أكْل العِيش في السينما المصرية

أكْل العِيش في السينما المصرية

خرج‭ ‬أهل‭ ‬حارة‭ ‬"العيش‭ ‬والملح"‭ - ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬يحمل‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭ ‬للمخرج‭ ‬حسن‭ ‬فوزي‭ ‬عام‭ ‬1949 ‭- ‬وهم‭ ‬يغنون‭ ‬"اللي‭ ‬يخون‭ ‬العيش‭ ‬والملح‭ ‬يا‭ ‬ويله‭ ‬من‭ ‬ربه"،‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬لإنقاذ‭ ‬ابن‭ ‬الحارة‭ ‬صابر‭ ‬الحناوي‭ )‬سعد‭ ‬عبدالوهاب) ‬،‭ ‬وبثينة‭ )‬نعيمة‭ ‬عاكف)‭‬،‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الحاجة‭ ‬والمال‭.‬

 

كان‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬أول‭ ‬ظهور‭ ‬وانطلاقة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬نعيمة‭ ‬وسعد‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬يحمل‭ ‬اسمه‭ ‬دلالات‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬مكانة‭ ‬الخبز‭ ‬أو‭ ‬«العيش»،‭ ‬كما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬المصريون‭ ‬دون‭ ‬بقية‭ ‬بلاد‭ ‬الله،‭ ‬فهو‭ ‬«نِعْمة»‭ ‬لها‭ ‬قداسة،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬الُقْمةب‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬واحترامنا‭ ‬له‭ ‬مُبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬فهو‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يُوضع‭ ‬على‭ ‬المائدة،‭ ‬وكثرته‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬الكرم‭ ‬والذوق،‭ ‬مكروهٌ‭ ‬أكل‭ ‬وجهه‭ ‬دون‭ ‬قعره،‭ ‬أو‭ ‬مسح‭ ‬الأصابع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأدم‭ ‬أو‭ ‬قطعه‭ ‬بالسكين،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬غلاء‭ ‬«العيش»‭ ‬والمعيشة‭ ‬اضطررنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نقطعه‭ ‬بالسكين‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أجزاء‭.‬

وإن‭ ‬وجدنا‭ ‬كِسْرة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬لا‭ ‬نطأها‭ ‬بالأقدام،‭ ‬بل‭ ‬نضعها‭ ‬بجوار‭ ‬حائط‭ ‬بعد‭ ‬تقبيلها‭ ‬ثلاثًا‭ ‬ورفعها‭ ‬إلى‭ ‬الجبهة‭. ‬حُرْمة‭ ‬أعطت‭ ‬للرغيف‭ ‬قداسة‭ ‬القسم،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مخبوزًا‭ ‬من‭ ‬قمح‭ ‬أو‭ ‬شعير‭ ‬أو‭ ‬ذرة،‭ ‬فيكفي‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬أحد‭ ‬بالرغيف‭ ‬ويقسم‭ ‬قائلًا‭: ‬«والنعمة‭ ‬دي‭«...‬‭ ‬كي‭ ‬يصدقه‭ ‬الناس،‭ ‬وإنه‭ ‬لقسمٌ‭ ‬عظيم،‭ ‬لو‭ ‬كنتم‭ ‬تعلمون‭.‬

لقمة‭ ‬العيش‭ ‬رزق‭ ‬بجانب‭ ‬كونها‭ ‬قَسَمًا،‭ ‬ففي‭ ‬فيلم‭ ‬«لقمة‭ ‬العيش»‭ ‬للمخرج‭ ‬نيازي‭ ‬مصطفى‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬اضطر‭ ‬فتحي‭ )‬عادل‭ ‬خيري‭( ‬إلى‭ ‬ارتداء‭ ‬ملابس‭ ‬النساء،‭ ‬كي‭ ‬يؤدي‭ ‬دور‭ ‬زوجة‭ ‬محسن‭ )‬صلاح‭ ‬ذوالفقار‭( ‬من‭ ‬شدة‭ ‬ضيق‭ ‬الرزق‭ ‬بالصديقين،‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬«أبوسامية»‭ )‬حسن‭ ‬فايق)‭‬،‭ ‬الذي‭ ‬يشترط‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الموظف‭ ‬متزوجًا‭. ‬يواجه‭ ‬الصديقان‭ ‬المتاعب‭ ‬والمواقف‭ ‬الصعبة،‭ ‬حين‭ ‬يمرض‭ ‬فتحي‭ ‬ويصاب‭ ‬بالقيء،‭ ‬فيعتقد‭ ‬العاملون‭ ‬أنه‭ ‬حامل،‭ ‬فيتحامل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭.‬

