أفضلية الاحتجاج اللغويّ بالحديث النبويّ على الاحتجاج بالشعر وأقوال العرب

أفضلية الاحتجاج اللغويّ بالحديث النبويّ على الاحتجاج بالشعر وأقوال العرب

ليست هذه المقالة محاولة للبرهان على صحة الاحتجاج اللغوي بالحديث النبوي، فقد بُحث هذا الأمر قديماً وحديثاً، وكُتبت فيه مقالات متعددة، وأجازه مجمع اللغة العربية في القاهرة لكن في أحوال خاصة، بل هي للقول بأفضلية الاحتجاج بالحديث النبوي، ومجيء منزلته الاحتجاجية بعد القرآن الكريم مباشرة، وقبل الشعر، وقبل ما ينسب إلى البيئات العربية من كلام يفترض أنه موثوق.

ولا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬التذكير‭ ‬برأي‭ ‬القائلين‭ ‬بعدم‭ ‬الاحتجاج‭ ‬بالحديث‭ ‬النبوي‭ ‬لغوياً،‭ ‬مع‭ ‬إقرارهم‭ ‬الاحتجاج‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بغير‭ ‬أي‭ ‬شرط،‭ ‬وبالشعر،‭ ‬ولو‭ ‬لشاعر‭ ‬مجهول،‭ ‬أحياناً،‭ ‬فضلاً‭ ‬عما‭ ‬يُسمع‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬البداة‭ ‬الأقحاح،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬مضمونه‭ ‬لا‭ ‬لفظه،‭ ‬فقد‭ ‬يروى‭ ‬بالمعنى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬راويه‭ ‬أعجمياً،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬الصحابة‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬أعجمياً،‭ ‬وأن‭ ‬بين‭ ‬التابعين‭ ‬كثرة‭ ‬من‭ ‬الموالي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬اللحن‭ ‬والتصحيف‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الحديث‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬باختصار‭ ‬هو‭ ‬الرواة‭ ‬الأعاجم‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يحرّفون‭ ‬نص‭ ‬الحديث،‭ ‬وأنه‭ ‬كذلك‭ ‬أولئك‭ ‬الرواة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعنون‭ ‬بدقة‭ ‬اللفظ،‭ ‬وربما‭ ‬كانوا‭ ‬وضّاعين‭. ‬فلماذا‭ ‬نقدم‭ ‬النص‭ ‬الحديثي‭ ‬إذن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سواه،‭ ‬باستثناء‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم؟

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬المسلمون‭ ‬ومعظم‭ ‬العرب‭ ‬أنه‭ ‬عربي‭ ‬خالص،‭ ‬بل‭ ‬أفصح‭ ‬العرب،‭ ‬وأن‭ ‬العرب‭ ‬البداة‭ ‬ليسوا‭ ‬بأصحّ‭ ‬لغة‭ ‬منه،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬إنسان‭ ‬سوي‭ ‬راجح‭ ‬العقل؛‭ ‬فهو‭ ‬إذن‭ ‬أفضل‭ ‬وأوثق‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬ممن‭ ‬احتج‭ ‬بهم‭ ‬اللغويون،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الصبيان‭ ‬والمجانين‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يوثق‭ ‬بسلامة‭ ‬منطقهم‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬فصاحة‭ ‬وبلاغة‭ ‬عن‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب،‭ ‬وهو‭ ‬بالتأكيد‭ ‬يتجاوز‭ ‬متوسطيهم‭ ‬وأدانيهم‭ ‬ممن‭ ‬استشهد‭ ‬اللغويون‭ ‬بشعرهم‭.‬

