الدّلالة الرّمزيّة لـ «موتيف البرتقال» في شعر محمود درويش

الدّلالة الرّمزيّة لـ «موتيف البرتقال» في شعر محمود درويش

لم تكن الطّبيعة كما عهدت في شعر درويش مجرّد مفاهيم مادّيّة جغرافيّة يستوحي منها عناصر ليوظّفها في قصائده، فقد أدرك درويشٌ ما للطّبيعة ممثّلةً بمظاهرها ونعوتها ومعالم جمالها من أثر على تجربته الشّعريّة، وقد ترافقت معه منذ بداياته الأولى، واستمرّت حتّى آخر  أعماله الشّعريّة، والنّبات محورٌ  رئيسيٌّ من محاور التّعامل مع الطّبيعة الفلسطينيّة في الشّعر، والبرتقال من أهمّ عناصر الطّبيعة النّباتيّة الّتي تفرّدت بصور  ودلالات عند درويش، وكانت مدخلا لكثير من القضايا.

إنّ البعد الدّلاليّ للبرتقال في شعر درويش يفرض نفســـــه على الباحـــــث، إذ «عرف محمـــــود درويش البرتقال كرمز من الرّموز الفلسطينيّة لأوّل مرّة فـــي عام 1964م»، وهو يعدّ من أهمّ الأشجار الّتي شكّلت دلالةً مثقلةً بالرّمز في شعره، فهذه الشّجرة الحمضيّة جزءٌ لا يتجزّأ من واقع فلسطين الطّبيعيّ، وهي تتميّز بصفات جماليّة كشكلها، وطيب ثمارها، وخصوصيّة زراعتها في المناطق الحارّة، وقد اشتهرت فلسطين وارتبط جمالها لعهود طويلة بجمال حقول الحمضيّات الّتي من أهمّها البرتقال.
وقد تراءى لي من قدرة درويش على ترميز البرتقال إسقاط مشاعره عليه ليصبح معادلًا لأحاسيسه ومواقفه وطبائعه، فهو يستنطقه متى شاء أن يتكلّم، ويقرنه بأعضاء الإنسان كالقلب والعيون واليدين في مشاهد تصويريّة دلاليّة تصل إلى حدّ إقامته مقام الإنسان، ورغم ذلك فهو «لا يهمل البعد الجماليّ للبرتقال كتكوين تشكيليّ طبيعيّ أخّاذ».
يقول في قصيدة «يوم»: 
يا أوّل اللّيل الّذي اشتعلت يداه برتقال
لقد هرب درويش من المجتمع البشريّ الذي خذله فنفض يده منه، ولجأ إلى الطّبيعة بجميع مظاهرها؛ لبقائها صامدةً تصارع الحياة والظّروف القاسية الّتي مرّت بها، فاطمأنّ إليها وألفها وتسرّب إلى نفسه منها أملٌ جديدٌ في الحياة، ودافعٌ بألا يحدث قطيعةً معها، وقد وجد فيها من القوّة ما جعل أشجارها كسيل متحدّر من الصّمود والعزيمة داخل صدره، فالشّجر خالدٌ على الأرض لا يهجرها كأبنائها؛ لأنّ الشّجر «إذا فكّر بالهجرة من أرضه مات، ولكنّه لا يفعلها؛ لأنّه لا يريد أن يموت قبل الأوان».
يقول في قصيدة «الخروج من ساحل المتوسّط»:
سيلٌ من الأشجار في صدري
   وقد آمن درويشٌ برسالة الشّعر الإنسانيّة، الّتي من أهمّ أهدافها ومراميهــــا تحويــــل المظاهر السّلبيّة والمشـــــاعر الجانحــة نحو إقصاء الشّعوب المستضعفة عن ساحة الكرامــة البشريّة إلى تعاليم إيجابيّة سامية ترسّخ مفاهيم العدالة على الأرض، فنجده تحت هذا العنوان يحوّل كلّ مظاهر الطّبيعــــة، ومنها البرتقــــال إلى علامات رمزيّة دالّة تساعده على بثّ أفكاره في العالم، فالبرتقال رمزٌ كلّيٌّ للشّعب المدافع عنه.
يقول في قصيدة «السّجين والقمر»:
في آخر اللّيل التقينا تحت قنطرة الجبال
منذ اعتقلت، وأنت أدرى بالسّبب
ألأنّ أغنيةً تدافع عن عبير البرتقال
وعن التّحدّي والغضب
دفنوا قرنفلة المغنّي في الرّمال?

