الخطاب الروائي والسينمائي جدلية الاتصال والانفصال
لا شك في أن علاقـة الرواية بالسينما هي علاقة وطيدة وراسخة، طالما أن المجالين يتلاقيان في عديد الخصائص وكثير المميزات والركائز، فالسينما تربطها علاقات مجاورة ومصاهرة مع كل عناصر الأدب، ولعل أبرزها بطبيعة الحال الرواية، باعتبارها أقرب هذه المجالات الأدبية تناسبا وترابطا وانسجاماً مع السينما، نظراً للمساحة الواسعة التي يشترك فيها المجالان.
تتلاقى السينما مع الرواية في الركائز والأسس الكبرى، التي تتمثل في عناصر الخطاب السردي، وهي: الشخصيات والأحداث والزمان والمكان والحوار، إضافة إلى أن كلا الخطابين يمثل ترجمة للواقع ورؤية للعالم وتصورا للحياة واستحضارا للعناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية كل حسب طريقته ونوعية أدائه، كما أنهما معا يمزجان رؤيتهما بعنصر التخييل الذي يمثل ركيزة أساسية في البناء الفني والجمالي، ولكن الاختلاف والتباين يكمنان في خصوصية المجالين وطبيعة التعامل مع هذه العناصر، فالسينما حتى وإن توفرت على كل مقومات الخطاب السردي إلا أن خصوصية المجال تفرض تعاملاً مغايراً يستلزم عناصر فنية تترجم اللغة إلى صورة والأسلوب إلى تقنية، وإذا كان القارئ يجد الحرية الكاملة للتوسع والامتداد في عالم الخيال وإعادة بناء المقروء الذهني في عالم الرواية، فإن العرض السينمائي لا يترك هذه المساحة بالنسبة للمشاهد، طالما أنه يفرض علينا نمطاً مجسداً معروضاً من طرف المخرج الذي يختار الهيئة المناسبة لتصوره ورؤيته الفنية فيحولها إلى فيلم سينمائي يترجم هذه الرؤية.
وانطلاقاً مما سبق يتبين أن الرواية والسينما تجمعهما علاقة وطيدة تجعلهما يشتركان في مجموعة من الخصائص والمميزات الأخرى التي تضاف إلى العناصر البنائية - السردية السابقة الذكر.
< أولى هذه الخصائص، أنهما معاً، أي السينما والرواية يتجهان في مخاطبتهما إلى الجمهور الواسع، مما ينتج عنه ما يسمى بثقافة الجماعة بعكس الرسم أو الشعر مثلاً اللذين يتوجهان في خطابهما إلى نوع معين من الجمهور «أقلية» مما يخلق معه ثقافة النخبة.
< الكتاب والسينما يلبيان رغبة واحدة وآنية في الوقت نفسه، رغبة حب الاستطلاع الفوري، فمن يشاهد فيلماً كمن يقرأ رواية، فكلاهما قراءة ومشاهدة في الوقت نفسه، إذ إن الصورة المرسومة على الشاشة في حد ذاتها قراءة ذهنية سريعة ومتتالية لمجموعة من الصور المتحركة، التي تعبر عن حالة ما أو عدة حالات في مشاهد قد تقصر أو تطول، نفس الشيء يكاد يقع بالنسبة للكتاب، إذ وأنت تقرأ عن حالة أو حالات ما تتفاوت درجات أهميتها، تتصور وتشاهد الأحداث والأشخاص مجسمين على شاشة مخيلتك، خصوصا في الكتابات التي تهتم بالجوانب الاجتماعية للبشر، ففي هذه الكتابات تضحي اللغة رديفاً ثانوياً للصورة التي اكتسبت عبر تاريخ طويل سلطة كبيرة في الوصف والتعبير بعدة وسائل وآليات.
ـ على عكس الكتاب، في السينما، لا يصبح حضور الكاتب مركزياً، بأي وجه من الوجوه، وإنما هناك شخص آخر يحتل هذا الموقع، إنه المخرج في أغلب الأحوال، ولكن يمكن للممثل كذلك أن يحتل الصدارة «فيغطي على وجود المخرج أو يقلل من درجة حضوره، بل إن وجود المخرج نفسه عند عامة الجمهور، لا ذكر له أمام هيمنة الممثلين، فما بالك بالكاتب، سواء كان السيناريست أو صاحب الرواية؟».
وتتراءى العلاقة بين الأدب والسـينما في التواصل والتأثير المتبادل بينهما، وهو ما فصله الدكتور جهاد نعيســة في بحثه الموسوم بـ «الرواية والسرود السمعية البصرية».
ويرى جهاد أنه يمكن أن نوازن بين الرواية والســينما موازنة موجزة، وبشيء من التصرف، فيما يأتي:
- إن كلاً من هذين الفنين يقوم على السرد التخييلي.
- إن كلاً منهما يتخذ من الإنسان مداراً أو محوراً لهما.
