مكتبات بيع الكتب أيقونات ثقافية
إن ما يربط بلدك ولغته بالمناطق الأخرى التي تتكلم لغات مختلفة، ليس خطوط الطيران والرحلات، وإنما الممرات الممتدة بين رفوف الكتب. فكل مكتبة لبيع الكتب ما هي إلا نسخة مكثفة من العالم.
أنت لا تحتاج إلى عبور الحدود الجغرافية، كي تغيَّر طبوغرافيا وأسماء الأماكن والزمن، كل ما تحتاج إليه هو خطوة، مجرد خطوة بقدمك، أنت لا تحتاج إلى جواز سفر لتتجول داخل مكتبة، وتقترب من العوالم التي تقدمها إليك، والتي يختصرها هذا الحيّز المكاني السحري.
المكتبة «خريطة» بداخلها جو متميز من الحرية، يتباطأ فيها الزمن، وتصبح السياحة نوعًا مختلفًا من القراءة. إنك حين تسير في ممرات أي مكتبة، فإن العناصر العاطفية والوجدانية تتساوى مع العناصر الإدراكية والمعرفية.
المجلدات التي هي بمنزلة أوعية، والأشغال اليدوية التي نطلق عليها اسم «كتب» ونقرأها كآثار وبقايا من الماضي، استطعنا الحفاظ على ما بها من أفكار.
هناك العشرات، بل المئات، من مكتبات بيع الكتب بحاجة إلى ملاحظتها والانتباه إليها، فهي ظاهرة تستحق التحليل والكتابة عنها كتاريخ، حتى لو لم يقرأها سوى المهتمين بالمكتبات والمترددين عليها، ممَنْ يجدون في المكتبات سفارات دون أعلام، أو يعتبرونها آلة زمن، أو خانًا قديمًا لإيواء المسافرين، أو أوراقًا رسميّة غير صادرة عن الحكومات. فقد اختفت مكتبات كثيرة وأوشك غيرها على الاختفاء، وصار بعضها مجرد مزارات سياحية في مختلف دول العالم، وتحوّل عدد منها إلى مواقع إلكترونية، أو استسلمت لتقلبات الزمن فدخلت ضمن سلاسل مكتبات شهيرة وغدت تحمل اسمها. وبعض هذه المكتبات ما زالت صامدة، عتيقة ولها تاريخ وماضيها موجود، مفتوحة للجميع، وتنتظرها خطط مستقبلية.
المكتبات الأولى لبيع الكتب لدى الإغريق والرومان كانت إما أكشاكًا متنقلة، وإما أكواخًا؛ وفيها يتم بيع الكتب، أو تأجيرها (فكرة المكتبة العامة المتنقلة).
ثقافة زائفة
ففي روما كانت مكتبات بيع الكتب أمرًا شائعًا ومعروفًا، ومع الوقت ارتفعت نسبة بيع النسخ الجميلة من الكتب المختلفة، وصارت المجلدات تُباع بالوزن، نتيجة حرص أثرياء الرومان على شرائها وملء مكتباتهم المنزلية بها، للتفاخر بثقافتهم الزائفة.
عملت مكتبات بيع الكتب على تغذية المجموعات الخاصة للمثقفين ومحبّي القراءة، التي شكَّلت نموذجًا مُصغرًا للمجموعات العامة، أو المكتبات العامة بمعنى آخر.
تضاءلت تجارة الكتب عقب سقوط الامبراطورية الرومانية، وواصلت الأديرة في القرون الوسطى مهمة نشر الثقافة المكتوبة بين الناس عبر الكَتَبة الناسخين.
وفي السنوات الأولى من اختراع الطباعة، ظلت الغلبة للمخطوطات على الكتب المطبوعة، كنوع من الحفاظ على الوجاهة الاجتماعية، وهو السبب ذاته وراء تفضيل الناس في أزمنة سابقة لورق البردي على ورق الرق، أو الكتب المصنوعة يدويًّا – في ستينيات القرن العشرين – على تلك المصنّعة آليًّا.
ففي بادئ الأمر، كانت المطابع ذاتها دار النشر لأي كتاب، لكنّ الباعة الجائلين سرعان ما ظهروا في هذا المجال، طافوا المدن المختلفة ليبيعوا الكتب التي اشتروها من الطابعين، كانوا يجوبون الشوارع وهم ينادون بصوت مرتفع، مرددين أسماء العناوين التي يحملونها معهم، ومع الوقت أسسوا سوقًا للباعة الجائلين، وامتلك بعضهم أكشاكًا دائمة في المدن الكبرى.
كتاب داخل صندوق
بدءًا من القرن السادس عشر، صار بالإمكان شراء آلاف النسخ من الكتاب الواحد ليقرأها مئات الآلاف. وفي المئة سنة التالية، انتشرت في أوربا أكثر من مئة ألف نسخة من الكتب المطبوعة المختلفة.
