ثلاثية زمن البوح
لطالما يطرح الناقد الأدبي القارئ لرواية ما - سرًّا أو علانية - دوافع الكاتب فيما خطّ وكتب، وقد يلجأ إلى البحث والتحليل بمحيط الكاتب الاجتماعي والفردي، فيُسقط عليها أحداثًا، ويربط الأخرى ببعضها البعض. وبعيدًا عن مدى صحة ما يتوصل إليه من نتيجة، فإن دافع الكاتب الحقيقي للكتابة يظل سببًا شخصيًّا وخاصًّا به.
في العمل الأدبي اثلاثية زمن البوحب للأديب والروائي الكويتي حمد الحمد، يكشف الكاتب بنفسه عن دوافعه في إصدار الثلاثية، التي تضم ثلاث روايات منفصلة )زمن البوح - البدايات 1997، زمن البوح - التحولات 2009، زمن البوح - الحكايات( 2017 بأنها «محاولة لرسم ملامح أحداث اجتماعية وسياسية وفكرية مرت على المجتمع الكويتي في أواخر العقد الأخير من القرن الماضي حتى العقدين الأول والثاني من الألفية الجديدة، وعلى الورق نجد مسارات حياة وليد ومنال».
القارئ للثلاثية يشعر باتصال وثيق بين الروايات الثلاث، وكأن الكاتب نسج سلسلة الأحداث، وحاك الشخصيات، وصنع الحبكات في ذهنه مع خطه للكلمة الأولى في روايته الأولى؛ زمن البوح - البدايات.
ففي الأجزاء الثلاثة، الشخصيتان الرئيستان هما منال ووليد، مع شخوص تظهر وتختفي في كل جزء، تبعًا للحبكة الدرامية والنّسق الروائي، كما تعيش الشخصيتان مراحلهما العمرية تدريجيّا مع قارئ الثلاثية. ولابد من ذكر أن الرواية الأولى )زمن البوح - البدايات( قد فازت بالمركز الأول في جائزة الأمير خالد الفيصل في مدينة أبها السعودية عام 1998.
زمن البوح... بين قلم وريشة
إن القارئ العربي لثلاثية زمن البوح، مهما كانت معرفته بالكاتب، فإنه يتلمّس توجهه الفكري، وطبيعته الإنسانية، من خلال ما دار به فكره، وكتبه قلمه، وجسّد عمله الأدبي، وتمثّل في:
أولاً: المسار الوسطي والمعتدل للكاتب، ففي كل رواية من الروايات الثلاث، نجد متناقضات تميل إلى الحدة والتطرف، وتتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وما يبيحه أنه واقع مَعيش بشخوصه وأحداثه. لكن سرعان ما نجده يلجم جنوح المتناقضات، إما بتبيان نتائجها السلبية، وإما بإصلاحها وردّها إلى الاعتدال من خلال سياق الأحداث. وذلك ما يجعلنا نطلق على هذا العمل الأدبي، ثلاثية الوسطية والاتزان.
ثانياً: النظرة التفاؤلية للكاتب، رغم تعقّد الأحداث وتأزمها في بعض الأحيان، فإن في نهاية الرواية، لابد أن يتسلل الفرح إلى نفس القارئ، وكأنها موافقة منه لخاتمة سعيدة، وإن تخلل الأحداث بعض المواقف الحزينة فهي بعيدة عن الإسهاب والمماطلة، وموظفة لخدمة الحدث والبناء الكلي للرواية.
ثالثاً: إلمام الكاتب وإحاطته بقضايا المرأة الاجتماعية، وهمومها، التي اندلعت من سطوة المجتمع الذكوري، والنظرة المجتمعية لها حين تخرق كل ما هو مألوف ومتعارَف عليه، بدءًا مما هو ظاهري كاللبس، والسيجارة، وانتهاء بالزواج المختلط والثقة العالية بالنفس والتحرر.
رابعاً: اللغة وأسلوب الكتابة، حيث المفردة العربية السلسة، والأسلوب البعيد عن التكلف، والمناسب لشريحة القراء العريضة في عالمنا العربي. وإن أدرج الحوار باللهجة الكويتية، فقد اجتهد الكاتب بأن تكون واضحة ومفهومة، على نطاق واسع لا ينحصر في وطنه الكويت.
