الثورة الرقمية... ثورة ثقافية
اقتصرنا في هذا التقديم على الإشارة إلى ثلاث زوايا تتصل بالثورة الرقمية والثقافية، واهتم بتحليلها الكاتب، وهي: تأثير الثورة الرقمية في المنتوج الثقافي، وثقافة العلاقات والتعريف بالذات، وثقافة الوفرة الإبداعية.
تأثير الثورة الرقمية في المنتوج الثقافي
بيّن الكاتب، بتحليل متّسع، أن العالم عرف في العقد الأخير ثورة تكنولوجية ورقمية غزت حياة البشر، وأثّرت في طبيعة الحياة اليومية وفي الواقع بكلّ أبعاده الثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ومن مظاهر هذه الثورة الرقمية انتشار الحواسيب والهواتف الجوّالة الذكية والألواح، وإقبال الناس على استعمال «فيسبوك» و«يوتيوب»، وغيرها من التطبيقات التي يقبل عليها خاصة الشباب.
فالعالم حسب الكاتب يعيش اليوم «ثورة صناعية ثالثة مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية وسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول» (ص 17).
وقد نتجت علاقات غير مسبوقة بين تكنولوجيات الإعلام والتواصل الجديدة والمجتمع، واُثّر هذا العالم الرقمي في علاقة الإنسان بالمنتوج الثقافي، إذ أصبح من السهل على الفرد الحصول على مضامين ثقافية واسعة والولوج إلى الكتب الإلكترونية والمعاجم والمعلومات.
ويمكن لمستهلكي الثقافة الوصول بكل يسر إلى الأغاني والأفلام والمسرحيات المعروضة في العالم الإلكتروني، لكنّ هذا العالم الجديد تعاظم تهديده للأنظمة الثقافية التقليدية ولطرق صناعتها واستهلاكها، وقويت هيمنته على القطاع السمعي البصري والسينما والصحافة ونشر الكتب والموسيقى.
ولا بدّ من العلم أن وراء كلّ هذه التحولات والتغييرات شركات عملاقة عالمية كـ «جوجل» و«فيسبوك» و«مايكروسوفت» وغيرها.
فإذا كان قبل عقود يتعرّض مشاهير الأدب والسينما والأغاني والموسيقى للتقويم من النقاد والمتخصصين والخبراء والأكاديميين، فيقع الاعتراف بهم وبجودة أعمالهم وبشهرتهم، فإنّ من سلبيات هذا العالم الجديد أن الاعتراف بالكتّاب والفنّانين يتمّ وفق الحصول على عدد كبير من المعجبين وبأصوات الأصدقاء والمقرّبين وتعاليق بعيدة كلّ البعد على التخصص والخبرة والمعرفة.
فالنجاح «الناتج عن الدعاية عبر الشبكات الاجتماعية يضاعف - بشكل كبير - سمعة المعترف به أكثر. فاقتصاد نظام النجوم يمكّن بالتالي الدعاية للأكثر بروزًا، فيعزّز النجومية، ومن ثمّ يتقلص الإبداع والأصالة الخلاّقة» (ص43).
وتصاحب هذه المواقع الإلكترونية المجانية مواقع للبيع والشراء تبحث بكلّ الوسائل عن جذب المستهلكين وتنمية الأبعاد التجارية في التسويق والترويج.
وفي تلك السوق الرقمية يمكن للمتخصصين في التسويق إنشاء علاقات مع المستهلكين ومعرفة تطلعاتهم ورغباتهم، عبر الضغط على الزرّ.
وبذلك لن تكون قيمة المنتوجات الثقافية والإعلامية بالضرورة وفق تكلفة الإنتاج والتوزيع، لكن وفق الاستهلاك والاستقبال. وأصبح التواصل عبر الإنترنت يفرض «على ناشري الكتب والمؤسسات المشتغلة في ميدان الموسيقى والمنتجين السينمائيين إعادة التفكير في التموقع وطريقة العمل» (ص 46).
وأهم ما بيّنه الكاتب أن «الغرض من المجانية الظاهرة للربط والتفاعلات في الواقع هو الطموح لاستقطاب أكبر عدد من المتخصصين عبر الويب لرفع مداخيل الإعلانات، والتمكّن من اقتراح مواد تجارية بعد معرفة أفضل لأذواق ومراكز اهتمام المتصفحين» (ص47).
