مدارس فاس العتيقة اطلبوا العِلْم من عبق التاريخ

مدارس فاس العتيقة اطلبوا العِلْم من عبق التاريخ

تبقى المدينة العتيقة في فاس المغربية رمزاً  لا يضاهى عالمياً لما تختزنه من مظاهر حضارة عمرها 12 قرناً، وما زالت صامدة محمية بأسوارها العالية الشامخة المحيطة بها من جميع الجوانب، حصناً منيعاً استعمله مؤسسوها لحمايتها من الغزوات أو تسلل الغرباء، إلا من أبواب تاريخية محكمة الإغلاق. 
ولوجها ممكن من 47 باباً عتيقاً، تفتح في وجه زوّارها نوافذ على حضارة تشكل المدارس والمساجد والأضرحة والقصبات والأسواق والبيوت العتيقة عنوان دروبها الضيقة في مسارات تحتاج إلى مرشد يفك لغز  سير  الزائر  الغريب فيها، من دون تيه أو فقدان لبوصلة البحث عن نفائس مدينة حُبلى بتاريخها.
في كل شبر من فاس العتيقة التي تتميز بحركة دؤوبة طول اليوم، تشم رائحة حضارة عريقة، وتتكرر صور الجمال في كل موقع في شكل سلع ومصنوعات تقليدية محلية الصنع، تفنن عارضوها في ترتيبها، ولا يفوت السائح فرصة لا تعوض لالتقاط صور لها ولكل نفائسها العمرانية والدينية والعلمية الثمينة. 

في‭ ‬جولتنا‭ ‬بين‭ ‬دروبها‭ ‬المترامية‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفتوح‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬الجنود،‭ ‬ومن‭ ‬البطحاء‭ ‬والرصيف‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬أزليتن‭ ‬وباب‭ ‬عجيسة،‭ ‬وما‭ ‬بينها‭ ‬وخلفها،‭ ‬أسهب‭ ‬المرشد‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬المدينة‭ ‬ومآثرها،‭ ‬عارجاً‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الفضاءات‭ ‬الدينية‭ ‬والعلمية،‭ ‬خاصة‭ ‬المدارس‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلوم‭ ‬الدينية‭. ‬

 

فاس‭ ‬عاصمة‭ ‬العلم

لم‭ ‬تسم‭ ‬مدينة‭ ‬فاس‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬العاصمة‭ ‬العلمية‮»‬‭ ‬للمغرب‭ ‬عبثاً،‭ ‬بل‭ ‬لشهرتها‭ ‬العلمية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬دوماً‭ ‬مدينة‭ ‬للعلم‭ ‬والعلماء‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬جامع‭ ‬القرويين‭ ‬الذي‭ ‬ارتبط‭ ‬اسمه‭ ‬بالمدينة،‭ ‬كما‭ ‬جوامع‭ ‬ومدارس‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬تخصصات‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‭ ‬الدينية‭ ‬والأدبية‭ ‬واللغوية‭ ‬والعلمية،‭ ‬في‭ ‬ارتباط‭ ‬وثيق‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والعلم‭. ‬

وما‭ ‬يزكي‭ ‬مكانتها‭ ‬العلمية،‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ ‬للرحالة‭ ‬الحسن‭ ‬الوزان‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ليون‭ ‬الإفريقي‮»‬‭ ‬كما‭ ‬لقب،‭ ‬المتحدث‭ ‬عن‭ ‬مئتي‭ ‬مدرسة‭ ‬لتعلم‭ ‬القرآن‭ ‬تضمن‭ ‬لطلابها‭ ‬الغرباء‭ ‬مجانية‭ ‬السكن‭ ‬والتغذية،‭ ‬ويحتفى‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬وليمة‭ ‬كبيرة،‭ ‬بإنهائهم‭ ‬حفظه‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭.‬

ولعل‭ ‬أبلغ‭ ‬وصف‭ ‬لمكانة‭ ‬فاس‭ ‬العلمية،‭ ‬هو‭ ‬للمؤرخ‭ ‬عبدالواحد‭ ‬المراكشي‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬فاس‭ ‬موقع‭ ‬العلم‭ ‬اجتمع‭ ‬فيها‭ ‬علم‭ ‬القيروان‭ ‬وقرطبة‭ ‬وحل‭ ‬من‭ ‬فيهما‭ ‬من‭ ‬علماء‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬ذكره‭ ‬بكتاب‭ ‬‮«‬الحضارة‭ ‬المغربية‮»‬‭ ‬للحسين‭ ‬السايح،‭ ‬ومن‭ ‬قول‭ ‬العالم‭ ‬أبي‭ ‬الحسن‭ ‬الغماري‭ ‬‮«‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬مثلها‭ ‬ومثل‭ ‬علمائها،‭ ‬فيما‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬المدن‮»‬‭.‬