يعتمدون‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬«العيش»‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬«عيش‭ ‬حاف»‭ )‬بلا‭ ‬غموس) ‬في‭ ‬الوجبات‭ ‬اليومية،‭ ‬فلا‭ ‬يخلو‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الدقيق،‭ ‬ونصيحة‭ ‬الجّدات‭ ‬ألا‭ ‬ينضب‭ ‬الدقيق‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬فالبيت‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬دقيق‭ ‬لا‭ ‬يجوع‭ ‬صاحبه،‭ ‬«العيش‭ ‬الحاف‭ ‬يربّي‭ ‬الكتاف»،‭ ‬«وإن‭ ‬صح‭ ‬العيش‭ ‬يبقى‭ ‬الباقي‭ ‬شبرقة»،‭ ‬أي‭ ‬نزاهة‭ ‬وترفًا،‭ ‬بعكس‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬حال‭ ‬الخبز‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الخبز‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬أطباق‭ ‬المنضدة،‭ ‬يُقطع‭ ‬ويُوضع‭ ‬على‭ ‬المائدة‭ ‬كقِطع‭ ‬ماصّة‭ ‬لِما‭ ‬يتناثر‭ ‬من‭ ‬الأطباق،‭ ‬وعند‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬يمكن‭ ‬إعطاء‭ ‬قطع‭ ‬الخبز‭ ‬للفقراء‭.‬

 

مكانة‭ ‬العيش

لا‭ ‬يختلف‭ ‬أصحاب‭ ‬الديانات‭ ‬على‭ ‬مكانة‭ ‬«العيش»،‭ ‬فهو‭ ‬خبز‭ ‬القربان‭ ‬لدى‭ ‬المسيحيين،‭ ‬والسيد‭ ‬المسيح‭ ‬‭ ‬«قدّم‭ ‬لحوارييه‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬العشاء‭ ‬الأخير،‭ ‬وعلى‭ ‬لسانه‭ ‬‭ ‬قال‭ ‬اليس‭ ‬بالخبز‭ ‬وحده‭ ‬يحيا‭ ‬الإنسان،‭ ‬بل‭ ‬بكل‭ ‬كلمة‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الله»،‭ ‬و«ارْمِ‭ ‬خبزك‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الماء‭ ‬يعد‭ ‬إليك‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬حين»،‭ ‬وفي‭ ‬الإسلام‭ ‬ورد‭ ‬ذكره‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬صراحة‭ {‬وَقَالَ‭ ‬الْآَخَرُ‭ ‬إِنِّي‭ ‬أَرَانِي‭ ‬أَحْمِلُ‭ ‬فَوْقَ‭ ‬رَأْسِي‭ ‬خُبْزًا‭ ‬تَأْكُلُ‭ ‬الطَّيْرُ‭ ‬مِنْهُ‭}. ‬‭(‬سورة‭ ‬يوسف‭ - ‬من‭ ‬الآية‭ ‬36‭).‬

‭ ‬ويروى‭ ‬في‭ ‬الأثر‭: ‬«أكرموا‭ ‬الخبز،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬أنزله‭ ‬من‭ ‬بركات‭ ‬السماء،‭ ‬وأخرجه‭ ‬من‭ ‬بركات‭ ‬الأرض»‭. ‬

يعتقد‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬أن‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬صنعوا‭ ‬خميرة‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬عام‭ ‬2600‭ ‬ق‭.‬م،‭ ‬ثم‭ ‬أتى‭ ‬الإغريق‭ ‬فتعلموا‭ ‬منهم‭ ‬عمل‭ ‬الخبز،‭ ‬وبدورهم‭ ‬نقلوا‭ ‬تلك‭ ‬الصنعة‭ ‬إلى‭ ‬الرومان،‭ ‬وفي‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الميلادي‭ ‬انتشرت‭ ‬طريقة‭ ‬صنع‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬أوربا‭ ‬التي‭ ‬دخلها‭ ‬الرومان‭.‬

ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬الفراعنة‭ ‬بصناعة‭ ‬الخميرة‭ ‬ونوع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الخبز،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬يصنعون‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬نوعًا‭ ‬منه،‭ ‬خبز‭ ‬التوابل‭ ‬وخبز‭ ‬اللبن‭ ‬وآخر‭ ‬بالملح،‭ ‬وأنواع‭ ‬أخرى‭ ‬عديدة‭ ‬وثّقتها‭ ‬نقوش‭ ‬المعابد‭ ‬في‭ ‬قرابينهم‭ ‬الجنائزية،‭ ‬والطعام‭ ‬الأول‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى،‭ ‬لذلك‭ ‬فهم‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬بنى‭ ‬الأفران‭ ‬المخروطية‭ ‬من‭ ‬الطين،‭ ‬وهي‭ ‬أفران‭ ‬من‭ ‬طابقين،‭ ‬في‭ ‬الأسفل‭ ‬تُشعل‭ ‬النيران‭ ‬وفي‭ ‬الأعلى‭ ‬ينضج‭ ‬الخبز،‭ ‬وتظهر‭ ‬مراحل‭ ‬إعداد‭ ‬الخبز‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬مقبرة‭ ‬رمسيس‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬الملوك،‭ ‬وفي‭ ‬معابد‭ ‬أخرى‭ ‬تزيّن‭ ‬سنابل‭ ‬القمح‭ ‬جدرانها‭ ‬بحرثٍ‭ ‬وبذرٍ‭ ‬وتذريةٍ‭ ‬وحصاد،‭ ‬رسومات‭ ‬لم‭ ‬تحدد‭ ‬بالطبع‭ ‬تصنيفات‭ ‬الخبز‭ ‬القائمة‭ ‬حتى‭ ‬وقتٍ‭ ‬قريب،‭ ‬فهناك‭ ‬خبز‭ ‬القمح‭ ‬للأغنياء،‭ ‬وخبز‭ ‬الشعير‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬والخبز‭ ‬الأسمر‭ ‬من‭ ‬حبوب‭ ‬البُرّ‭ ‬للفقراء‭.‬

 

الخبز‭ ‬والحُب

لم‭ ‬يرتبط‭ ‬الخبز‭ ‬بالرزق‭ ‬والقَسَم‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الحب،‭ ‬للمخرج‭ ‬سعد‭ ‬عرفة‭ ‬فيلم‭ ‬بعنوان‭ ‬«الحب‭ ‬قبل‭ ‬الخبز‭ ‬أحيانًا»‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬فيه‭ ‬تبحث‭ ‬نورا‭ )‬ميرفت‭ ‬أمين‭( ‬عن‭ ‬الحب،‭ ‬وتتعرف‭ ‬على‭ ‬د‭. ‬منير‭ )‬حسين‭ ‬فهمي)‭‬،‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬أفكارها‭ ‬الغريبة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬والزواج،‭ ‬ينفصلان‭ ‬فتتّعرف‭ ‬نورا‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬المعروف‭ ‬عزت‭ )‬رشدي‭ ‬أباظة)‭‬،‭ ‬وتتغير‭ ‬حياتها،‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬يحمل‭ ‬الحب‭ ‬قبل‭ ‬الخبز‭ ‬كسؤال،‭ ‬وتليه‭ ‬الإجابة‭ ‬بـ‭ ‬«أحيانًا»‭.‬

لصناعة‭ ‬الخبز‭ ‬أصولٌ‭ ‬كانت‭ ‬مرعية‭ ‬قديمًا،‭ ‬حين‭ ‬ظهرت‭ ‬أفران‭ ‬العيش،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬ثم‭ ‬أتبعها‭ ‬بعض‭ ‬المديريات‭ ‬لاحقًا،‭ ‬ففي‭ ‬المنصورة‭ ‬حارة‭ ‬تسمى‭ ‬حارة‭ ‬الخبازين،‭ ‬تلك‭ ‬الأصول‭ ‬كانت‭ ‬واجبة‭ ‬التنفيذ‭ ‬وقتها،‭ ‬لكنها‭ ‬لأهل‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬النوادر‭ ‬المضحكة،‭ ‬فقديمًا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬رقابة‭ ‬شديدة‭ ‬على‭ ‬العجّان،‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحلق‭ ‬شعر‭ ‬ذراعيه،‭ ‬وألا‭ ‬يرتدي‭ ‬ثوبًا‭ ‬له‭ ‬أكمام،‭ ‬وأن‭ ‬يضع‭ ‬لثامًا‭ ‬على‭ ‬فمه‭ ‬وأنفه،‭ ‬حفاظًا‭ ‬على‭ ‬نظافة‭ ‬العجين‭. ‬ليس‭ ‬العجّان‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬الخباز‭ ‬أيضًا‭ ‬وصاحب‭ ‬الفرن‭.‬

