الشاعر الفاتح: القصيدة العربية تعاني الأوجاع التي يعانيها العالَم العربي

الشاعر الفاتح: القصيدة العربية تعاني الأوجاع التي يعانيها العالَم العربي

 ما إن يطلّ الشاعر محيي الدين الفاتح، في منبر  أو محفل إلا ويناديه الناس بـــ «شاعر المرأة النخلة»، وقد التصق به هذا التعريف منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، رغم عشرات القصائد التي حملتها دواوين شعرية عدّة، منها «كلّه العالم جاء»، و«أتطلّع لامرأة نخلة» (طبعتان)، و«لمن تدقّ هذه الأجراس»، و«الأصبع الإبهام»، و«آخر الأنباء أنت»، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، إثر  فوزه بجائزة الشارقة للشعر العربي 2017، وقد صدَّره مدير  بيت الشعر  الأديب محمد عبدالله البريكي، بمقدّمة جاء فيها «قصيدته أصيلة ترتبط بالجذور، وتنبثق عنها بتفعيلاتها وموسيقاها التي تلبس ثوبًا جديدًا  لا يتنصّل عن الأصل، ولا ينسلخ من عمقه التاريخي، فالشعر  العربي لا يزال ينبض في قلب الشاعر  العربي، حتى وإن استحدث شكلا آخر لا ينسف ما قبله، ولا يتبرّأ  من أصله. هكذا هو الفاتح حين يتأمّل شمس قصيدته في ضحى عينيها المرتّلة للحرف الشجي».

مسيرة الشاعر محيي الدين عبر الحرف الشعري حافلة بالمنجزات والمشاركات الثقافية والأدبية والشعرية داخل السودان وخارجه، بتمثيله بلاده في مهرجانات الفنّ بصنعاء 1987، والأخوّة السوداني/ المصري 2002، والشباب العربي الإفريقي 2003، وصنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004، وملتقى الإبداع الصحفي بالأردن، ومهرجان دبي للشعر العالمي 2008، والجنادرية 2010 وعكاظ 2011 بالمملكة العربية السعودية، ومهرجان الأخوة السوداني/ الموريتاني 2012 في نواكشوط.
ترأّس الفاتح كثيرًا من لجان التحكيم للمسابقات الشعرية داخل السودان وخارجه، كما تولّى رئاسة تحرير بعض الإصدارات الثقافية والأدبية، وساهم في الإعداد والتقديم لبرامج إذاعية وتلفزيونية عدة في السودان، وحاز العديد من الجوائز والأوسمة، آخرها جائزة الشارقة للشعر العربي (الدورة السابعة) 2017.
حاورته «العربي» حول تجربته الشعرية التي امتدّت نصف قرن تقريبًا، وقضايا الشعر العربي الفصيح، وهنا التفاصيل.  
 مهرجان الشارقة للشعر العربي هو المنبر الذي بقي راتبًا لمهرجانات الشعر في الوطن العربي، وحاضنة للشعراء العرب، ما مدى تأثيره، وخدمته للشعر؟
- مهرجان الشارقة للشعر فعالية موسمية راتبة، حيث يلتقي فيه الشعراء من مختلف البلدان العربية، مما يسهم في إثراء الحركة الشعرية. وقد أتاحت الشارقة منابر متعدّدة على اتّساع الجغرافيا، لإحياء وتطوير الشعر وفنونه المجاورة. 
وقدّمت الشارقة لهذا العصر أكبر منحة للشعر العربي، وللشباب الذين يكتبونه بما يتاح لهم من فرص واسعة للمشاركة وجائزة للتميّز.
 تكريمكم ومنحكم جائزة الشارقة للشعر العربي فيهما احتفاء وإضاءة للشعر السوداني، وهذا يضعكم أمام تحدّ جديد، فكيف أعددت نفسك لما بعده؟
- كما تعرف، نحن لسنا أصحاب خطط، فقد يكون الشاعر أدرك مشروعه الشعري، لكن ليس لديه تصوّر محدّد عن كيفية نشره مثلًا. حاليًّا تغيّرت الظروف نحو الأفضل، لكن فكرة مازالت التأجيل قائمة، وبحكم اهتمامي بحركة الشعر في السودان فقد بدأت مشروعًا في العام الماضي يعنى بتوثيق الشعر السوداني منذ القرن السادس عشر الميلادي إلى هذا العقد، وأكملنا منهج البحث والتوثيق لهذا المشروع، ورغم أن أهميته لي أكبر من كتابة قصيدة فإنه لم يرَ النور بعد. ولديّ دواوين جديدة قادمة، منها «قمر يتسلّق ذاكرتي»، و«الشرق أنت»، و«يا طالع الشجرة».
