أكْل العِيش في السينما المصرية
خرج أهل حارة "العيش والملح" - في فيلم يحمل الاسم نفسه للمخرج حسن فوزي عام 1949 - وهم يغنون "اللي يخون العيش والملح يا ويله من ربه"، في طريقهم لإنقاذ ابن الحارة صابر الحناوي )سعد عبدالوهاب) ، وبثينة )نعيمة عاكف)، في صراع بين الحاجة والمال.
كان هذا الفيلم أول ظهور وانطلاقة لكل من نعيمة وسعد في فيلم يحمل اسمه دلالات كاشفة عن مكانة الخبز أو «العيش»، كما يطلق عليه المصريون دون بقية بلاد الله، فهو «نِعْمة» لها قداسة، حتى ولو كانت الُقْمةب في الطريق، واحترامنا له مُبالغ فيه، فهو أول ما يُوضع على المائدة، وكثرته دليل على الكرم والذوق، مكروهٌ أكل وجهه دون قعره، أو مسح الأصابع به من الأدم أو قطعه بالسكين، لكن بعد غلاء «العيش» والمعيشة اضطررنا إلى أن نقطعه بالسكين إلى أربعة أجزاء.
وإن وجدنا كِسْرة منه في الطريق لا نطأها بالأقدام، بل نضعها بجوار حائط بعد تقبيلها ثلاثًا ورفعها إلى الجبهة. حُرْمة أعطت للرغيف قداسة القسم، وإن كان مخبوزًا من قمح أو شعير أو ذرة، فيكفي أن يمسك أحد بالرغيف ويقسم قائلًا: «والنعمة دي«... كي يصدقه الناس، وإنه لقسمٌ عظيم، لو كنتم تعلمون.
لقمة العيش رزق بجانب كونها قَسَمًا، ففي فيلم «لقمة العيش» للمخرج نيازي مصطفى عام 1960، اضطر فتحي )عادل خيري( إلى ارتداء ملابس النساء، كي يؤدي دور زوجة محسن )صلاح ذوالفقار( من شدة ضيق الرزق بالصديقين، للعمل في مزرعة «أبوسامية» )حسن فايق)، الذي يشترط أن يكون الموظف متزوجًا. يواجه الصديقان المتاعب والمواقف الصعبة، حين يمرض فتحي ويصاب بالقيء، فيعتقد العاملون أنه حامل، فيتحامل من أجل لقمة العيش.
يعتمدون في مصر على «العيش» ولو كان «عيش حاف» )بلا غموس) في الوجبات اليومية، فلا يخلو بيت من الدقيق، ونصيحة الجّدات ألا ينضب الدقيق من البيت، فالبيت الذي به دقيق لا يجوع صاحبه، «العيش الحاف يربّي الكتاف»، «وإن صح العيش يبقى الباقي شبرقة»، أي نزاهة وترفًا، بعكس ما كانت حال الخبز على موائد أوربا في القرون الوسطى، حيث كان الخبز جزءًا من أطباق المنضدة، يُقطع ويُوضع على المائدة كقِطع ماصّة لِما يتناثر من الأطباق، وعند الانتهاء من تناول الطعام يمكن إعطاء قطع الخبز للفقراء.
مكانة العيش
لا يختلف أصحاب الديانات على مكانة «العيش»، فهو خبز القربان لدى المسيحيين، والسيد المسيح «قدّم لحوارييه الخبز في العشاء الأخير، وعلى لسانه قال اليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من عند الله»، و«ارْمِ خبزك على سطح الماء يعد إليك ولو بعد حين»، وفي الإسلام ورد ذكره في سورة يوسف صراحة {وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}. (سورة يوسف - من الآية 36).
ويروى في الأثر: «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض».
يعتقد بعض المؤرخين أن قدماء المصريين أول من صنعوا خميرة الخبز في نحو عام 2600 ق.م، ثم أتى الإغريق فتعلموا منهم عمل الخبز، وبدورهم نقلوا تلك الصنعة إلى الرومان، وفي أواخر القرن الثاني الميلادي انتشرت طريقة صنع الخبز في كل أنحاء أوربا التي دخلها الرومان.
ولم يكتفِ الفراعنة بصناعة الخميرة ونوع واحد من الخبز، بل كانوا يصنعون خمسة عشر نوعًا منه، خبز التوابل وخبز اللبن وآخر بالملح، وأنواع أخرى عديدة وثّقتها نقوش المعابد في قرابينهم الجنائزية، والطعام الأول لهم في رحلة الحياة الأخرى، لذلك فهم أول من بنى الأفران المخروطية من الطين، وهي أفران من طابقين، في الأسفل تُشعل النيران وفي الأعلى ينضج الخبز، وتظهر مراحل إعداد الخبز على جدران مقبرة رمسيس الثالث في وادي الملوك، وفي معابد أخرى تزيّن سنابل القمح جدرانها بحرثٍ وبذرٍ وتذريةٍ وحصاد، رسومات لم تحدد بالطبع تصنيفات الخبز القائمة حتى وقتٍ قريب، فهناك خبز القمح للأغنياء، وخبز الشعير للطبقة الوسطى، والخبز الأسمر من حبوب البُرّ للفقراء.
الخبز والحُب
لم يرتبط الخبز بالرزق والقَسَم فقط، بل تجاوز ذلك إلى الحب، للمخرج سعد عرفة فيلم بعنوان «الحب قبل الخبز أحيانًا» عام 1977، فيه تبحث نورا )ميرفت أمين( عن الحب، وتتعرف على د. منير )حسين فهمي)، الذي يرفض أفكارها الغريبة عن الحياة والزواج، ينفصلان فتتّعرف نورا على الكاتب المعروف عزت )رشدي أباظة)، وتتغير حياتها، في فيلم يحمل الحب قبل الخبز كسؤال، وتليه الإجابة بـ «أحيانًا».