رمزية متوهجة
   وقد استطاع درويشٌ إكساب البرتقال رمزيّةً متوهّجةً عبر مجمـــــوعاته الشّعريّة، فمنذ بداياته الأولى وجدناه يقرن البرتقال بالوطن كعلامة من علاماته الطّبيعيّة، ورمز يجذب الأنظار إليه، فسرعان ما يألفه المتلقّي؛ لأنّه معروفٌ في الأوساط الشّعبيّة الفلسطينيّة كفاكهة حمضــيّة شتــويّة، وقــد استند عليه درويشٌ لاستعــادة ذكريات طفــــولــــته في المنـــــاطق المشتهرة به، وأصبح بعد ذلك رمزًا يعبّر عن حالة التّشرّد والتّناثر في المنافي خارج الوطن، وهو كذلك مع فارق التّشبيـــه مساو للسّاحل الّذي خرج الفلسطينيّون عبره خارج الوطن.   
يقول في قصيدة «طوبى لشيء لم يصل»:
الشّيء أم هم؟
يدخلون الآن في  ذرّات بعضهم
يصير الشّيء أجسادًا
وهم يتناثرون الآن بين البحر والمدن
اللّقيطة
 ساحلًا
 أو برتقالًا 
وقد انتقل درويشٌ بالبرتقال من دلالاته الحسّيّة إلى دلالات تجريديّة متفاوتة، إذ أصبح رمزًا للزّينة ولجمال المحبوبة الّتي طالما تعطّرت بعطره، ورمزًا للبقاء على الأرض والثّبات على القضيّة، ثمّ تطوّرت الدّلالة الرّمزيّة للبرتقال لتشكّل هيمنةً محوريّةً تجدها أينما قرأت من أشعار ورد فيها ذكره، فمن رائحته يتجدّد النّضال ويزداد لهيب المقاومة، كما أنّ لونه المائل إلى الحمرة هو لون النّار الّتي تمثّل جذوة المقاومة والثّورة.
يقول في قصيدة «طريق دمشق»:
من البرتقاليّ يبتدئ البرتقال 
وقد رافق نسيج الشّعور بالاغتراب عن الوطن درويشًا كظلّه، فأوغل في وصف حالة المغترب عن فلسطين كلاجئ ومنفيّ مستعينًا برمزيّة البرتقال بعيدًا عن ماديّة معناه، فشجرة البرتقال الّتي تتبوّأ مكانةً مهمة بين مقتنيات الطّبيعة الشّجريّة تتّصف بصفات تميّزها عن كثير من الأشجار كخضرتها الدّائمة، وحمرة تربتها وجمال منظرها ولذّة ثمارها، وقد استوحى درويشٌ من هذه الصّفات صورةً لتجدّد الأمل في الحياة.
يقول في قصيدة «الموت مجّانًا»:
كان الخريف يمرّ في لحمي جنازة برتقال...
قمرًا نحاسيًّا تفتّته الحجارة والرّمال
ففصل الخريف - كما نعلم - هو فصل التّجرّد والتّعرية والسّقوط، ونهاية البداية لربيع جديد، وهو وإن مرّ على درويش مرورًا جنائزيًّا إلّا أنّه مرورٌ يشبه المرور على البرتقال، وهنا تنقلب الدّلالة من نقيض إلى نقيض، وقد أحسن درويشٌ في الاستعانة بالشّجر بدلًا من الإنسان للتّعبير عن القوّة والصّمود والبقاء في وجه الخريف الرّامز للعدوّ الصّهيونيّ؛ لأنّ «الإنسان يموت في أحسن الحالات متّكئًا على جدار، ولكنّه يسقط في الحال، أمّا الشّجر فإنّه يموت واقفًا؛ لأنّ أقدامه راسخةٌ في الأرض عميقًا»؛ لهذا أوصى درويشٌ الإنسان بالموت واقفًا كالشّجر.
يقول في قصيدة «قال المغنّي»:
هكذا مت واقفًا
واقفًا مت كالشّجر!