إن‭ ‬أشهر‭ ‬رواة‭ ‬الشعر‭ ‬أعاجم،‭ ‬ولاسيما‭ ‬خَلَف‭ ‬الأحمر‭ ‬وحمّاد‭ ‬الراوية،‭ ‬والمقول‭ ‬أن‭ ‬حمّاداً‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬ما‭ ‬سُمي‭ ‬بالمعلقات،‭ ‬وهي‭ ‬أهم‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي؛‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬سيبويه،‭ ‬أكبر‭ ‬اللغويين،‭ ‬كان‭ ‬أعجمياً،‭ ‬ولغته‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬مضطربة،‭ ‬وهو‭ ‬يعتبر‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬الكثيرين‭ ‬مصدراً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يرويه‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬وما‭ ‬يقرره‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬لغوية؛‭ ‬فرواة‭ ‬الحديث‭ ‬ورواة‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬سواء‭. ‬

 

الرواية‭ ‬شاهد‭ ‬صدق‭ ‬دائماً

زد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬بين‭ ‬المستعربين‭ ‬من‭ ‬تفوّقوا‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وأدبها،‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬والجاحظ،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬بعضهم‭ ‬أساتذة‭ ‬لكبار‭ ‬علماء‭ ‬العرب،‭ ‬كالأصمعيّ‭ ‬الذي‭ ‬تتلمذ‭ ‬لخَلف‭ ‬الأحمر،‭ ‬وكان‭ ‬بين‭ ‬أئمة‭ ‬قرّاء‭ ‬القرآن‭ ‬مَوالٍ‭ ‬مثل‭ ‬نافع‭ ‬المدني‭ ‬وقالون‭ ‬وورش‭ ‬وابن‭ ‬كثير‭ ‬المكي‭ ‬وأحمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬البزي‭ ‬والكسائي‭ ‬والليث‭ ‬بن‭ ‬خالد‭ ‬المروزي‭ ‬والأعمش‭ ‬وسلام‭ ‬بن‭ ‬سليمان‭ ‬الطويل،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬قراءة‭ ‬القرآن‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حرص‭ ‬يفوق‭ ‬الحرص‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الشعر‭ ‬بقدر‭ ‬ضخم‭. ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬نجد‭ ‬أدباء‭ ‬ولغويين‭ ‬كباراً‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬غير‭ ‬عربي،‭ ‬وحسبك‭ ‬الشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬مثلاً،‭ ‬الذي‭ ‬ألمح‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬كرديّ‭. ‬فلا‭ ‬عبرة‭ ‬في‭ ‬أعجمية‭ ‬الراوية‭ ‬أو‭ ‬استعرابه،‭ ‬بل‭ ‬المعول‭ ‬على‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬الكلام‭ ‬العربي‭ ‬بصورة‭ ‬دقيقة،‭ ‬وقد‭ ‬يصبح‭ ‬المستعرب‭ ‬كالعربي‭ ‬القح‭ ‬في‭ ‬لغته،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬ضعيف‭ ‬التعبير‭ ‬لكنه‭ ‬يحفظ‭ ‬النصوص‭ ‬بصورة‭ ‬صحيحة،‭ ‬وإن‭ ‬ندرت‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الأخيرة‭. ‬

لا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬رواة‭ ‬اللغة‭ ‬والشعر‭ ‬لم‭ ‬يحرّفوا‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬نقلوها‭ ‬بالمشافهة،‭ ‬وقد‭ ‬فرضوا‭ ‬علينا‭ ‬قواعد‭ ‬نحوية‭ ‬مبنياً‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬السماع،‭ ‬والرواية‭ ‬الفردية،‭ ‬عن‭ ‬أشخاص‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬مجهول،‭ ‬وقبلناها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تمحيص،‭ ‬وكأن‭ ‬اللغوي‭ ‬أو‭ ‬الراوية‭ ‬شاهد‭ ‬صدق‭ ‬دائماً،‭ ‬وكأن‭ ‬المصدر‭ ‬المأخوذ‭ ‬عنه‭ ‬مصدر‭ ‬ثقة‭ ‬كذلك‭.‬

