سامح الله قلب الكاتب

نادين جورديمر الفائزة بجائزة نوبل 1991
نالت نادين جورديمر جائزة نوبل هذا العام مرتين. كانت المرة الثانية هي التي أعلنت فيها أكاديمية ستوكهولم عن فوزها في الثالث من أكتوبر الماضي، أما المرة الأولى فقد تحققت بعد استقلال زيمبابوي وبداية تغير قانون الفصل العنصري "الأبارتيد" في جنوب إفريقيا.

ظلت نادين جورديمر تعاني طويلا كامرأة بيضاء من أسرة ثرية مما يحدث في بلادها، وخاصة في المزرعة الضخمة التي تمتلكها أسرتها قريبا من جوهانسبرج، كما ظلت تعاني بداية من عام 1979 من أكاديمية ستوكهولم حين بدأ اسمها يظهر لأول مرة في قوائم المرشحين، وفي كل مرة يتم إعلان اسم الفائز كانت الصدمة تعصف بها، ليس فقط لأن أسماء بعض من نالوا الجائزة قد لا يرقون إلى أهميتها، ولكن لأن فوزها بالجائزة في أثناء سنوات النضال ضد قوانين التفرقة العنصرية يعني مكافأة لها ومناصرة على مواقفها المتشددة، فقد فرضت عليها السلطات في جنوب إفريقيا عدم الخروج من البلاد وراحت تجد متنفسها الأوحد في الكتابة، والكتابة فقط.

وتجيء أهمية نادين جورديمر في أنها واحدة من أبرز الأسماء الأدبية في جنوب إفريقيا من الأفريكانيين Afrikaners، والأفريكانيون هم البيض في جنوب القارة، وذلك تمييزا لهم عن الزنوج أو الملونين، حيث هناك مجموعة من الأدباء البيض حملوا مصائرهم فوق أعناقهم، وراحوا يكتبون لمناصرة الحق، والوقوف إلى جانب العدل الظاهر، حتى لو كان السلم سائدا، ومن هؤلاء الأدباء هناك أندريه برينك، وجيرمي كورتين، وبريتن برتنباخ، وج. م. كوتيزي، ود. م. فيلكونه، وفيما قبل كانت هناك البريطانية دوريس ليسنج التي عاشت هناك بين عامي 1919 و 1949، وكتبت أكثر من رواية وكتاب لمناصرة السود.

الأغلبية من العبيد

ونادين جورديمر هي الوحيدة التي تنتمي إلى جيل وجنس دوريس لسنج، فهي مولودة في عام 1923 في مدينة سبرنجر، وهي مدينة صغيرة، تبعد ثلاثين كيلو مترا عن جوهانسبرج تحفها التلال الدامية، وقد أطلقت عليها هذه التسمية لكثرة ما نزف فيها الباحثون عن الذهب من دماء فوق صخورها.

والكاتبة سليلة إحدى الأسر الهولندية الثرية التي جاءت من هولندا إلى جنوب القارة في القرن الثامن عشر، وقد لاحق الثراء الأسرة حتى الآن، فهي تمتلك المزارع، ومناجم الذهب، ويعمل لديها الكثير من العمال الزنوج، وكان يمكن لفتاة حسناء وثرية أن تعيش في الرغد الذي توفره لها أسرتها، لكنها كما تقول: "سامح الله قلب الكاتب"، فهو دائم البحث عن الحق "فهذه الحياة الثرية بدت لها مزيفة، فكيف يمكنها أن تنام فوق فراش وثير، وتأكل أشهى الأطعمة بينما الآخرون محرومون من أقل أسباب الحياة، لذا فمنذ طفولتها راحت تتطلع إلى التناقض البين بين ما يدور داخل جدران منزلها الفخم، والحياة البائسة التي يحياها هؤلاء الزنوج، لذا فبدلا من أن تصادق أبناء جنسها من البيض الذين يرفلون في أفخم الثياب، نزلت إلى الفلاحين الفقراء تعيش معهم، وتلبس من ملابسهم، وتأكل مثلما يأكلون، وتكرس نفسها وحياتها من أجلهم.

