دراسات في الخطاب فتنة قراءة الأدب والفكر

دراسات في الخطاب  فتنة قراءة الأدب والفكر

هذا الكتاب للباحثة التونسية نور الهدى باديس وقد صدر سنة 2008 ويضم بين دفتيه أربع دراسات، ثلاث منها تنظر  برؤية جديدة وأدوات أكثر  جدة إلى بعض وجوه التراث البلاغي والمعرفي في الثقافة الإسلامية، فيما الدراسة الرابعة تجترح عناصر ممكنة لفهم مختلف للأدب النسوي وللمنظور النسوي في دراسة الأدب الذي تكتبه المرأة، أو عن المرأة.

نحن‭ ‬أمام‭ ‬كتاب‭ ‬ينشد‭ ‬الاختلاف‭ ‬والمغايرة‭ ‬عن‭ ‬المكتوب‭ ‬السائد‭ ‬والمتداول،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬اعتمدت‭ ‬الباحثة‭ ‬على‭ ‬منهجية‭ ‬استنطاق‭ ‬النصوص‭ ‬بجهاز‭ ‬مفاهيمي‭ ‬واصطلاحي‭ ‬تنفذ‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الطبقات‭ ‬الخفية‭ ‬والمحجوبة‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬اختفت‭ ‬وراء‭ ‬طبقات‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬السائدة‭ ‬والمكرورة‭ ‬التي‭ ‬كرّستها‭ ‬العادات‭ ‬المستهلكة‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬الكلاسيكية‭.‬

أولى‭ ‬آيات‭ ‬المغايرة‭ ‬والاختلاف‭ ‬لدى‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬باديس،‭ ‬أن‭ ‬الجاحظ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬-‭ ‬في‭ ‬تقديرها‭ ‬-‭ ‬رمزاً‭ ‬لدحض‭ ‬الشعوبية،‭ ‬ولا‭ ‬للمنافحة‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬أمام‭ ‬النفوذ‭ ‬الأدبي‭ ‬والسياسي‭ ‬الفارسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬آخذاً‭ ‬في‭ ‬التغلغل‭ ‬في‭ ‬مفاصل‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭.‬

الجاحظ‭ ‬وأفكار‭ ‬الجاحظ‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬رأيها‭ ‬بنية‭ ‬وسطى‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬ذاهبة،‭ ‬هي‭ ‬ثقافة‭ ‬الشعر‭ ‬والمنطوق،‭ ‬وثقافة‭ ‬آخذة‭ ‬في‭ ‬الرسوخ‭ ‬والانبثاق‭ ‬وهي‭ ‬ثقافة‭ ‬النثر‭ ‬والمكتوب‭ ‬والآداب‭ ‬السلطانية،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بفنون‭ ‬الكتابة‭ ‬والتدوين‭.‬

إنها‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ولكي‭ ‬تؤصلها‭ ‬الباحثة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الجاحظ،‭ ‬عمدت‭ ‬إلى‭ ‬إحاطتها‭ ‬بكل‭ ‬الخلفية‭ ‬الأبيستمولوجية‭ ‬اللازمة،‭ ‬وأوردت‭ ‬شواهد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬‮«‬البيان‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬متروكة‭ ‬لدى‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬ولكنها‭ ‬استنطقتها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الاستنطاق‭ ‬والتأويل‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬يستوقفها‭ ‬كلام‭ ‬الجاحظ‭ ‬عن‭ ‬الكتاب،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬‮«‬فهو‭ ‬الصديق‭ ‬الذي‭ ‬متى‭ ‬استنطقته‭ ‬نطق،‭ ‬ومتى‭ ‬أسكته‭ ‬سكت‮»‬،‭ ‬والكتاب‭ ‬هو‭ ‬النثر‭ ‬وأدب‭ ‬النثر‭. ‬وأفضت‭ ‬بها‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬إدراك‭ ‬حدة‭ ‬السجال‭ ‬والجدل‭ ‬والمفاضلة‭ ‬بين‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬والحديث‭ ‬عن‭ ‬النثر‭. ‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى،‭ ‬فإن‭ ‬الجاحظ‭ ‬دشن‭ ‬أبيستمية‭ ‬جديدة،‭ ‬وخلق‭ ‬فتوحات‭ ‬معرفية‭ ‬بكراً‭ ‬يخرج‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬لكي‭ ‬ذ‭ ‬والكلام‭ ‬لها‭ ‬ذ‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬النثر‭ ‬معناه‭ ‬تحول‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬البنى‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والبلاغية،‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬‮«‬تحول‭ ‬من‭ ‬الشفوي‭ ‬إلى‭ ‬المكتوب،‭ ‬ومن‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬النثر،‭ ‬ومن‭ ‬ثقافة‭ ‬الأسماع‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الرأي،‭ ‬ومن‭ ‬ثقافة‭ ‬الإيقاع‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬النص‮»‬‭. ‬

