الزيـــر ثلاجة الفقراء المنعشة ومنقذ عابري السبيل

الزيـــر ثلاجة الفقراء المنعشة ومنقذ عابري السبيل

ملك بسيط يحب الحياة، أصيل، شجاع، شديد القلب، معتز بنفسه في كبرياء. طيب. لطيف العشرة والروح. قلبه محبوب ورائق يروي العالم في سلام نفسي لا حدود له، ثري وذو جاه وغنى فاحش، غطاؤه: درعه الواقي والحامي. 

إنه بحيرة الفقراء المثلجة، وساقي عابري السبيل المنعش، والمنقذ الذي لا يتأخر عن أحد وقت الأزمات واشتداد الحرارة، وأحد أصدقاء البيئة العظام.
يعشق الجلوس وسط الميادين وعلى نواصي الحارات وفي قلوب الطرقات، أحيانًا يبدو مهمومًا كسلطان فقد عرشه أمام المدنية والتقدم، أو حبيب منتظر رسالة من حبيبته التي ستمر عليه ذات يوم، ينتظر في صبر، لا يتحرك، ولا يفارق مكانه، مهما حدث، حتى ولو فرغ بدنه من الماء، أو لم يعد أحد يهتم به أو بتنظيفه وملئه بالماء، لذا فإن من أصعب المشاهد رؤيته مكسورًا محطمًا وهو دليل على العبث أو الخراب أو الإهمال.
ولا أعرف  معنى  مسمى الزير، فالزَيرُ في المعجم هو: الحُبُّ يوضع فيه الماء، وجَرَّة كبيرة واسعة الفم يُوضع فيها الماء، ومصدره زارَ، وجمعه: أَزوَارٌ ، وأُزْيارٌ، وزِيَرَة، ويقصد به العادة أيضًا، لذا فأنا أظن أنها جاءت من العادة أو كثرة الزيارة له وكثرة الزائرين عليه.
 لكن التعبير الشهير جاء للزِّيرُ من الشخص الذي يُكْثِرُ زيارة النساءِ ويُحبُّ مُجَالَسَتَهُنّ ومُحَادثتَهُنَّ، وهو ما ارتبط بالشاعر «عدي بن ربيعة بن الحارث»، أو «أبو ليلي» والمكني بـ «المهلهل بن ربيعة»، وعرف بالزير سالم في صباه بسبب اللهو والتشبيب بالنساء، فسمي (زير النساء) أي جليسهن. وهو من قبيلة عنزة من تغلب بالجزيرة العربية، وأحد أبطال العرب في الجاهلية،  (توفي 90 ق.هـ/534 م). وكان قد تحول من زير نساء إلى بطل ليثأر لأخيه «وائل بن ربيعة» المعروف بلقب كليب، من «جساس بن مرة»، والذي قتله، فقامت وقائع «بكر وتغلب» المعروفة تاريخيا بـ «حرب البسوس»، والتي دامت أربعين سنة.

مروض للحرارة
ويوجد الكثير من الناس تضع الزير في مجموعة ويطلق عليها المزيرة. ولكن هذا الاسم خطأ شائع حيث إن المزيرة هي بناء أو زير كبير الحجم يوضع في مداخل البيوت وصحنها، وله فتحتان  إحداهما سفلية والأخرى علوية. حيث يوضع الزير نفسه بداخلها من أعلاه بسعة الفوهة. ويتم وضع غطاء له من الخشب عليه «كوز» للشرب.
وكان في الماضي يحب الناس وضع نواة مشمش داخل الزير لإيمانهم بأهميتها في تنقية المياه.
وللزير قدرة عظيمة على ترويض الحرارة، لذا فإن كثيرا من الناس كانت تغلف جسده الفخاري بالخيش كي يحتفظ بالماء مثلجًا لأطول فترة ممكنة في الهواء الطلق، ومن العوامل التي تساعد في تبريد الماء بداخله، قلة الرطوبة وجفاف الجو وسرعة الرياح، لذا يفضل الناس وضع الآنية الفخارية مثل الزير أو القلة في الهواء الطلق، كما أن كثيرا من الناس تفضل الشرب من الزير، ويقولون في هذا «اشرب من نقع الزير ولا تشرب من البير». 
والزير أحد أسس البيت قديمًا، وكان من ضمن جهاز العروس، وكلما كان ممتلئا دل على عمار البيت، ونظافته تدل على نظافة امرأة البيت، لمتابعتها له دائمًا، فلا تغفل إذا قارب على النفاد أو اتسخ ماؤه.
وبرغم أنه بعين واحدة كبيرة نسبيًا، فإنه مثله مثل فرسان الصحراء، يحب أن يصاحبه غطاؤه حتى لا يسقط فيه أي شيء يلوث الماء بداخله، أو يسقط فيه براز الطيور والحشرات، بدنه قلب كبير لا يكف عن العطاء، ومن هنا اتخذه  كثير من الناس «كرحمة» وصدقة جارية على المتوفي، يرتوي منه العابرون دون تحديد.  وفي الريف، نراه في الطرقات الزراعية، وقد وضع أسفل شجرة مع مجموعة، حيث نراه مغروزًا في دكة خشبية أو إسمنتية لحمايته، وتتم تغطيته بخيش رطب، وهو قادر على تنقية الماء من الشوائب، وتبريد الماء بدرجة مميزة تجعلك لا تنسى طعم الماء حينها. 

