نابولي لؤلؤة الجنوب الإيطالي

نابولي لؤلؤة الجنوب الإيطالي

لو كانت إيطاليا أمًا والمدن الإيطالية أبناء لها، لكانت نابولي الأشقى والأجمل والأوسم والأكثر تمردًا والأكثر جنونًا، فمثلا مدينة النهضة والعبقرية فلورنسا تذكر مترادفة مع العبقري العظيم ليوناردو دافنشي، وميلان مع بيوت الأزياء ومصانعها الشهيرة، وإذا كانت فينيسيا بلد الرومانسية والقنوات المائية فنابولي روح إيطاليا وأيقونتها، ومن أزقتها والجنوب الإيطالي نتعرف على المطبخ الإيطالي وصفاته الشهيرة وتحت ظلال بركان فيزوف وآهات مدينة بومبي وانتعاشة ليمون جزيرة كابري. 

كل هذا بمحيط خليج نابولي المتصل بالبحر الأبيض المتوسط، الذي يتوسط الحضارات والأديان والقارات، لذلك فأنت في مدينة أوربية  فيها أشجار زيتون تذكرك بفلسطين، وبرتقال بنكهة لبنان، وشمس مشرقة، وتوجد بها أشجار النخيل كتلك التي بتونس، فنابولي مدينة مجنونة بكل تفاصيلها، فإما أن تزورها، وإما أن تأتي معي برفقة عدسة كاميرتي لنكتشف نابولي، فاربطوا الأحزمة لأن الطائرة تهبط حاليًا...
عندما خرجت من المطار، استوقفني شخص، عارضًا علي أن يوصلني، إلا أنني رفضت وأصررت على استخدام التاكسي الرسمي وإن كان سعره مرتفعًا، كما أن هناك انطباعا لدي أن مدينة نابولي كانت موطنًا لكثيـــر مـــــن عصـــابات المافيا الخطيرة، بيد أن هذا الانطباع تبدد حينما اختلطت بأهلها، فالمدينة أصبحت اليوم أكثر أماناً من أي وقت مضى، وبعد أن ركبت سيارة الأجرة الصغيرة، الرسمية، التي بالكاد تكفي لحقيبتي في صندوقها الخلفي، وقد صرخ السائق عندما حملها، قائلًا «أولالا»، كناية عن ثقلها، حيث لا يعلم أنها حقيبة مصور فوتوغـــرافي بها معداتي. 
لم أستغرب صغر حجم السيارة فأزقة نابولي وإيطاليا عمومًا تحتـــــاج إلى مثل هذه السيارات التي انطلق الـــــسائق فيها وكأنه سائق رالي، وكم يعشق الطليان سباقات السيارات ويعشقون أيضا كرة القدم، وهذا موضوع شائق لفتح الحوار مع سائق التاكسي المنطلق بسرعة، فشهقــت وقلت: نابــــــووولي مدينة مارادونا، فانفـــــرجت أسارير السائق وأخذ يحدثني عن ذكريات المدينة وصولات مارادونا المظفرة بالبطولات والدوري محليًا وأوربيًا.
 مر الوقت سريعًا حتى وصلت إلى الفندق، وقد طلبت من موظفي الاستقبال خريطة للمدينة وأهم الأماكن السياحية، لأن موظفي الاستقبال لديهم الكثير من المعلومات التي لن تجدها في محركات البحث في الشبكة العنكبوتية، وبما أن الفندق مطل على البحر الأبيض المتوسط، ويطل على البحر الجبل المهيب والمخيف فيزوف، الذي تذكرت أن سمعته سبقته وذلك من خلال إحدى حلقات المسلسل المصري «رأفت الهجان» وهو من المسلسلات الرائعة التي أبدع الفنان الراحل محمود عبدالعزيز بتمثيله وصور بعض مشاهده هنا في نابولي. وجبل فيزوف جبل بركاني ثار لعدة مرات، وآخر مرة كانت عام 1944، كنت أشاهده بحذر ورعب خوفًا من فورانه في أي لحظة، فقد ثار قبل أشهر من رحلتي أحد براكين إيطاليا وتحديدًا في جزيرة صقلية، وأتمنى أن يكون خامدًا ليتسنى لي استكشاف وتصوير المدينة. 