والخلاصة أن الثورة الرقمية قد أربكت القطاعات الثقافية التقليدية، وأدخلت تغييرات صادمة، ممّا أدّى إلى إعادة تشكيل البعد الثقافي الذي أصبح يقوم على التواصل المفتوح والتعريف بالذات.
ثقافة العلاقات والتعريف بالذات
بيّن الكتاب أن الشبكات الاجتماعية تقيم روابط صداقة لتبادل الآراء والتحاور وإبداء التعليقات حول بعض المواضيع ونقل بعض الصور والفيديوهات. لكن هذه الشبكات التواصلية «تخلق قطيعة غير مسبوقة مع الطرق العلائقية السابقة» (ص62).
والمؤكد أن هذه المواقع مكّنت أصحابها من عرض ذواتهم، وعبّروا عن رغبات كامنة في كشف ما يخفونه بدواخلهم أمام كلّ الناس. وإنّ الحكي عن الذات وتقديم معلومات عن الحياة الخاصة دليل على «رغبة الأفراد في الاعتراف بوجودهم» (ص 64)، فهذه المواقع الاجتماعية مليئة بالتفاعلات الخاصة والذكريات والأخبار والفكاهة والتعليقات والصور الشخصية إلى حدّ «يتفوّق التواصل في النهاية على المضمون» (ص 64). وشهدت هذه المدوّنات ازدهارًا، خاصة عندما يكون المدوّنون في هذا السياق بمنزلة فنانين وصحفيين وخبراء ومناضلين جماهيريين وسياسيين يعبّرون عن آرائهم» (ص65).
وتبيّن هذه الدراسة أنّ مواقع التواصل الاجتماعي تستقبل في كلّ وقت بوح المشتركين بمشاعرهم وأحاسيسهم الخاصة، وقد أدّى ذلك إلى «طمس الفرق التقليدي بين الحياة الشخصية والحياة العامة» (ص 67)، وتداخل ما هو ذاتي وخاص في حياة مستخدمي هذه المواقع مع ما هو عام، ويشترك كلّ الأصدقاء في معرفته والاطلاع عليه.
غير أنّ التعبير عن الذات يمكن أن يكون غير صادق وبعيدًا عن الواقع والحقيقة، إذ يمارس مستخدمو هذه المواقع «بعض الأدوار البعيدة عن قيود الواقع، فيندفعون لإقامة توصيفات وهمية أو مُبالغ فيها تدفعهم إلى تغيير مظاهرهم» (ص 69). ومن ممارسات عرض الذات في المواقع الاجتماعية ظهور بعض الفتيات بصور ماجنة غايتها إثارة فتنة الجسد وإغراء المعجبين.
رغبة في التحرّر
يظهر من خلال ذلك «أنّ الظهور الماجن بالنسبة إليهن هو تعبير عن الذات» (ص 70)، فالـ «ويب» يكرّس رغبة الأشخاص في التحرّر والاستقلالية والانفرادية، ومن جهة أخرى يقوّي الرغبة في بناء علاقات وصداقات.
والمسألة التي طرحها الكاتب، وهي ذات أهمية كبيرة «ماذا يعني في الواقع أن يكون لك كثير من الأصدقاء على «فيسبوك»؟ (ص 72).
فاستعمال «فيسبوك» المكثّف يمكّن من توسيع دائرة العلاقات، ويزيد من عدد الأصدقاء، لكن هذه الصداقة افتراضية وليست واقعية ووليدة التقاء حقيقي في الحياة اليومية.
ولذلك، فإنّ الصداقة عبر الـ «ويب» تكون كميّة، لأن «منطق الشبكة يرتكز إلى تزايد مطّرد لدائرة المعارف» (ص73)، وإذا كانت الصداقة في الواقع تقوم على القرب الجسدي، فإنها على الـ «ويب» تتطلب الوجود المتواصل والانتشار الرقمي.
وإن بدا الحضور في الـ «ويب» يوهم بعرض الذات وكشف حقيقتها وتعرية خفاياها، فإن هذا الموقع هو «في الواقع عالم التخفي والاستعارة والصور الرمزية، حيث لا نعرف دائمًا معرفة اليقين هوية المرسل أو أصالة المحتوى، وهذا دليل على أن التبادلات غالبًا ما تكون زائفة» (ص 74).