قيمة دلاليّة
وقد ارتفع درويشٌ بالشّخصيّة الفرديّة كرمز بطوليّ على أرض فلسطين إلى مستوى الشّخصيّة العامّة الكونيّة، ومثال ذلك شخصيّة «أحمد الزّعتر» الّتي ابتدعها في حاضر القصيدة، ولم يستعرها من الماضي، وعنوان القصيدة له علاقةٌ مباشرةٌ ووثيقةٌ بمخيّم تلّ الزّعتر للاجئين الفلسطينيّين في بيروت، أمّا مفردة الزّعتر المقصود بها ذلك النّبات البرّيّ المنتشر بكثرة على أرض فلسطين فهي رمزٌ دالٌّ على التّوحّد مع الأرض. 
وسنتعرّض للبرتقال الّذي يعتبر لغويًّا من المفردات ذات الدّلالة المستقاة والمكتسبة من الواقع المعيشيّ للمجتمع الفلسطينيّ في قصيدة «أحمد الزّعتر»، وقد نال كمفردة ما ناله من عناية وظهور في شعر درويش، فقد بات يشكّل قيمةً دلاليّةً للتّوجّع على الوطن المسحوق، وهو في المقابل باعثٌ على المقاومة والوقوف صفًّا واحدًا للدّفاع عن الوطن، فمن ثدي البرتقالة يرضع المقاومون حليب الثّورة، والبرتقال هو الدّم الفلسطينيّ الّذي لا يباع، ويبقى عزيزًا غاليًا مهما رخص عند العدوّ، وهو كذلك رمزٌ مكانيٌّ مرتبطٌ بفلسطين.
يقول في قصيدة «أحمد الزّعتر»:
أنا أحمد العربيّ - قال
أنا الرّصاص البرتقال الذّكريات
وجدت نفسي قرب نفسي
فأحمد العربيّ كنمـــوذج تاريخيّ للصّمــود يعلن عن موقفه الثّابت، وسياسته في الرّدّ على العدوّ، وهنا يتضافر الرّصاص رمز المقاومة والصّمـــود مع بيّارات البرتقــــال كعلامة دالّة على تاريخيّة الأرض، ومثبّتة للذّكريات الّتي يحاول المحتلّ محوها من الذّاكـــــرة؛ لتنفلق دلالة النّور والضّياء المؤدّي إلى طريق العودة إلى الوطن، غير أنّ الأحلام المجهضــــة لا تكتمل لأنّ أحمد الكونيّ لم يزل خارج حدود الوطن في بقعة للمنفى أو المخيّم أشبه ما تكون بصفيح ضيّق، في دلالة على انتماء البطل الوطنيّ إلى عالم البؤساء والمقهورين من أبناء جلدته.
يقول في قصيدة «أحمد الزّعتر»:
هو أحمد الكونيّ في هذا الصّفيح الضّيّق
المتمزّق الحالم
وهو الرّصاص البرتقاليّ.. البنفسجة
الرّصاصيّه
وهو اندلاع ظهيرة حاسم
في يوم حرّيّه
  
 فبالنّظر في الصّورة الكلّيّة نجد للبرتقال اشتغالًا رمزيًّا خاصًّا بوصفه ثمرةً رئيسةً من ثمار فصل الشّتاء، وعلامةً من علامات جمال الطّبيعة الحقليّة تستحيل رمزًا للمقاومة والثّورة كقنبلة ورصاصة وشظايا، وهذا يتطلّب الارتباط بمفردة لا تخرج عن الإطار الجماليّ لهذه المفردة، أمّا أن يرتبط بالرّصاص الّذي يؤدّي إلى الموت والدّم، فهذا يحدث انزياحًا في الدّلالة وولادة دلالات متداخلةً وفق صيرورة تحويل العنصر الرّامز إلى كيانات مجسّدة، حيث يتحوّل المظهر الطّبيعيّ المتمثّل في البرتقال إلى نافذة للحرّيّة ومصدر للحياة؛ بامتزاجه بدماء الشّهداء الّتي أزهقها رصاص العدوّ. 
   وعبر مسيرة بطل القصيدة «أحمد الزّعتر» يرسم درويشٌ صورًا لمأساة شعبه، ملتفتًا إلى انصهار الإنسان بالطّبيعة الممثّلة بمفردات كثيرة كالزّعتر المدرج في العنوان، والبرتقال الّذي نحن بصدد تسمية دلالاته، فهو وإن بات رصاصًا في أيدي المقاومين على أرض مات فيها البنفسج فإنّه اسمٌ وعلامةٌ محدّدةٌ للباحثين عن أسماء تعي قضيّة المطالبة بالهويّة (البرتقال) حتّى وإن تعرّض للموت ورمزه الرّصاص، وتبرز هنا ثنائيّة التّباين والتّشاكل في الدّلالة الّتي تحتاج منّا إلى بحث أرحب وأشمل.
يقول في قصيدة «أحمد الزّعتر»:
يا أحمد اليوميّ!
يا اسم الباحثين عن النّدى وبساطة الأسماء
يا اسم البرتقالة 
يا أحمد العاديّ!
   ولم يغفل درويشٌ في هذه القصيدة الّتي نلمس فيها الإكثار من إشارات الطّبيعة تجسيد أبعاد القداسة والأسطرة لمفردة البرتقال، جاعلًا من أحمد الزّعتر أسطورةً قياديّةً تتّحد مع عناصر الطّبيعة، وتمتزج في مظاهرها، والبرتقال من هذا المنطلق مسندٌ إليه فعل الاقتداء من قبل أحمد الزّعتر، وبهذا يحمل البرتقال دلالة الحكمة في توجيه الرّؤى وصياغة الوصايا، والملاحظ أنّ درويشًا قد استقطب البرتقال كرمز، ورماه بوابل من الدّلالات الّتي ساعدت على توسيع آفاق الرّؤية لديه.
يقول في قصيدة «أحمد الزّعتر»:
... وله انحناءات الخريف
له وصايا البرتقال
له القصائد في النّزيف
له تجاعيد الجبال