 

لحظة‭ ‬فارقة

إنّ‭ ‬الباحثة‭ ‬لا‭ ‬تشتغل‭ ‬على‭ ‬بلاغة‭ ‬الجاحظ،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬حكيه،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬العروبة،‭ ‬بل‭ ‬تشتغل‭ ‬على‭ ‬أبيستمولوجيا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يترافق‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬احتدام‭ ‬لعوامل‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬بين‭ ‬بنية‭ ‬آيلة‭ ‬للسقوط‭ ‬وبنية‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الانبثاق،‭ ‬نحن‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الذاكرة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ولكي‭ ‬تمسك‭ ‬بهذه‭ ‬اللحظة‭ ‬الفارقة‭ ‬نرى‭ ‬الباحثة‭ ‬تنزل‭ ‬كتابها‭ - ‬معرفياً‭ - ‬بين‭ ‬تخصصات‭ ‬متعددة‭ ‬وتقاطعات‭ ‬هذه‭ ‬التخصصات،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬مفاضلة‭ ‬النثر‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬لدى‭ ‬الجاحظ،‭ ‬تستدعي‭ ‬عناصر‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬وتشير‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬التثاقف‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الجاحظ‭ ‬ولدى‭ ‬فكره‭ ‬بالذات،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تستدعي‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬ذاتها‭ ‬وظيفة‭ ‬الترجمة‭ ‬والترجمان‭ ‬باعتبارها‭ ‬فاعلية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمع‭ ‬العباسي‭. ‬

إنّ‭ ‬الباحثة‭ ‬تقف‭ - ‬معرفياً‭ ‬-‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬مشبّعة‭ ‬بالتحولات،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬ذلك‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تُمسك‭ ‬بالبنية‭ ‬الثابتة‭ ‬بكل‭ ‬عناصرها‭ ‬المتغيرة‭: ‬عنصر‭ ‬الترجمة،‭ ‬سجال‭ ‬المفاضلة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر،‭ ‬الحاجة‭ ‬القصوى‭ ‬إلى‭ ‬التدوين،‭ ‬فهي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الإمساك‭ ‬برؤية‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬الكلية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مبثوثة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مؤلفاته،‭ ‬ثم‭ ‬تقديمها‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬البنية‭ ‬الكاملة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعتريها‭ ‬النشاز‭ ‬أو‭ ‬الاضطراب‭ ‬أو‭ ‬الغموض‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الباحث‭ ‬القدير‭ ‬حمادي‭ ‬صمود‭ ‬محقاً‭ ‬حينما‭ ‬وصف‭ ‬بحث‭ ‬باديس‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬خطاب‭ ‬الغيرية‮»‬،‭ ‬وصفه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‮»‬‭ (‬كتاب‭ ‬مقالات‭ ‬للخطاب‭.‬ص‭.‬16‭)‬،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬العلمي‭ ‬المحكم‭ ‬نكتشف‭ ‬مع‭ ‬الباحثة‭ ‬المساعي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬بالثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الشعر،‭ ‬وهي‭ ‬ثقافة‭ ‬رأى‭ ‬أدونيس‭ ‬أنها‭ ‬غالبة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ونرى‭ ‬أيضا‭ ‬التباشير‭ ‬الأولى‭ ‬للتحرر‭ ‬من‭ ‬سلطان‭ ‬الشفوي،‭ ‬ومن‭ ‬هيمنة‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وما‭ ‬تطلبه‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬لتقاليد‭ ‬الاجترار‭ ‬والتكرار‭. ‬