‮«‬ينبع‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬أهلها‭ ‬كما‭ ‬ينبع‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬حيطانها‭. ‬ويقال‭ ‬عنها‭: ‬ولد‭ ‬العلم‭ ‬بالمدينة‭ ‬وربي‭ ‬بمكة‭ ‬وطحن‭ ‬بمصر‭ ‬وغربل‭ ‬بفاس‮»‬،‭ ‬ذاك‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬العلامة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬الكتاني‭ ‬عن‭ ‬فاس‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬زميله‭ ‬ابن‭ ‬القاضي‭ ‬‮«‬لا‭ ‬عالم‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬عالمهم،‭ ‬ولا‭ ‬رواية‭ ‬أثبت‭ ‬من‭ ‬روايتهم،‭ ‬ولا‭ ‬متكلم‭ ‬أجزل‭ ‬من‭ ‬متكلمهم‮»‬‭. ‬

وزكى‭ ‬مكانتها‭ ‬احتضانها‭ ‬جامع‭ ‬القرويين‭ ‬الأقدم‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الطلبة‭ ‬يتلقون‭ ‬فيه‭ ‬العلوم‭ ‬السامية،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬كان‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والعلماء‭ ‬والفقهاء‭ ‬من‭ ‬آسيا‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والمدن‭ ‬الأوربية‭ ‬ذات‭ ‬الحظ‭ ‬الأسعد،‭ ‬يقصدونه‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نقل‭ ‬ذلك‭ ‬المستشرق‭ ‬الإنجليزي‭ ‬روم‭ ‬لاندو،‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الدور‭ ‬العلمي‭ ‬العالمي‭ ‬لفاس‭.‬

     

مدارس‭ ‬لطلاب‭ ‬غرباء

لم‭ ‬يقترن‭ ‬الدور‭ ‬العلمي‭ ‬لفاس‭ ‬بجامع‭ ‬القرويين‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬شكلت‭ ‬المدارس‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬بمستواها‭ ‬العلمي‭ ‬الرفيع،‭ ‬فضاءات‭ ‬للتعليم‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬ورئيساً‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلوم‭ ‬الدينية،‭ ‬وتخرج‭ ‬فيها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والمفكرين‭ ‬والفلاسفة،‭ ‬خاصة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬وابن‭ ‬ميمون‭ ‬والبابا‭ ‬سيلفستر‭ ‬الثاني‭.‬

وتميزت‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬النور‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الـ‭ ‬13‭ ‬وتطورت‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬القرن‭ ‬الـ‭ ‬17‭ ‬للميلاد،‭ ‬بجمعها‭ ‬بين‭ ‬العلم‭ ‬ونشر‭ ‬عقائد‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬ارتباط‭ ‬ديني‭ ‬علمي‭ ‬وثيق،‭ ‬استقطب‭ ‬الطلبة‭ ‬والباحثين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬ولعبت‭ ‬دوراً‭ ‬اجتماعياً‭ ‬حيوياً‭ ‬بتمكين‭ ‬طلابها‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬وتحسين‭ ‬مستوى‭ ‬عيشهم‭. ‬

على‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬أسهب‭ ‬مرافقنا‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬دورها‭ ‬العلمي‭ ‬ومعمارها‭ ‬البديع‭ ‬والراقي،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فاس‭ ‬اشتهرت‭ ‬لدى‭ ‬المؤرخـــين‭ ‬كمدينة‭ ‬المدارس‭ ‬العتيقة‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تميزت‭ ‬بإقامة‭ ‬الطلاب‭ ‬داخلها‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬مساجد‭ ‬لإقامة‭ ‬الصلاة‭ ‬وضمها‭ ‬مكتبات‭ ‬علمية‭ ‬غنية‭ ‬بالكتب‭. ‬

وأشار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬شيّدت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬لإسكان‭ ‬للمعلمين‭ ‬والطلاب‭ ‬الأفاقيين‭ ‬ونظرائهم‭ ‬في‭ ‬البوادي‭ ‬والمدن‭ ‬الأخرى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬سكن‭ ‬لهم‭ ‬بفاس‭ ‬ويريدون‭ ‬متابعة‭ ‬دراستهم‭ ‬بانتظام،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أن‭ ‬الدراسة‭ ‬فيها‭ ‬كانت‭ ‬مكملة‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬الجوامع‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬اعتبرت‭ ‬مقرات‭ ‬للدراسة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬قاعات‭ ‬خاصة‭ ‬ملحقة‭ ‬بها‭. 