 وغير هذا، فإنّ إشكالية الجوائز قد تحوّل الإنسان إلى رمز محكوم عليه حضور المنتديات الداخلية والخارجية، والمشاركة بآرائه في الشأن العام، وإعانة الشعراء الجدد، وهذا ما أقوم به حاليًّا. كما أشارك في كثير من مجموعات العمل لمصلحة الحركة الشعرية في السودان، وأشغل رئاسة تحرير مجلة أوراق ثقافية، وهي تهتم بالثقافة والأدب بشكل عام.

رعشة الشعر
كأحد المتمسكين بشعر العربية الفصحى، هل لنا أن نعرف متى استقام لديكم أمر الشعر وصارت الكتابة فعلًا جدّيًّا؟ وما العناصر المؤثرة والباعثة للقصيدة الفصيحة الفاعلة والمدهشة في مساركم الشعري؟
- أصبت برعشة الشعر في الطفولة، وحاولت وأنا في الثامنة من العمر أن أترجم أحاسيسي الباكرة إلى كلمات تميل إلى شيء من النظم والسجع والخيال مع البساطة، وهذا ما أسهمت فيه المدرسة إسهامًا مباشرًا قبل البيئة الخارجية، إذ كان بها معلّمون يستحثون الطلاب على الكتابة والقراءة والإبداع. لكن لم يستقم أمر الشعر في تلك المرحلة، بل كان يتعرض لكثير من الإضافات والحذف في الألفاظ والأفكار بمؤثرات خارجية اتّسعت مع اتّساع العمر، وأذكر أن شيئًا من الغناء أثّر تمامًا في شعرنا الباكر. لقد كنّا من الجيل الأوفر حظًّا باستماعنا إلى كثير من المطربين المبدعين يتغنون بقصائد الفصحى الجميلة، والدارجة المتفصّحة (الفصحى الممزوجة بالعامية)، وكانت الإذاعة السودانية هي المنبر الوحيد الذي يعمل على التنوير والتثقيف، ويسهم إسهامًا كبيرًا في نقل الإبداع، ومن خلالها تعرّفنا إلى مختلف المدارس الشعرية، وإلى كثير من الشعراء السودانيين والعرب على امتداد التاريخ بما قدّمه المطربون من فرائد غنائية رائعة، ممّا أدّى إلى نشر عدوى الفصحى، وكان صداها فينا واسعًا وقويًّا. ثم حاولنا أن نستوعب هذا الشعر الغنائي عبر أحاسيسنا، وأن نكتب شيئًا إن لم يكن مطابقًا فمشابهًا يحمل أفكارنا. وبجانب الإذاعة كانت المناهج المدرسية وقتذاك دقيقة في الخيارات والاختيارات وهي تقدّم لنا إضاءات شعرية مع القصائد العربية المختارة بعناية، زد عليها توجّهات المعلمين أنفسهم وهم يميلون إلى الفصحى، حتى إذا بلغنا المرحلة الثانوية تعرفنا إلى تيّار جديد في الشعر برز في السودان، هو تيار «الغابة والصحراء»، ومبتدعوه من الشعراء محمد المكي إبراهيم، والنور عثمان أبكر، ومحمد عبدالحي وغيرهم، وهم يكتبون بالفصحى، ممّا أحدث أثرًا كبيرًا في تكويني الشعري. 