الباحثة‭ ‬باديس‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬وهي‭ ‬تنقد‭ ‬ذاتها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬مثقفيها،‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الجاحظ،‭ ‬وهذا‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭ ‬مؤسس‭ ‬لمشروع‭ ‬ثقافي‭ ‬ذي‭ ‬خلفية‭ ‬أبيستمولوجية‭ (‬ذكرناها‭ ‬آنفا‭) ‬بأدوات‭ ‬عدّ‭ ‬فيها‭ ‬الجاحظ‭ ‬مرجعا‭ ‬لها‭ ‬وحجة‭ ‬فيها‭ (‬البلاغة‭/ ‬الفصاحة‭/ ‬الحجاج‭...)‬،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬تورد‭ ‬الباحثة‭ ‬البارزة‭ ‬مقطعاً‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الجاحظ‭ ‬مرّ‭ ‬عليه‭ ‬الدارسون‭ ‬مرور‭ ‬الكرام،‭ ‬ومنحته‭ ‬هي‭ ‬أقصى‭ ‬ممكنات‭ ‬القراءة‭ ‬والتأويل‭ ‬‮«‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬الصناعات‭ ‬والإرفاق‭ ‬والآلات‭ ‬هي‭ ‬موجودات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬دون‭ ‬الأشعار،‭ ‬وها‭ ‬هنا‭ ‬كتب‭ ‬هي‭ ‬بيننا‭ ‬وبينكم‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬إقليدس‭ ‬ومثل‭ ‬كتاب‭ ‬جالينوس‭ ‬ومثل‭ ‬المجسطي‭...‬‮»‬‭.‬

 

نواة‭ ‬صلبة

إن‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الجاحظ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬طرح‭ ‬أهمية‭ ‬النثر‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬سبقه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬السبق‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬مشروعاً‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬وضدها‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬أوصل‭ ‬الجاحظ‭ ‬المفاضلة‭ ‬أو‭ ‬السجال‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬إلى‭ ‬أوجه‭ ‬وقمته‭ ‬ومنتهاه،‭ ‬حتى‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬والكتابة‭ ‬والتدوين‭ ‬النواة‭ ‬الصلبة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلكها‭ ‬الإبداعات‭ ‬والسرديات،‭ ‬وحتى‭ ‬يخرج‭ ‬الكتّاب‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬موظفين‭ ‬‮«‬تكنوقراطيين‮»‬‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬إلى‭ ‬الناطقين‭ ‬الحقيقيين‭ ‬بثقافة‭ ‬المجتمع‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬النثري‭ ‬هو‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬عقل‭ ‬الجاحظ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تصل‭ ‬إليه‭ ‬الباحثة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الحين‭ ‬ذاته‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الباحث‭ ‬الكبير‭ ‬حمادي‭ ‬صمود‭ ‬ذ‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬العربية‭ ‬وعلى‭ ‬جلال‭ ‬قدره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالثقافة‭ ‬الإسلامية‭ - ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬احتواء‭ ‬كتب‭ ‬الجاحظ‭ ‬على‭ ‬كم‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والأشعار‭ ‬والوقائع‭ ‬والمرويات‭ ‬والتعاليق،‭ ‬مأتاه‭ - ‬والكلمة‭ ‬لصمود‭ ‬ذ‭ ‬‮«‬العطش‭ ‬نحو‭ ‬التدوين‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬باديس،‭ ‬فترى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قانوناً‭ ‬يخرق‭ ‬أبيستمية‭ ‬سائدة،‭ ‬ويبشر‭ ‬بثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬موادها‭ ‬وفي‭ ‬بنيتها‭. ‬وتقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬طرح‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬المبكرة‭ ‬الصراع‭ ‬بل‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬أنصار‭ ‬الشعر‭ ‬باعتباره‭ ‬نهجاً‭ ‬أصيلاً‭ ‬نشأت‭ ‬على‭ ‬وقعه‭ ‬ثقافة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬خصائصها‭ ‬البداوة‭ ‬والترحال،‭ ‬ونثر‭ ‬بما‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬والمجتمع‮»‬‭.‬