وكانت‭ ‬أشهرها‭ ‬أشبه‭ ‬بأحياء‭ ‬جامعية‭ ‬حاوية‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬قاعات‭ ‬دروس‭ ‬وقاعدة‭ ‬كبيرة‭ ‬للصلاة،‭ ‬ودار‭ ‬للوضوء،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المرافق‭ ‬والحجرات‭ ‬السكنية‭ ‬في‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭. ‬وعرفت‭ ‬بمستواها‭ ‬العلمي‭ ‬وفسيفسائها‭ ‬ونقشها‭ ‬البديعين‮»‬،‭ ‬يؤكد‭ ‬الباحث‭ ‬محمد‭ ‬السنوسي‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نبضات‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬فاس‭... ‬سيرة‭ ‬مدينة‭ ‬وتاريخها‮»‬‭.‬

   

200‭ ‬مدرسة‭ ‬عتيقة

كان‭ ‬لنبشنا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬مختصرة‭ ‬لحضارة‭ ‬عريقة‭ ‬وواجهة‭ ‬للتراث‭ ‬الثقافي‭ ‬والتاريخي‭ ‬لمدينة‭ ‬فاس‮»‬‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬140‭ ‬كلم‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬العاصمة‭ ‬الرباط،‭ ‬أن‭ ‬اكتشفنا‭ ‬مع‭ ‬مرشدنا‭ ‬تبعيتها‭ ‬لمنهاج‭ ‬جامع‭ ‬القرويين‭ ‬ونظامه‭ ‬التعليمي‭ ‬وكأنها‭ ‬فروع‭ ‬لها،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬سلسلة‭ ‬مترابطة‭ ‬بينها‭.‬

وتحدث‭ ‬المؤرخون‭ ‬المغاربة‭ ‬عن‭ ‬200‭ ‬مدرسة‭ ‬لعبت‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬واحتضنت‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬لقنوا‭ ‬العلوم‭ ‬الشرعية،‭ ‬يعود‭ ‬بناء‭ ‬غالبيتها‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬المرينيين‭ ‬لفاس،‭ ‬بعد‭ ‬إقامتهم‭ ‬مدينة‭ ‬ملكية‭ ‬اشتملت‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬المرافق‭ ‬والتجهيزات‭ ‬التي‭ ‬تفي‭ ‬بالحاجيات‭ ‬وجمعت‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬الديانات‭ ‬والعقائد،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المساجد‭ ‬والجوامع‭. ‬

ويرجع‭ ‬إلى‭ ‬بني‭ ‬مرين‭ ‬فضل‭ ‬إنشاء‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬وتعميرها،‭ ‬إذ‭ ‬استأثرت‭ ‬فاس‭ ‬بنصيب‭ ‬الأسد‭ ‬منها،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬أقيمت‭ ‬مدارس‭ ‬عدة‭ ‬وزعت‭ ‬بطريقة‭ ‬متقنة‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬أحياء‭ ‬المدينة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬مدينة‭ ‬فاس‭: ‬من‭ ‬التأسيس‭ ‬إلى‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭... ‬الثوابت‭ ‬والمتغيرات‮»‬‭ ‬تأليف‭ ‬مشترك‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬محمد‭ ‬مزين‭.‬

ويجمع‭ ‬الدارسون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬بناءها‭ ‬‮«‬جاء‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬نصرة‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لعلمائه‭ ‬وفقهائه‭ ‬بعد‭ ‬الابتلاءات‭ ‬التي‭ ‬توالت‭ ‬عليهم‭ ‬خلال‭ ‬عهد‭ ‬الموحدين‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬وظفت‭ ‬المدارس‭ ‬دعامة‭ ‬لتوطيد‭ ‬أركان‭ ‬السلطة،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬قناة‭ ‬لتمتين‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العلماء‭ ‬وكسب‭ ‬ودهم‭ ‬واحتضانهم‮»‬،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬المرجع‭ ‬نفسه‭. ‬

وبذلك‭ ‬وضــــــع‭ ‬بنو‭ ‬مـــــرين‭ ‬أيديهم‭ ‬على‭ ‬شرايين‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية،‭ ‬وأمسكوا‭ ‬بخيوطها‭ ‬ووظفوها‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬وتكوين‭ ‬الأطر‭ ‬ومراقبة‭ ‬الأنشطة،‭ ‬بعدما‭ ‬أكثروا‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬للرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬حاضرتهم‭ ‬ومجاراة‭ ‬بغداد‭ ‬والقاهرة،‭ ‬إذ‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬وتعزيز‭ ‬المراكز‭ ‬العلمية‭ ‬المتمركزة‭ ‬حول‭ ‬جامعي‭ ‬القرويين‭ ‬والأندلس‭.‬

‭ ‬

مدارس‭ ‬بصوامع‭ ‬ومحراب

في‭ ‬خضم‭ ‬بحثنا‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الدروب‭ ‬الضيقة‭ ‬والحارات‭ ‬المتباعدة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المدارس،‭ ‬عرجنا‭ ‬نحو‭ ‬جامع‭ ‬القرويين،‭ ‬حيث‭ ‬لاحت‭ ‬قربه‭ ‬مدرسة‭ ‬الصفارين،‭ ‬المكناة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اليعقوبية‮»‬‭ ‬و«الحلفاويين‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أم‭ ‬المدارس‭ ‬المرينية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬بناها‭ ‬السلطان‭ ‬أبو‭ ‬يوسف‭ ‬يعقوب‭ ‬المريني‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬670‭ ‬للهجرة‭. ‬

وكُنيت‭ ‬بالصفارين‭ ‬لمجاراتها‭ ‬حياً‭ ‬حرفياً‭ ‬مختصاً،‭ ‬وأوقف‭ ‬عليها‭ ‬بانيها‭ ‬خزانة‭ ‬علمية‭ ‬احتوت‭ ‬ذخائر‭ ‬فريدة،‭ ‬بعدما‭ ‬أوقف‭ ‬عليها‭ ‬المخطوطات‭ ‬المتنوعة‭ ‬التي‭ ‬تسلمها‭ ‬من‭ ‬‮«‬سانشو‮»‬‭ ‬ملك‭ ‬قشتالة‭ ‬عقب‭ ‬معاهدة‭ ‬صلحهما،‭ ‬عقداً‭ ‬ونصف‭ ‬العقد‭ ‬بعد‭ ‬تشييدها،‭ ‬فيما‭ ‬اختارها‭ ‬العالم‭ ‬الجزولي‭ ‬لكتابة‭ ‬مؤلفه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬دلائل‭ ‬الخيرات‮»‬‭.‬

تعتبر‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬ثالث‭ ‬مدرسة‭ ‬لها‭ ‬صومعة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬لفاس،‭ ‬عاصمة‭ ‬المغرب‭ ‬العلمية،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬مدرستي‭ ‬‮«‬دار‭ ‬المخزن‮»‬‭ ‬بفاس‭ ‬الجديد‭ ‬و‮«‬البوعنانية‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬يثبت‭ ‬يقينية‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والعلم،‭ ‬بل‭ ‬لها‭ ‬محراب‭ ‬يعتبر‭ ‬أقدم‭ ‬المحارب‭ ‬بالمدينة‭ ‬وأدقها‭ ‬توجهاً‭ ‬إلى‭ ‬القبلة‭ ‬والاتجاه‭ ‬شطر‭ ‬بيت‭ ‬الله‭ ‬الحرام‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مدارس‭ ‬بُنيت‭ ‬قبلها‭ ‬في‭ ‬فاس،‭ ‬كمدرسة‭ ‬الصابرين،‭ ‬فإنها‭ ‬اندثرت‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬أثر،‭ ‬لتبقى‭ ‬مدرسة‭ ‬الصفارين‭ ‬أهم‭ ‬وأقدم‭ ‬مدارس‭ ‬بني‭ ‬مرين‭ ‬الأقرب‭ ‬لخانة‭ ‬المدارس‭ ‬الرسمية،‭ ‬لإقامتها‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬الحكام،‭ ‬عكس‭ ‬مدارس‭ ‬مشرقية‭ ‬أنشأها‭ ‬علماء‭ ‬ومحسنون،‭ ‬فيما‭ ‬تعد‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬دار‭ ‬المخزن‮»‬‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬تأسيس‭ ‬فاس‭ ‬الجديدة‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬ميز‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬المسماة‭ ‬أيضاً‭ ‬‮«‬البيضاء‮»‬،‭ ‬ذات‭ ‬صومعة‭ ‬بناها‭ ‬السلطان‭ ‬العلوي‭ ‬الحسن‭ ‬الأول،‭ ‬هو‭ ‬تخصصها‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬المهندسين‭ ‬والفنيين‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬السلطان‭ ‬العلوي‭ ‬محمد‭ ‬الرابع‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬إيسلي،‭ ‬حيث‭ ‬تخرجت‭ ‬فيها‭ ‬دفعة‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬سافروا‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬لإتمام‭ ‬دراسة‭ ‬مجالات‭ ‬تخصصهم‭ ‬العلمي‭.‬

