلمين شخص واحد أيضًا، وكأن أبوسيف وجد في رواية «الحرب في بر مصر» للروائي يوسف القعيد ما يود إضافته إلى سيرة الفقراء في القرية، بعد أن قدّم من قبل جزءًا يسيرًا عن معاناتهم في فيلم «الزوجة الثانية».
 
مكونات الصورة عنده
يزاوج الفيلم بين فكرة الحرب وعالم القرية أوائل السبعينيات، وتتحرك الأحداث سريعًا إلى موضوع القضية التي يطرحها، فمع التتر يبدو النصب التذكاري لشهداء حرب أكتوبر ممتزجًا بموسيقى تصويرية شجية لياسر عبدالرحمن تُشير إلى حالة من الحزن والألم والأنين، فالفيلم يعتمد على الإيجاز وكأنه ومضة شعرية مكثّفة، والمشاهد موظفة بعناية، فتأتي جملة «يونيو 1973» على الأشجار والزراعات، للإفصاح المباشر عن المكان والزمان. 
 اللغة السينمائية عند أبوسيف لها خصوصيتها، ويأتي المشهد الأول، وهو دخول سيارة المحامي إلى القرية مخترقة الطرق الترابية لتبشر العمدة عبدالرازق الشرشابي (عمر الشريف) بحكم المحكمة وعودة الأرض، ممهدًا للمشاهد الأخرى المتعاقبة وتتوالى الأحداث التي تجذب المشاهدين وتجعلهم في ترقّب دائم حتى المشهد الأخير، وفي طريق السيارة إلى «الدوّار» (بيت العمدة)، ترصد كاميرا طارق التلمساني تفاصيل المكان أو عناصر القرية: الحقول، والطرق الترابية، والنساء اللاتي يغسلن أغراضهن على الشط، وحتى الحمار الذي يمر محمّلًا بالبرسيم، فالمشهد مكتمل بتفاصيله.
 ولأن الصراع الدرامي بين العمدة/ الإقطاعي، وعبدالموجود/ الفلاح البسيط، فإن فكرة التقابلات موجودة باستمرار لرصد حالة البذخ والحياة المترفة عند العمدة، وحالة الفقر التي يعانيها عبدالموجود وبيته، فالاحتفال بعودة الأرض هنا، يقابله حزن هناك، وصورة نحر البهائم تأتي تعبيرًا عن الفرحة والحياة المترفة للعمدة وبيته الفسيح المزدحم بالخدم، يقابلها البيت البسيط وضيق الحال (الزوجة تبحث عن كوب سكر سَلَف من جارتها مثلاً)، فضلًا عن مظهر العمدة وأناقته في مقابل حالة الفقر البادية على عبدالموجود ومظهره البائس.

إضافة جادة
كل هذا يمهد للحدث الدرامي الرئيس، فالأرض التي أخذها الإصلاح الزراعي من الإقطاعيين وتم توزيعها على الفلاحين، عادت إلى العمدة من جديد بحكم قضائي في عهد السادات، ولا يحيل الفيلم إلى إدانة مرحلة ما، إنما يستحضر سيرة عبدالناصر كزعيم وطني أكرم البسطاء وحررهم من الذل.
فصلاح أبوسيف حينما يعبّر عن السلطة فإنه يعبّر بشكل مباشر، وقد يميل إلى الفانتازيا كما في فيلم «البداية»، حيث ناقش قضية الاستبداد بوضوح شديد، وفي «الزوجة الثانية» عبر عن العمدة/ الطاغي، والسلطة الفاسدة المتمثلة في المأمور. 
«المواطن مصري» معني بالأساس بحالة الفلاح عبدالموجود وولده «مصري»، ولذلك تتكرر لقطة «كلوز أب» على صورة معلّقة على جدار البيت لعبدالموجود وبعض الفلاحين وهم يتسلّمون عقود الملكية من عبدالناصر، في حين لم يتضمن الفيلم لقطات مماثلة لصورة العمدة مع أنور السادات، على الرغم من أنها معلّقة على جدار بيت العمدة، كدلالة مباشرة على أن الفيلم معنيّ بالأساس بأحوال الفلاحين، والتأكيد على العزة والكرامة التي تحققت لهم في العهد الناصري دون مقارنة.
تكشف الأحداث عن عام 1973 وقد أصبح «توفيق» (خالد النبوي) ابن العمدة من زوجته الحسناء (صفية العمري) مطلوبًا للتجنيد، ولا يجد العمدة حلًا للخروج من المأزق وإبعاد الابن المدلل عن التجنيد لإرضاء زوجته، إلا بتزوير أوراق تجعل «مصري» يقوم بالمهمة بدلًا من ابنه، مقابل أن يظل والده عبدالموجود مالكًا للأرض، ويستشهد «مصري» في حرب أكتوبر، لكنّه يعترف قبل موته لصديقه حسن مفتاح (أشرف عبدالباقي) بالحقيقة. 

