«الثقافتان»... في الخصام التاريخي بين العلوم والآداب

«الثقافتان»... في الخصام التاريخي  بين العلوم والآداب

أثناء مطالعتي للترجمة العربية لكتاب «الثقافات الثلاث:  العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية في القرن الحادي والعشرين» لعالم النفس الأمريكي جيروم كيغان (Jerome Kagan)، أثارت اهتمامي مسألة ضرورة التأصيل المعرفي (الإبستمولوجي) لتاريخ انفصال أنماط المعرفة والثقافة الإنسانية الأساس عن بعضها البعض وبداية تشكل الحدود والحواجز الفاصلة والممايزة بينها: الإنسانيات (حقل الآداب والفنون والعلوم الإنسانية)، والطبيعيات (حقل العلوم الطبيعية والصورية). 

على الرغم من كون جذور هذه «المعضلة» تعود إلى تحولات القرن الثامن عشر التي أجبرت الإنسانيات على الاستقلال عن أم العلوم (الفلسفة)، وجعلتها تتخبط لعقود في أسئلة الموضوع والمنهج، في حين دفعت الطبيعيات نحو تبوؤ مكانة مركزية في سلم المعرفة الإنسانية بالشكل الذي جعلها «أنموذجا لباقي التخصصات» (خاصة الرياضيات)، فإن كيغان نفسه يعتبر أن أبرز مفكر نبه المجتمعات العلمية إلى هذه القضية الحيوية هو العالم والروائي الإنجليزي تشارلس بيرسي سنو (Charles Percy Snow) في محاضرته الشهيرة «الثقافتان». 
بعد مرور أزيد من نصف قرن على إلقاء سنو لمحاضرته في جامعة كامبردج (1959)، ورغم التغيرات التي عايشتها المشاريع العلمية للطبيعيات (تطور التقنيات البحثية، الموضوعات والثيمات المعالجة، تعظم ظاهرة التخصص...) بالموازاة مع تهميش الإنسانيات بفعل ثقة المانحين كما العموم في نتائج العلوم الدقيقة، لازالت فكرة «الثقافتان» مفتاحًا مركزيًا لفهم تحولات موازين القوى الفكرية والعلمية العالمية في وقتنا الراهن؛ خاصة مع تنامي دعم وقبول البحوث الاجتماعية - مع تحولات مرحلة ما بعد الحداثة - في مستويات قياسية لم تشهدها الإنسانيات في تاريخها الطويل، والتفكـــير في تنمية الاهتمام العربي بالفنون والآداب والعلوم الإنسانية طرديا مع الانفتاح على العلوم والتقنيات الحديثة.
تُقدم لنا الباحثة العراقية المقتدرة لطفية الدليمي ترجمة دقيقة لعمل مرجعي مهم وأساس في تاريخ التعاطي الفلسفي والفكري مع إشكالية الحوار المعرفي بين العلوم، الفنون، الآداب والعلوم الإنسانية خلال القرن الماضي، وتواصل بذلك إغناء المجال التداولي العربي بترجمات نحن في أمس الحاجة إلى مطالعتها وتشرب أفكارها من أجل مواكبة الركب الثقافي العالمي والمساهمة في تطويره والتأثير في مساره قدر المستطاع. لذلك، وجب التذكير من هذا المنبر بأن الدكتورة الدليمي تقود مشروعًا فرديًا رصينًا لترجمة أمهات النصوص، والمؤلفات الأدبية، الثقافية والعلمية (الأنجلوساسكونية بالأساس) منذ عقود طويلة، توج بإصدارها لعشرات المؤلفات والترجمات المرجعية، يستحق كل الدعم والمساندة لما فيه خير تثمين وإغناء لغتنا وثقافتنا العربية وخدمة حلم إحياء «بيت الحكمة» العــــربي فــي أفق عالمي وثقافي جديد.