تطورت أنظمة الفهرسة والعرض في تلك الفترة، وأصبح كل كتاب يُعرَض داخل صندوق خاص به، إذ كان الشائع حينها بيع الكتب كأوراق متفرقة غير مجلدة، يختار الزبون بعدها نوع التجليد الذي يريده لنسخته، وهو ما يفسر وجود مجموعات غريبة من الكتب، متعددة الموضوعات، التي لا يجمع بينها إلا الأغلفة المتشابهة التي اختارها أصحابها.
في القرن الثامن عشر، أصبح العاملون في مجال المكتبات هم القوة التي تقف وراء ازدهار نشاط إعارة الكتب، وهو ما أتاح للحرفيين والطلبة والنساء قراءة الأدب، دون الاضطرار إلى دفع مبالغ مالية مرتفعة نظير شراء الكتب.
ومع نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، صارت المكتبات أكثر انفتاحًا على الشارع والمارَّة، من خلال واجهاتها الزجاجية، والملصقات الإعلانية، واللافتات، والمُنادين الذين تركزت وظيفتهم على دعوة الناس للدخول.
واقع الأمر أن الكتب في تلك الفترة بدأت باستعادة دورها الطبيعي كسلعة أو بضاعة؛ تكونت الصفحات الأخيرة من قوائم ببقية العناوين الصادرة من ذات السلسلة، أو التابعة لدار النشر نفسها، كما صار للأغلفة شكل جذّاب برسوم ولوحات توضح طبيعة المحتوى، وبدأت دور النشر بطبع سعر الكتاب على غلافه، وكان ذلك جزءًا من وسائل جذب القرَّاء، ونوعًا من الدعاية للعمل.
القارئ المحترف
مع تنامي الطلب على المطبوعات، وازدياد أعداد متاجر بيع الكتب وتأجيرها، ظهرت سلاسل من الإصدارات بسعر موحد، وصارت المكتبات المتنقلة (العامة والخاصة) جزءًا من قلب الثورة الصناعية، وظهرت أيضًا مهنة جديدة هي «القارئ المحترف».
ففي القرن التاسع عشر، تكسَّب بعض الناس من وظيفة قراءة الأخبار بصوت مسموع، أو إلقاء مقاطع من الأعمال الشعرية والمسرحية بأداء يناسب طبيعة النص.
وخلال هذا القرن أيضًا أصبحت القطارات الناقل الرئيس للثقافة بأكملها، فحملت عربات القطار الأوراق، وآلات الطباعة وقطع الغيار الخاصة بها، وعُمَّال المطابع، والمؤلفين والكُتَّاب، والكتب؛ كما حملت أيضًا العنصر الأهم، وهو المسافرون (القرَّاء).
وكان لظهور «مكتبة السكة الحديد» أبعاد تعليمية وتربوية، فإلى جانب ما توفره الكتب صغيرة الحجم، وخفيفة الوزن من تسلية للمسافرين، فإنها تعمل على تعميق ثقافتهم في الوقت ذاته، كما أن هذا النوع من المكتبات كان هو السبيل الرئيس للثقافة في المناطق النائية داخل بعض الدول.
وبمرور الوقت، ونظرًا لنجاح الفكرة، افتتح كثيرون مكتباتهم في المداخل الفسيحة لمحطات القطار. ومن الملاحظ في تلك الفترة؛ أن أغلفة الكتب لم تعد سميكة وثقيلة، بل مصنوعة من ورق مقوّى، كما ظهرت نسخ رخيصة الثمن من الكتب، أو ضمن مجموعات من البضائع المعروضة بأسعار مخفضة، كما بدأت الكتب المستعملة في الانتشار.
في القرن العشرين، حرص القائمون على بناء دُور الأوبرا والمسارح وقاعات الموسيقى والمراكز الثقافية والمكتبات العامة على اتباع نموذج الكاتدرائيات العصرية، لكن مكتبات بيع الكتب لم تُصَمَّم بهذه الطريقة إلا بحلول القرن الواحد والعشرين.
رحلة ممتعة
الأبطال هنا ليسوا الزبائن ولا البائعين، بل أجواء المكتبة ذاتها، والواقع أن أكثر هذه المكتبات لا يحتوي على كتب بالغة التميّز، لكن تميّزها يكمن في أنها رحلة ممتعة للسياح الموسميين، والزبائن الدائمين على حد سواء، إنها تُتيح لزوارها تجربة الوجود داخل مكان شديد التميز، أما البضاعة فليست سوى تكرار للمعروض في مكتبات أخرى.
لذا سعت بعض المكتبات إلى اتخاذ أي مبنى تاريخي مقرًّا لها، في محاولة للحصول على طابعها الفريد، واستقطاب السياحة المعنوية (الصورة)، والسياحة المادية (الزيارة الفعلية).
تزايدت هذه الظاهرة، وانتشرت فكرة تجديد الأماكن المختلفة وتحويلها إلى مكتبات في العقود الأخيرة، فتحولت الفنادق ومحطات القطار ودور العرض السينمائي والقصور والبنوك والمطابع والمعارض والمتاحف، إلى مكتبات لبيع الكتب.