لكنني تأثّرت أيضًا بالشاعر الهادي آدم، صاحب (أغدًا ألقاك) وأنا طالب بمدرسة حنتوب الثانوية، وهو أحد معلّميها، إذ كان يمثّل أمامنا ليدرسنا، وهو شاعر مقتدر يكتب بالفصحى، وكنا نستمع إلى نصوصه الشعرية الجديدة غضّة طريّة، وقد شكّل كل ذلك أسلوب كتابتي للقصيدة الفصيحة، التي تمثّل مادة فكرية تستند إلى إرثٍ نستطيع الرجوع إليه، ويمكن من خلالها قراءة المدارس الشعرية المختلفة، قديمها وحديثها، وقد انحزت للفصحى تمامًا حينما أدركت أنها تحمل ما أريد، وأستطيع بها مخاطبة الناس أجمعين.

الحديث عن الهوية
 لتيّار «الغابة والصحراء» تأثير كبير في تكوينكم الشعري، وهو تيّار غايته تأسيس اتّجاه في الأدب للبحث عن كيان قومي وذاتية سودانية بما يعني همّ الهوية والانتماء بين الأفروعربية، والسودانوية، ولم يصمد كثيرًا. كشاعر، هل تؤمن بأطروحة ذاك التيار؟ وإلى أي مدى أخذ همّ الهوية يشغل بالكم؟ 
- لقد أثّر تيار «الغابة والصحراء» في كل أبناء جيلنا، وهو تيّار داخل الواقعية، لم يتم تأطيره أو التبشير به، إنما استولدته حركة فكرية ثقافية سبقت ثورة أكتوبر 1964، قادها الذين جاؤوا عقب استقلال السودان عام 1956، وأحسّوا بكثير من الغبن والضياع، وحاولوا أن يجيبوا عن أسئلة الواقع، وما كانت قضيتهم الأصلية البحث عن الإفريقانية السودانية أو الإفريقانية العربية. 
 واعتبر النقّاد أولئك الشعراء تيّارًا، مع أنهم لم يلتقوا ولم يجتمعوا حول رؤية، بل كتب كل منهم الشعر على طريقته الخاصة، وبعد فترة انحسر هذا التيّار. أما هموم الهويّة فهي أزلية موجودة قبل هذا التيّار وبعده، وهي قضية السودانوية، أو الانتماء السوداني. وفي رأيي أننا لسنا بصدد أن نقنع أحدًا بمن نحن، على المبدع أن ينتج إنتاجه، وأن يكون كما يكون، فالسودان أصلًا بلد تمازج، فالأمر لا يحتاج إلى تنظير كي نجيب عن سؤال مَن نحن، لذا ما عاد أبدًا يستهويني الحديث عن الهويّة. 

بشارات التغيير
كتبــتم الشعر في سبعينيات القرن الماضي، وهي فترة تعدّد المدارس والتيارات الأدبية والشعرية في السودان. ما الجماعة التي انضويتم تحت لوائها بشكل قاطع؟
- كنت أميل في كل فترة إلى تيّار أو مدرسة ما، ثم ظهرت المدرسة الواقعية الجديدة التي مثّلها الفيتوري، وتاج السر الحسن، وجيلي عبدالرحمن، ومحيي الدين فارس، وهي الأعمق قبل ظهور تيّار «الغابة والصحراء»، والتي كانت تحمل بشارات التغيير بكل أشكاله دون أن تتأطّر في أيديولوجية محدّدة. وأنا شخصيًّا لا يعجبني أبدًا أن يكون الشاعر ذا أيديولوجية تحدّ من حريته وحركته في الكتابة. على الشاعر أن يأخذ ويعطي نصًّا ناضجًا، لا بيانًا حزبيًّا.
  ألهذا ظللت تتنقل بين التيارات والمدارس الشعرية؟
 - لا... لا... لم أتنقّل بين هذه وتلك، لكنني اتّخذت لنفسي طريقًا مما درست، ومن كل ما تعلمت، وأنا أحاور النص، وأحاور الواقع، دون وصاية من أحد، آخذًا من كل المدارس الشعرية المختلفة الموجودة.
 
رحلة وصفية
 القصيدة الشهيرة بــ«المرأة النخلة» التي نُشِرت وراجت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وما زالت، هلّا عرفنا أطروحاتها الفلسفية، ومقام المرأة التي قصدتموها، أم هي رمز؟ خاصة أنها برزت بأشكال مختلفة متعدّدة في كثير من مجموعاتك الشعرية!