ومن جهة أخرى، فإن القارئ لابد أن يتمعن في غلاف الثلاثية، الذي اختير بدقة وعناية فائقتين، وجاء من لوحة رسمتها ريشة الفنانة التشكيلية البحرينية مياسة بنت سلطان السويدي، جسّدت هيئة إنسان منعدم الملامح، يميل برأسه على كتفه اليمنى، ويعتليه طير بحجم واضح، بينما أسفل كتفه اليسرى رموز صغيرة لاح فيها اللونان الأخضر والأحمر، برزا وسط عتمة التدرج اللوني للأسود والبني اللذين اكتسحا هيئة الإنسان والطير.
وبعيدًا أيضًا عمّا تعنيه الفنانة بلوحتها، فإن قارئ الثلاثية يستطيع أن يتفلسف قليلاً، ويجنح بتصوراته، ليلمح رسالة الثلاثية الضمنية، وما دفع الكاتب للكتابة ورغب في توصيله لقارئها، وهي الميل الفطري للإنسان للاعتدال والسلام.
زمن البوح - البدايات (1997)
في الجزء الأول البدايات، وهــــو الأطول( 198 صفحة ), نجد أن مساحة كبيرة لمنال ووليد في الأحداث، حيث يعرّف الكاتب القارئ بهما، من حيث نشأة ومسار كل منهما، ومن خلالهما يتكشف واقع الفترة الزمنية والظرف المكاني المتناول بالسرد، حيث العقد الأخير من الألفية الثانية، في دولة الكويت، وتحديدًا في أروقة مبنى صحيفة الشروق، وتظهر الشخصيتان الرئيستان في العشرينيات من العمر، طموحتين، كلاهما يستكمل دراساته العليا بكلية الإعلام، ويخضعان لدورة تدريب في الصحيفة لمدة عام.
إلا أنهما يتصادمان باختلافاتهما التي تكاد تكون جذرية، فمنال يغلب عليها الطابع الغربي بالشكل وأسلوب الحياة اليومية، منفتحة، ومرهفة الأحاسيس، من أسرة ميسورة الحال، وأيضًا منفتحة ومتقبلة لابنتها شكليًا وفكريًّا.
في المقابل، يميل وليد، التقليدي والملتزم بالعادات والتقاليد، وبالخط الإسلامي، فكريًا لأحد التنظيمات الدينية، قيادي بطبعه، وصارم، من أسرة محافظة. تناقض منال ووليد كشفه حدث بسيط أدرجه الكاتب، وهو استماع منال للموسيقى في المكتب الصغير الذي يجمعها بوليد.
وعليه يدور الحوار وتسلسل بأحداث أكبر تبيّن الفجوة بين الفكر التقليدي الديني المتطرف، والفكر المنفتح المتحرر، ويستعين الكاتب بأحداث لشخوص أخرى توسّع دائرة الأحداث، مثل )سهاد شعرت بتحركات زهران ورأته وهو يكاد يلصق كتفه بكتفها)، (منال بدأت واثقة بنفسها وهي تصافح الحضور وتبتسم لهم)، (ورئيس التحرير يقول: «الاحتشام حرية شخصية»، ما فيه علمانيين... لكن فيه ناس تكتب رأي مخالف) .
في المقابل، قدّم الفكر الديني المتطرف، وبدا واضحًا في تصرفات وليد وحواراته مثل )أنا شخصيًا ما أحب الموسيقى ولا أستسيغها، وأحس أنها تشوش أفكاري وتلهيني عن أشياء أهم... وهي...، مثل العبادة(، و)أنت عشت في بيئة مختلفة وأنا عشت في بيئة أخرى، والشرق والغرب لا يلتقيان)، وكذلك عبدالهادي، الشخصية التي بدت معتدلة، وسرعان ما تطرفت إثر موت أحد زملائه في العمل )وراح يلصق أوراقًا سوداء على واجهة مكتبه الزجاجية، وعرف وليد أنه لا يرغب في رؤية الفتيات اللاتي يعبُرن الممرات الداخلية).
وينهي الكاتب الجزء الأول من الرواية بمعالجة محببة لدى القراء، قادرة على هدم التناقضات وصراعات العمل بين الاثنين، حين أشعل شرارة الحب بين منال ووليد، لتنصهر الاختلافات، وتذوب، وتوثّق بعلاقة زواج متينة الأواصر، قائمة على الاتزان بين أطرافها.
