«العربي» رمز ثقافي مميز

«العربي»  رمز ثقافي مميز

يصادف هذا العام ذكرى مرور ستين عاماً على صدور مجلة العربي، التي وقفت على قدم المساواة مع مجلات شهرية ثقافية رصينة، مثل مجلة الهلال المصرية التي أسسها جورجي زيدان في عام 1892، وشكلت في زمنها الأول إضافة نوعية إلى الثقافة العربية، وأسهمت بدور مهم في تشكيل وعي جيل الستينيات والسبعينيات، وإبراز السمات الإنسانية للهُوية الثقافية العربية.

كانت‭ ‬ولادة‭ ‬المجلة‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬الكويت‭ ‬لدورها‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ ‬والتاريخي،‭ ‬وهو‭ ‬دور‭ ‬ريادي‭ ‬ومميز‭ ‬يعرفه‭ ‬ويقدّره‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬اليمني‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭ (‬الإمارات‭) ‬قبيل‭ ‬استقلال‭ ‬الكويت‭ ‬وبعده‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬جيلي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬المجلة‭ ‬يقرأ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬قراءة‭ ‬أفقية،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ينفذ‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬المقروء،‭ ‬ويتفاعل‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬وفنون‭ ‬وثقافة‭ ‬وعلوم‭ ‬وأجناس‭ ‬ثقافية‭ ‬مختلفة،‭ ‬عززت‭ ‬فينا‭ ‬معاني‭ ‬العروبة‭ ‬ولغتها،‭ ‬ورسخت‭ ‬إحساساً‭ ‬متماسكاً‭ ‬بالذات‭ ‬والتعاضد‭ ‬العربي‭.‬

لم‭ ‬تعوِّم‭ ‬المجلة‭ ‬منظــــومـــة‭ ‬المفـــاهيـــم‭ ‬والقيـــم،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬عَرَبتها‭ ‬مربوطـــة‭ ‬بخيول‭ ‬الإعـــلام،‭ ‬وكانـــت‭ ‬‮«‬قوميتـــــها‮»‬‭ ‬إنسانية‭ ‬وسمحــــة‭ ‬في‭ ‬جــــوهرها،‭ ‬وحلماً‭ ‬تغنــــت‭ ‬بــــه،‭ ‬وبأقلام‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافــة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثـــة،‭ ‬وارتبطــــت‭ ‬فكرة‭ ‬هذا‭ ‬الحلــم‭ ‬بالاهـتمــــام‭ ‬باللغـــة‭ ‬العربيـــة،‭ ‬ومازلت‭ ‬أذكر‭ ‬مقالات‭ ‬العالِم‭ ‬والموســوعي‭ ‬المصري‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬زكي،‭ ‬الأديــب‭ ‬الكبير،‭ ‬والكيميــائي‭ ‬العظيم،‭ ‬وأول‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬للمجلة‭ ‬ولأكثـر‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬ونصف‭ ‬العقـــد،‭ ‬ومن‭ ‬بينـــــها‭ ‬مقال‭ ‬‮«‬غـــرور‭ ‬أهل‭ ‬الرأي‮»‬،‭ ‬ومقال‭ ‬‮«‬آداب‭ ‬الجدل‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬معظــم‭ ‬برامج‭ ‬الفضائيــات‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬حضر‭ ‬فيها‭ ‬الصراخ‭ ‬والتجريح‭ ‬والسباب‭.‬

وأستحضر‭ ‬أيضاً‭ ‬أعداداً‭ ‬من‭ ‬المجلة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تولى‭ ‬فيها‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬رئاسة‭ ‬تحريرها،‭ ‬وهي‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬بداية‭ ‬تحولات‭ ‬سلبية‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية،‭ ‬ماتت‭ ‬فيها‭ ‬السياسة،‭ ‬وتراجع‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬والرواية‭ ‬والموسيقى‭... ‬إلخ‭.‬

أتذكر‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬كصاحب‭ ‬مدرسة‭ ‬صحفية‭ ‬متميزة،‭ ‬امتلك‭ ‬شجاعة‭ ‬فكرية،‭ ‬وضميراً‭ ‬مدنياً‭ ‬فريداً،‭ ‬وقد‭ ‬احتضنته‭ ‬الكويت‭ ‬بعد‭ ‬خلافه‭ ‬مع‭ ‬سياسات‭ ‬الرئيس‭ ‬المصري‭ ‬الأسبق‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭.‬

وتتداعى‭ ‬إلى‭ ‬الخاطر‭ ‬تلك‭ ‬الاستطلاعات‭ ‬الصحفية‭ ‬الممتازة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬المجلة‭ ‬عن‭ ‬الإمارات‭ ‬قبل‭ ‬اتحادها‭.‬

وكانت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬أول‭ ‬مجلة‭ ‬ترسل‭ ‬مندوبيها‭ ‬ومصوريها‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬وقرى‭ ‬وجزر‭ ‬الإمارات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظلت‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬قاسية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرون‭ ‬لا‭ ‬يزورها‭ ‬سوى‭ ‬رحّالة‭ ‬ومغامرون‭ ‬ومستشرقون‭ ‬أوربيون،‭ ‬وجاءت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬لتقول‭ ‬لقارئها‭: ‬‮«‬اعرف‭ ‬وطنك‭ ‬أيها‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬وتقدم‭ ‬له‭ ‬معاناة‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬الإمارات‭ ‬وواقعهم‭ ‬المعيش‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الخمسينيات‭.‬

وفي‭ ‬الستيــــنيات‭ ‬جاء‭ ‬سليــــم‭ ‬زبـــــال،‭ ‬وأوســــكار‭ ‬متري،‭ ‬والمصور‭ ‬عبدالناصـــــر‭ ‬شقرة،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬مندوبي‭ ‬المجلــــة‭ ‬إلى‭ ‬إمارات‭ ‬الساحـــــل،‭ ‬وكتبوا‭ ‬عن‭ ‬الأحوال‭ ‬الصحية‭ ‬والتعليمية‭ ‬والمعيشية‭ ‬وعن‭ ‬تقالــــيد‭ ‬الناس‭ ‬وعاداتهــــم،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬استطلاع‭ ‬أجرته‭ ‬المجلــــة‭ ‬كـــــان‭ ‬عن‭ ‬إمارة‭ ‬الشارقة‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬1960،‭ ‬وآخر‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬عن‭ ‬دبــــي،‭ ‬وفي‭ ‬العـــــام‭ ‬التـــــالي‭ ‬أجرت‭ ‬استطلاعاً‭ ‬مصوراً‭ ‬عن‭ ‬أبوظبي،‭ ‬وتكررت‭ ‬هذه‭ ‬الاستطلاعــات‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬التالية،‭ ‬وشملت‭ ‬بقية‭ ‬الإمارات‭ ‬وجزيرة‭ ‬أبوموسى،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تحتلها‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬نوفمبر‭ ‬1971‭.‬

وقد‭ ‬أجرت‭ ‬المجلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬استطلاعاً‭ ‬مصوراً‭ ‬عن‭ ‬الإمارات‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬اتحاد‭ ‬الإمارات‭ ‬وبعده‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الاستطلاعات‭ ‬عرف‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أحوال‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬عزلتها‭ ‬بريطانيا‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬وعن‭ ‬ركب‭ ‬التقدم‭ ‬طوال‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن،‭ ‬كما‭ ‬عرف‭ ‬العالم‭ ‬أيضاً‭ ‬دور‭ ‬الكويت‭ ‬الوطني‭ ‬والتاريخي‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬التعليم‭ ‬بإمارة‭ ‬الشارقة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1953،‭ ‬وحتى‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة‭.‬

وكانت‭ ‬أغلبيـــة‭ ‬المدرســــين‭ ‬فــــي‭ ‬مــــدن‭ ‬الإمارات‭ ‬يتبعون‭ ‬بعثة‭ ‬الكويت‭ ‬التعليــــمية،‭ ‬كما‭ ‬عرف‭ ‬العالم‭ ‬أيضاً‭ ‬دور‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المستوصفات‭ ‬الطبية‭ ‬بمختلف‭ ‬المناطق،‭ ‬وفي‭ ‬تأسيس‭ ‬أول‭ ‬محطة‭ ‬تلفزيون‭ ‬في‭ ‬دبي،‭ ‬وكان‭ ‬يرأس‭ ‬مكتب‭ ‬الكويت‭ ‬الشيخ‭ ‬بدر‭ ‬محمد‭ ‬الأحمد‭ ‬الصباح،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أول‭ ‬سفير‭ ‬للكويت‭ ‬في‭ ‬الإمارات‭.‬

امتدت‭ ‬صحبتــــــي‭ ‬لمجلة‭ ‬العربي‭ ‬نحــــو‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود،‭ ‬نهلــــت‭ ‬من‭ ‬علمها‭ ‬واستمتعـــــت‭ ‬بمـقـــــالاتها‭ ‬وبما‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حيويـــة‭ ‬وتنـــوع‭ ‬وغنى،‭ ‬وحظيت‭ ‬بالتعرف‭ ‬فــي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬بالصديق‭ ‬المفكر‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الرميحي،‭ ‬الرئيس‭ ‬الثالث‭ ‬لتحرير‭ ‬المجلة،‭ ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمره،‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬المجلة‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬تحولات‭ ‬كبرى،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬مرحلة‭ ‬خطيئة‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت،‭ ‬وما‭ ‬تركته‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة‭ ‬من‭ ‬ظلال‭ ‬وأصداء‭ ‬على‭ ‬الكويت‭ ‬والإقليم‭. ‬

ما‭ ‬أعظـــــم‭ ‬ما‭ ‬أعطتــــه‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬علـــى‭ ‬صعيد‭ ‬إثراء‭ ‬الثقافة‭ ‬والــمعـــرفة‭ ‬والفــــكر‭ ‬العـــــربي‭ ■