حكايةُ شابّةٍ في الستين من العمر «العربي»... يوم زفاف القصيدة

حكايةُ شابّةٍ في الستين من العمر «العربي»... يوم زفاف القصيدة

ما إن انتهت الحصة الثالثة في مدرسة المرقاب حتى بدأت استراحـة «الفرصة» المعروفـة، فانطلقت الزميـلات إلى الساحـة للترويـح عن النفس من ضغط المعلومات والواجبات، لكنني هذه المرة لم أرافقهن، بل ذهبت أقضي الوقت في المكتبة التي أحـب أجواءها، ففي عقلي تدور أسئلة لا أجد إجاباتها إلا في بطون الكتب.

سحبت‭ ‬كتابي‭ ‬الأثير‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأرفف‭... ‬‮«‬ديوان‭ ‬منشد‭ ‬الأزمان‭... ‬المتنبي‮»‬،‭ ‬مضت‭ ‬دقائق‭ ‬في‭ ‬سكون‭ ‬المكتبة‭ ‬عندما‭ ‬تغيرت‭ ‬حالة‭ ‬الهدوء،‭ ‬ورأينا‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الطالبات‭ ‬يتابعن‭ ‬وفداً‭ ‬صحفياً‭ ‬قادماً‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة‭.‬‮ ‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بكل‭ ‬مهارة،‭ ‬أُجريتْ‭ ‬معنا‭ ‬لقاءات‭ ‬سريعة‭ ‬حول‭ ‬العلم‭ ‬والكتب‭.‬

ربما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬أول‭ ‬صورة‭ ‬تنشر‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬الأهم‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬بمنزلة‭ ‬توقيع‭ ‬عقد‭ ‬محبة‭ ‬طويل‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬مجلة‭ ‬كويتية‭ ‬عربية‭ ‬ثقافية‭ ‬طليعية‭ ‬ستترك‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬والقلوب‭ ‬بصمات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬محوها‭.‬

كبرت‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وكبرت‭ ‬المجلة‭ ‬بسرعة‭ ‬أكبر،‭ ‬وتمددت‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬فأصبحت‭ ‬أجمل‭ ‬هديـة‭ ‬نأخذها‭ ‬لأحبابنا‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬أثناء‭ ‬السفر‭.‬

بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة‭ ‬الجميلة،‭ ‬رحلت‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬مرافقة‭ ‬لزوجي‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬المبارك،‭ ‬الذي‭ ‬اختار‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرر‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬مناصبه‭ ‬في‭ ‬الدولة‭.‬

فارقت‭ ‬الكويت،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أفارق‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬هوية‭ ‬وواجهة‭ ‬كويتية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

 

منتدى‭ ‬ثقافي

عمـل‭ ‬مُحْكَـم‭ ‬نعتز‭ ‬بها،‭ ‬ونفخر‭ ‬ونحن‭ ‬نسمع‭ ‬الإشادات،‭ ‬ونستمع‭ ‬إلــى‭ ‬النقاشات‭ ‬حولها‭ ‬وحول‭ ‬ما‭ ‬ينشر‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬مطبوعة‭ ‬إلى‭ ‬منتدى‭ ‬ثقافي‭ ‬كبير‭ ‬يجمع‭ ‬أهم‭ ‬أقطاب‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬صارت‭ ‬مثل‭ ‬بستان‭ ‬يجذب‭ ‬كل‭ ‬نحل‭ ‬الإبداع‭ ‬كي‭ ‬يأتي‭ ‬ويلتقط‭ ‬منهـا‭ ‬أطيب‭ ‬رحيق،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬فاكهة‭ ‬الموائد‭ ‬العربية‭ ‬وغذاء‭ ‬الروح‭ ‬اللذيذ‭.‬

وأنا‭ ‬تصيبني‭ ‬الكلمات‭ ‬الجميلة‭ ‬بالدّوار،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬هل‭ ‬أكتب‭ ‬موسيقى‭ ‬الكلمة‭ ‬أم‭ ‬أنتعش‭ ‬بعطرها‭ ‬أم‭ ‬أستحم‭ ‬بمطرها،‭ ‬وعندما‭ ‬أصاب‭ ‬بهذا‭ ‬الدوار‭ ‬اللذيذ‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أكتب،‮ ‬والشعر‭ ‬هو‭ ‬جهتي‭ ‬الخامسة‭.‬