أصل  فرعوني
وقديمًا كان يوضع أسفله طبق صغير نحاسي أو بلاستيك للماء المرشح منه، حيث يصبح هذا الماء هو الذي يروي طيور وحيوانات البيت، خاصة في الريف، وكانت تلك النقاط التي تسقط، نتابعها أو تترك أثرًا في نفوسنا ونحن نيام، فتصير تلك النقاط وصوت سقوطها هي خطوات العفريت وهو قادم إذا كانت الأم تريد أن تخيف صغارها فيندسون في حضنها وينامون، أو أن نقيس قدرتنا على كتم أنفاسنا حتى سقوط القطرة التالية. 
وقد ارتبط الزير وغطاؤه بالكثير من الأمثال الشعبية، كالزوج والزوجة، أو رفض ضيف ثقيل، حيث حينها نقول: «قاعد زي الزير»، أو بكسره في الفراق فيقال «اكسر وراه زير».
وهذه العبارات لها أصل فرعوني، حيث كان الفراعنة يكسرون قلة أو زيرا بعد دفن موتاهم حتى يمنعوا القرين من العودة، فتوارث المصريون القول بهذه العبارة، ويُقال أيضًا إنها مأخوذة من طقوس البيع والشراء، حيث اعتاد الفلاحون كسر الأواني الفخارية خلف المواشي التي يتم عرضها في السوق عدة مرات دون أن ينجح صاحبها في بيعها.
والزير من أقدم الاختراعات التي اخترعها المصري القديم، وهو آنية من الفخار، تصنع من الطين على عجلة دوارة يقومون بتثبتها في حفرة داخل الأرض، حيث يتم تشكيله، ثم بعد ذلك يتم حرقه بالنار. وارتفاعه ما بين 50 إلى100سم وقطره ما بين 30 إلى80 سم .
وقد ارتبط الفخار وحرقه بالكثير من الخرافات، حيث يعتقد أن كسر الفخار يُذهب «النحس», ويعتقد الكثير أن الأشياء المصنوعة من الفخار تُعد أحد مستلزمات «السحر»، فيقوم الساحر بتدوين ما يريده على الفخار قبل حرقه ليوقع الضرر بمن يريد، وهذا الطقس قديم، حيث كان السحرة يكتبون تعويذاتهم على قطع من الطين ثم يحرقونها ويرمونها في النهر. وهذا المعتقد مستمر حتى الآن عند صانعي الفخار، فلا يبيعون أي قطعة من الفخار قبل حرقها، حتى لا تستخدم في السحر والإضرار بالغير.
والزير موجود في جميع الحضارات حتى الآن، نجده في كثير من الدول منتشرًا وبأشكال   وصور مختلفة. فمثلاً نجده في إفريقيا، وفي الهند تحت مسميات «غارا» أو «ماتكا» أو «سور اهي»، كما نراه في إسبانيا تحت مسمى «إناء بوتيجو».

مضرب للأمثال
ولارتباط الزير بالحياة الاجتماعية، خاصة أنه موجود داخل البيوت، فقد التفت حوله بعض الأمثال  الشعبية مثل «آدي الزير وآدي غطاه» وهو يضرب لإثبات حقيقة معينة، كما يقال: «طلب الغني شقفة.. كسر الفقير زيره»، ويقصد به أن الغني إذا ما طلب ولو أي شيء بسيط تسابق الفقير لإرضائه بأي سبيل، والشقفة هي القطعة المكسورة من الوعاء الفخاري، ويقال أيضًا «الفقي يقيس المية في الزير» والمقصود به أن الفقيه لشدة الدقة يكاد أن يقيس حجم كمية الماء في الزير، ويقال «نواية تسند الزير» أي أن نواة البلح التي يظن الناس منها الضآلة والضعة لا يستغنى عنها فتكاد أن تفيد، وفي ليبيا يقولون «الزير المليان... ما يرنش» أي أن الزير الممتلئ بالماء ثابت لا يردد أي لغو ولا يصدر ضجيجًا وثرثرة دون جدوى.
ولا يضاهي الزير أي وعاء لحفظ الماء وتخزينه وتبريده طبيعيا في فصل الصيف... مع تنقية الماء من الشوائب, فالفخار يعمل كفلتر طبيعي... لذا يطلق عليه ثلاجة الفقراء وخاصة مع اشتداد حرارة الجو في فصل الصيف.
والآن تراجع الزير في مصر والعديد من الدول العربية مع زحف الحداثة وظهور الثلاجات الكهربائية الحديثة، إلا أنه يظل واقفًا في الشوارع والنواصي يروي العطشى وعابري السبيل في كرم واحتفاء لن تجده في ثلاجات العصر الحديث. ولن تستطيع العولمة هدمه .