الطبيعة الفلسطينيّة
   وقد اختار درويشٌ صوره الفنّيّة من واقع الطّبيعة الفلسطينيّة كي يضمن فعاليّتها المباشرة على المتلقّي، فنراه يتلقّف المفردات اليوميّة الّتي تمارس في الحياة العامّة للشّعب، ويجذّرها في تربة النّصّ لتصبح حالةً معيشيّةً لمتلقّي نصوصه، وسنأخذ نمطًا تمثيليًّا لمفردة «البرتقال» من قصيدة (مطر ناعم في خريف بعيد)، لافتين إلى أنّ «الخريف يرمز عند بعض القرّاء إلى الكآبة والحزن والمسكنة والخمول». 
يقول:
مطرٌ ناعمٌ في خريف غريب
والشّبابيك بيضاء... بيضاء
والشّمس بيّارةٌ في المغيب
وأنا برتقالٌ سليب
فلماذا تفرّين من جسدي
وأنا لا أريد
من بلاد السّكاكين والعندليب
غير منديل أمّي
وأسباب موت جديد
   إنّ أوّل ما يسترعي انتباهنا في المقطع السّابق ويدعونا للتّأمّل هو حضور أشكال كثيرة معزوّة للطّبيعة الّتي التحم درويشٌ بها، لكنّنا سنسلّط الضّوء على البرتقال باعتباره علامةً اتّكأ عليها درويشٌ لاستحداث مسافة عاطفيّة ونفسيّة غير منتهية بينه وبين وطنه، ففي قول درويش: «وأنا برتقالٌ سليب» إشارةٌ دامغةٌ على حلول حيزيّ للإنسان بالطّبيعة جسدًا وروحًا؛ «لتوليد الدّلالات الّتي تنبثق باستمرار وبانسيابيّة التّجاور»، لدرجة يختفي فيها الجنس فلا نستطيع تحديده، والجملة السّابقة للجملة المطروحة (والشّمس بيّارةٌ في المغيب) تحدّد دلالة الجملة التّابعة لها الوارد فيها لفظة «برتقال»، فالشّمس علامة النّور والإشراق بيّارةٌ من البرتقال ساعة المغيب، ولنا أن نتصوّر جمال هذه الصّورة المكثّفة الّتي تجعلنا نحسّ بوهج الوطن (البرتقال)، ثمّ إنّ الشّاعر (أنا) كفرد فلسطينيّ برتقالٌ يحمل صفات الشّمس، غير أنّه «سليب»، وهنا تتوحّد الدّلالة في استلاب وطن البرتقال رغمًا عن الإرادة المسلوبة (وأنا لا أريد).
ويتجدّد الاتّحاد والالتحام بالبرتقال كطعم دمويّ يعود لسيرته الأولى كرمــــز وعلامــــة للبذل والتّضحية فداءً للوطن، فغزّة الّتي سجّلت من البطولات ما يثير الدّهشة والإعجاب ترفض بيع برتقالها المشعّ باحمــــرار الدّم خارج غزّة، فهو غال كدمها الّذي يمثّل إكسيرًا للحياة والبقاء.
يقول في قصيدة «الخروج من ساحل المتوسّط»:
وغزّة لا تبيع البرتقال لأنّه دمها المعلّب 
وأخيرًا، فقد تبنّى درويشٌ على الصّعيد الفنّيّ الدّعوة للتّحرّر من قيود السّلطة الإقطاعيّة للمفردات المعجميّة، حاملًا مشعل التّبشير بالأساليب الحداثيّة في تقديم المضامين الشّعريّة، ومن تلك الأساليب صناعة الرّموز المحوريّة ذات الدّلالات الضّبابيّة الّتي تحتاج من المتلقّي فهمًا عميقًا لتحليل البذور التّكوينيّة لتلك الرّموز الّتي استحدثها درويشٌ عبر اشتباكات فكريّة وفلسفيّة وواقعيّة، ومن هذه الرّموز: البرتقالِ الّذي يرى أنّ بينه وبين الزّارعِ علاقةً «تحمل مدلول استمرار الحياةِ والأملِ والوطنيّةِ والتّلقائيّةِ، ولكن وبشكل مأساوي قصِمت هذهِ العلاقة وبكثير من الدّمِ الّذي لم يعد يبرِز المحافظة على لونِ الشّجرةِ مثلًا، بعد أن اختلطت أوراقها الخضراء باحمرارِ الدّمِ وسوادِ اللّيلِ» >