أما‭ ‬الغش‭ ‬في‭ ‬وزن‭ ‬الرغيف‭ ‬أو‭ ‬العبث‭ ‬في‭ ‬الدقيق‭ ‬فإن‭ ‬عقوبته‭ ‬الصَّلب‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الفرن،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ابن‭ ‬طولون‭. ‬وكانت‭ ‬الأفران‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬العامة‭ ‬قليلة،‭ ‬فالأعيان‭ ‬لهم‭ ‬مخابزهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬المسماة‭ ‬بأسمائهم،‭ ‬والتي‭ ‬تخدم‭ ‬فقط‭ ‬الحاشية‭ ‬وأهل‭ ‬البيت،‭ ‬مثل‭ ‬فرن‭ ‬علي‭ ‬بك‭ ‬الكسار‭ ‬الكائن‭ ‬بحارة‭ ‬عويس‭ ‬في‭ ‬السيّدة‭ ‬زينب،‭ ‬وانتقلت‭ ‬تلك‭ ‬الأفران‭ ‬الخاصة‭ ‬لملكية‭ ‬العاملين‭ ‬فيها‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وتنافست‭ ‬في‭ ‬جودة‭ ‬الصنعة،‭ ‬واشتهرت‭ ‬أحياء‭ ‬بسبب‭ ‬سُمعة‭ ‬مخابزها،‭ ‬كحي‭ ‬الخليفة‭ ‬وبولاق‭ ‬والساحل،‭ ‬وأشهر‭ ‬تلك‭ ‬الأفران‭ ‬كان‭ ‬مخبز‭ ‬جابر‭ ‬شحاتة‭ ‬بمنطقة‭ ‬السيدة‭ ‬زينب،‭ ‬وفرن‭ ‬أحمد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬«باب‭ ‬الخلق»،‭ ‬وفرن‭ ‬أحمد‭ ‬شمس‭ ‬بشارع‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬والغازولي‭ ‬في‭ ‬«باب‭ ‬الوزير»‭.‬

 

العيش‭ ‬والعيشة

في‭ ‬الغالب،‭ ‬يتشابه‭ ‬توصيف‭ ‬الحياة‭ ‬بتوصيف‭ ‬الخبز،‭ ‬فالعيش‭ ‬والعيشة‭ ‬متماثلان،‭ ‬وللمخرج‭ ‬أشرف‭ ‬فهمي‭ ‬فيلم‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬«الخبز‭ ‬المُر»‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬فالخبز‭ ‬المر‭ ‬هو‭ ‬توصيف‭ ‬للحياة‭ ‬الصعبة،‭ ‬أو‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬فساد‭ ‬الرزق‭ ‬والطمع‭ ‬والخيانة،‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬تتزوج‭ ‬فهيمة‭ )‬شويكار‭( ‬من‭ ‬رجل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬يملكها،‭ ‬وتبدأ‭ ‬الخيانة‭ ‬باتفاقها‭ ‬مع‭ ‬عتريس‭ )‬فريد‭ ‬شوقي‭( ‬لقتله،‭ ‬مقابل‭ ‬الزواج‭ ‬بها،‭ ‬ويتم‭ ‬الأمر،‭ ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬قطعة‭ ‬الأرض‭ ‬تملكها‭ ‬ابنة‭ ‬المقتول‭ ‬عزيزة‭ )‬شريهان)‭‬،‭ ‬ليبدأ‭ ‬الصراع‭ ‬والمؤامرات‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬قطعة‭ ‬الأرض‭.‬

الخبز‭ ‬سيد‭ ‬الموائد‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وله‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬العجب،‭ ‬ففي‭ ‬الأفراح‭ ‬نضعه‭ ‬على‭ ‬السرير‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬الدُخلة،‭ ‬كي‭ ‬تحل‭ ‬البركة،‭ ‬وفي‭ ‬ليلة‭ ‬الجلوة‭ ‬نخبزه‭ ‬ونحلّيه‭ ‬بالسكر‭ ‬والسمن،‭ ‬ونطوف‭ ‬على‭ ‬البيوت‭ ‬لتوزيعه،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬النذور‭ ‬نضع‭ ‬اللحم‭ ‬بين‭ ‬شقتيه،‭ ‬ونعطي‭ ‬منه‭ ‬الخارجين‭ ‬من‭ ‬المسجد؛‭ ‬إبراء‭ ‬لنذرٍ‭ ‬تحقق‭.‬

 