توظيف الموسيقى
يؤدي توظيف الأغنية والموال والموسيقى في جل أفلام أبوسيف إلى إبراز الحدث الدرامي، خاصة أن توظيف الأغنية يتم بعناية شديدة، مما يجعلها إضافة جادة للمشاهد والأحداث، وفي هذا الفيلم تتضافر الأغنية مع الحوار أو تسبقه مباشرة، فعندما يقول العلايلي في الحوار «خدنا لنا يومين زمان، الزمان دلوقت ليهم» تأتي في الخلفية أغنية «ما أحلاها عيشة الفلاح»، وفي مشهد للعمدة وزوجته تأتي في الخلفية أغنية ليلى مراد «يا سبب تعذيبي... والاسم حبيبي»، معبّرة ومستشرفة للمشهد التالي وتوصيف الحالة الدرامية، كذلك أغنية «أهو جه يا ولاد» للتدليل على قدوم شهر رمضان.
كل الأغاني أضافت دلالات للمشاهد ومهدت للأحداث اللاحقة. واستطاع السيناريو الذي كتبه السيناريست محسن زايد، سواء بالصورة أو لغة الحوار الرشيقة والمؤثرة، أن يكون له دور في بلورة الفكرة، وبدت الشخصيات مرسومة بدقّة، فعلى سبيل المثال شخصية «مصري» التي جسّدها الراحل عبدالله محمود بمقدرة كبيرة، حيث تقمّص شخصية الفلاح الشاب ابن القرية الرافض للفقر والمتمرد على الظلم، ويتميّز بالأخلاق الحميدة. ويكشف الفيلم عن ذلك في مشاهد عدة، أبرزها حينما قرر أن يكتب رسالة لأسرته، فكتب: «أبي الحبيب»... وصمت قليلاً ثم طوى الورقة، بعد أن تذكّر أن أباه لا يقرأ، ثم كتب في ورقة أخرى: «أمي الحبيبة»، ثم  تذكّر أيضًا أنها لا تقرأ، ثم كتب إلى حبيبته (حنان شوقي)، فقال: «هنادي...»، ولم يقلْ: حبيبتي، خجلًا، وبرر كتابته إليها بأنها «من القلائل الذين يقرأون في القرية» وأنها: «الحلم الباقي في إثبات أن التعلّم خير وسيلة للخروج من دائرة الفقر».
وصلاح أبوسيف المولود في مركز الواسطى بمحافظة بني سويف في العاشر من مايو 1915، قدّم بانوراما فنية غائرة العمق عن المجتمع المصري وعالم البسطاء، واستفادت أفلامه بشكل كبير من الأعمال الأدبية، فقدّم أعمالاً عن روايات لنجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، وأمين يوسف غراب، وغيرهم، وعرضت أفلامه في مهرجانات السينما الدولية، وتم تكريمه في أغلب هذه المهرجانات؛ ميونيخ، وجنيف، وفيينا، ونانت، ولوزان، وزيوريخ، وجنيف، وبودابست، وروتردام، وباريس، ومونبلييه، وطولون، وقرطاج، والقاهرة...، وغيرها.
ونال عديدًا من الجوائز، وصدرت عنه مجموعة كبيرة من الدراسات والكتب والرسائل الجامعية، ورحل في الثاني والعشرين من يونيو 1996، بعد رحلة من العطاء قامت على التعبير عن المجتمع وحياة البسطاء والمهمّشين >