إننا‭ ‬لا‭ ‬ننفي‭ ‬إمكان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فكر‭ ‬صمود‭ ‬قد‭ ‬ألهم‭ ‬الباحثة‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬العلمي،‭ ‬ولكن‭ ‬يُحسب‭ ‬لها‭ ‬أنها‭ ‬درست‭ ‬تفكير‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬أبيستمي‭ ‬لا‭ ‬يختزله‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬البلاغية،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬مفاعيلها‭ ‬الحجاجية،‭ ‬وإنما‭ ‬ينزله‭ ‬منزلته‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الفكر،‭ ‬وفي‭ ‬تحولات‭ ‬المعرفة،‭ ‬وضمن‭ ‬حركة‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬يأبىذ‭ ‬بالدليل‭ ‬الملموس‭ ‬ذ‭ ‬الثبات‭ ‬والجمود،‭ ‬ووجد‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الجاحظي‭ ‬وفي‭ ‬تفكيره‭ ‬متنفساً‭ ‬ذا‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭.‬

 

علوم‭ ‬دخيلة

‭ ‬إن‭ ‬الأكاديمية‭ ‬التونسية‭ ‬تؤكـــد‭ ‬ذ‭ ‬أكـــثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬ذ‭ ‬أهمية‭ ‬أحكام‭ ‬المثاقفة‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬فكر‭ ‬الجاحظ‭ ‬وفكر‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬انتسب‭ ‬إليه‭. ‬وتقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬‮«‬وقد‭ ‬تسربت‭ ‬إلى‭ ‬البيئة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬يتحرك‭ ‬فيها‭ ‬علوم‭ ‬دخيلة‭ ‬من‭ ‬حضارات‭ ‬مختلفة‭ ‬مكنت‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬الهند‭ ‬وحكم‭ ‬اليونان‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬بوّأت‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬تفكير‭ ‬أبي‭ ‬عثمان،‭ ‬وكذلك‭ ‬الترجمان،‭ ‬منزلة‭ ‬مهمة‭. ‬ففي‭ ‬فكر‭ ‬الجاحظ‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬حقا‭ ‬إلى‭ ‬تفعيل‭ ‬الترجمة،‭ ‬وترجمة‭ ‬النثر‭ ‬دون‭ ‬الشعر،‭ ‬حتى‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الترجمة‭ ‬سبيلاً‭ ‬إضافياً‭ ‬لتعزيز‭ ‬الفضاء‭ ‬النثري‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الفضاء‭ ‬الشعري‭.‬

إن‭ ‬باديس‭ ‬لا‭ ‬تعوزها‭ ‬الحجة‭ ‬في‭ ‬إثبات‭ ‬أن‭ ‬تفكير‭ ‬الجاحظ‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬المعرفة‭ ‬من‭ ‬المعرفة،‭ ‬وعلى‭ ‬التعاطي‭ ‬بالمعرفي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المعرفي،‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬باستنتاج‭ ‬قطائع‭ ‬أو‭ ‬تواصلات‭ ‬أبيستمولوجية‭ ‬نفاها‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ (‬موقف‭ ‬أدونيس‭)‬،‭ ‬وتشير‭ ‬إليها‭ ‬الباحثة‭ ‬بلغة‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬الدقيقة‭ ‬والمقتصدة‭. ‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬نخالفها‭ ‬الرأي‭ ‬فيه‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تمنح‭ ‬التأثيرات‭ ‬السياسية‭ ‬المنزلة‭ ‬اللائقة،‭ ‬فقد‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬تفكيره‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬معزولاً‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مؤثرات‭ ‬سياسية،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬مهمة‭ ‬وحاسمة‭ ‬بلا‭ ‬شك‭. ‬فالجاحظ‭ ‬عاصر‭ ‬ثلاثة‭ ‬خلفاء‭ ‬جعلوا‭ ‬الاعتزال‭ ‬‮«‬السياسة‭ ‬الرسمية‭ ‬للدولة‭ ‬العباسية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الباحث‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‮»‬،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬الخلفاء‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ (‬المأمون،‭ ‬المعتصم،‭ ‬الواثق‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬العامل‭ ‬السياسي‭ ‬مؤثراً‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬منهجيات‭ ‬التفكير‭ ‬لدى‭ ‬الجاحظ‭ ‬بأن‭ ‬ضخ‭ ‬فيها‭ ‬جرعات‭ ‬من‭ ‬العقلانية‭ ‬أخرجت‭ ‬تفكيره‭ ‬من‭ ‬البيان‭ ‬إلى‭ ‬البرهان‭ ‬ومن‭ ‬البلاغة‭ ‬إلى‭ ‬الحجاج‭ ‬ومن‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭. ‬

 

الأصول‭ ‬الكبرى

ويبدو‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬هاجس‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬الأكبر‭ ‬كان‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬وضع‭ ‬الجاحظ‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ملتقى‭ ‬الثقافات‭ ‬في‭ ‬عصره‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬اهتمامها‭ ‬بالآليات‭ ‬والكيفيات‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك،‭ ‬كما‭ ‬يفسر‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تشتغل،‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندر،‭ ‬وبشكل‭ ‬وظيفيّ‭ ‬ليس‭ ‬إلا،‭ ‬على‭ ‬الأساليب‭ ‬والفنيات،‭ ‬فما‭ ‬يهمّها‭ ‬هو‭ ‬حركة‭ ‬الفكر‭ ‬وانتقالها‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬قديمة‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬جديدة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آليات‭ ‬النقد‭ ‬والتجاوز‭ ‬وأحكام‭ ‬المفاضلة‭ ‬وضرورة‭ ‬الترجمة‭ ‬فيما‭ ‬يعد‭ ‬الأصول‭ ‬الكبرى‭ ‬لعقل‭ ‬الجاحظ‭.‬

إنّ‭ ‬الباحثة‭ ‬لا‭ ‬تكرر‭ ‬أبداً‭ ‬القراءات‭ ‬السابقة‭ ‬عن‭ ‬الجاحظ،‭ ‬بل‭ ‬تنسف‭ ‬بعضها‭ ‬وهي‭ ‬تتعالى‭ ‬عنها‭ ‬بالحجة‭ ‬والبرهان،‭ ‬فالبخلاء‭ ‬ليس‭ ‬نصاً‭ ‬أدبياً‭ ‬لأناس‭ ‬يعبدون‭ ‬المال‭ ‬ويجمعون‭ ‬الدراهم،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬البخلاء‮»‬‭ ‬لديها‭ ‬وسيط‭ ‬‮«‬لدراسة‭ ‬الأجناس‭ ‬والملل‭ ‬والنحل‭.... ‬والاهتمام‭ ‬بما‭ ‬يفرق‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬تتصل‭ ‬بالسلوك‭ ‬والاعتقاد‭ ‬والتفكير‮»‬‭. ‬

وهذا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يثير‭ ‬وعي‭ ‬الجاحظ‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬تقديرها‭ ‬مسكون‭ ‬‮«‬بالتعايش‭ ‬بين‭ ‬الأعراق‮»‬‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ذاك‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬الغيرية‭ ‬السابقة‭ ‬لأوانها،‭ ‬والمتقدمة‭ ‬عن‭ ‬عصرها،‭ ‬وتحدد‭ ‬الباحثة‭ ‬البارزة‭ ‬مفهوم‭ ‬الغيرية‭ ‬بقولها‭ ‬‮«‬هي‭ ‬العلاقة‭ ‬بالثقافات‭ ‬المغايرة‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬ديار‭ ‬أخرى‭ ‬تختلف‭ ‬لغة‭ ‬وتصورات‭ ‬وأبنية‭ ‬رمزية‮»‬،‭ ‬فالجاحظ‭ ‬قد‭ ‬سعى‭ ‬حقاً‭ ‬إلى‭ ‬توطين‭ ‬فلسفات‭ ‬وحكم‭ ‬ورؤى‭ ‬ومعارف‭ ‬وافدة‭ ‬من‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى‭. ‬وهو‭ ‬إذن‭ - ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬ذ‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬التثاقف‭ ‬وحجة‭ ‬باهرة‭ ‬عليه،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّ‭ ‬التثاقف‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فحسب‭ ‬عملاً‭ ‬مؤسسياً‭ ‬نهضت‭ ‬به‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬وجهود‭ ‬المأمون‭ ‬في‭ ‬تشجيع‭ ‬الترجمة‭ ‬والترجمان‭ ‬في‭ ‬آنٍ،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬عملاً‭ ‬فردياً،‭ ‬من‭ ‬الجاحظ‭ ‬ومن‭ ‬غيره،‭ ‬ممن‭ ‬أخرجوا‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬شرنقة‭ ‬نظام‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬متسع‭ ‬نظام‭ ‬النثر‭ ‬والكتابة،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ضخ‭ ‬لدماء‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬أضحى‭ ‬التثاقف‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬أمراً‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬منه‭ ‬وقدراً‭ ‬محتوماً‭.‬