والذي‭ ‬يحرّف‭ ‬شواهد‭ ‬الشعر‭ ‬لتأييد‭ ‬رأيه‭ ‬اللغوي،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬سيبويه‭ ‬وغيره،‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬يحرّف‭ ‬ما‭ ‬ينسبه‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬الخلّص‭ ‬من‭ ‬ألفاظ‭ ‬وعبارات‭. ‬نعم‭ ‬حدثت‭ ‬خلافات‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬اللغوي‭ ‬ونشأت‭ ‬مدارس‭ ‬نحوية‭ ‬متعددة،‭ ‬وأُلقي‭ ‬الشك‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الشواهد،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬قلّما‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬أثر‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬تبديل‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقواعد،‭ ‬بل‭ ‬انقسم‭ ‬الرأي‭ ‬اللغوي‭ ‬ليس‭ ‬إلا،‭ ‬فاتبع‭ ‬جمهور‭ ‬إحدى‭ ‬المدارس،‭ ‬وأتبع‭ ‬جمهور‭ ‬آخر‭ ‬مدرسة‭ ‬أخرى،‭ ‬وجمهور‭ ‬ثالث‭ ‬مدرسة‭ ‬ثالثة،‭ ‬وطالب‭ ‬بعضهم‭ ‬بنقض‭ ‬أسس‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬لكن‭ ‬الأمر‭ ‬ظل‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

 

تعدد‭ ‬الروايات‭ ‬نصاً‭ ‬وترتيباً

ومما‭ ‬قبلناه‭ ‬الشعر؛‭ ‬لكن‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬القصائد‭ ‬الجاهلية‭ ‬مثلاً،‭ ‬فسترى‭ ‬أنها‭ ‬متعددة‭ ‬الروايات‭ ‬نصاً‭ ‬وترتيباً‭. ‬فلو‭ ‬تدبرنا‭ ‬معلقة‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم،‭ ‬مثلاً،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أن‭ ‬قافية‭ ‬البيت‭ ‬الثاني‭ ‬منها‭ ‬هي‭ ‬‮«‬سَخِينا‮»‬‭ (‬أي‭ ‬حارّة‭) ‬في‭ ‬رواية‭ - ‬والكلام‭ ‬على‭ ‬الخمر‭ - ‬و«شَحِينا‮»‬‭ (‬أي‭ ‬مشحونة‭) ‬في‭ ‬رواية‭ ‬ثانية،‭ ‬وفرق‭ ‬شاسع‭ ‬بين‭ ‬المعنيين‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬أبيات‭ ‬القصيدة‭ ‬نفسها‭ ‬عبارة‭: ‬‮«‬هل‭ ‬أَحْدثتِ‭ ‬وَصْلاً‮»‬،‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬و‮«‬هل‭ ‬أَحدثتِ‭ ‬صَرْماً‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬صُرْماً‮»‬،‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أخرى،‭ ‬والمعنيان‭ ‬متضادان‭. ‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬الأبيات‭ ‬دلالة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬هو‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬كلثوم‭:‬