النعمة

في‭ ‬المأتم‭ ‬نخبزه‭ ‬رحمة‭ ‬ونورًا‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬المتوفى‭. ‬وإن‭ ‬أردنا‭ ‬تعليم‭ ‬الصغار‭ ‬حكينا‭ ‬عنه،‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬الجدّات،‭ ‬حين‭ ‬يرين‭ ‬الصغار‭ ‬يفتتون‭ ‬الخبز‭ ‬على‭ ‬المائدة،‭ ‬فيحكين‭ ‬لهم‭ ‬عن‭ ‬الرجل‭ ‬كثير‭ ‬الرزق،‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬ما‭ ‬يفعل‭ ‬بماله‭ ‬الذي‭ ‬يزداد،‭ ‬بعدما‭ ‬يتصّدق‭ ‬ويزكي‭. ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬رغدٍ‭ ‬فلا‭ ‬ينفد‭ ‬ماله‭. ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬شيخٍ‭ ‬شاكيًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كثرة‭ ‬ماله‭ ‬تؤرقه،‭ ‬سأله‭ ‬النصيحة‭ ‬فأجابه‭ ‬الشيخ‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬خبزًا‭ ‬جافًا،‭ ‬ففعل‭ ‬الرجل،‭ ‬لكنه‭ ‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬فتات‭ ‬«العيش»‭ ‬يسقط‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬كلما‭ ‬قضم‭ ‬من‭ ‬الرغيف،‭ ‬فاستحرم‭ ‬الرجل‭ ‬«النعمة»،‭ ‬ووضع‭ ‬كيسًا‭ ‬من‭ ‬قماش‭ ‬تحت‭ ‬ذقنه‭ ‬كي‭ ‬يحفظ‭ ‬الفتات‭.‬

وبعد‭ ‬فترة‭ ‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬الشيخ‭ ‬شاكيًا‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬رزقه‭ ‬زاد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬فسأله‭ ‬الشيخ‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عمل‭ ‬بنصيحته،‭ ‬فأخبره‭ ‬الرجل‭ ‬بأمر‭ ‬الكيس‭ ‬الحافظ‭ ‬لفتات‭ ‬الخبز،‭ ‬ضحك‭ ‬الشيخ‭ ‬وقال‭: ‬«من‭ ‬حفظ‭ ‬النعمة‭ ‬زاد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬رزقه»‭.‬

الخبز‭ ‬حياتنا،‭ ‬لا‭ ‬نأكله‭ ‬وحدنا،‭ ‬بل‭ ‬طيور‭ ‬البيت‭ ‬الداجنة‭ ‬والماشية،‭ ‬نُقسم‭ ‬به‭ ‬وعليه،‭ ‬ونتصالح‭ ‬به‭ ‬مع‭ ‬مَن‭ ‬نحب،‭ ‬غنّت‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬رؤوف‭ ‬ذهني‭ ‬«والعيش‭ ‬والملح‭ ‬وعشرتنا‭ ‬ما‭ ‬تهونش‭ ‬علينا‭ ‬محبتنا،‭ ‬ولا‭ ‬نقدر‭ ‬على‭ ‬نار‭ ‬فرقتنا،‭ ‬وها‭ ‬نرجع‭ ‬ومسيرنا‭ ‬لبيتنا،‭ ‬بيتنا‭ ‬وحشنا‭ ‬وواحشني‭ ‬هواه،‭ ‬ويمين‭ ‬بالله‭ ‬يمين‭ ‬بالله،‭ ‬والعيش‭ ‬والملح»،‭ ‬فاستحق‭ ‬أن‭ ‬يحتفل‭ ‬العالم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ليصبح‭ ‬يوم‭ ‬الخبز‭ ‬العالمي‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فنحتفل‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬وجبات،‭ ‬نشكر‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬قائلين‭: ‬«اللهم‭ ‬أدمها‭ ‬نعمة‭ ‬واحفظها‭ ‬من‭ ‬الزوال»،‭ ‬فرزقنا‭ ‬الذي‭ ‬نكّد‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬«أكل‭ ‬عيش»،‭ ‬وعِشرتنا‭ ‬الطيبة‭ ‬هي‭ ‬«العيش‭ ‬والملح»،‭ ‬وتسريح‭ ‬عامل‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬هو‭ ‬ذنب‭ ‬يُثقل‭ ‬كاهل‭ ‬الفاعل‭ ‬بحُرمانية‭ ‬«قطع‭ ‬العيش»،‭ ‬أخلصنا‭ ‬للعيش‭ ‬فأصبحنا‭ ‬دون‭ ‬منازع‭ ‬شعبًا‭ ‬يحمل‭ ‬لقب‭ ‬"أكَلَة‭ ‬العيش"‭ ■‬