         

مدرسة‭ ‬وساعة‭ ‬مائية‭ 

تتفرد‭ ‬مدرسة‭ ‬البوعنانية،‭ ‬وعرفت‭ ‬أيضا‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬المدرسة‭ ‬المتوكلية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬السلطان‭ ‬
أبو‭ ‬عنان‭ ‬فارس‭ ‬المريني،‭ ‬بصومعتها‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬فاس‭ ‬العتيقة‭ ‬وفاس‭ ‬الجديدة‭ ‬معاً،‭ ‬وساعة‭ ‬مائية‭ ‬كانت‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬حديث‭ ‬الناس،‭ ‬وكل‭ ‬خلية‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬‮«‬قطعة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الفنية‮»‬‭ ‬بتعبير‭ ‬المفكر‭ ‬عبدالهادي‭ ‬التازي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬جامع‭ ‬القرويين‮»‬‭.‬

جولتنا‭ ‬الاستكشافية‭ ‬لهذه‭ ‬المدارس،‭ ‬قادتنا‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬القصر،‭ ‬إذ‭ ‬توجد‭ ‬‮«‬البوعنانية‮»‬‭ ‬وبابها‭ ‬الرئيس‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الطالعة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬وآخر‭ ‬ثانوي‭ ‬يفضي‭ ‬للطالعة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬شامخة‭ ‬‮«‬لم‭ ‬أر‭ ‬لها‭ ‬نظيراً‭ ‬بالمشرق‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬و«لم‭ ‬أر‭ ‬بسورية‭ ‬ولا‭ ‬بمصر‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬خراسان،‭ ‬مدرسة‭ ‬تحاكيها‮»‬،‭ ‬برأي‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭.  ‬وتعد‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭/ ‬الجامع،‭ ‬رابع‭ ‬جــــامع‭ ‬تــقام‭ ‬فيه‭ ‬الصلاة‭ ‬بعد‭ ‬القرويين‭ ‬والأندلس‭ ‬وبوجلود،‭ ‬وكانت‭ ‬‮«‬تحفة‭ ‬فائقة‮»‬‭ ‬ومركباً‭ ‬معمارياً،‭ ‬انفرد‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬الساعة‭ ‬المائية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المنجانة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تشتغل‭ ‬بالماء،‭ ‬وهي‭ ‬نتاج‭ ‬ابتــــكار‭ ‬عالم‭ ‬يدعى‭ ‬أحمد‭ ‬التلمساني،‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬بقاياها‭ ‬مائلة‭ ‬على‭ ‬الجدار‭ ‬المقابل‭ ‬لهذه‭ ‬المدرسة‭ ‬الأعرق‭.‬

و«منجانة‭ ‬المدرسة‭ ‬رئيسة‭ ‬بابها‭ ‬وأعظم‭ ‬ما‭ ‬يستوقف‭ ‬المار‭ ‬بها،‭ ‬ذات‭ ‬أبواب‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬ساعات‭ ‬الليل‭ ‬الزمانية‭ ‬ذات‭ ‬تماثيل‭ ‬محكمة‭ ‬الصنعة،‭ ‬مركبة‭ ‬في‭ ‬قمر‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬خط‭ ‬الاستواء‭ ‬سير‭ ‬نظيره‭ ‬في‭ ‬فلكه‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬وصفها‭ ‬المؤرخ‭ ‬المغربي‭ ‬ابن‭ ‬الأعرج‭ ‬السليماني‭ ‬الحسني‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬زبدة‭ ‬التاريخ‭ ‬وزهرة‭ ‬الشماريخ‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬الساعة‭ ‬المائية‭ ‬والمدرسة،‭ ‬قاوما‭ ‬عوادي‭ ‬الزمن‭ ‬واحتفظا‭ ‬بنصيب‭ ‬من‭ ‬جمالهما‭ ‬المعماري‭ ‬وسحرهما‭ ‬الفني،‭ ‬كما‭ ‬بقية‭ ‬المدارس‭ ‬المبنية‭ ‬قرب‭ ‬مساجد،‭ ‬كما‭ ‬‮«‬دار‭ ‬المخزن‮»‬‭ ‬اللاصقة‭ ‬بالجامع‭ ‬الأعظم،‭ ‬ومدرستي‭ ‬‮«‬العطارين‮»‬‭ ‬جوار‭ ‬القرويين‭ ‬و«السباعيين‮»‬‭ ‬جوار‭ ‬جامع‭ ‬الأندلس،‭ ‬فيما‭ ‬اندثرت‭ ‬مدرستا‭ ‬الوادي‭ ‬واللبادين‭.‬