- «أتطلَّع لامرأة نخلة» قصيدة يتجلّى فيها السرد بشكل واضح، وهي رحلة وصفية واقعية لحياة الإنسان في إطارها العام، مع ذكر تفاصيل - رغم ما فيها من خصوصية - مرّت على كل أبناء جيلنا، برزت فيها شخصيات حقيقية ووقائع يومية، مثل الألفة في المدرسة (وهي التي تحفظ النظام بين التلاميذ) والناظر (مدير المدرسة) والمعلم، وأن كل التلاميذ تعرّضوا للألفة وسطوتها وللسياط والناظر والمعلم، إلا أن هذه الشخصيات تحوّلت خلال النص إلى رموز. وحتى النخلة التي أشرت إليها، فهي نخلة حقيقية، لكنها أصبحت فيما بعد رمزًا للعطاء تمثّلت فيه المرأة تلك التي تجعل للحياة معنى وقيمة. 
إن المرأة النخلة موجودة، لكن هل يستطيع كل رجل أن يدرك أن التي أمامه هي نخلة؟ وإذا كان الرجل يبحث عن امرأة نخلة فعليه أن يغرسها أصلًا، وإذا ما رعاها بالقيم الفاضلة فستكون لدينا قامات يستقيم بها الوجود. لقد تعوّدنا أن نبحث دائمًا عن الثمر دون أن نغرسه. 
 أما إذا أردت أن تقول إن المرأة هي محور شعري، فأقول: نعم... هي موجودة في كل الأشكال، ومحور لكثير من الأشياء، وديوان «كلّه العالم جاء» هو لها، وظهرت فيه وفي كثير من القصائد بأشكال متعدّدة لتناقش تفاصيل كثيرة بِطرق مختلفة كامرأة رمز، وامرأة واقعية، وامرأة ممكنة، وامرأة مستمدّة من أمنياتنا. 
 كيف استطعت من خلال هذا النص أن تعالج قضايا الواقع، وتحويل خصوصية التجربة إلى شأن عام، حتى جاوزت حدود الزمان والمكان؟
- التجربة نفسها حصيلة تجارب وتراكمات حقيقية صادقة مررت بها مذ ولدت في أوائل خمسينيات القرن الماضي، لقد دأبنا أن نقاوم في حياتنا الواقعية كل ما تعرّضنا له من وقائع سيئة وسلبية، ونعمل على تقويمها من خلال الشعر والممارسة. ومهمّة الإنسان أن يوظّف الشعر وغيره فيما يعينه على تحسين نوعية الحياة، ممّا حوّلها إلى قصيدة عامة.
 أما أنها جاوزت حدود الزمان والمكان، فهذا لأن التجارب يشبه بعضها البعض، والإنسان تعرّض لتجارب القهر والضغط والعنف، وهذا ما لم ولن يهزمه التاريخ ولا الجغرافيا، بل موجود على مرّ العصور وفي كل الأماكن، حيث تسعى مجموعة ما للتسلّط على الإنسان لتفعل ما تريد، وهذه مشكلة الوجود البشري كله.
مهما كان الشكل الهرمي، ففي النهاية الإنسان هو الإنسان وهو ضد الديمقراطية، وهذه مسألة أزلية.
 ألحظ كثرة التناصّ والاستدعاء في شعركم، وغالبيته مستمدّ من القرآن الكريم، حتى أصبح سمة بارزة. هل هذا ما اقتضته مطلوبات المرحلة أم بواعث التنشئة؟
- نعم هذا كثير، وهو أمر يتمّ بلا وعي عند كتابة القصيدة. ويبقى السؤال كيف تأتّى لهذه الكلمات الدخول الآمن، وبهذه التلقائية؟ أول قصيدة برز فيها التناصّ «كلّه العالم جاء»، ونُشرت في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، ووجدت رواجًا كبيرًا في الداخل والخارج، وأعقبتها قصائد أخرى، حتى جاءت قصيدة «أتطلّع لامرأة نخلة» عام 1978 تابعة لهذه المجموعة، وقد نشرت مجموعة دراسات عن التناصّ والاقتباس في مجموعتي الشعرية «كلّه العالم جاء».