وبمتابعة قوانين الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لابد أن ندرك مدى ما تعرضت له من اضطهاد، ففي جنوب إفريقيا، وحسب إحصاءات عام 1986، فإن سكان جنوب إفريقيا يبلغون 28.4 مليون نسمة منهم 19.66 مليون من السود و 6.89 من البيض و 4.9 من الملونين.

وبالنسبة للبيض الذين تنتمي إليهم نادين جورديمر فإن هناك 37% منهم من الناطقين بالإنجليزية و60 من النازحين من المستعمرات الأفريكانية، وقد تغيرت الخريطة الديمغرافية في الفترة الأخيرة بعد حركات الاستقلال.

أصحاب الحيازة بيض

تقول نادين جورديمر: "لم أع مسألة السود إلا وأنا في سن المراهقة، فقد كنت طفلة، ولم أكن أرى الأمر غريبا، كانت لدينا مربية سوداء، وكنا نحبها جميعا، كنا لطفاء مع الغرباء، ولكن أمي كانت تحترم المسافات بيننا، فلكل واحد مكانه، ومع ذلك لم تكن تعلق بشيء عندما تراني أتناول قدحا من الشاي معهم، وهكذا تربيت في "الأبارتيد" وفي المدرسة والأتوبيس والمكتبة.. إلخ، ثم بدأت في التطلع حولي، وأرى الأشياء مختلفة في هذه المناجم حيث الناس يعملون، هذه السبائك الذهبية التي أصبحت أكثر شيء هام فوق الأرض الآن، وهؤلاء الزنوج الذين يأتون من كل أنحاء إفريقيا ليعملوا في المناجم، خاصة أبناء الزولو الذين كان يصيبهم الخوف من النزول تحت الأرض، كنت أذهب لرؤية الناس في زي الرحيل، أراهم "أجانب" إلى أن فهمت ذات يوم ماذا يعني أجنبي".

وقد أدركت الصغيرة أن عليها ألا تخالط السود، وأن على الزنوج أن يعيشوا في معازل بعيدا عن البيض، وألا يدخلوا حدائقهم، أو متنزهاتهم أو مدارسهم، أو حتى نفس المحلات التي يشترون منها.

رغم أن نادين قد أحست أن عليها أن تدافع عن هؤلاء الزنوج، فإنها لم تبدأ حياتها الأدبية إلا وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، وحتى الآن، وبعد قرابة ثلاثة وثلاثين عاما فإنها لم تقدم سوى ثماني روايات ومجموعتين قصصيتين، ومئات المقالات التي نشرتها في الصحف دفاعا عن قضايا السود، ومن أهم رواياتها "عالم من الغرباء" و "ناس من جولاي" و "ابنة برجر"، و "أصحاب الحيازة"، أما المجموعتان القصصيتان فهما "شيء ما يخرج هناك" و "رياضة الطبيعة".

وقد نالت نادين جورديمر جوائز أدبية عديدة خارج بلادها، وجاءت هذه الجوائز بمثابة تأييد لموقفها، وأيضا تقديرا لإبداعها، من هذه الجوائز: "برنجل" عام 1969، وجائزة سميث وهي أعلى جائزة أدبية تمنح باسم رابطة الكومنولث، وأيضا جائزة بووكر التي حصلت عليها عام 1974.

وتجيء أهمية الكاتبة من أنها عاشت تكتب بلا توقف، مؤمنة أن عليها أن تعمل على تحرير 25 مليونا من الزنوج في زيمبابوي، فهي ترى أن الأثرياء حولها ليسوا سوى البيض، بينما ممنوع على الزنجي أن يمارس ما يفعله البشر خارج حدود البلاد، فعليه أن يترك منزله لفترة طويلة كي يعمل في خدمة الأبيض، في المناجم والمزارع: "كنا نرى الرجال في الحوانيت فيبدون لنا كالأجانب وهم يضعون سوارات حول سيقانهم مثلما يفعل البيض مع الكلاب، أما الصغار فليس عليهم أن يطرحوا الأسئلة على آبائهم، ولكنني فيما بعد أدركت أن البيض هم الأجانب، وأن هذه ليست أرضهم".

عالم من الغرباء والأجانب

سوف نركز هنا على واحدة من أبرز روايات الكاتبة، لكن قبل ذلك يهمنا الإشارة إلى أن الكاتبة لم تقترب من السياسة بشكل مباشر، فقد حاولت أن تتغلب على بنود قوانين المطبوعات في جنوب إفريقيا، لذا فإن رواياتها تهتم كثيرا بالأبعاد الاجتماعية التي يعيشها الزنوج في البلاد، أما محاضراتها ومقالاتها،

فهي أشد سخونة، فهي ترى في هذه المحاضرات أن السلطات السياسية تعاني من تناقضات، فهي قد تسمح بنشر رواية، وبعد ساعات من نزولها السوق، تروح تصادر النسخ ثم تعتقل الكاتب، وتصدر أمرا بأن يلزم بيته عددا من السنوات، وترى أنه رغم تعسف هذه القوانين، والسلطات، فإن هذا في مصلحة الكاتب والكتاب، فما إن يصدر كتاب جديد حتى ينفد من السوق، ولا تستطيع السلطات أن تفعل شيئا إزاء هذا الأمر.

ومن المعروف أن هناك سبلا عديدة لنقل الكتب الممنوعة وتداولها بين الأيدي، وقد تسربت أعمال الكاتبة، وأقرانها، إلى خارج البلاد وسرعان ما ترجمت إلى لغات عديدة.

وفي أعمال نادين جورديمر هناك دائما امرأة تمر بمرحلة تحول، فهي في البداية تبدو أقل وعيا، أو أكثر سلبية بالنسبة لما يحدث حولها، وما تلبث أن تتغير، فتصبح ثورية متمردة، تعي ما يحدث من ظلم في هذا العالم، فتصبح واحدا منه، ومثل هذه المرأة موجودة في رواية "عالم من الغرباء"، وتدعى أنالووف، وهي روزا برجر في رواية "ابنة برجر" ثم موردين سمالز في رواية "ناس من جولاي"، وفي كل امرأة من هؤلاء النساء جزء إن لم يكن كل من نادين جورديمر.

فأنّا لووف في "عالم من الغرباء" تعيش في مجتمع مغلق، حتى إذا فتحت عينيها ذات يوم على ما يدور حولها فوجئت أن هناك ظلما بينا لم تكن تدري عنه شيئا بالمرة، لذا فهي تقرر الرحيل إلى حدود البلاد لكي تعيش هناك على هامش هذا الظلم الاجتماعي المتمثل في قوانين التعسف العنصرية التي تبدو أشد ما يكون في المدن الكبرى مثل جوهانسبرج.

لقد اختارت هذه المرأة أن تذهب إلى منطقة قاسية قاحلة، يعاني سكانها من شظف العيش، ففي المدينة التي جاءت منها كان هَمَّ أغلب النساء من حولها هو الحديث عن المساحيق والأزياء الجديدة، والعطور التي سرعان ما تتبخر في الجو، والثرثرات الجوفاء، كان هذا الجو الثري يبدو لامعا وبراقا للكثيرات من النساء، لكن "أنّا" سرعان ما اكتشفت زيفه، ومدى ما يتمتع به من هشاشة، فهو أجوف لا أصالة فيه.