إنّ‭ ‬باديس‭ ‬تضع‭ ‬فكر‭ ‬الجاحظ‭ ‬وتنزله‭ ‬ضمن‭ ‬دينامية‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬وضمن‭ ‬الرياح‭ ‬التي‭ ‬هبت‭ ‬عليها،‭ ‬مشرقاً‭ ‬ومغرباً،‭ ‬فهي‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬نظرته‭ ‬للأمور،‭ ‬في‭ ‬وظيفتها‭ ‬ومداها‭ ‬وحدودها‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬خاصة‭. ‬

 

مظهر‭ ‬قوي

ويجدر‭ ‬الانتباه‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬أهم‭ ‬المترجمين‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الجاحظ‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الكتاب،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬المترجمون‭ ‬الأوائل‭ ‬العرب‭ ‬زمن‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وهذا‭ ‬مظهر‭ ‬قوي‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التثاقف‭. ‬فالباحثة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬مؤلفات‭ ‬أبي‭ ‬عثمان‭ ‬‮«‬اكتشافاً‭ ‬للآخر‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬فحسب‭ ‬تأسيساً‭ ‬لعلوم‭ ‬البلاغة‭ ‬ولشروط‭ ‬الكتابة‭ ‬النثرية‭ ‬أو‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬باب‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬المعرفة‭. ‬وهذه‭ ‬الآخرية،‭ ‬والغيرية‭ ‬مفهوم‭ ‬حديث‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬وحداثي،‭ ‬أرسى‭ ‬الجاحظ‭ ‬أول‭ ‬تباشيره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الترجمة،‭ ‬ودراسة‭ ‬الملل‭ ‬والنحل،‭ ‬وفهم‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬وليس‭ ‬إجباره‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثلنا،‭ ‬على‭ ‬أفكارنا‭ ‬وديننا‭ ‬وتقاليدنا‭.‬

الآخر‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬تفكير‭ ‬الجاحظ‭ ‬بحسب‭ ‬باديس،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬ذ‭ ‬لم‭ ‬توسّعها‭ ‬تحليلاً‭ ‬وإبانةً،‭ ‬ولم‭ ‬تشر‭ ‬إلى‭ ‬إمكان‭ ‬تطورها‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإنسية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬مهّدت‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بقولها‭ ‬‮«‬سمة‭ ‬الجاحظ‭... ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬التفوق‭ ‬والدونية‭... ‬وإنما‭ ‬يعتبر‭ ‬الآخر‭ ‬مختلفا‭ ‬صنوا،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نكتشفه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‮»‬‭.‬

‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬المختلف‭ ‬الصنو‮»‬‭ ‬هو‭ ‬المصطلح‭ ‬المركّب‭ ‬الذي‭ ‬تجترحه‭ ‬الباحثة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬الغيرية‭ ‬لدى‭ ‬الجاحظ،‭ ‬ويبدو‭ ‬لنا‭ ‬أنها‭ ‬استمدته‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬قراءتها‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬وله‭ ‬إنتاجية‭ ‬دلائلية‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الدلالة‭ ‬عن‭ ‬أصالة‭ ‬حضور‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وإنّ‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬ليس‭ ‬قريناً‭ ‬للمنفى‭ ‬أو‭ ‬للجوء‭ ‬أو‭ ‬للعطف،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬مؤشر‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬السماحة‭ ‬لدى‭ ‬العرب،‭ ‬وعلى‭ ‬أن‭ ‬حضارتهم‭ ‬وفرت‭ ‬للآخر‭ ‬مناخاً‭ ‬للإضافة‭ ‬وللإبداع‭. ‬فالمترجمون‭ ‬ترجموا‭ ‬ما‭ ‬ترجموا‭ ‬لأنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬مناخاً‭ ‬مشجعاً‭ ‬وبيئة‭ ‬حاضنة‭ ‬للتعددية‭ ‬الفكرية‭ ‬والدينية‭.‬