نابولي والتاريخ
نابولي أو نابلس، ومعناها المدينة القديمة باللغة الإغريقية، لها إرث تاريخي ممتد لألفين وخمسمائة عام، ومنظمة اليونسكو صنفت مركز المدينة كواحد من أهم المعالم الأثرية في العالم. وبالمناسبة فإن مدينة نابولي عقدت توأمة مع مدينة نابلس بفلسطين العزيزة الأسيرة، التي أتمنى أن أزورها محررة بالكامل. وتعتبر نابولي عاصمة إقليم كامبانيا جنوب إيطاليا، وتطل المدينة على البحر الأبيض المتوسط ويقطنها أكثر من مليون نسمة.
 وفور خروجي من المطار شاهدت سلسلة إسمنتية كبيرة من العمارات ذات الشقق السكنية ذات كثافة سكانية عالية، ما يمنح للمدينة روحًا وحيوية، فأسواقها تعج بالشباب وساحاتها الكثيـــرة ملتقى أهل المدينة. 
وتعد أكبر ساحات نابولي ساحة بلبيشيتوPiazz del plebicsito وتطل عليها كنيسة بقبة، ومن الجهة الأخرى القصر الملكي الذي بني عام 1599، وكانت نابولي آنذاك تحت الحكم الإسباني، حيث تم تخصيصه لملك إسبانيا أو من ينوب عنه في نابولي، وتقع جميع هذه المباني التاريخية الجميلة بالقرب من البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر الفاصل بين أوربا والضفة العربية الأخرى، لذلك هناك الكثير من الأشياء المشتركة بين المدن البحرية بكلتا الضفتين، بل إن أهازيج صيادي نابولي تحتوي على الكثير من الكلمات العربية، وقد كانت جزيرة صقلية جارة نابولي من الجزر التابعة للدولة الفاطمية، وبها الكثير من المساجد التاريخية، وأيضا تأثرت نابولي بالإسبان، حيث تعاقبوا على حكمها تحت التاج الإسباني لسنوات، وكان الفرنسيون ينافسونهم لفترة ومازالت آثارهم الإسبانية موجودة من قلاع وقصور، ومنها القصر الملكي الذي به متحف فخم ويقع في ساحة «بلبشيتو» بقلب نابولي.

الثقافة الأصلية
وتمتاز مدينة نابـولي بجمالها، حيث إنّها نابضة بالحيوية، ويأتي إليها عدد كبير من الناس كلّ سنة، وتحديداً من روما، والبندقية، وفلورنسا، ورغـم كل الظروف التي واجهتها المدينة فإنّها ما زالت تحافظ على الثقافة الأصلية، ويوجد فيها الكثير من الأماكن التي تستحق الزيارة، مثل المرأى الساحر في خليج نابولي، وقلعة البيض على شبه الجزيرة الصغيرة، فهي مدينة تجمع في طياتها جميع التناقضات، حيث الأصالة والمعاصرة... التقليدية والحداثة، في شوارعها ستجد الطابع العربي يحيط بك حتى تتوهم للحظات بأنك لازلت في بلادك، وسرعان ما تتبدل بك الحال عندما تشاهد المعالم التي تميز المدينة، والتي ستتجول فيها على أنغام الموسيقى ورائحة البيتزا الذكية التي طالما داعبت خيال كل من يزور مدينة نابولي الجميلة.
 الفرنسيون لهم نصيب أيضًا في هذه المدينة، خصوصا عندما احتل نابليون إيطاليا وتوج شقيقه جوزيف ملكًا لنابولي، لذلك تعتبر نابولي خلطة عربية إسبانية فرنسية بقاعدة إيطالية وتجد هذا جليًا في فنجان القهوة، فالقهوة دخلت أوربا عن طريق تركيا، وفي فينيسيا ونابولي توجد أقدم المقاهي وتنتشر بكثرة، أما طريقة إعداد القهوة الإيطالية فتعتبر الأهم والأكثــر انتشارا في العالم، فالـكابتشـــيــــنو «أي القهوة المخلوطة برغوة الحليب» يأتي اسمها من رداء الرهبان المشابه للقهوة المخلوطة بالحليب، أما الاسبريسو (القهوة المركزة) فقد لاحظت الطليان بعجل يأتون للمقهى سواء الموجود داخل السوق أو في محطة القطار لطلب فنجان من «الاسبريسو»، إذ يقوم النادل بإعداده وهو واقـف وبسرعة ومن ثم يضع المال ويذهب مسرعًا، طبعًا هذا لا ينفع معي ومع بني يعرب، فللقهوة طقـــوسها لدي، والمقهى بالنسبة لي هو المكان الــذي تتوالد فيه الأفكار وملتقى الأصدقاء ومكتب العمل وركن القراءة، فلا يمكن أن أشرب قهوتي بهذه السرعة لكن من عاشـــر قومًا أيامًا صار منهم.

لغة الجسد
الطليان لهم أسلوب فريد في الكلام، فلغة الجسد وتحريك الأيدي من مميزاتهم، وهم يرحبون دومًا بعدسة الكاميرا، ومن اللقطات الجميلة لقطة لميناء نابولي تختلط فيها المشاعرالدافئة، فكم ذرفت دموع الوداع فيه، فمن هذا الميناء هاجر الآلاف من أبناء المدينة متجهين غربا وتحديدا الأميركتين، خاصة نيويورك، حاملين معهم ذكريات بلدهم ودموع أقربائهم ووصفة البيتزا التي لها الكثير من المطاعم في نيويورك، ولعلكم شاهدتم سلسلة أفلام العراب مع الممثلين ألباتشينو وروبرت دينيرو، وما اشتملت عليه من الكثير من المقاطع والألحان والترانيم الإيطالية، بل إن هناك لقطة بالفيلم يظهر بها رسم لجبل فيزوف، الذي تأتي شهرته من ثورانه على مدينة بومبي، وبركان فيزوف بموقعه الفريد يطل على المدينة أينما كنت سواء على أحد موانئ الصيد الصغيرة أو عند صعودي لإحدى القلاع، ومن الأشياء التي أعجبتني في مدينة نابولي «دراجة الفيسبا النارية»، التي تتناغم مع أسلوب حياة الطليان وبالتحديد أهل الجنوب المتميز، كونها تعتبر أيقونة إيطالية ذات شهرة فائقة تناسب التجوال في أزقة نابولي الضيقة، التي ما أجمل أن تتوه بها وتنسى أنك تائه.

نابولي مدينة الأمان
شوارع نابولي التجارية والتاريخية والسكنية جميلة ومشوقة وغير تقليدية، وقد لا ترى مثلها في أي مكان بالعالم، وهي كالمدن الأوربية التاريخية، شوارع ضيقة لكنها تنبض بالحيوية، فهناك شارع سباكا نابولي ومعناه شارع الخائن، وقد تمت تسميته بهذا الاسم بسبب طوله الذي يخترق المركز التاريخي للمدينة، وقد كنت أتوه وأنا بداخله وأجد نفسي ما بين أزقة لا تنتهي وشرفات ودكاكين ومقاه ومطاعم بيتزا وبسطات لبيع الأنتيكات، وكل هذا لا يجعلني تائها بل يحفزني لخوض المزيد من المغامرات وسط هذه الشوارع التي كنت أشعر فيها بالأمان والطمأنينة، وكنت موضع ترحيب من الجميع برغم أن  كثيرين حذروني من نابولي وما بها من عصابات، لكن هذا التحذير أصبح جزءاً من الماضي، فأهل نابولي الذين يلقبون بأمراء الجنوب هم أناس متواضعون وطيبون ويعملون بجد.
 ومن الشوارع الرئيسة في نابولي شارع توليدو «أي طليطلة» بلغتنا، وهو شارع تجاري يكتظ بالمحلات التجــــارية العالميــة، كذلك الماركات المحلية، أي من مصانع نابولي، خصوصا متاجر الجلود، إضافة للمقاهي النابولية الأصلية التي تقدم فطائر نابولي الشهيرة والجيلاتينو «الآيس كريم» من الحليب الطازج، الذي لا أتوقع أن يوجد ألذ منه في العالم، كما لاحظت كثرة متاجر الحقائب الجلدية، فالكل في نابولي رجال ونساء يحمل حقيبة جلدية وكأنها جزء من الزي الرسمي، وإيطاليا بشكل عام تعتبر من أهم مصدري المنتوجات الجلدية.

 مارادونا الأسطورة
في الوسط التاريخي وأزقـــته المتعددة تنتشر محلات الحرفيين، حيث تصنع زينة أعياد الميلاد ورأس السنة والدفوف المزينة بصور القصص الأدبيــــة الإيطالــــية والمشاهير الطلــــيان، بل حتى اللاعب الأرجنتينـــي مارادونــــا لمكانــــتـــــه الكبيرة في نابولي تباع مجسمات تحاكي هذا اللاعب الكبير، والجميل في هذه المحلات أن الحرفيين يعملون ويبيعــــون منتوجاتهــم في الوقت نفســـه، ومن الأشياء المحببة لدي محلات مدابغ الجلود الأصلية، ومصممي الحقائب الجلدية الإيطاليــــة ذات الجــــودة العالية المدبــــوغة بطريقـــة إيطالية خاصة لا يعـــرف أسرارها سوى الحرفيين الطليان، الذين توارثوا هذه المهنة أبًا عن جد منذ عصر النهضة، أما الجلد الأصلي المدبوغ، فهو ذو جودة عالية يقاوم الماء ويحافــــظ عــــلى ملمســـه ورونقه مهما مرت عليه السنون، فقط قد يكون اللون داكنا مما يعطي جمالًا وعراقة على هذه المنتوجات التــــي تصــــدر لمختلف أنحاء العالم، ولها سمعتها العالمية. 
وأثناء مناقشتي وسؤالي عن الجلود الإيطاليـــــة مع أحد الحرفيين المهرة، وجدت أن للجلود بعد معالجتها رائحة جميلة تميزها عن أي نوع من الجلود الصناعية، وهناك من الحرفيين من يستقبل الطلبات ويصنعها حسب ذوق الزبون، وليس الجلد فقط في الوسط التاريخي بل أيضا البقالات التي تقدم مواد البيتزا وغيرها من المواد الغذائية، وطبعا ليس بالمقدور أن أنتقل بالخريطة وأتــــوقع، فهذا بالقطع مستحيل، فالشوارع ضيقة ومتــــعددة المخارج وكل شارع يحمل مفاجآت جميلة، وما يميز هذه الشوارع كثرة الكنائس الصغيرة والكبيرة، وكــــان لابــد من استخدام المترو الذي تعتبر محطاته الأجمل والأنظف على مستوى أوربا، حيث فازت محطة توليدو بإحدى الجوائز، ومنها انتقلت إلى محطة دانتي, ويبدو أن هذا الاسم مألوف عندي، وبالطبع هو الشاعر الإيطالي الشهير منقذ اللغة الإيطالية.
  