لصناعة الخبز أصولٌ كانت مرعية قديمًا، حين ظهرت أفران العيش، وبالتحديد في القاهرة، ثم أتبعها بعض المديريات لاحقًا، ففي المنصورة حارة تسمى حارة الخبازين، تلك الأصول كانت واجبة التنفيذ وقتها، لكنها لأهل اليوم من النوادر المضحكة، فقديمًا كانت هناك رقابة شديدة على العجّان، الذي يجب أن يحلق شعر ذراعيه، وألا يرتدي ثوبًا له أكمام، وأن يضع لثامًا على فمه وأنفه، حفاظًا على نظافة العجين. ليس العجّان فقط، بل الخباز أيضًا وصاحب الفرن.
أما الغش في وزن الرغيف أو العبث في الدقيق فإن عقوبته الصَّلب على باب الفرن، كما حدث في عهد ابن طولون. وكانت الأفران التي تستهدف العامة قليلة، فالأعيان لهم مخابزهم الخاصة، المسماة بأسمائهم، والتي تخدم فقط الحاشية وأهل البيت، مثل فرن علي بك الكسار الكائن بحارة عويس في السيّدة زينب، وانتقلت تلك الأفران الخاصة لملكية العاملين فيها بعد فترة من الزمن، وتنافست في جودة الصنعة، واشتهرت أحياء بسبب سُمعة مخابزها، كحي الخليفة وبولاق والساحل، وأشهر تلك الأفران كان مخبز جابر شحاتة بمنطقة السيدة زينب، وفرن أحمد سعيد في «باب الخلق»، وفرن أحمد شمس بشارع محمد علي، والغازولي في «باب الوزير».
العيش والعيشة
في الغالب، يتشابه توصيف الحياة بتوصيف الخبز، فالعيش والعيشة متماثلان، وللمخرج أشرف فهمي فيلم يحمل اسم «الخبز المُر» عام 1982، فالخبز المر هو توصيف للحياة الصعبة، أو دلالة على فساد الرزق والطمع والخيانة، في الفيلم تتزوج فهيمة )شويكار( من رجل كبير في السن، طمعًا في قطعة أرض يملكها، وتبدأ الخيانة باتفاقها مع عتريس )فريد شوقي( لقتله، مقابل الزواج بها، ويتم الأمر، لكن المفاجأة هي أن قطعة الأرض تملكها ابنة المقتول عزيزة )شريهان)، ليبدأ الصراع والمؤامرات للحصول على قطعة الأرض.
الخبز سيد الموائد في مصر، وله من الأساطير العجب، ففي الأفراح نضعه على السرير في ليلة الدُخلة، كي تحل البركة، وفي ليلة الجلوة نخبزه ونحلّيه بالسكر والسمن، ونطوف على البيوت لتوزيعه، حتى في النذور نضع اللحم بين شقتيه، ونعطي منه الخارجين من المسجد؛ إبراء لنذرٍ تحقق.
النعمة
في المأتم نخبزه رحمة ونورًا على روح المتوفى. وإن أردنا تعليم الصغار حكينا عنه، كما تفعل الجدّات، حين يرين الصغار يفتتون الخبز على المائدة، فيحكين لهم عن الرجل كثير الرزق، لا يدري ما يفعل بماله الذي يزداد، بعدما يتصّدق ويزكي. يعيش في رغدٍ فلا ينفد ماله. ذهب إلى شيخٍ شاكيًا من أن كثرة ماله تؤرقه، سأله النصيحة فأجابه الشيخ أن يأكل خبزًا جافًا، ففعل الرجل، لكنه لاحظ أن فتات «العيش» يسقط على الأرض كلما قضم من الرغيف، فاستحرم الرجل «النعمة»، ووضع كيسًا من قماش تحت ذقنه كي يحفظ الفتات.
وبعد فترة رجع إلى الشيخ شاكيًا مرّة أخرى أن رزقه زاد أكثر من ذي قبل، فسأله الشيخ إن كان قد عمل بنصيحته، فأخبره الرجل بأمر الكيس الحافظ لفتات الخبز، ضحك الشيخ وقال: «من حفظ النعمة زاد الله في رزقه».
الخبز حياتنا، لا نأكله وحدنا، بل طيور البيت الداجنة والماشية، نُقسم به وعليه، ونتصالح به مع مَن نحب، غنّت ليلى مراد من ألحان رؤوف ذهني «والعيش والملح وعشرتنا ما تهونش علينا محبتنا، ولا نقدر على نار فرقتنا، وها نرجع ومسيرنا لبيتنا، بيتنا وحشنا وواحشني هواه، ويمين بالله يمين بالله، والعيش والملح»، فاستحق أن يحتفل العالم به في السادس عشر من أكتوبر في كل عام ليصبح يوم الخبز العالمي.
أما في مصر فنحتفل به كل يوم، في ثلاث وجبات، نشكر الله على لقمة العيش قائلين: «اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال»، فرزقنا الذي نكّد فيه هو «أكل عيش»، وعِشرتنا الطيبة هي «العيش والملح»، وتسريح عامل من العمل هو ذنب يُثقل كاهل الفاعل بحُرمانية «قطع العيش»، أخلصنا للعيش فأصبحنا دون منازع شعبًا يحمل لقب "أكَلَة العيش" ■