 

قراءة‭ ‬مختلفة

إننا‭ ‬نلاحظ‭ ‬افتتان‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬باديس‭ ‬بالجاحظ‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬تعاطيها‭ ‬معه‭ ‬ومع‭ ‬فكره‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬القراءة‭ ‬العاشقة‭. ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬السيئ،‭ ‬ولكن‭ ‬قد‭ ‬يجعل‭ ‬بعض‭ ‬استنتاجاتها‭ ‬وأحكامها‭ ‬تتطلب‭ ‬قدراً‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬البحث،‭ ‬مثل‭ ‬قولها‭ ‬‮«‬إنّ‭ ‬انتصار‭ ‬الجاحظ‭ ‬للنثر‭ ‬هو‭ ‬انتصار‭ ‬للكتابة‭ ‬ولرؤية‭ ‬محددة‭ ‬للكون‭ ‬وللحياة‮»‬،‭ ‬‮«‬وهذا‭ ‬قول‭ ‬صائب‭ ‬ولكن‭ ‬ينطوي‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬حقائق‭ ‬أخرى،‭ ‬وهي‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬المناصرة‭ ‬للرواية‭ ‬وللإسناد‭ ‬ولثقافة‭ ‬المسموع‭ ‬والمنطوق،‭ ‬وهي‭ ‬قوى‭ ‬لم‭ ‬تلق‭ ‬سلاحها‭ ‬بعد‭ ‬وستجد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الحديث‭ ‬وفي‭ ‬طرائق‭ ‬إبلاغه‭ ‬أبلغ‭ ‬سند‭ ‬لها‮»‬‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تفتحه‭ ‬الباحثة‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬أمام‭ ‬الباحثين‭ ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬مختلفة‭ ‬للتراث‭ ‬الجاحظي‭ ‬ولمركزيته‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭. ‬فهو‭ ‬حقاً‭ ‬نموذج‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬وهو‭ ‬حامل‭ ‬لمشروع‭ ‬ثقافي‭ ‬مسنود‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬العليا‭ ‬للدولة‭ ‬العباسية،‭ ‬ومتولد‭ ‬من‭ ‬سماحة‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬المختلف‭ ‬الآخر‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬أقامت‭ ‬الباحثة‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬باديس‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬ممكنات‭ ‬القراءة‭ ‬الجديدة‭ ‬للجاحظ،‭ ‬ونهضت‭ ‬منهجياً‭ ‬على‭ ‬نفاذ‭ ‬إلى‭ ‬المعاني‭ ‬الخفية‭ ‬المبثوثة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬مؤلفاته‭ ‬واستنطاقها‭ ‬لتكشف‭ ‬لنا‭ ‬وجهاً‭ ‬حداثياً‭ ‬للرجل‭ ‬الذي‭ ‬أغنى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬رأت‭ ‬فيه‭ ‬وفي‭ ‬أعماله‭ ‬وجهاً‭ ‬ملهماً‭ ‬للثقافة‭ ‬وللمثقفين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬

نقرأ‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬باديس‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬أعمالها‭ ‬فنفتتن‭ ‬بالعقل‭ ‬وبالحجة‭ ‬وبالمعرفة‭ ‬وبالاعتراف‭ ‬بالآخر،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬شخصيته‭ ‬شخصية‭ ‬مرادفة‭ ‬لقيم‭ ‬الحوار‭ ‬والتعدد‭ ‬وآداب‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬المختلف‭. ‬وهذه‭ ‬قيم‭ ‬نحن‭ ‬أحوج‭ ‬ما‭ ‬نكون‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬عادت‭ ‬فيه‭ ‬الأصوليات‭ ‬لتضرب‭ ‬بقوة‭.  ‬وقد‭ ‬أنهت‭ ‬باديس‭ ‬أبحاثها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬بسؤال‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُقرأ‭ ‬بوجهين‭: ‬استفهامي‭ ‬وإنكاري،‭ ‬وهو‭: ‬‮«‬هل‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬الشجاعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬للجاحظ؟‮»‬‭ ‬