محطة وساحة دانتي 
 خرجت من محطة دانتي بالمترو وصعدت للساحة، ووجدت تمثال الأديب الإيطالي دانتي أليجييري، متوسطًا ساحة فسيحة، ودانتي أديب إيطالي من مدينة فلورنسا ولد العام 1265م وصاحب أهم عمل أدبي في تاريخ أوربا، حيث يحكي كتابه عن رحلة الروح في عالم ما بعد الحياة بطريقة أدبية مشابهة جدًا للشاعر أبي العلاء المعري في «رسالة الغفران»، وقد يكون دانتي اقتبس عمله كاملًا من المعري الذي توفي عام 1058، وهناك دراسات كثيرة تؤيد ذلك، قد تكون توارد خواطر وتشابها، لا يهم ذلك بالنسبة لي، وبما أني أتكلم عن الكتب فقد تفاجأت في أحد الشوارع المتفرعة من ساحة دانتي باصطفاف آلاف الكتب المستعملة بالمحلات، والكثير من الزبائــن والطلبة يتفحصونها وينتهي الشارع بكنيسة الدومو، إحدى كنائس نابولي القديمة، وما أكثرها، حيث إن عددها قياسي، ويعتبر الأكبر في أوربا لمدينة واحدة، حيث تحتوي على أكثر من 448 كنيسة.

اختلاط الحابل بالنابل  
وكما قيل قديمًا: «كل الطرق تؤدي إلى روما»، فإن في نابولي كل الطرق تؤدي إلى البحر، وسهل الوصول إلى ساحل البحرـ فقط اتخذت طريقًا منحدرًا لأجد نفسي في قلب نابولي النابض (سوق السمك)، على مسافة قريبة من البحر، وكان لابد أن أتجول بعدستي داخل هذا الســــوق فما إن دخلت بوابته تفاجأت باختلاط الحابل بالنابل ـ 
فهناك مــن يبيع السمـــك الطازج الذي يتحرك بعضه لكونه يجلب من البحر فورا إلى السوق، وبجــانبــــه مــــن يبيــــع الخضـــراوات، وآخر يبيع الأدوات المستعملة، وذاك يبيع «تشيرتات» كتذكارات لنادي نابولي، فكأني بسوق الجمعة، لكني تذكرت أن اليــوم هو يوم السبت ملتقى البائعين، والباعة الطليان مثل غيرهم العرب ينادون الزبــائن ويمتدحون بضاعتهم، وعلى الرغم من فــوضى المكان فإنه يمشي بانسيابية، ولا حظت الزحام على أشده، كيف فيــوم السبــت هو نهـــاية الأسبوع في نابــــولي والكــل يحتـــاج إلى أسماك طازجة لمائدة الطعام التي تجمع العائلــة كلها؟ فنحن فـــي أوربا حيث الروابــــط الاجتماعيـــة أقــــل لـــكن ليس في نابولي درة البحر الأبيض المتوسط >

لوحة قديمه لمنظر نابولي القديم

من ميناء نابولي هاجر الأبناء بدموعهم وبوصفات البيتزا بجيوبهم فكانت هناك نابولي جديدة في العالم الجديد بأمريكا

ابتسامة ترحيب من بقال نابولي، والبقالة في نابولي تحتوي على مالذ وطاب من فواكه وبن ومكونات البيتزا الشهية

خليج نابولي الأزرق يداعب المدينة التاريخية الجميلة

محطة القطار الرئيسية بنابولي صباحا على أنغام عازف البيانو الماهر