توجيه سهام النقد
ينطلق تشارلس بيرسي سنو من خبرته وتجربته الطويلة، كفيزيائي وكاتب وروائي، من أجل الكشف عن وجود فئتين من «رجالات المعرفة» (المثقفين) «توقفتا كليا - إلا فيما ندر - عن إدامة روابط الحوار والتفاهم، وبلغت القطيعة بينهما مبلغا غدا فيه عبور محيط من المحيطات أمرًا أيسر بكثير (من الانتقال بين مجالات اشتغال هاتين الفئتين) (ص: 23)»؛ أي أن العلاقة بين المشتغلين في مجال العلوم (الطبيعيات) ومجال الإنسانيات (فضلت المترجمة التركيز على «مصطلح الأدب» أكثر من العلوم الإنسانية) ما فتئت تتعارض وتتنافر مصالحهم وتفاعلاتهم خلال القرنين الأخيرين عوض تجديد الحوار المنهجي والمعرفي بين مجالات معرفية جاءت لتيسير وتحسين الحياة الإنسانية في شموليتها وتكاملها. يرجع سبب هذه القطيعة إلى سعي المشتغلين بالآداب والإنسانيات نحو لعب دور «المثقف» المدافع عن شؤون المعرفة وقضايا الإنسان وانحصار رؤية المشتغلين في العلوم في البحث عن حلول عملية لمشاكل البشرية؛ كل ذلك في ظل انتشار نظرة «الاستصغار» أو «الاستكبار» بين الجماعات العلمية للثقافتين.
يعترف تشارلس بيرسي سنو بأن هدفه الأساس من وراء دراسة الثقافتين هو توجيه سهام النقد لسوء الفهم الذي يعتري العلاقة بين الحقل العلمي والحقل الأدبي والبحث عن الحلول التي تضمن احترام منطق التخصص ولا تنفي إمكانات الحوار والتكامل المعرفي. بحكم اقتران العلوم بالمنطق التجريبي والعملي، نصادف ميلاً سياسيًا واجتماعيًا متزايدًا نحو «تقديس» نتائج البحوث العلمية والاعتماد عليها في تحسين الأوضاع الاقتصادية والصناعية للمجتمعات وتوجيه سهام النقد السلبي نحو الآداب التي لا تستطيع إيجاد حلول عملية ونهائية للمشكلات والقضايا الاجتماعية، الفنية والإنسانية التي تدرسها. نتج عن هذا الأمر أن أصبحت «الآداب تتغير بطريقة أبطأ بكثير مما يفعل العلم، لأن الأدب لا يمتلك آلية التصحيح ذاتها التي يمتلكها العلم» (ص: 32)؛ أي أن منطق تقادم المعرفة يدفع العلوم نحو تطوير مناهجها، تقنياتها ومفاعليها، في حين تنحسر جهود المتخصصين في الآداب والإنسانيات في تطوير الممارسة التخصصية قبل البحث عن النتائج العملية أو حتى النظرية (لعقود وعقود).  
في حديثه عن «التفاؤل الحقيقي الذي لطالما وصف به العلماء، وهو التفاؤل الذي نحتاج إليه جميعًا لأقصى حدود الاحتياج الممكنة» (ص: 30)، ودفاعه الصريح عن نجاعة المعرفة أو الثقافة العلمية في البحث عن حلول عملية لواقع وحياة الإنسانية المتطورة باستمرار، نلمس هيمنة النظرة الفيزيائية الممركزة للذات العلمية في قمة القطبين الثقافيين، «بالمعنى الأنثروبولوجي لمفردة الثقافة» (ص: 33) لدى سنو. 
تسمح اللغة العلمية بتحقيق تواصل اجتماعي عملي بين العلماء ولا تفرض على المتخصصين الرهان على ضرورة الفهم العميق للسجالات الدائرة في مجالات معرفية مجاورة (على سبيل المثال، ليس ضروريا على علماء البيولوجيا الجزيئية الإلمام بتطورات الفيزياء الكوانتية في جزئياتها الدقيقة)، عكس الإنسانيات والآداب، حيث نجد أن «المعرفة الموسوعية» والشاملة من صفات المثقف؛ مع كل ما يخلقه الأمر من تعارضات وسوء فهم، خطر حينما تتغلغل الأيديولوجيات في عمق النقاشات والسجالات الأدبية. أكثر من ذلك، يلاحظ سنو التوافق الكبير بين العلم والتدين بفعل التزام العلماء بالتعاليم الدينية (خاصة الشباب) أكثر من المشتغلين بالفنون والإنسانيات؛ نجد في سياقنا العربي أن كثيرًا من علماء الدين قادمون من الطبيعيات.

الضبابية وغياب اليقين
يعد الجهل بالمخرجات والأعمال المعرفية جوهر سوء الفهم والخصام بين الثقافتين. بالنسبة للعلماء، تتسم المعرفة الأدبية والفنية بالضبابية وغياب اليقين الموضوعي والتجريبي، مع لغة صعبة أو أدبية وتوصيفية أكثر من اللازم، ما يجعلهم يحجمون عن قراءة الشعر، الرواية، القصة، الدراسات الإنسانية... لعدم وجود فائدة مباشرة منها تعود بالنفع على تخصصاتهم الدقيقة. يعيب المشتغلون بالآداب والإنسانيات على العلماء، ارتداء قناع الموضوعية والحياد والعلمية في ممارستهم المهنية كما خطاباتهم الرسمية، ولعهم بالأرقام والإحصاءات، وينظرون إلى الثقافة التقليدية كأسمى مظاهر المعرفة الإنسانية الخالصة. تزداد حدة هذه الأحكام القيمية والصور النمطية إذا علمنا أن نسبة كبيرة من العلماء لا يقرأون أعمال الفنون، الآداب والإنسانيات (حتى تلك المنشورة في الدوريات العلمية المتخصصة) تحت ذريعة صعوبتها وعدم جدواها، كما ينفر كثير من المشتغلين بالإنسانيات من اللغة العلمية الرسمية ولا يلجأون إليها إلا لنقد بعضهم البعض أو بيان وهن العلوم وأصالة الآداب.
يقترح سنو حلاً لهذه المعضلة المعرفية قائمًا على اعتراف الدوائر السياسية والعلمية نفسها بعمق المشكلة. يعد إصلاح النظم التعليمية المعظمة للفوارق بين الثقافتين العلمية والأدبية أساس تجديد الحوار وتجاوز سوء الفهم بين العلماء والمشتغلين بالإنسانيات؛ نظرًا لكون التمييز بين خريجي الجامعات وفقًا لنوعية شواهدهم (في سوق الشغل كما في المخيال الاجتماعي) لا يدفع سوى نحو مزيد من التمايز الذي ينتصر في الأصل للثقافة العلمية (البعد التقنوي للعلوم) على حساب الثقافة الأدبية (الحس الإبداعي الخلاق) وينفي أي تكامل بينهما في خدمة الشرط الإنساني.

خصام العلوم والآداب
فضلت الدكتورة لطفية الدليمي اعتماد لفظة «العلوم» للدلالة على الطبيعيات، ولفظة «الآداب» لتحديد الفنون والعلوم الإنسانية، من أجل البسط السلس للمقولة الفلسفية الأساس لهذا النص المائز من جهة، ومحاولة دفع القارئ نحو إعادة التفكير في موقع الآداب والعلوم في المجتمعات العربية من جهة أخرى. في نظرنا، ومن خلال متابعتنا للصدى الفلسفي والأبستيمولوجي الذي أحدثته محاضرة تشارلس بيرسي سنو طوال الخمسين سنة الماضية، كان من الأصوب الحديث عن «الطبيعيات» (Natural Sciences) في مقابل «الإنسانيات» (Humanities)، عوضًا عن «العلوم» (Sciences) نقيضًا لـ«الآداب» (Literatures) حفاظًا على المنطق الفلسفي لتطور الخطابات المعرفية خلال مطلع القرن الحادي والعشرين. فسنو نفسه ما كان ليتحدث عن «العلماء» (the scientists)، و«غير العلماء» (The non-scientists) – بالمعنى الفلسفي للكلمتين - لو أدرك أن عمق التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عايشتها الدول الغربية عقب الحرب العالمية الثانية (بين الأربعينيات والسبعينيات) ستدفع الساسة، الجامعيات ورجال الاقتصاد إلى تعليق آمال كبيرة على «الاجتماعيات» من أجل حل المشاكل الاجتماعية التي أضحت تهدد الحضارة الإنسانية (الجريمة، الأمراض النفسية، الفشل الدراسي...) وتخصيص مكافآت ومنح بحثية سخية تكاد توازي ما تتحصل عليه الطبيعيات؛ كما يؤكد على ذلك جيروم كيغان (وإن لازالت نتائجها العملية موضع نقاش كبير في يومنا الحالي).  
تزودنا المحاضرة التاريخية لسنو بنظرة أولية حول الخصام التاريخي بين العلوم والآداب في المجتمع الإنجليزي والمجتمعات الغربية (ماضيًا وحاضرًا)، وتدفعنا إلى إمعان النظر في مستقبل هذين المجالين المعرفيين في عصر الرقمنة والثورة الصناعية الرابعة. مع ذلك، تغيرت الأمور كثيرًا بعد نصف قرن من كتابة «الثقافتان»، وسرعان ما استوعبت المجتمعات الغربية أهمية الإنسانيات والآداب في مسار تشيد الصرح الحضاري لإنسانية ما بعد الحداثة (مبيعات المؤلفات الأدبية والإنسانية تتجاوز بأضعاف مبيعات المؤلفات العلمية في مختلف اللغات)، وأضحى لازمًا على نخبنا العربية الوعي بأهمية المرحلة والتفكير في مصالحة ذاتية واجتماعية بين مجالات معرفية لا تهدف في نهاية المطاف سوى إلى فك تشفير الشرط الإنساني وفهم الطبيعة وتحقيق العيش الكريم لأجيالنا المستقبلية .