ذِراعيْ‭ ‬عَيْطلٍ‭ ‬أَدماءَ‭ ‬بِكْرٍ

تربّعتِ‭ ‬الأَجارِعَ‭ ‬والمُتونا

وهذه‭ ‬إحدى‭ ‬الروايات،‭ ‬لكن‭ ‬‮«‬عيطل‮»‬‭ ‬أي‭ ‬طويلة،‭ ‬تصبح‭ ‬‮«‬حُرّة‮»‬‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أخرى؛‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأجارع‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الكثبان،‭ ‬تصبح‭ ‬‮«‬الأَماعِز‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الأراضي‭ ‬المرتفعة‭ ‬الغليظة‭ ‬ذات‭ ‬الحصى‭. ‬وتجعل‭ ‬إحدى‭ ‬الروايات‭ ‬‮«‬هِجانِ‭ ‬اللونِ‭ ‬لم‭ ‬تَقْرأ‭ ‬جَنينا‮»‬‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬تربّعتِ‭ ‬الأَجارِعَ‭ ‬والمُتونا‮»‬،‭ ‬وتجعل‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬مكانها‭ ‬‮«‬غَذاها‭ ‬الخَفْضُ‭ ‬لم‭ ‬تَحْمِلْ‭ ‬جَنينا‮»‬‭. ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬المشابهة‭. ‬هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬أبيات‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬روايات‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬وغيابها‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬أخرى،‭ ‬وتقدُّم‭ ‬بعض‭ ‬الأبيات‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات،‭ ‬وتأخّرها‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬أخرى‭. ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬أو‭ ‬قريب‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬المعلقات،‭ ‬وفي‭ ‬أكثر‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭. ‬فالتحريف‭ ‬مؤكد‭. ‬ونحن‭ ‬قد‭ ‬نجد‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الحديث،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬القدر‭ ‬والخطورة‭ - ‬ونعني‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬السنن‭ ‬والصحاح‭ ‬والمساند،‭ ‬لأن‭ ‬الكتب‭ ‬الأخرى‭ ‬لا‭ ‬تتبع‭ ‬المنهج‭ ‬الدقيق‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الذي‭ ‬تتبعه‭ ‬هذه‭ -.‬

وتصحيف‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬فيه،‭ ‬وقد‭ ‬أفضى‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬إقحام‭ ‬ألفاظ‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬منها‭. ‬وقد‭ ‬أحصينا‭ ‬في‭ ‬المعلقات‭ ‬العشر‭ ‬وحدها‭ ‬تسعاً‭ ‬وتسعين‭ ‬حالة‭ ‬يختلف‭ ‬فيها‭ ‬نقط‭ ‬الإعجام‭ ‬فيتبدل‭ ‬المعنى،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عَنَنَاً‮»‬‭ ‬في‭ ‬معلقة‭ ‬الحارِث‭ ‬بن‭ ‬حِلّزة‭ ‬التي‭ ‬فسرت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اعتراضاً‮»‬‭ ‬وجُعلت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬‮«‬عَبَثاً‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬لهواً؛‭ ‬كما‭ ‬لاحظنا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬إبدال‭ ‬الحروف‭ ‬ذات‭ ‬المخارج‭ ‬أو‭ ‬الصفات‭ ‬الصوتية‭ ‬المشتركة،‭ ‬كإبدال‭ ‬الحاء‭ ‬من‭ ‬الغين،‭ ‬والواو‭ ‬من‭ ‬الياء،‭ ‬في‭ ‬معلقة‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬حيث‭ ‬جعلت‭ ‬‮«‬مُحْوِل‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الطفل‭ ‬البالغ‭ ‬عاماً،‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬مُغيِل‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬رضيع‭ ‬أمه‭ ‬الحبلى؛‭ ‬وإبدال‭ ‬الراء‭ ‬من‭ ‬النون‭ ‬في‭ ‬المعلقة‭ ‬نفسها،‭ ‬حيث‭ ‬جعلت‭ ‬‮«‬وُكُراتها‮»‬‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬وُكُناتها‮»‬،‭ ‬وكلاهما‭ ‬يعني‭ ‬أعشاشها،‭ ‬أي‭ ‬أعشاش‭ ‬الطيور‭. ‬