 

تجديد‭ ‬خمس‭ ‬مدارس‭ ‬وترميمها

أهمية‭ ‬المدارس‭ ‬العتيقة‭ ‬ودورها‭ ‬العلمي‭ ‬والحضاري‭ ‬والتاريخي‭ ‬وتدهور‭ ‬بنية‭ ‬بعضها،‭ ‬جعلت‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬يطلق‭ ‬مشروعاً‭ ‬لترميم‭ ‬وتجديد‭ ‬5‭ ‬منها‭ ‬وفق‭ ‬النمط‭ ‬الأصلي،‭ ‬بـ‭ ‬285‭ ‬مليون‭ ‬درهـــــم،‭ ‬ضمــــن‭ ‬برنامج‭ ‬لإعـــــادة‭ ‬تأهيل‭ ‬المآثر‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمــة‭ ‬لفاس،‭ ‬انتُهي‭ ‬من‭ ‬إنجازه‭ ‬بشراكة‭ ‬بين‭ ‬وزارات‭ ‬عدة‭. ‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬شملها‭ ‬المشروع،‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬الصفارين‮»‬‭ ‬الأولى‭ ‬المبنية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬المرينية،‭ ‬ومدرسة‭ ‬‮«‬الصهريج‮»‬،‭ ‬وترجع‭ ‬تسميتها‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬صهريج‭ ‬مستقل‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬خصة‭ ‬تقع‭ ‬وسط‭ ‬فنائها‭ ‬يزن‭ ‬143‭ ‬قنطاراً،‭ ‬ولب‭ ‬من‭ ‬ألميريا‭ ‬بالأندلس‭ ‬ووضع‭ ‬بها‭ ‬قبل‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬المصباحية‭ ‬شمال‭ ‬القرويين،‭ ‬وشملها‭ ‬بدورها‭ ‬الترميم‭. ‬

هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬تعرف‭ ‬أيضاً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مدرسة‭ ‬الخصة‮»‬،‭ ‬وتنتخب‭ ‬‮«‬سلطان‭ ‬الطلبة‮»‬‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬طلابها،‭ ‬واستفادت‭ ‬من‭ ‬الترميم‭ ‬كما‭ ‬المدرسة‭ ‬المحمدية‭ ‬جوار‭ ‬مدرسة‭ ‬الصفارين،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬السبعيين‭ ‬المشيدة‭ ‬تزامنا‭ ‬مع‭ ‬تشييد‭ ‬مدرسة‭ ‬الصهريج،‭ ‬وسميت‭ ‬كذلك‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬خاصة‭ ‬بالطلاب‭ ‬قارئي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بالروايات‭ ‬السبع‭. ‬

هذه‭ ‬الالتفاتة‭ ‬جاءت‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الإرث‭ ‬الحضاري‭ ‬والعلمي‭ ‬والفكري‭ ‬لفاس،‭ ‬ما‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬مدارس‭ ‬أخرى‭ ‬أدت‭ ‬بدورها‭ ‬دوراً‭ ‬علمياً‭ ‬في‭ ‬قرون‭ ‬سابقة،‭ ‬كما‭ ‬مدرسة‭ ‬الشراطين‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬طوابق،‭ ‬وتحتوي‭ ‬على‭ ‬232‭ ‬حجرة‭ ‬برأس‭ ‬الشراطين،‭ ‬ومدرسة‭ ‬باب‭ ‬عجيسة‭ ‬المرممة‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬العلوي‭ ■