المخطوط العربي وأهمية علم التحقيق

المخطوط العربي وأهمية علم التحقيق

  المخطوطات «كتب أو رسائل لم تطبع بعد، ولا تزال بخط مؤلفيها الأصليين والنساخ»، يحتوي تراثنا العربي على الكثير منها في مختلف مجالات العلم والمعرفة الإنسانية، وهي تلزمنا نوعًا من التقصي قبل خوض غمار تحقيقها، فهناك طريقان كانت تصل من خلالهما المؤلفات من المؤلف إلى القارئ عند الأقدمين، أولهما «طريق التأليف، ونعني به أن يعكف المؤلف على جمع مادة كتابه ومراجعتها وتهذيبها وتنقيحها والإضافة إليها، ثم يخرجها للناس بعد أن تستوي على صورة يرتضيها»، فكانت بذلك النسخة الأم عبارة عن مُسوَدة للتصحيح، يقوم صاحبها بتنقيحها في صورة نهائية هي التي يطّلع عليها الناس وتخرج لسوق الكتب. 

لذلك ينبغي عدم التقليل من قيمة المخطوطات التي يغلب عليها «الاضطراب واختلاط الأسطر، ويكثر فيها الضرب (الشطب) والمحو والإلحاق والحواشي، فقد تكون مسودة المؤلف، وبذلك تكون أوثق وأقوم من أية نسخة أخرى متأخرة مهما بلغت من الأناقة وجمال الخط وحسن الإخراج». وهذا هو ما يمكن أن يُفسر لماذا كان المؤلفون القدامى يتركون أوراقًا فارغة في أواخر كل باب «لتكون لاقتناص الشارد واستلحاق الوارد وما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض ويقع إلينا بعد الشذوذ».
 كما نجد اختلافات بين النسخ المخطوطة لنفس المؤلف، وأسباب ذلك كثيرة جدًا، منها أن «الوراقين يشاركون بنصيبهم أيضًا، فقد كانوا يتزيدون ويضيفون إلى الكتب ما ليس منها حتى اشتهر بعضهم بالكذب والاختلاق». 
 ثم هناك تدخل تلاميذ المؤلفين عند نقلهم المسموع إلى مخطوط، أو إضافتهم لما لم يقم الأستاذ بإتمامه، وهذا يدخل في دائرة الطريق الثاني الذي كانت تصل به المؤلفات من المؤلف إلى القارئ، وهو طريق الإملاء، فقد انتشرت مجالس الإملاء بقوة «في الحواضر الإسلامية خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين... بدليل قول ابن النديم إن أبا الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي (وهو معاصر له) كان... أكثر ما يصنفه يؤخذ عنه إملاء». 
 معنى الإملاء أن يأخذ التلاميذ عن العالم مباشرة أثناء شرحه دون وساطة من قبل ما خط على الورق، وقد تمركزت هذه الظاهرة خصوصًا في بغداد في القرن الثالث الهجري. ولا تخلو عملية التأليف عبر الإملاء من مشكلات، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- كون صوت المحاضر أو الشيخ لا يصل المتلقيين بنفس الدرجة.
- عدم التفريق بين حقيقة بعض الحروف وغيرها رغم إرادة تجسيد الأمانة العلمية.
 تمخضت عن هذه المجالس «كتب ظهرت باسم الأمالي وأفرد لها حاجي خليفة فصلاً خاصًا بها في كشف الظنون». وقد تزايدت هذه الأمالي بشكل كبير في القرون اللاحقة وكان أكثر العلماء يملون بمجالسهم دون أن يعودوا إلى مراجعتها أو مقابلتها، فكان الكتاب الواحد يتعرض للزيادة والنقصان إذا تكرر إلقاؤه في أكثر من مجلس.