- إن كلاً منهما يرتبط بالواقع ارتباطاً قوياً أو واهياً، حسب طبيعة التخييل ومداه ومرجعياته بكل عمل.
- إن كلاً منهما يحتفي بالبعد التاريخي للسرد، من حيث كونهما يحللان الشروط التاريخية البشرية العامة أو الخاصة في فترة زمنية معينة.
تلك أهم نقاط الائتلاف بين الرواية (أو الفن القصصي) والفن السينمائي، أما نقاط الاختلاف بينهما فيمكن حصرها فيما يأتي:
• إذا كان السرد الروائي/ القصصي يعتمد على اللغة المكتوبة، فإن السـينما تعتمد على اللغة الســمعية البصرية التي تخضع لبناء حركي.
• إذا كان الزمن فــي الرواية أو الفن القصصي متحرراً من حيث الطول، أو القصر، فإن الزمن في الســينما محكوم بفترة عرض الفيلم.
•إن زمــن الوصــف يطــول فــي الروايــة، ويقصر في السينما.
•إن الإبداع الروائــي أو القصصي فـردي، خلافاً للإبداع الســينمائي الذي لا يمكــن أن يتم إلا بوســاطة جماعة من الممثلين والمصورين، فضلاً عن المخرج، وهنا نســتثني ســرود المطولات الشعبية التي اشترك في تأليفها مجموعة من المبدعين المجهولين عبر العصور.
هكذا يتبين أنه إذا كان الأدب أداته «الكلمة» والفن أداته «الصورة»، يصبح منطقيا تعريف الرواية بأنها «فن السرد بالكلمة» والفيلم بأنه «فن السرد بالصورة»، إنه «تفكير بلغة الصور المتحركة والصوت»، لكن مشكلة هذا التعريف على وجاهته أنه يتعسف في الفصل بين نظامي التواصل الأساسيين: الكلمة والصورة. ويفترض افتراضاً غير دقيق، أن الرواية فن خالص
لـ «الكلمة» والفيلم فن خالص لـ «الصورة». حتى مع الإقرار بأن «الكلمة هي الوحدة الأساسية للرواية ومنها تولد الجملة والفقرة والمشهد والفصل، في مقابل أن الصورة هي الوحدة الأساسية للفيلم، ومنها يولد «الكادر» و«اللقطة» و«المشهد» و«المقطع الفيلمي».
إن السؤال الذي يطرح حول العلاقة القائمة بين نسقين تعبيريين تواصليين مختلفين، الأول يعتمد على لغة الكلمات في عملية تحققه، في حين أن الثاني يعتمد على لغة الصورة في كليتها مؤازرة في الآن ذاته بلغة الصوت الملفوظ، يطرح أكثر من إجابة خصوصاً في مجتمع عالمي جديد، يعرف نفسه بأنه يمثل حضارة جديدة هي «حضارة الصورة» على اعتبار أن المجتمعات السابقة عليه، كانت تمثل حضارات الكلمات في تنوعها واختلافها، وإذا علمنا أن الصورة توازي أو تفوق، كما يقول المثل، ألف كلمة، أدركنا أهمية هذا التمييز واستطعنا أن نلمس بعض دلالاته المتسترة.
ولكل منهما أبعاده الخصوصية التي يستقل بها عن الآخر، وهذا ما يخلق تفرداً فنياً يرجع إلى الاختلافات الهيكلية والبنائية بين الفنين، فإذا كانت الكتابة الروائية تتحدد اجتماعيا وتاريخيا طالما أن لها أبعادا تواصلية تستدعي الآخر وتفترض القراءة، فإن الكتابة السينمائية لها منطق مغاير، لأن العملية التي تتبلور فيها هذه الكتابة تخضع لصيرورة قد تكون الذات الكاتبة فيها حاسمة في التحكم بفلسفة الفيلم، كما يمكن أن «تذوب في تجاذبات واعتبارات لتتحول إلى هامش منفعل تغلب عليه الجماعة السينمائية»، هذه الجماعة التي تؤطر وتوجه من طرف المخرج الذي يطبع العمل برؤيته الإبداعية، فالمخرج لا يؤلف جملاً ولا يصور لوحات، إنما يذهب أعمق من ذلك، فهو يخرج المعنى الباطني كله ويشخص الفكر تشخيصاً مادياً. «فالسينما تقدم لنا الروح دفعة واحدة، والمشاهد العادي يلاحظ حينذاك أن الروح - التي يعزوها البعض إلى الخلايا العصبية والآخرون إلى علة أولية - تملك نسيج المادة والألوان والجسد والأفكار». وهذا ما يجعلنا نقول إن السينما ليست ترجمة ونسخاً مباشراً للرواية من حقلها اللغوي إلى حقلها الفيلمي، بل إنها إبداع جديد يعيد إنتاج العمل الأدبي بشكل آخر متمايز عن الشكل الأولي، إبداع يمزج مجموعة من التقنيات السينمائية التي تحول ما هو مكتوب مقروء إلى ما هو مرئي مشاهد، والمخرج هنا هو مبدع جديد يركب الرواية بأسلوبه ورؤيته واختياراته المتناسبة مع الخصوصيات التقنية، لهذا فإننا نجده يحذف تارة ويضيف تارة أخرى في العمل الأدبي، وفق ما يتوافق مع تطلعاته واختياره السينمائي. وهذا ما يؤكده الكاتب الكبير نجيب محفوظ أحد أبرز الروائيين الذين تعاملت السينما مع أعمالهم، حينما يقول: «أنا راضٍ عن التغييرات التي تطرأ في قصصي ولي رأي في هذا الموضوع: وهو أن السينما فن وليست ترجمة، والسينمائي فنان وليس مترجماً للعمل الأدبي، فهو صاحب رؤية وصاحب إبداع، فهو يأخذ العمل الأدبي ويحوله إلى عمل فني، ويصح أن يأخذ 90 أو 50 في المئة حسب رؤيته، كما يصح أن يؤلف قصة جديدة مستوحاة من الأولى ويعطيها اسما جديدا».