من ناحية أخرى، فإن المواقع الافتراضية تجعل مستخدميها يراقبون بعضهم ويلجأون إلى حياة الأفراد الخاصة، ممّا يؤدي إلى التشكيك بطريقة واضحة في احترام الحريات العامة والشخصية «إنهم دائمًا المقرّبون والزملاء في العمل هم من يحاولون معرفة كل شيء عنّا» (ص 76).
وهذه المراقبة الإلكترونية لها أبعاد دولية، إذ إن «وكالة الأمن القومي الأمريكية وضعت برنامجًا موسّعًا للتنصّت والتجسس الإلكتروني عالميًا» (ص 76)، وهذا الموضوع يطرح عددًا كبيرًا من المسائل القانونية والأخلاقية في غير هذا المقام.
لكن في الوقت الذي كلّ العالم يدافع فيه عن احترام الحياة الخاصة يجد كلّ مستعملي
الـ «ويب» أنفسهم منخرطين برضاء تام ومستعدّين لإعطاء معلومات عن الحياة الشخصية، وذلك ما يؤكّد الدخول في «مجتمع المراقبة» بصفة طوعية والانصهار في ثقافة تتّسم بالوفرة الإبداعية.
ثقافة الوفرة الإبداعية
أصبح الهواة في الفنون والثقافة يشاركون بإنتاجاتهم عبر الـ «ويب»، وتتزايد مشاركاتهم يومًا بعد يوم حتى شكّلت فيضًا مثيرًا. ومن إيجابيات هذه الممارسات الثقافية «ازدهار الإشباع الشخصي والهمّ الذاتي والاعتراف بالفردانية من طرف الآخرين» (ص 91)، وهذه النشاطات الثقافية تتّصل بالغناء والموسيقى وبكتابة الشعر والسرد، وغيرها من الفنون.
وحقّقت هذه الممارسات الهاوية تقدّمًا كبيرًا وإقبالًا متفاقمًا، لأنّ «الشخص العادي المنقاد بالفضول والشغف يشعر بأهميته بفضل الوسائل المعلوماتية التي أصبحت في متناول عدد كبير من الناس» (ص 91)، ومن مظاهر حيوية المشاركات الثقافية على الـ «ويب» كثرة المؤلفات والوثائق المكتوبة والمصوّرة والمسجّلة «وفي عالم الموسيقى يتتبع المعجبون خطوات الفنان المفضل، وباستطاعتهم الحصول على محتويات حصرية» (ص93).
واستطاع الفنان ربط علاقات متينة بجمهوره، وأصبح في تفاعل مستمر معه، وتزايدت شهرته بفضل هذه الوسائل المعلوماتية. وإن استفاد الموسيقيون من استعمال مواقع الـ «ويب»، فهل حقق الكتاب النتائج نفسها؟
مازال بعض الكتّاب يرون في هذه الوسائل الحديثة عوائق، وهناك من اتّخذ هذه المواقع فضاء للقيام بتجارب في التأليف والكتابة «وكثير منهم أيضًا من ينخرطون في نشر كتبهم بالاعتماد على المدوّنات والمواقع والمشاركة في المنتديات من أجل إثارة التحفيز والفضول حول إبداعاتهم» (ص 96)، وبصفة عامة شكّل الـ «ويب» مجالاً للتعريف بالكتاب، ولربط العلاقات بين المؤلّفين والأدباء، وظهر ما يسمّى بالنص الإلكتروني الذي عوّض النص الورقي، كما أن «التكنولوجيات الحديثة تمنح لكلّ قارئ إمكان أن يصبح كاتبًا ومنتجًا للنصوص، وأن ينشرها مباشرة وبالمجان عن بُعد» (ص 97). ووفق الكاتب، أصبح الـ «ويب» فضاء غنيًا بالمؤلفين؛ سواء كانوا مشهورين وأصحاب كتب ورقية معروفة أو هواة ومجرّبين، وهذا ما يوحي ديمقراطية إلكترونية سمحت للجميع بالمشاركة في إنتاج نصوص أدبية، وخاصة المبتدئين فـ «المضامين المكتوبة والنصوص المنشورة من طرف الهواة تتضاعف بأشكال مختلفة بفضل الوسائط الجديدة» (ص 97).