 هكذا كان منهج الشعر، وقد شكّل طوفانًا في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لكنه لم يكن أمر تثقيف، بل ترميز معرفي، كما كانت الأسطورة الإغريقية تسيطر على النص الشعري لدى كثير من شعراء العربية، وكاد هذا النمط يطغى أيضًا على الساحة، وقد تجلى ظهوره في الشعر السوداني خاصة لدى شعراء «الغابة والصحراء». 
 ومن جانب آخر كان لنشأتي في مدينة طابت بولاية الجزيرة أثر بالغ في كتابة هذا اللون من الشعر، خاصة أن الأدب الصوفي متجذّر في الأسرة والبيئة العامة، سواء في الكتب الموجودة على أرفف المكتبات، أو لدى الناس الذين كنا نستمع إليهم ينشدون في الأعياد والمناسبات الدينية أماديح نبوية وقصائد في العشق الإلهي.
 لذا، فإن أول ما بدأت أعي الأشياء، أدركت جماليات شعر المتصوّفة، ووجدت لغة عالية النقاء، ورقّة وتسامحًا ودعوة مفتوحة للحب، ممّا كان له أثر كبير في النفس، وتأثير عميق في تكويني الشعري الأول، بجانب المؤثرات التي ذكرتها، وبالتالي ليس غريبًا أن يجيء التناصّ في هذه النصوص من دون قصد.

رؤية مختلفة
الأستاذ الفاتح... أرى أن أهل الفصحى منقسمون على أنفسهم، منهم من يؤمن بالقصيدة الحرّة أو شعر التفعيلة، ويرى أن القصيدة العمودية تجاوزها الزمن، وآخرون يرون أن الشعر العمودي أكثر نبضًا وموسيقى وحيوية. ما تعليقكم؟
- في رأيي أن على الشاعر أن يكتب ويشكّل ما يريد، فإذا كان قادرًا على إقناع الناس بأيّهما فليكن، لأن الشاعر لا يكتب لنفسه، والفن ليس لكاتبه، إنما للجميع، ومشكل القصيدة العمودية أنها لا تستهوي إلا البعض، ما لم يقدّم الشاعر من خلالها رؤية مختلفة. وحاليًا يوجد شعراء شباب أعادوا كتابة شعر العمود بكيمياء حديثة وصور جديدة، منهم الواثق يونس، ومحمد عبدالباري، وأسامة سليمان في السودان، ومحمد بخيت في مصر، وجاسم الصحيِّح في السعودية، ومحمد ولد الطالب في موريتانيا. لكن خطورة هذا النمط من الشعر أنه يحتاج إلى كثير من الغموض، وإذا تعوّد الناس عليه لا يصبح مدهشًا ومثيرًا، وإن لم يفكّكوا ألغازه يبقى غير مُجدٍ.
أما إذا كُتِب من دون رمزية فسيكون مثل الذي سبقه، هذه هي إشكالياته، لكنه شعر تحدٍ موجود ولديه جماهير. والقصيدة العمودية الحديثة مدرسة بدأت مبكرًا، ولم تجد رواجًا إلا حديثًا بتجلّيات الشاعر اليماني عبدالله البردوني، وإن كان لهذا التيار مشيخة فهو شيخه، لأنه جوّده وجعله عصريًّا، ثم سار على نهجه أولئك الشباب، ولم يخرجوا من عباءته، حتى بعد أن أصبح لكل منهم أسلوبه الخاص.
 على ذكر الشاعر البردوني، بما أنك عملت معلمًا في اليمن فترة من الزمن، إلى أي مدى أثّرت البيئة اليمانية فيما تكتبه من شعر؟ وماذا حققت لكم من إضافات وانعطافات؟
- لقد أثرت تلك التجربة حقًا فيما أكتب، وأنا أقول إن المؤثر الأول هو التعليم الذي كان ينقلنا من مكان إلى آخر، وعملي كمعلم أفادني في أن آخذ ما آخذ وأعيد إعطاءه من جديد. هذا جانب، أما الثاني فهو اختلاف الأماكن بالتنقل في حقل التدريس، مما حقّق لي إضافات واسعة، سواء بالاطّلاع على الواقع اليمني، والشعر اليمني، أو بالحياة التي عشناها في اليمن، وهي تتسرّب تحت الجلد من دون أن نشعر، حتى غدت جزءًا من الدورة الوجدانية.