وهذا الناقد السينمائي السوري سعيد مراد يؤيد رأي نجيب محفوظ في كون السينما فن مستقل بإبداعه وليست ترجمة بقوله: «الأفلمة ليست نقلاً حرفياً للنص الأدبي الأصلي.. فلو كانت كذلك، لتحول الفيلم السينمائي إلى وسيلة إيضاح بالصور للنص الأدبي، لكنها عملية خلق لا تبخس الأصل الأدبي ولا تلوي عنقه أو تتعالى عليه، بل تغنيه وتفتح إمكانياته، مستخدمة رصيد فن آخر هو السينما بكل ما لديها من طاقات ووسائل تعبر».
خلاصة القول إن الرواية والسينما لونان تعبيريان يتفقان ويختلفان في آن واحد، يلتقيان عند نقطة جوهرية تتمثل في السردية التي تصبغهما، ويختلفان من حيث تغير آلية الخطاب لا مضمونه. فهما يستخدمان السرد خطاباً ذا حمولات أيديولوجية، ويختلفان في كيفية تقديمه تبعاً لاختلاف آلية التعبير.
الرواية تصوير بالكلمات، وتعبير بالمجرد، بينما السينما عين مبصرة، وتجسيد للعالم. وتبعاً لهذه الخصوصية يحدث التقاؤهما فيما يعرف
بـ Adaptation أو نقل الرواية إلى السينما. فالرواية المكتوبة تتحول إلى شريط مرئي يجسد المجرد برؤية تأتي أحياناً مغايرة لرؤية الرواية. فرغم الاتفاق في الجوهر، فإن الاختلاف في كيفية عرض هذا الجوهر هو ما يميز السينما عن الرواية، فالكلمة عالم من المجردات الذهنية، بينما الصورة عالم حسي بصري، وهذا الاختلاف يتبعه بالضرورة اختلاف في التلقي، فقارئ الرواية ذهني الوظيفة، متخيل، ثم مؤول، بينما المشاهد، بصري الوظيفة، واقعي، ثم مؤول. وعليه فإن آلية العلاقة بين الرواية والسينما هي علاقة اختزال المكتوب إلى صورة، وهذا الاختزال ينتج عنه الاستغناء بالصورة ومدى شموليتها عن الوصف السردي المسهب في الرواية. وهنا تكمن مشكلة التلقي في عدم التنبه لطبيعة التعبير في كل من الرواية والسينما.
وفي السياق ذاته، فإن الرواية قد تتعرض لما هو أخطر، فكثيراً ما تقع الرواية عند نقلها إلى السينما تحت تأثيرات أيديولوجية عميقة تتبدل معها كثير من التفاصيل والشخصيات وأحياناً تتغير رؤية الرواية بالكامل. هنا تصبح العلاقة أبعد من تغير في آلية التعبير، إلى تغير في البنية نظراً لمؤثرات خارجية لا تحكمها العلاقة الآلية بين النصين، بل تحكمها معضلة السياق الخارجي. فبعض الأفلام المنقولة عن نصوص روائية تضطر لأسباب خارجية، سياسية أو دينية أو اجتماعية، إلى الاستغناء عن بعض الشخصيات أو الأحداث أو المواقف، أو زيادة شخصيات وحوادث، أو تغيير جوهر بعض الشخصيات والحوادث. وهذا يتطلب إعادة صياغة للنص الروائي يتجاوز المعطيات الضرورية السابقة مثل الاختزال والتكثيف والتقديم والتأخير, إلى التغيير في مسار الأحداث أو اقتراح نهاية بديلة تقدم رؤية تتفق مع الواقع أثناء إنتاج الفيلم ■