يمكن رؤية المسألة من منظور عصري مختلف، هو فكرة «إعادة التدوير»، فالثقافة نفسها تغيرت وصارت رقميّة، كما لم يعد مفهوم «الحقيقة» مقتصرًا على الملموس فقط، وإنما امتد ليشمل ما هو افتراضي أيضًا. فيمكنك القيام بزيارات افتراضية لكل فروع مكتبة بعينها على شبكة الإنترنت، ومن خلال محرك البحث «جوجل»، تستطيع مشاهدة أعداد لا تحصى من مكتبات بيع الكتب في العالم؛ الأجمل والأهم والأكثر تميزًا وغيرها.
حلّ عملي
يمكن القول، إنه للمرة الأولى في تاريخ الثقافة، تنجح هذه المكتبات في الوصول إلى أوساط السائحين العالميين عبر مواقعها الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمدونات؛ مثيرة بذلك فضول المتابعين لها ورغبتهم في زيارتها فعليًّا، والتعرف إليها عن كثب، والتقاط الصور لها. تنجح في خلق كل ذلك دون اضطرارها للاستعانة بمصادر تاريخية، أو مشاهير المؤلفين، أو الكتب الناجحة. إن صورة واحدة لكنيسة، أو محطة قطار، أو مسرح، تم تحويله إلى مكتبة، تستطيع في إطار المفاهيم الجديدة لسوق السياحة جذب العديد من السُياح، أكثر بكثير من مئة ألف كتاب جيد، أو عشرة مليارات كلمة.
في تسعينيات القرن الماضي، بدأت المكتبات في مواجهة الخطر المتربص بها من قِبل العوالم الإلكترونية والرقمية، بحلّ عملي يمكن تلخيصه في المفردة التي تجمع بين كلمتين «مقهى المكتبة»، هنا صارت المكتبة تلعب أكثر من دور، إنها مكان للقاء والمواعيد، ومكان لعقد الاجتماعات المتعلقة بالعمل، وإعطاء الدروس الخصوصية، وإقامة الاحتفاليات المختلفة.
تحتوي معظم مكتبات القرن الواحد والعشرين على كافيتريا أو اثنتين، ويضم بعضها مطعمًا أيضًا، وتمتزج كل تلك العناصر في انسجام متكامل، تلعب فيه الكتب دورًا رئيسًا. تهدف عناصر كثيرة إلى إطالة بقاء الزبائن داخل المكتبة، ومنها الديكور وقطع الأثاث، وقسم الأطفال الذي يصمم عادةً على هيئة غرفة للعب، والتداخل المدروس بين ألوان الأشياء وملمسها. تجربة زيارة هذه المكتبات تعتمد على جميع الحواسَّ، وعلى العلاقات الإنسانية.
مستويات متدرجة
بعض المكتبات في الوقت الحالي مقسمة إلى مستويات متدرجة، وفي الأغلب الأعم المستوى الأعلى نجد فيه السلالم والنوافذ والواجهة الزجاجية، والجداريات واللوحات والتماثيل، وقطع الأثاث المختلفة التي تمثّل عصرًا واحدًا، إضافة إلى وحدات الإضاءة.
تلعب هذه الأشياء مجتمعة دور البطولة في المكان، وهدفها هو تخفيف وطأة اتساع المكان المصمم أصلاً لأغراض أخرى. وفي المستوى الأسفل (القاع) نجد كتبًا معروضة بطريقة بسيطة، وبأعداد قليلة، رغم أنها السبب الرئيس في وجود المكان بأكمله؛ لكنّ الواقع أنها لم تعدّ بالأهمية نفسها التي كانت عليها في مكتبات القرن العشرين، حينما كانت تُصمم لملء فراغ أيدينا وأعيننا، ولخلق نوعٍ من الإبهار الجذاب.
وبالنظر إلى المكتبات من هذه الزاوية، نرى أنها نظير مُحتمل للإنترنت، ففي الحالتين يسكن النص – رغم أهميته – مساحة صغيرة ومحدودة، بينما تحتلّ الصورة والمواد المرئية مساحة أكبر، ويشغل الفراغ اللامحدود المساحة المتبقية.
وكما في الفضاء الإلكتروني، حيث ندرك أن هناك الكثير من الأشياء التي تحدث في الوقت ذاته، حتى لو لم نشاهدها، فإن الزائر لهذه المكتبات ذات الأقسام المتعددة يُلاحظ وجود العديد من الأنشطة المتزامنة: حكايات تُقَصُّ على الصغار في قسم كتب الأطفال، وعرض شعري وغنائي داخل الكافيتريا، وإصدارات جديدة معروضة على المناضد وداخل الواجهات الزجاجية، وحفل توقيع كتاب على وشك البدء، إلى جانب وجود أصناف جديدة من الحلويات على قائمة الطعام في المطعم التابع للمكان، وورشة عمل أدبية تُنهي أولى جلساتها، وكما في العالم الافتراضي، نشهد هنا أساليب جديدة من العلاقات الاجتماعية، تجمع بين حب الكتب والثقافة من جهة، والتواصل الشخصي وجهًا لوجه من جهةٍ أخرى، وهو أمر فشلت «الإنترنت» في تحقيقه >