ونجد‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬تصحيفاً‭ ‬بسبب‭ ‬تشابه‭ ‬رسم‭ ‬الحروف‭ ‬لا‭ ‬لفظها‭ ‬ولا‭ ‬صفاتها،‭ ‬كالزاي‭ ‬والنون؛‭ ‬فقد‭ ‬نقل‭ ‬الجوهري‭ ‬في‭ ‬‮«‬الصحاح‮»‬‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬السِكّيت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬القلب‭ ‬والإبدال‮»‬‭ ‬أن‭ ‬‮«‬اللَجِز‮»‬،‭ ‬في‭ ‬قافية‭ ‬بيت‭ ‬لتميم‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬مُقْبل‭ (‬ت‭ ‬بعد‭ ‬37‭ ‬هـ‭) ‬هو‭ ‬مقلوب‭ ‬‮«‬اللَزِج‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬صحّح‭ ‬ابن‭ ‬برّي‭ ‬الكلمة‭ ‬بلفظ‭ ‬‮«‬اللَجِن‮»‬،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القافية‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬نونية‭ - ‬وإن‭ ‬وجدنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الإبدال‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬السكّيت‭ ‬نفسه،‭ ‬وبهذا‭ ‬العنوان‭ ‬الذي‭ ‬استقر‭ ‬عليه‭ ‬محقِّقا‭ ‬الكتاب،‭ ‬أن‭ ‬بيت‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬مقبل‭ ‬المشار‭ ‬إليه‭ ‬ورد‭ ‬بلفظ‭ ‬‮«‬اللَجِن‮»‬،‭ ‬والظاهر‭ ‬أن‭ ‬المحققَيْن‭ ‬فضلا‭ ‬قراءته‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬شرح‭ ‬ابن‭ ‬السكّيت‭ ‬يوحي‭ ‬صحة‭ ‬نقل‭ ‬الجوهري‭ -. ‬وقد‭ ‬دخلت‭ ‬كلمة‭ ‬اللجِز‭ ‬اللغة‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬التصحيف،‭ ‬وبسبب‭ ‬اعتماد‭ ‬أصحاب‭ ‬المعاجم‭ ‬له،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬خطّأه؛‭ ‬ومعنى‭ ‬اللَجِن‭ ‬هو‭ ‬الوسِخ‭.‬

 

تصحيف‭ ‬النقط

وقد‭ ‬يجري‭ ‬التصحيف‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬الموازنة،‭ ‬وكأنّ‭ ‬الراوية‭ ‬قد‭ ‬نسي‭ ‬اللفظة‭ ‬أو‭ ‬العبارة‭ ‬فوضع‭ ‬مكانها‭ ‬لفظة‭ ‬أو‭ ‬عبارة‭ ‬على‭ ‬زنتها‭ ‬نفسها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬البون‭ ‬المعنوي‭ ‬بين‭ ‬اللفظتين‭ ‬أو‭ ‬العبارتين،‭ ‬وقد‭ ‬لمسنا‭ ‬ذلك‭ ‬آنفاً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عرضنا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم؛‭ ‬ونلمسه‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬شعر‭ ‬النابغة‭ ‬الذبياني‭ ‬الذي‭ ‬جُعلت‭ ‬فيه‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬ثعلب‮»‬‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬تَغْلِب‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬أمكن‭ ‬إدخال‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬تصحيف‭ ‬النقط‭. ‬هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬إبدال‭ ‬الضمائر‭ ‬وحركات‭ ‬الصرف‭ ‬والإعراب‭ ‬وحروف‭ ‬العطف‭ ‬وحروف‭ ‬الجر‭ ‬وحروف‭ ‬النفي‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬حروف‭ ‬المعاني‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬بعض‭. ‬وفضلاً‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬تطويل‭ ‬القصائد،‭ ‬وإقحام‭ ‬أبيات‭ ‬غريبة‭ ‬عنها‭ ‬عليها،‭ ‬وخلط‭ ‬أبيات‭ ‬الشعراء‭ ‬وقصائدهم‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض‭ ‬بسبب‭ ‬تشابه‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬تشابه‭ ‬أحوال‭ ‬الشعراء‭ ‬أنفسهم‭. ‬