ناس من بلاد الجولف

لذا اختارت "أنّا" أن تنفي نفسها في مكان بعيد بشكل اختياري، وهناك قريبا من الحدود، تلتقي برجل أبيض مثلها، جاء أيضا من جوهانسبرج لمعرفة أسرار هذا المكان، إنه يدعى "طولبي" وهو في السادسة والعشرين من عمره، جاء من قبل دار النشر التي يعمل بها ليعرف المزيد. إنه إنسان أقرب إلى أورفيوس، لا يجد أرضا يهبط عليها ويستريح فوق أديمها، ولذا فسرعان ما يجد ضالته في "أنّا" ويتعرف الاثنان على رجل أسود يدعى ستيفن سيتوليه، جاء أيضا إلى هذا المكان القفر، لأنه لا يجد لنفسه المأوى المناسب، ورغم ما يتسم به من ذكاء وحيوية، فإنه يبدو غريبا بهذه الملابس البالية التي يرتديها والتي لا تتناسب مع وقاره.

وسرعان ما يحدث للرجل والمرأة تحول. يقول طولبي للفتاة إنه جاء من مدينة واسعة يهتم فيها الرجال البيض بحضور مباريات الجولف في ملابسهم الأنيقة، ولا يعرفون المعاناة التي يعيشها شخص مثل ستيفن الذي ترك أسرته وجاء إلى الحدود بحثا عما يقتاته، ويرسل جزءا مما يكسبه إلى أبنائه، ولكن هذا الفتات الذي يحصل عليه لا يجيء بسهولة، فثمنه دائما هو الهوان.

يتلذذ الاثنان بمراقبة الرجل، ويتعلمان منه الكثير، ويتحدث أحدهما إلى الآخر، إن مكانهما ليس في الخلاص قريبا من الحدود، فهما بذلك أشبه بالنعامة التي تضع رأسها في الرمال، لذا يقرران العودة إلى جوهانسبرج، يقول لها: "الله في الكنيسة، والعدالة في المحكمة، وكل أشكال الوجود وجدت لها حلا منطقيا".

ويعود الاثنان بالفعل إلى "معسكر الملائكة" إنه المكان الذي يطلقه البيض على المناطق التي يسكنون فيها، لكن ترى هل الملائكة بيض اللون، وهل هناك ملائكة يتركون بشرا يعانون من الجوع حولهم مثلما يحدث في جنوب إفريقيا؟!

الحوار مع السلطة

تقول نادين جورديمر في حديث نشرته مجلة "ماري كلير" الفرنسية عن الظروف التي يعيشها الكاتب في مجتمع جنوب إفريقيا: "نحن نعيش في ظروف أشبه بتلك التي انحسر فيها الاستعمار، حين كان المفكرون والمؤلفون يناهضون سياسة حكوماتهم، ورغم ذلك فإنهم إبان لحظات الخطر يدافعون عن أوطانهم، نحن نحب بلادنا، لكنها ليست بلادنا وحدنا، فنحن فيها أقل عددا".

وفي نفس المجلة تقول ردا على سؤال حول إمكان الحوار مع السلطة بأسلوب آخر غير العنف: "العنف موجود هنا منذ زمن طويل، ولم يتوقف عن التضخم، لقد بدأ في عام 1960 في شاريفيل وانفجر داخل سويتو عام 1976، وأصبح أشد قوة منذ عام 1984، حين أعلن الدستور الجديد، وعند متابعة هذه التواريخ، سنلاحظ جيدا على من تقع المسئولية الحقيقية للعنف: الحكومة".

تلك محاولة للتعرف على الإبداع الأدبي الذي حصل هذا العام على جائزة نوبل في الأدب وهو إبداع غير مقروء تماما في العالم العربي، رغم أنه مكتوب لمناصرة أصحاب الأرض الحقيقيين، وهو أقرب إلى الشخصية العربية وظروفها التي تعيشها في نصف القرن الأخير.

ومن بين كل الروايات التي كتبها هؤلاء البيض الذين يناصرون قضايا السود في الجنوب، لم ينشر باللغة العربية سوى رواية واحدة هي "الحشائش تغني" التي صدرت ضمن روايات الهلال قبل ثلاث سنوات للأديبة دوريس ليسنج.