تحوّلات كبيرة
لا أحد ينكر اليوم تأثير الثورة الرقمية في الكتابة والقراءة، فقد أصبح العالم يشهد تحوّلات كبيرة في هذا البُعد الثقافي، ويطرح أسئلة حول مستقبل الثقافة مع الرقمي وعلاقتنا بالثقافة المكتوبة منذ آلاف السنين.
وإن «المرور من النشر المطبوع إلى النص الإلكتروني أدّى إلى ثورة في أشكال الإنتاج وانتشار النصوص، وثورة من حيث ممارسة القراءة» (ص 107).
ويرى علماء اللغة اليوم أن النص الرقمي من سماته أنه متاح للجميع، وكتابته مغايرة للنص المطبوع، كما «أصبحت كثير من العمليات ممكنًا، مثل الكتابة والتحويل والقطع أو الحذف، ويمكن كذلك في أي وقت استكمال النص، فهو أساسًا غير مستقر ومفتوح بشكل غير محدد وقابل للأرشفة بشكل غير مادي، ومن ثمّ يمكن توزيعه بلا حدود» (ص 108).
وأدخل النص الإلكتروني تغييرات كبيرة في مستوى الكتابة واللغة المستعملة، فأصبح الجميع يستعمل الرسائل القصيرة والتغريدات والكتابة بالعامية ولغة مختصرة وكلمات جديدة وصورًا على شكل أيقونات، فهل تعتبر هذه الكتابة تدميرًا للغة ولبنائها المعروف أم ابتكار للغة إلكترونية خاصة؟
ويؤكد الكاتب أن علماء اللغة «استطاعوا حديثًا التأكيد أن الرسائل القصيرة تغني اللغة، بيد أن هناك ما يدعو إلى الشك في الآثار المحمودة لتلك الطرق الكتابية» (ص 110).
ممارسة جديدة
من المسائل التي أثارها الكاتب ما يتصل بممارسة جديدة في القراءة مع انتشار الحواسيب والهواتف الذكية والألواح الرقمية. فالانتباه العميق المقترن بقراءة الكتب الورقية تقلّص «ووفقًا لبعض الباحثين، فإن الرقمي سيثير كثيرًا من الأخطار، لأنه يعزّز قراءة مختصرة ومتسرّعة وسطحية» (ص 113)، ولم تعد هناك أوقات انعزال مع الكتاب وتركيز كلّي على مضامينه، كما هو الأمر مع الكتاب الورقي.
أما قراءة النص الإلكتروني فقد أصبحت تتطلب مهارة تكنولوجية وإجراءات عملية، وغالبًا ما تكون «قراءة مشتتة ومتقطّعة، وتؤدّي إلى شكل من التيه وقراءة فضفاضة» (ص 116)، ورغم التنافس الموجود بين الكتب الورقية والإلكترونية، فإنّ المستقبل ليس واضحًا، ومع ذلك، حسب الباحثين، لا بدّ من الاهتمام بالمكتبات العمومية «من أجل الحفاظ عليها والاستمرار في خدمة القراءة بوصفها تراثًا يتعيّن الحفاظ عليه، وينبغي الحفاظ على الكتب والمطبوعات على اختلافها، لأنها تشكّل وعاء حاملًا للذاكرة» (ص 120).
لا شكّ في أهمية هذا الكتاب وضرورة الرجوع إليه، وأبرز ما نستخلص مما ورد فيه أن الثورة الرقمية التي عرفها العالم في الزمن الراهن قد خلخلت الأنماط الثقافية التقليدية، وأنتجت طرقًا جديدة في الكتابة والقراءة وفي التعبير وصناعة الموسيقى والأغاني.
وأدّى كلّ ذلك إلى بروز ثورة ثقافية شكّلت انعطافًا في أشكال الحياة وبنية الوعي الثقافي والمعرفي.
ومازالت هذه الثورة الرقمية والثقافية تتعمق وتتسع شيئًا فشيئًا دون أن نعلم الكيفية التي ستكون عليها في المستقبل، لكنها وفّرت لنا الوصول إلى معارف غير محدودة، ورفعت قدرتنا على التواصل وربط علاقات اجتماعية وثقافية. ومع ذلك هنالك عديد من السلبيات والرهانات والتحديات التي تواجهها >