مكونات المخطوط
يتكون المخطوط العربي في الغالب من عناصر يمكن تحديدها فيما يلي:
- صفحة العنوان: لم تكن موجودة في الغالب، حيث كان العنوان يُكتب في المقدمة أو في نهاية المخطوط، وكانت الصفحة الأولى تترك بيضاء لتجنيب المخطوط التلويث والطمس، أو لتكون مكانًا للزخارف إن لم يُجلد المخطوط. وكان الناسخون الذين ينسخون الكتب عن أصولها هم من يضيفون عنوان الكتاب واسم مؤلفه على الصفحة الأولى في بعض الأحيان.
- بداية المخطوط: كان المخطوط يبدأ عادة بالبسملة، ثم تليها مقدمة يستهلها المؤلف بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ثم بعد ذلك يتم ذكر اسم الكتاب وموضوعه والغرض منه أو الدافع إلى تأليفه والمنهج الذي اتبعه وطريقة ترتيبه للمادة العلمية في أبواب وفصول. كما يمكن أن يذكر المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه، بمعنى أن هذه المقدمة كانت تؤدي وظائف استقلت عن بعضها اليوم، مثل: العنوان، الفهرس، التقديم للموضوع والتمهيد له، قائمة المراجع... إلخ.
- عناوين الفصول والعناوين الجانبية: كانت تتميز بكونها تكتب في وسط السطر، قبل أن تختص فيما بعد بخط مخالف وعادة الخط الكوفي، ثم خُصت فيما بعد بلون مغاير للون المداد الذي كتب به النص.
- الهوامش: مند نشأة المخطوط العربي عني الناسخون بترك مساحة بيضاء تحيط بالمساحة المكتوبة من الصفحة، وكان المد وسيلة لضبط نهايات السطور وللزخرفة في الوقت نفسه.
- التسطير: رغم أنه ليس هناك ما يدل على أن القدماء كانوا يُسطرون الصفحات قبل أن يكتبوا فيها، إلا أنه من الأرجح  أنهم كانوا يقومون بهذه العملية خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالمصاحف ذات الأحجام الكبيرة، كما كان هناك حرص على وضع تباعد بين السطور حتى تتيسر القراءة.
- علامات الترقيم: لم يكن الناسخون العرب في القرون الأولى للهجرة يستعملون من علامات الترقيم إلا النقطة أو ما يقوم مقامها كأداة للفصل بين الجمل، حيث كانت تستعمل الدائرة في أغلب الأحيان.
- الاختزال في الكتابة: باختزال ما يتكرر من قبيل «نا أو ثنا» بدلاً من «حدثنا».
- التصويبات والإضافات: كان الناسخ إذا أخطأ شطب على الخطأ ووضع الصواب بعده مباشرة، أما إذا تبين الخطأ بعد الفراغ من النسخ فقد كان التصويب يكتب فوق الخطأ بعد التشطيب عليه، أما الحك فقد كان مكروهًا، ورغم ذلك فقد وجد له أثر في عدة مخطوطات.
- نهاية المخطوط: كانت تتميز بعبارة تفيد إتمامه أو اتباعه بأجزاء أخرى، وبعد ذلك يأتي اسم الناسخ وتاريخ النسخة محددًا باليوم والشهر والسنة.
- أحجام أوراق المخطوطات: في القرون الأولى للهجرة كان المخطوط يضم أوراقًا مختلفة الحجم، لأن الورق لم يكن في المتناول آنذاك لقلته وارتفاع أسعاره، أما مخطوطات القرن الرابع الهجري، وما تلاها، فقد تم التوفيق بين أحجام الأوراق المكونة لها.
- ترقيم الأوراق والصفحات: لم تكن أوراق المخطوط في أول عهدها تخضع لأي نوع من الترقيم، ولكي لا تختلط عليهم الأوراق كانوا يكتبون الكلمة الأولى من الورقة الموالية في ذيل الورقة التي تمت تحت آخر كلمة من السطر.
- التمليكات: حيث كان العرب يسجلون أسماءهم على ما يملكون من المخطوطات، ذاكرين تاريخ التمليك في بعض الأحيان، وكان ذلك عادة في الصفحة الأولى من المخطوط.

قيمة المخطوط وأهميته
 يعتبر المخطوط من أغلى وأنفس ما تملكه حضارتنا لأسباب عدة، منها:
- إن تراثنا المخطوط أضخم تراث مخطوط عرفته البشرية، امتد منذ أن عرف العرب الكتب حتى دخول الطباعة إلى العالم العربي في القرن الثامن عشر للميلاد.
- إن الكتاب المطبوع مهما ندر وغلا ثمنه يمكن أن يعوض بنسخة أخرى، وليس ذلك للمخطوطات، فكل نسخة من نسخ الكتاب الواحد لها قيمتها الذاتية، لأنها كثيرًا ما تختلف عن غيرها.
- إن هذا التراث يمثل حضارة من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ، استوعبت ما جاءت به الحضارات الأخرى وأضافت عليه.
 هكذا يحتل رصيدنا من المخطوطات مكانًا فريدًا بين مخطوطات العالم. توالت على هذا التراث مع الأسف نكبات عدة، كالغزو المغولي الذي دمر بغداد وقضى على مقتنيات بيت الحكمة، والغزو الصليبي الذي أتلف المراكز الحضرية في منطقة الشام، ثم هناك الفتن الداخلية المذهبية والسياسية والاقتصادية، حيث كثر السطو على القصور، وتم تدمير مكتباتها وإتلاف كتب طوائف عدة. 
   هكذا كانت المخطوطات لا توجد في أكثر المكتبات ولا في نوع معين منها يمكن للباحث أن يقصده، وإنما تتوزع بين الهيئات الحكومية والأهلية والأفراد. وكان بذلك تشتت المخطوطات سببًا في إرهاق الباحثين، وكان بذلك الفهرس المطبوع أفيد لهم، لسهولة اقتنائه والتعرف على مجموعات المخطوطات في مكتبات العالم دون حاجة إلى الانتقال إليها، وكانت الفهرسات الأفيد تلك الغنية بالمعلومات عن المخطوط والدقيقة والمسهلة لعملية الحصول عليها.
يسود رأيان في كيفية التعامل مع المخطوطات:
- الرأي الأول: يقول أصحابه إنه ليست كل المخطوطات مهمة ينبغي تحقيقها ونشرها «فالمخطوطات على ما لها من قيمة تراثية لا تنكر، إلا أنها تتفاضل قيمة وأهمية، وموضوعًا ومنزلة وقدمًا وتوثيقًا، وصحة وضبطًا، ولا ينقص من قيمة المخطوطات أن نقدم في التحقيق والنشر الأهم منها على المهم من حيث الموضوع والقيمة التاريخية وما تقدمه من فائدة عامة للعلم والمعرفة، ولا ضير أن نصرف النظر عن نشر المخطوطات التي لا جدوى تذكر من نشرها». 
- الرأي الثاني: يؤكد أصحابه أن كل المخطوطات مهمة، حيث «لا يجوز التفضيل بين المخطوطات، هذا جيد وهذا غير جيد... فهو تاريخ أمة متصل وإبداع أجيال متعاقبة». 
   على كل حال هناك تراخٍ في البحث عن النسخ المخطوطة من قبل الباحثين والمحققين، حيث «يتم الاكتفاء في التحقيق بنسخ هزيلة مع وجود نسخ عالية للكتاب المزمع تحقيقه، وربما اقتصر بعضهم على مخطوطة واحدة مع وجود مخطوطات عديدة للكتاب». مما يحيط عمل المحقق ومهمته التحقيقية بتساؤلات عدة. 

مآسي التراث العربي المخطوط 
  حدد الدكتور أحمد شوقي بنبين - الخبير الدولي في المخطوط العربي وعلم التحقيق (الكوديكولوجيا)، ومدير الخزانة الملكية بالمغرب، صاحب كتاب «تاريخ المكتبات في المغرب» وكتاب «دراسة في علم المخطوطات والبحث البيبليوغرافي» الذي قام  بتحقيق ديوان شاعر الحمراء وساهم في تحقيق مجموعة من الآثار الفكرية - مآسي التراث العربي المخطوط في ثلاثٍ، مؤكدًا أنها رافقته منذ أن بدأ تسجيله في القرن الثاني للهجرة ولازالت مستمرة إلى حدود اليوم، وهي:
- مأساة النساخة: رافقت التراث المخطوط منذ نشأته، ويشهد على ذلك منشئ البلاغة العربية المتوفى سنة 255 هجرية، الجاحظ، في كتابه «الحيوان»، بحيث يؤكد في الجزء الأول  منه أن الكتاب الذي تتناوله الأيدي بالنسخ يصبح نسخة أخرى غير النسخة الأصلية. وهو نفس ما سيؤكده أحد أبرز أدباء القرن الرابع الهجري وهو الخوارزمي (ليس صاحب مفاتيح العلوم)، حيث شكا هفوات النساخ في إحدى رسائله، قائلاً: «النظر فيها يعمي والاستدلال بها يعمي». 
   اشتكى القاضي عياض في كتابه «الإلماع إلى معرفة الرواية وتقنين السماع» من مشكلة النساخة أيضًا، سواء منها الناتجة عن القراءة أو الناتجة عن الاستماع، فحدد المشكلات الناتجة عن المشافهة والأخرى الناتجة عن المعاينة، واقترح لكل واحدة منهما حلولاً. وطالب اليوسي في القرن الحادي عشر الهجري بتطبيق الحسبة على النساخ، قائلاً إنه إذا كنا نفرض الحسبة على التجار، فالأولى تطبيقها على أصحاب الأقلام والأوراق.
 لقد أساءت النساخة إلى حدود عصر الطباعة إلى التراث العربي المخطوط، إذ يمكن القول إنه ليس هنالك كتاب واحد وصل سليمًا، بل إن المخطوطات الأصلية التي نسخها أصحابها بأيديهم لا تخلو من أعطاب، أضف إلى ذلك مشكلات أخرى متعلقة بالنسخ، ومن بينها مشكلة استطراد الناسخ، وما يؤدي إليه ذلك من اختلاط في المواقف وحشو في الكلام.
- مأساة الطباعة: دخلت هذه التقنية الغربية متأخرة إلى العالم الإسلامي، ولم تعد الكتب بمقتضاها حكرًا على أصحاب المال والجاه، بل أصبحت متاحة للجميع، ووقف العرب من خلالها على تراث الغير وتفحصوه عبر الترجمة. لكن منذ أن بدأت الطباعة، نجد أنه لا يخلو كتاب من عشرات الأخطاء، بل إن هنالك من الباحثين من لا يقرأ المطبوع، بل يتوجه مباشرة صوب المخطوط رغم المشاكل التي يعاني منها.
- مأساة التحقيق العلمي: إن التحقيق مجال كثرت فيه الأفاعي وغابت عنه عصا موسى على حد تعبير الأستاذ شوقي بنبين، فـتسعون في المئة مما حقق يجب أن يعاد تحقيقه، إذ لا نجد محققًا حقق كتابًا سبقه له غيره إلا ويشتمه، وتجد هذه المشكلة مصدرها في التراث المخطوط نفسه.
 لم يدرك صناع القرار بعد، حسب الدكتور بنبين، أهمية علم التحقيق، أي الكوديكولوجيا، إذ ساد بين صفوف الباحثين تعريف غربي للتحقيق، مفاده أنه «إخراج نسخة قريبة من النسخة الأصلية»، حيث إن تراث الغرب نسخ في العصر الوسيط المتأخر فقط، أما تراثنا نحن فتوجد فيه المخطوطات الأصلية والنسخ متوافرة وموجودة، حيث إن تراثنا يختلف عن التراث الغربي، ولذلك وجب أن يكون تحقيقنا مخالفًا لطريقة تعاملهم مع تراثهم.
 لا بد للمحقق من أن يكون عالمًا، كما يجب نشر ثقافة المكتبات في صفوف طلبة الجامعات، إذ ليس لهم إلمام كاف بالثقافة المكتبية، ذلك أن الطالب يعاني من الغربة في الخزانة والمكتبة، لأنه غير مزود بدرس مكتبي، فهو لا يعرف بدقة كيف يقرأ الكتاب ولا ما هي البيبليوغرافيا وغير ذلك كثير.
 يكمن الحل إذن، حسب الدكتور بنبين، في الدراسة العلمية للمخطوط، أو ما يمكن تسميته بالكودكولوجيا، وهي كلمة مكونة من شقين، كوديكس التي تعني الكتاب أو الخشبة، ولوغوس التي تعني بحثًا أو علمًا، فالكوديكولوجيا هي علم الكتاب، يدرس المخطوط باعتباره قطعة مادية. فنسبة خمسين في المئة من المخطوطات غير مؤرخة، ويمكن اكتشاف تواريخها من خلال عناصر مادية كالورق والعلامة المائية.
 لابد أيضًا من التفكير في تأسيس مركز لعلم المخطوط. فالمحقق العربي يبحث بنفسه عن المخطوط، أما الغربيون فتهيئ لهم الكوديكولوجيا مختلف النسخ الموجودة لكتاب ما. وفي غياب مثل هذا المركز سيبقى البحث في التراث العربي المخطوط يعاني مشكلات، فالعلم على الحقيقة هو علم بمواطن العلم.

كلمة ختامية
   لا يسعنا في النهاية إلا أن نؤكد على أهمية علم التحقيق للباحثين في التراث العربي والإسلامي، فهنالك كنوز كثيرة مغيبة عن القرّاء لا لشيء سوى لأنها لم تخرج بعد من دائرة المخطوط إلى المطبوع، وهو ما يجعل معرفتنا بتراثنا وبأنفسنا معرفة ناقصة. وهو ما يجعل نهضتنا نهضة معطوبة، إذ لا يمكن من وجهة نظرنا فهم الآخر ما لم نفهم ذواتنا بتحديد ما لها وما عليها. ومن دون بذل هذا الجهد المنتظر يبقى تعاملنا مع التراث تعاملًا تحكمه الأحكام المسبقة والجاهزة التي لا تسمن ولا تغني من جوع .