كبرت‭ ‬قصائدي،‭ ‬فأقيمت‭ ‬حفلة‭ ‬زفافها‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬المجلة‭ ‬الأنيقة‭ ‬العريقة‭.‬

وتلك‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬فاصلة‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬أي‭ ‬شاعر‭.‬

ثم‭ ‬تعززت‭ ‬العلاقة‭ ‬بعد‭ ‬تصدّر‭ ‬الزملاء‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬هـم‭ ‬قيادات‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬ومنه‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬لتتطور‭ ‬العلاقة‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬ومعرفة‭ ‬ومودة‭ ‬وحرص‭.‬

صارت‭ ‬المجلة‭ ‬ابنتي‭ ‬الثالثة‭ ‬وصديقتي‭ ‬الدائمة،‭ ‬كتبت‭ ‬فيها،‭ ‬وناقشت،‭ ‬ونشرت،‭ ‬وأجريت‭ ‬الحوارات‭ ‬الصحفية،‭ ‬فتلك‭ ‬الطفلة‭ ‬التي‭ ‬أجروا‭ ‬معها‭ ‬لقاء‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬مدرسة‭ ‬المرقاب‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬تجري‭ ‬لهم‭ ‬حواراً‭ ‬صحفياً‭ ‬مع‭ ‬أهم‭ ‬رموز‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭.‬

ثم‭ ‬شرّفني‭ ‬الأدباء‭ ‬العرب‭ ‬بأن‭ ‬ألقي‭ ‬كلمة‭ ‬بالنيابة‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬احتفالية‭ ‬المجلة‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬عام‭ ‬2004‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬حوار‭ ‬المشارقة‭ ‬والمغاربة‮»‬‭.‬

 

مشروع‭ ‬قومي

كانت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬تعني‭ ‬لأبي‭ ‬مبارك،‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬المبارك،‭ ‬الكثير،‭ ‬فعندما‭ ‬انطلقت‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬نائب‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬ويرأس‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اجتماعات‭ ‬إدارة‭ ‬المعارف،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يهتم‭ ‬بالعمل‭ ‬الإعلامي‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬منذ‭ ‬أطلق‭ ‬أول‭ ‬إذاعة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الكويت،‭ ‬وكان‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتحدث‭ ‬عـن‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬كمشروع‭ ‬نهضوي‭ ‬قومي‭ ‬ثقافي‭ ‬وُلد‭ ‬ناضجاً‭.‬

هكذا‭ ‬تحولت‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬مشروع،‭ ‬وإلى‭ ‬قيمة‭ ‬فكرية‭ ‬اعتبارية‭ ‬تستحق‭ ‬الاحترام‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬للعمل‭ ‬الصحفي‭ ‬قيمته‭ ‬وللفكر‭ ‬رموزه،‭ ‬ولتثبت‭ ‬الكويت‭ ‬دائماً‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬خدمت‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬والتزمت‭ ‬بحرية‭ ‬الصحافة‭ ‬وبالانتماء‭ ‬للكلمة‭ ‬الجميلة،‭ ‬لتكون‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مصباً‭ ‬لمياه‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تجمع‭ ‬أقطاب‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬والشعر،‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬صحافتها‭ ‬وفي‭ ‬مؤسساتها‭ ‬التعليمية‭ ‬والثقافية‭ ‬ليؤسسوا‭ ‬جيلاً‭ ‬واعياً‭ ‬مميزاً‭... ‬مما‭ ‬أنتج‭ ‬خامة‭ ‬كويتية‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬محيطها‭ ‬بإنتاج‭ ‬خاص‭ ‬عميق‭ ‬الفكر‭ ‬بعيد‭ ‬الرؤية‭.‬‮ ‬

ستون‭ ‬عاماً‭ ‬مرت‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭... ‬وليس‭ ‬علينا‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬نهنئها‭ ‬ونهنئ‭ ‬القائمين‭ ‬عليها،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬شبابها،‭ ‬ولا‭ ‬يمر‭ ‬عليها‭ ‬الزمن‭ ‬كما‭ ‬مر‭ ‬في‭ ‬أعمارنا‭.‬‮ ‬

مع‭ ‬أطيب‭ ‬الأمنيات‭... ‬‭‬