زمن البوح - التحولات (2009)
يحمل الجزء الثاني من الثلاثية عنوان التحولات، يجد به القارئ كمًّا هائلاً من تحولات في حياة منال ووليد الزوجية، بل وتغيّرات جذرية أظهرتهما معتدلين ومتجانسين بشكل متكامل ومتناغم. وقارئ هذا الجزء يستوعب - دون الرجوع إلى البدايات - التحول الحاصل لدى الشخصيتين الرئيستين، فمنال غدت زوجة وأمًّا لولد وابنتين، مدرّسة متقاعدة، تبلغ من العمر 44 عامًا، محجبة، ولم تكمل دراساتها العليا!
بينما وليد نال شهادة الدكتوراه، وأصبح مدير قسم بالكلية التطبيقية. ويتضح خضوع منال ومسايرتها لرغبات زوجها وتوجهه الفكري، بينما هو أصبح أكثر مرونة وأقل تطرفًا. ولم يقدّم الكاتب تفسيرًا لهذا التغيير، فقد اكتفى بالإشارة إلى الحب والتفاهم المتبادل بينهما.
ومن الأحداث التي بدا فيها وليد هيّنًا، توقّعه مستقبل ابنته الكبرى شروق )أتوقع بتصير دكتورة أو وزيرة( وتقبّله لرغبة ابنه بأن يصبح موسيقيًّا.
في حين أن منال كانت أكثر تشددًا مع أبنائها )الرقابة الصارمة التي تفرضها في المنزل على مشاهدة القنوات التلفزيونية، مراقبته وهو يجلس أمام الإنترنت)، والقرار الذي اتخذته على )ألا يكون في المنزل إلا جهاز تلفزيون واحد في الصالة الرئيسة.(
وفي أحداث أخرى يظهر شيء من آثار التنشئة الأولى لوليد ومنال كعادة النفس البشرية وقوة الطبع الذي يغلب التطبع، فهو يرفض جلوسها المتكرر في المقاهي، وهي تصرّح مازحة برفضها تعدد الزوجات، كما تلقي عليه اللوم بعدم حصولها على الماجستير.
وتعود مسألة التناقض الفكري في هذا الجزء من الثلاثية على نطاق أوسع من الجزء الأول، ففي الكلية التطبيقية، تبرز تيارات فكرية مختلفة، وتحديدًا بانتخابات رابطة الأساتذة، يمثّلها كل من وليد المتدين الملتحي، فواز القبَلي الليبرالي، هديل السافرة التي تتحدر من أسرة تجار حضرية، وحمزة من المذهب الشيعي.
وحتى يعيد الكاتب الأحداث المتناقضة إلى سياقها المعتدل، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى العلاقات الاجتماعية ومتانتها في المجتمع الكويتي، فالصداقة بين وليد وفواز كانت كفيلة بالحفاظ على مستقبلهما الوظيفي واستقرارهما الأسري، خاصة فيما واجهه كل منهما مع ولديهما. كما كان الحب الذي جمع فواز القبلي وهديل السافرة، قادرًا على خلق نمط للتعايش بين اختلاف عادات وتقاليد لكل منهما، وإن كان للمال دور في استمراره، حسب قراءتنا للرواية.
وفي هذا الجزء يطرح الكاتب واحدة من أهم قضايا المرأة في المجتمع الكويتي، المتمثلة بزواج الكويتية سارة من أجنبي، والذي جاء في الرواية نتاج تعليم خاص مختلط، سحق تمايز الجنسية والهوية الوطنية بين طلابه، كما يعرض الكاتب مستقبل الأبناء من هذا الزواج، لاعتبار أن جنسية الأبناء تتبع الأب، وبالتالي معاملتهم كمقيمين في بلد الأم.
وعادة ما يكون الانفصال هو الحل في الواقع، لإمكان حصول أبناء الكويتية المطلقة على جنسيتها، وضمان حياة أفضل لهم. ويطرح أيضًا في علاقة هديل وفواز، قضية تأخر سن الزواج لاعتبارات مختلفة، ومنها ما ساقته الأحداث في التفاوت بالانتماءات والطبقات الاجتماعية، بين أبناء القبائل والتجار، وإن شهد توافقًا فكريًّا بين الطرفين.
وامتدادًا للنظرة التفاؤلية للكاتب، نجده يرسم مرة أخرى نهايات جميلة لعلاقة فواز وهديل، ولسارة أيضًا. وفي ذلك يتفق مع أغلب القراء الراغبين بنهايات سعيدة للأحداث.
زمن البوح - الحكايات (2017)
في الجزء الثالث، الحكايات، وهو فعلا مليء بالقصص والحكايات، لمصائر شخصيات الجزء الثاني من الثلاثية، مثل )فواز، هديل، سارة) ، والتي تروى بلسان وليد ومنال، بعد أن اضطرت منال لترك زوجها، ومرافقة ابنتها شروق للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، يوزع الكاتب هذه الحكايات بشكل منظم ومتوال، بحيث تجذب القارئ ولا تدع له مجالًا للملل.
اللافت للنظر أن هذا الجزء تطرّق الكاتب فيه لبعض المشكلات النفسية التي قد تصيب الإنسان بمراحل حياته المختلفة، إثر الصعاب والظروف التي تعترض مسيرته، كالتفكير والقلق والخوف، التي لازمَت منال على أبنائها، بعد فقدانها أختها إثر سفرها وحدها، وجعلها تبدو أكبر من عمرها.
والعزلة الاجتماعية التي حاصرت فواز بعد خسارته الانتخابات، وفقدانه زوجته الثانية هديل، وسفر ابنه راشد للجهاد، وانقطاع أخباره. والغضب الذي تفجّر في منال جراء مكالمة من جارتها النمّامة، مفادها أن ابنها خالد على شاشة التلفاز يعزف الكمان. في المقابل يقدم الكاتب الحل لذلك، بشكل غير مباشر وخفيّ، تمثّل في الانغماس بعمل تحبه النفس.
فمنال التي رافقت ابنتها، احتكت بعائلة مكونة من زوجين مسنيّن في بوسطن، وتعلمت منهما أشياء كثيرة أهمها التدوين وكتابة اليوميات، ومنها أصدرت أول كتاب لها، وأصبحت كاتبة لا تستغني عن مفكرتها وقلمها، وفي ذلك تعويض لما عجزت عن تحقيقه في صباها. أما الدكتور فواز، فعاد للعمل الأكاديمي، والتدريس، وذلك بعد أن اطمأن على ابنه، واستشعر مدى قرب صديقه وليد منه، وحرصه عليه وعلى صحته. وحول موقف منال من موهبة ابنها الموسيقية، فعالجته باقتناعها بأن ابنها )يعرف مستقبله... وهذا ولدنا نفتخر فيه ونفتخر بظهوره في التلفزيون).
في رواية الحكايات، يتلمس القارئ معايشة الكاتب للواقع العربي، خاصة بعد تعرّض بلاد عربية لمشكلات سياسية، حيث يظهر من خلال شخصيتيه )راشد، منال ( تلمّس المواطن الكويتي لما يتعرض له الآخر العربي، والأجنبي الغربي. ولكلاهما تحرُّك للحد من الإرهاب، لكن بطرق مختلفة، فراشد مثلًا انساق كغيره من الشباب إلى الانضمام للجهات الإرهابية التي تعمل تحت مسمى الجهاد والإسلام، فأرهق أسرته وأضر بنفسه، ولم يحقق نتيجة تُذكر.
بينما لجأت منال إلى الحوار والحديث الحسَن، والتقارب الفكري، مع جاريها الزوجين المسنين في بوسطن، فنتج عن ذلك علاقة صداقة متينة، وتصحيح للمفاهيم الخاطئة عن العرب والمسلمين، وتقبّل كل منهما للآخر.
خاتمة بالموسيقى والأدب
القارئ المتمعن للثلاثية يجد ترابطًا مذهلًا بين ما ابتدأ به الكاتب وما انتهى إليه، فالموسيقى التي أثارت حفيظة منال ووليد، في الجزء الأول )البدايات)، كانت خير ختام للجزء الأخير من الثلاثية، حيث ادوزنتب نغمات علاقتهما وهذّبتها، وهيأتهما لاستقبال موهبة ابنهما خالد حفيد النهّام )وهو مطرب السفينة( بقبول وأريحية ما كانت لتوجد لولا سلسلة الأحداث المتتالية.
والمكان الذي ضمهما، وهو مبنى صحيفة الشروق في الجزء الأول، لم يختلف كثيرًا في مجاله عن دار نبراس للنشر الذي أشرف على إصدار منال الأول، في مجال الأدب والعمل الصحفي.
لقد شهدت الثلاثية ختامًا منسجمًا ومترابطًا، وإن تغيرت الشخصيات وميولها، واستجدت أحداث وانحرفت عن أصولها، فقد شكلت بوح الزمن لقارئها ■