وقد‭ ‬يُروى‭ ‬الشعر‭ ‬بالمعنى‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬الترادف،‭ ‬مثلاً،‭ ‬إذ‭ ‬يجيء‭ ‬البيت‭ ‬الواحد‭ ‬بلفظة‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬أو‭ ‬عبارة‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬وفيه‭ ‬مرادف‭ ‬تلك‭ ‬اللفظة‭ ‬أو‭ ‬العبارة،‭ ‬مثل‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬كَدَأْبِكَ‮»‬‭ ‬في‭ ‬معلقة‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬التي‭ ‬رويت‭ ‬بلفظ‭ ‬‮«‬كَدِينِكَ‮»‬‭ ‬أيضاً،‭ ‬ولفظة‭ ‬‮«‬رَحْل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬رويت‭ ‬بلفظة‭ ‬‮«‬كُور‮»‬‭ ‬أيضاً،‭ ‬وعبارة‭ ‬‮«‬لِتَضْرِبي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬رويت‭ ‬بلفظ‭ ‬‮«‬لِتَقْدَحي‮»‬‭ ‬أيضاً‭.‬

ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬التصرف‭ ‬بالشعر‭ ‬على‭ ‬الناحية‭ ‬الصرفية‭ ‬أو‭ ‬المعنوية،‭ ‬بل‭ ‬تعداها‭ ‬إلى‭ ‬الناحية‭ ‬النحوية،‭ ‬فقول‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬‮«‬ولاسيّما‭ ‬يومٍ‭ ‬بدارةِ‭ ‬جُلْجُلِ‮»‬،‭ ‬قد‭ ‬روي‭ ‬ثلاث‭ ‬روايات‭: ‬برفع‭ ‬كلمة‭ ‬يوم‭ ‬ونصبها‭ ‬وجرها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قول‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭: ‬‮«‬فأيّ‭ ‬المجدِ‭ ‬إلّا‭ ‬قد‭ ‬ولينا‮»‬‭ ‬قد‭ ‬رويت‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬أيّ‮»‬‭ ‬بالرفع‭ ‬والنصب،‭ ‬وهذا‭ ‬أثار‭ ‬جدلاً‭ ‬نحوياً‭ ‬بين‭ ‬الشراح‭. 

وأما‭ ‬قضية‭ ‬الوضع‭ ‬والنحل‭ ‬والانتحال‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬فمشهورة‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬عرضها‭ ‬هنا‭.‬

يبقى‭ ‬أمران‭ ‬يفرضان‭ ‬تقديم‭ ‬نص‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬المستشهد‭ ‬به‭ ‬لغوياً‭: ‬

أولهما‭ ‬الضرورات‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تسمح‭ ‬للشاعر‭ ‬بالتصرف‭ ‬باللغة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إقامة‭ ‬الوزن،‭ ‬فلا‭ ‬نعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬ملتزماً‭ ‬اللغة‭ ‬الصحيحة‭ ‬أم‭ ‬محرفاً‭ ‬للكلام‭ ‬نحواً‭ ‬أو‭ ‬صرفاً‭ ‬خدمة‭ ‬للعروض،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬نخشاه‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭. ‬

وثانيهما‭ ‬العلم؛‭ ‬فنحن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬رواة‭ ‬الشعر‭ ‬واللغة‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الترف‭ ‬الفكري‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إنشاء‭ ‬علم‭ ‬دقيق‭ ‬لتقويم‭ ‬رواياتهم؛‭ ‬ونحن‭ ‬نقبل‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬ونبني‭ ‬عليها‭ ‬نحونا‭ ‬ومعاني‭ ‬لغتنا‭ ‬مع‭ ‬علمنا‭ ‬بزيف‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬والشك‭ ‬بكمية‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬منها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أبيات‭ ‬المجهولين‭ ‬وأقوالهم؛‭ ‬وقد‭ ‬يدافع‭ ‬بعضنا‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لأسباب‭ ‬دينية،‭ ‬لأن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬التفاسير‭ ‬القرآنية‭ ‬استندت‭ ‬إليه،‭ ‬ومجرد‭ ‬نفي‭ ‬صحته‭ ‬أو‭ ‬الشك‭ ‬بها‭ ‬يفضيان‭ ‬إلى‭ ‬نقض‭ ‬بنيان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬تأويلات‭ ‬المفسرين‭ ‬واستنتاجاتهم،‭ ‬وقد‭ ‬يدعوان‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الآراء‭ ‬والنظريات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التأويلات‭. ‬حتى‭ ‬الذين‭ ‬شكّوا‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬شكاً‭ ‬يقارب‭ ‬النفي‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يستعملون‭ ‬القواعد‭ ‬النحوية‭ ‬والمعاجم‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬عليه‭. ‬