 وصادفت، وقتذاك، حدثًا فيه ثراء عظيم لي، حينما كان الأديب د. عبدالعزيز المقالح مديرًا لجامعة صنعاء، وهو صوت أدبي وشعري عالٍ في اليمن، إذ أقام عام 1987 أسبوع الفنّ في صنعاء، وما كان فيه غير الشعر، وقد امتدّت لياليه وأيامه التي اختلف إليها نحو 40 من كبار شعراء العربية، منهم البياتي من العراق، ومحمود درويش وسميح القاسم من فلسطين، وجاء محمد الفيتوري من المغرب، وأحمد عبدالمعطي حجازي من مصر وغيرهم. وفي تلك الأيام كنت دائمًا ما أرافق الفيتوري الذي يجلس بينهم في بهو فندق الشيراتون، وهم يتناولون الشعر ونظرياته، فجالست زمرة منهم، وقرأت بعض أفكارهم ثم حاورتهم، وطرحت على بعضهم كثيرًا من الأسئلة المهمّة والملحّة، مما حقق لي انعطافًا مهمًّا في مسيرتي الأدبية.
 ومهما يكن، فاليمن بلاد ملهمة أوحت لي قصائد عدّة، وهي أيضًا شاعرة تحترم الشعر، وأهل اليمن فيهم كثير من المعرفة والحكمة، ولديهم مواهب فطرية، وهم أفضل من يجيد قراءة العربية، وإذا أعدوك بسلامة اللسان فقد فعلوا فيك خيرًا كثيرًا.

أزمة الفصحى
 ألحظ خُفوت صوت الشعر الفصيح، مع طغيان العامية في العالم العربي. في رأيك، ما مسبّبات هذه الأزمة؟
- نعم... تعاني القصيدة العربية الأوجاع التي يعانيها العالم العربي نفسه، والفصحى نفسها في أزمة، وقد تراجعت علاقة الناس بها في كثير من المجالات، خاصة في المدرسة، ففكرة التعليم أصلًا هي متراجعة، خذ نسبة الأمية في السودان، ونسب الأمية في العالم العربي. وبتراجع القراءة والكتابة أصبحت القصيدة الشعبية أو الشعر العامّي/الدارجي هو المتداول والسائد، ساهمت في شيوعه وانتشاره كثرة المواعين والوسائط الإعلامية، كما أن غياب كثير من شعراء الفصحى الكبار بالرحيل الأبدي أو الانزواء، خلَّف فراغًا عريضًا وكبيرًا في ساحة الشعر العربي، والأخطر أن التعامل مع المشاعر أصبح مثل التعامل مع الوجبات السريعة (Take Away)، وحلّ المنديل الورقي (الكلينكس) محلّ المنديل المطرّز، واستبدلت الأغنية المطوّلة بأغنية الدقائق الثلاث. يقولون هذا عصر السرعة، وفي رأيي أن الأمر ليس كذلك، وإنما المشاعر أصبحت مشاعر (Take Away) مثل سائر المستهلكات، كما صارت القصيدة كذلك.
< رغم ما تقول، فإنك مازلت تكتب القصيدة الفصيحة المطوّلة، ذات الطابع السردي. إذًا لماذا؟ وهل لمثل هذه القصائد الصفوية والبالغة التحدّي من جماهير عريضة تأنس لها؟
- نحن إذا ظللنا نكتب ما يريده العامّة، ربما يؤدي هذا إلى ضمور الأفكار وانحسار اللغة في بلادنا، وفي رأيي هذه مشاعل للتنوير والتثقيف، لذا ينبغي علينا أن نتمسك بها، ولا ننقصها، بل نزيد من مثلها كلما وجدنا سانحة حتى نجذب ولو بعض الناس، ويعدّ هذا في حدّ ذاته نجاحًا. أما إذا تخلّينا عنها بحجّة رغبة العامة، فستخبو جذوتها بمرور الزمن، وتتحوّل لغة الشعر إلى العامية/الدارجة، وبها لن تنهض أمة، لأنها - كما ذكرت - لغة تطريب لدغدغة المشاعر، وليست مرتبطة بفكر أو مستقبل.
وعشاق القصيدة السردية المطوّلة لا يزالون موجودين، وهي ذات كيمياء خاصة، وتنطوي على شروط متى تحققت تبدّت جاذبيتها، وهذا هو التحدّي. نما لديكم وعي نقدي مبكر. ما هي انعكاساته وتأثيراته على كتاباتكم الشعرية؟
- هذا صحيح، ويعتقد كثير من المهتمين بأن في دواخلي ناقد، لأنني أحب النقد، وما زلت أعكف عليه وأدرسه، وهو الفنّ الموازي للقصيدة. وللناقد أثر كبير فيما أكتب، فقد يعينني على كتابة شعر نظيف ورصين، لكنّه يكبّلني في مرات عدّة، ويلجمني فلا أجرؤ على القصيدة. وسبق أن قال الشاعر والناقد المبدع عبدالله الشيخ البشير «تمرّ على خاطرنا القصائد الجياد فنصرفها»، وهذه حقيقة، لأن الشاعر الناقد قد تلحّ عليه القصيدة فيطردها، أو يمزقها، لتردّده، ومقايسته لأبعادها، لكن في ذلك ميزة أساسية هي قبول الرأي الآخر من نقّاد وآخرين. وأنا في بعض الأحيان ألجأ إلى التغيير في القصيدة من واقع ملاحظات نقدية. 
هل وجدت تجربتك الشعرية حركة نقدية فاعلة؟
 - النقد بمفهومه العلمي ليس لديه انتشار في السودان، وهذه واحدة من مشكلاتنا، كما أنه ليس لدينا نقّاد بمعنى نقّاد، ممّا خلق أزمة كبيرة في النقد. وكل التيارات الموجودة عندنا ما هي إلا مجالس للمؤانسة، أو كتابة لشخص أو صديق. نعم ربما لا تكون انطباعية، لكنها ليست على منهج قوي يسند الشعر. وتجربتي الشعرية مثالًا في كونها لم تجد حظها من النقد كثيرًا، وإنما كتابات متفرقة في مقالات بالصحف، أو دراسة كاملة لشخص أو شخصين. وعمومًا تراجع النقد كفنّ إلى درجة كبيرة في العالم العربي.

الشعر موقف
 رغم المدى الزمني لمسيرتكم الإبداعية، ووجودكم الملحوظ في ساحة الشعر والأدب، فإنني لاحظت أنك من الشعراء المقلّين.
 - مقلٌّ صفة لا أنكرها، ولا أشعر أنها تطعن في شاعرية أي شاعر، ولا أحبّذ أن أكون من المكثرين، لأن الشعر بالنسبة لي قوام القصيدة، ومدى تأثيرها، وخصوصيتها، وجدواها. كما أن الناقد الذي يقبع في دواخلي له دوره المؤثر جدًا في نتاجي الشعري، والشعر موقف وليس حجم إنتاج.
 أخيرًا... لو قُدّر لك أن تكون من شعراء هذا الجيل، هل تعتقد أنه من الممكن أن تتوافر لك الشروط والمؤثرات والروح التي أنجبت تلك القصائد الباهرة، وتكون من البارزين كما الآن؟
- لكل شاعر ظروف نشأ فيها، وأعتقد أنه إذا تغّيرت الظروف تغّير المنجز. قد تكون الموهبة موجودة، لكن إذا اختلفت الشروط العامة وتدنّت، فإن المنجز يكون فقيرًا. ولو أنني بدأت كتابة الشعر مع شعراء هذا الجيل فمن المؤكد أنني لن أكون كما أنا الآن، لأن الشروط البيئية والمطلوبات التي صنعت ذلك الشعر غير متوافرة الآن.
كنت أتوقع من أبناء الجيل الجديد أن يحدثوا إضافة على الواقعية، وما بعد الواقعية بأشعار لافتة ومدهشة، ولم يستطيعوا، وبالتالي لم يتجاوزوا العماليق الذين ظهروا من قبل، وهذا ما نلمسه بوضوح في السودان، لقد ظهر كثير من الشعراء الجدد، ورغم شاعريتهم، فإننا لا نجد بينهم من لديه مشروع شعري متكامل .