 

سكوت‭ ‬العاجز‭ ‬الخائف

أما‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة،‭ ‬نعني‭ ‬رواية‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬نشأت‭ ‬علوم‭ ‬هامة‭ ‬جداً‭ ‬لنقد‭ ‬سلاسلها‭ ‬ورجالها‭ ‬وللنظر‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬الحديث‭ ‬نفسه؛‭ ‬فلقد‭ ‬نشك‭ ‬ببعض‭ ‬الشعر‭ ‬ونعلم‭ ‬أنه‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬راوية‭ ‬كذوب‭ ‬أو‭ ‬منسوب‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬مجهول،‭ ‬لكننا‭ ‬قلّما‭ ‬نرفض‭ ‬القواعد‭ ‬والشروح‭ ‬الناشئة‭ ‬عنه،‭ ‬بل‭ ‬نسكت‭ ‬سكوت‭ ‬العاجز‭ ‬الخائف‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬متطاول‭ ‬أن‭ ‬يتهدم؛‭ ‬أما‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬فيُرفض‭ ‬الضعيف‭ ‬منه‭ ‬بحزم،‭ ‬وإذا‭ ‬استشهد‭ ‬به‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬هامّ‭ ‬انتُقد‭ ‬انتقاداً‭ ‬شديداً،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العلماء‭ ‬والفقهاء‭.‬

فهناك‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬الحديث،‭ ‬ورفض‭ ‬للضعيف‭ ‬منه،‭ ‬وسقوط‭ ‬لأي‭ ‬قاعدة‭ ‬فقهية‭ ‬مبنية‭ ‬عليه،‭ ‬ولو‭ ‬اكتُشف‭ ‬ضعفه‭ ‬بعد‭ ‬حين‭. ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬خوف‭ ‬على‭ ‬بنيان‭ ‬الفقه‭ ‬من‭ ‬السقوط،‭ ‬فهو‭ ‬قائم‭ ‬أولاً‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬لا‭ ‬خلاف‭ ‬فيه‭ ‬وهو‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مهما‭ ‬تعددت‭ ‬قراءاته‭ ‬ووجوه‭ ‬تأويله،‭ ‬وذلك‭ ‬لكونه‭ ‬نصاً‭ ‬مؤكداً‭ ‬مثبتاً‭ ‬بالكتابة،‭ ‬لا‭ ‬مروياً‭ ‬بالمشافهة‭ ‬كالشعر،‭ ‬وهو‭ ‬محصّن‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬بعلوم‭ ‬دقيقة‭. ‬وبنيان‭ ‬الفقه‭ ‬هذا‭ ‬قائم‭ ‬ثانياً‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬خلاف‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬يضيرها‭ ‬سقوط‭ ‬أحاديث‭ ‬أخرى‭ ‬مهما‭ ‬كثر‭ ‬عددها‭. ‬فبنيان‭ ‬الحديث‭ ‬أقوى‭ ‬وأرسخ‭ ‬من‭ ‬بنيان‭ ‬الشعر‭. ‬

وفي‭ ‬النتيجة،‭ ‬إن‭ ‬حجة‭ ‬أعجمية‭ ‬الرواة‭ ‬لا‭ ‬تنهض‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬ضعف‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بالحديث،‭ ‬لأنها‭ ‬تصيبه‭ ‬كما‭ ‬تصيب‭ ‬الشعر‭ ‬ومصادر‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عامة،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الرواة‭ ‬في‭ ‬الميدانين‭ ‬أعاجم،‭ ‬وليس‭ ‬كل‭ ‬أعجمي‭ ‬أعجم،‭ ‬ولعل‭ ‬رواة‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬الأعاجم‭ ‬أكثر‭ ‬احترازاً‭ ‬من‭ ‬رواة‭ ‬الشعر‭ ‬الأعاجم،‭ ‬لأن‭ ‬الحديث‭ ‬أشد‭ ‬مهابة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭. ‬

 

النقاء‭ ‬والفصاحة

ومعروف‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬الذين‭ ‬اشتغلوا‭ ‬بالعلوم‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬حتى‭ ‬بعلوم‭ ‬العربية،‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعاجم،‭ ‬وأن‭ ‬الشك‭ ‬يصيب‭ ‬الشعر‭ ‬ومصادر‭ ‬اللغة‭ ‬المعتمدة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يصيب‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭. ‬والحديث‭ ‬النبوي‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬البنيان‭ ‬الفقهي‭ ‬الأشد‭ ‬ثباتاً‭ ‬من‭ ‬البنيان‭ ‬الشعري‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬شواهد‭ ‬اللغة‭ ‬نقاءها‭ ‬وفصاحة‭ ‬أصحابها،‭ ‬فإن‭ ‬الحديث‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬عربي‭ ‬يتبوأ‭ ‬مرتبة‭ ‬عليا‭ ‬في‭ ‬الفصاحة‭ ‬والبلاغة،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الشواهد‭ ‬الشعرية‭ ‬والعبارات‭ ‬والألفاظ‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬البيئات‭ ‬العربية‭ ‬تتفاوت‭ ‬فصاحة‭ ‬وضعفاً،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬ثقة‭ ‬بقدرتهم‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬السليم‭.‬

والحديث‭ ‬النبوي‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الضرورات‭ ‬التي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬الشعر،‭ ‬فهو‭ ‬أدق‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الناحية‭. ‬وأخيراً‭ ‬فإن‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬يخضع‭ ‬لتحقيق‭ ‬علمي‭ ‬رصين،‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬له‭ ‬مصادر‭ ‬اللغة‭ ‬الأخرى‭. ‬فينبغي‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مقدماً‭ ‬في‭ ‬الاحتجاج‭ ‬اللغوي‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬وعلى‭ ‬المدوَّنة‭ ‬اللغوية‭ ‬البدوية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الحضرية‭ ‬المفترض‭ ‬أنها‭ ‬موثوقة،‭ ‬فهو‭ ‬أوثق‭ ‬منها‭ ‬لغوياً،‭ ‬ولا‭ ‬يعلوه‭ ‬في‭ ‬الوثوق‭ ‬إلا‭ ‬كلام‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭.  ‬هذا‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬بعضهم،‭ ‬في‭ ‬القديم‭ ‬والحديث،‭ ‬وضع‭ ‬شروط‭ ‬للاستشهاد‭ ‬أو‭ ‬الاحتجاج‭ ‬بالحديث،‭ ‬لكنها‭ ‬شروط‭ ‬متشددة‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعاد‭ ‬النظر‭ ‬فيها،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬للتحليل‭ ‬العلمي‭ ‬المحض،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الشرط‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬صحة‭ ‬الحديث،‭ ‬وأن‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬مقارنة‭ ‬رواياته‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬وأن‭ ‬يختار‭ ‬أكثرها‭ ‬إقناعاً‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التعبير‭ ‬اللغوي،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬النص‭ ‬اللغوي‭ ‬الوارد‭ ‬في‭ ‬أحاديث‭ ‬متعددة‭ ‬للإحصاء‭ ‬والمقارنة‭ ‬والتحليل‭ ‬والاستنتاج‭ ‬المجرد‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬الدينية،‭ ‬وأن‭ ‬يقارن‭ ‬بالنصوص‭ ‬اللغوية‭ ‬الموثوقة‭ ‬الأخرى،‭ ‬ليبنى‭ ‬الاحتجاج‭ ‬به‭ ‬لغوياً‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬علمية،‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬بني‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الفقهي،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ■