العولمة وفخاخها: حتى لا تتحول الرأسمالية إلى حيوان شره

العولمة وفخاخها: حتى لا تتحول الرأسمالية إلى حيوان شره

حديث الشهر
هل تحولت العولمة من طوق نجاة ينقذ البشرية من أزمتها الاقتصادية إلى ثقل يقودها إلى الغرق؟ وهل تناقضت العلامات الفارقة بين العولمة والعبودية كما يحذرنا بعض خبراء الاقتصاد؟

حضرت أكثر من ندوة علمية تتحدث عن "العولمة"، كما صدر أكثر من كتاب في لغات العالم العديدة عن هذه "الظاهرة" الاقتصادية السياسية الجديدة، ولعل أفضل تشبيه سمعته كان على لسان أستاذ الاقتصاد المصري جلال أمين في إحدى تلك الندوات "أن العولمة بالنسبة للبعض مثل وصف العميان للفيل، كل يصفها حسب المكان الذي يضع عليه يديه"!

وقد أصدرت سلسلة "عالم المعرفة" في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب كتاباً عنوانه "فخ العولمة" يحاول أن يشخص هذه الظاهرة وإن كان قد تحدث عن الكثير من المخاطر التي يحملها لنا الانخراط في ذلك النظام دون أن تعرف عنه شيئا. وقد أثار هذا الكتاب داخلي العديد من القضايا أحببت أن أشرك القارئ فيها. إن النذر كثيرة ولكن التحذيرات جاءت متأخرة بعض الشيء. فالعولمة ما تبعها من حرية التجارة وفتح الأسواق وتنقل الاستثمارات وتقلص دور الدولة قد أصبحت حقائق علينا أن نتعامل معها وأن نجني ثمارها الإيجابية والسلبية. ولكن هل طغت سلبيات العولمة على إيجابياتها واندفعت في سعيها الحثيث نحو الربح، والربح فقط بأي ثمن إلى أن تفقد بعدها الاجتماعي. لقد دفع هذا الأمر الرئيس كلينتون- وهو رئيس أكبر دولة مستفيدة من الوضع الاقتصادي العالمي- إلى أن يطالب بإضفاء وجه إنساني على هذا الاقتصاد. ولعله نفس السبب الذي دفع المستثمر المعروف جورج سورس الذي اتهمته دول جنوب شرق آسيا وروسيا بأنه كان السبب وراء انهيارها المالي في أن يحذر في كتابه الجديد من حدوث ثورات اجتماعية ضد النظام الرأسمالي العالمي تقودها دول العالم النامي أو دول الأطراف كما كان يطلق عليها بحيث تنسحب من هذا النظام وتتركه عرضة للانهيار.

وهو نفس الأمر الذي دعا كلاوس شغاب رئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن يخصص لقاء "دافوس" أول الشهر الماضي (فبراير)- وهو المنتدى الذي يقام سنوياً في سويسرا- لتحقيق شعار "من أجل وجه إنساني للعولمة" وأن يحذر في افتتاحه كل المجتمعين من أنه إذا لم نقم باختراع عولمة أكثر إنسانية وشمولية فيجب أن نواجه احتمال عودة مواجهات الماضي الاجتماعية الحادة. وأن يعلن الرئيس المصري حسني مبارك الذي وقف متحدثا في المنتدى بصوت دول العالم النامي أن الحرائق الاقتصادية التي نشبت من حيث لا نعلم في أرجاء قريتنا الكونية هي نتيجة الإحساس المرير بالظلم الذي يسود الأسواق الصاعدة، وأن يحذر كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة من أن صدمة العولمة سوف تعيد العالم إلى ما بعد الحرب الباردة وما أنتجته من مفاهيم الحماية والشعوبية والتزمت القومي والتعصب والإرهاب.

نحن في مواجهة موقف خطير إذن، بين نظام قديم من النظم الشمولية ثبت فشله وانهياره، وبين نظام آخر مهيمن كان حلما وتحول في غضون فترة قصيرة إلى كابوس.

والأمر ليس أن الدول لم تحسن التعامل مع هذا النظام. ولكن الصحيح كما يعترف بذلك غلاة النظام الليبرالي نفسه بأن هذا النظام مليء بالعيوب التي تستلزم الإصلاح.

واعترف بأن قضية العولمة قد شغلتني للكثير من الوقت. وكنت مبهوراً بجانبها التكنولوجي وخاصة في مجال ثورة المعلومات وكنت أعتقد أنها النظام الوحيد الذي يؤهلنا للوقوف على عتبات القرن القادم إن شاركنا فيه باقتدار. وقد شاركت في العديد من الندوات التي عقدت في هذا السياق في العالم العربي لمحاولة وضع الضوابط الثقافية والإعلامية لهذا النظام الجديد. ولكن عليّ أن اعترف بأن ما أحدثه هذا النظام في المجال الاقتصادي وخاصة في دول العالم النامي قد هالني وجعلني أطرح على نفسي العديد من الأسئلة: هل تشكل العولمة نظاما يمكن أن نختاره أو نعدل عنه.. أم أننا نقف أمام ظاهرة تاريخية تفرض نفسها ولا سبيل لتفاديها؟

وقد وجدتني في محاولة للبحث عن الإجابة أعود لهذا الكتاب المهم الذي صدر باللغة الألمانية عام1996 وتمت ترجمته إلى العربية ونشر في شهر أكتوبر من العام الماضي تحت عنوان "فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية". وقد قام بتأليفه اثنان من الصحفيين المتخصصين أولهما هو هانس- بيتر مارتين الذي يحمل دكتوراه في القانون ويعمل في مجلة دير شبيجل الألمانية الشهيرة والثاني هو هارالد شومان الذي يزامله في نفس المجلة. وقام بترجمة الكتاب في لغة سلسة الدكتور عدنان عباس علي المتخصص في العلوم الاقتصادية والذي أصدر العديد من الكتب والدراسات المهمة. وقام بالتقديم والمراجعة الدكتور رمزي زكي المفكر والكاتب الاقتصادي المعروف.

وليس هناك من دليل على أهمية هذا الكتاب أبلغ من ذلك النجاح المنقطع النظير الذي لقيه في ألمانيا حيث تمت طباعته تسع مرات في عام واحد منذ أن صدرت طبعته الأولى.

لقد جاء الكتاب قراءة موسعة لكل ما أحدثه نظام العولمة في كل المجالات. وجاءت حصيلته أشبه بالإنذار شديد اللهجة الذي أصبحنا نرى آثاره حولنا فى كل مكان. فماذا تقول صفحات هذا الكتاب المهم وهو يحاول الإجابة عن ذلك السؤال المحوري وعن العديد من التساؤلات الأخرى من خلال عرض مجموعة من القضايا التي يزعم أنصار العولمة أنها ستقود المجتمعات إلى عالم الرخاء والرفاهية وبالمقابل يطرح مجموعة من الرؤى المتعمقة المدعمة بالدراسات والإحصاءات التى تفند مزاعم أنصار العولمة وتؤكد في النهاية أن العولمة إنما هي فخ ومصيدة للقبض على العالم والسيطرة عليه وتحويله إلى عالم يسوده التدهور الاقتصادي والاجتماعي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي في ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها.

يبدأ الكتاب بطرح النظرية الاقتصادية الجديدة التي ينصح بها عدد كبير من الاقتصاديين والخبراء، ويقدمونها للمسئولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها النهج الصحيح وهي الليبرالية الجديدة.

والمقولة الأساسية لهذه النظرية الجديدة هي ببساطة: "ما يفرزه السوق صالح أما ما تتدخل فيه الدولة فهو طالح". وانطلاقا من ذلك اتخذت الغالبية العظمى من الحكومات الغربية في الثمانينيات هذه النظرية منارا لها تهتدي بها في سياساتها وصار سعار عدم تدخل الدولة من جانب وتحرير التجارة وحرية تنقل رءوس الأموال الحكومية من جانب آخر، أسلحة استراتيجية في أيدي هذه الحكومات وكذلك المؤسسات الدولية التي تدافع عن أمثال هذه السياسات كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، لقد أصبح شيئا خاضعا للعرض والطلب ابتداء من الشركات والمصارف وصناعة الكمبيوتر وانتهاء بالقوى العاملة.

وقد أعطى انهيار ديكتاتورية الحزب الواحد في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية هذه النظرية مصداقية إضافية ومنحها القدرة لتأخذ هذا البعد العالمي فمنذ نهاية الديكتاتورية البروليتارية العمل جاريا على قدم وساق لتشييد ديكتاتورية السوق العالمية.

وينتقد الكتاب تلك النزعة الرأسمالية المتنامية لأنها في طريقها لهدم الأساس الذي كان يضمن وجودها وهو الدولة المتماسكة وما تحققه من استقرار اجتماعي، فالتغيير وإعادة توزيع السلطة والثروة استهلك تماما رأسمالها الاجتماعي الذي ضمن لها الوحدة والتماسك، فحسب النظرية السائدة تحول العالم بفضل تكنولوجيا الاتصالات العالمية وانخفاض تكاليف النقل وحرية التجارة الدولية إلى سوق واحد الأمر الذي أدى إلى منافسة أشد وطأة وأكثر شمولية ليس في سوق السلع فقط بل وفي سوق العمل أيضا، وبدأت جميع الشركات تفضل خلق فرص عمل في بلدان أخرى أقل أجرا، وغدت كلمة التضحية هي وسيلة التكيف مع العالم الجديد، فقد أصبح المجتمع الغربي كثير الرغبات يصطدم بالمجتمعات الآسيوية الطموح والمضحية وسادت مقولة أن دولة الرفاهية قد غدت تهديدا للمستقبل وأن شيئا من اللامساواة الاجتماعية قد أضحى أمرا لا مناص منه وأن على كل فرد أن يتحمل قسطا من التضحية.

إن منهج العولمة السائد الآن هو تخفيض الإنفاق الحكومي والأجور والمساعدات الاجتماعية، فعلى الساحة العالمية يوجد الآن ما يزيد على أربعين ألف شركة أممية من كل الاحجام تبتز العامل بواسطة منافسته بالعامل الآخر والدولة بالدولة الأخرى، بل وأصبحت تقتلع دولا بأكملها وتقوض ما فيها من أنظمة اجتماعية فهي تهدد بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبية وإقامة مشروعات بنية أساسية لا تكلفها شيئا أو تضغط لتعديل التشريعات التي تحقق بعض المكاسب للطبقة الوسطى مثل قوانين الحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة والشروط التي يمكن أن تفرض عند خصخصة المشروعات، ويشير الكاتبان إلى أن نسبة 20% من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي فخمس قوة العمل ستكفي لإنتاج جميع السلع ولسد حاجات الخدمات التي يحتاج إليها المجتمع العالمي، وهذه النسبة هي التي ستعمل وتكسب المال وتستهلك البضائع، أما نسبة 80% الباقية فسوف تواجه مشاكل عظيمة ولن يمكنها العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير. إن مجتمع الثلثين "الثلث الثري والثلث الفقير" الذي كان يخافه الأوربيون قبل الثمانينيات لم يعد هو الذي يقرر توزيع الثروة والمكانة الاجتماعية بل سيحددها النموذج العالمي الجديد القائم على صيغة 20% يعملون و80% عاطلون عن العمل، أي أنه مجتمع الخُمس الذي سيتبعه تهدئة العاطلين فيه عن العمل بما يسمونه Tittytainment وهو مصطلح منحوت من الكلمتين Entertainment " تسلية" و Titty " الثدي" وهو إشارة إلى الحليب الذي يفيض عن ثدي الأم، فبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر السكان.

لقد تم رسم الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي الجديد على أساس بلدان ثرية من دون طبقة وسطى تستحق الذكر، حيث إن التزاما اجتماعيا من قبل المؤسسات الإنتاجية هو أمر غير وارد في ظل الضغوط الناجمة عن المنافسة التي تفرضها العولمة.

تفكك العالم وتصدعه

إن رافعي راية العولمة إنما يحاولون الإيحاء بأن الأمر يتعلق بحدث شبيه بالأحداث الطبيعية التي لا قدرة لنا على ردها والوقوف بوجهها، أي أنها نتيجة حتمية للتطور التكنولوجي والاقتصادي وهو أمر لا نملك إلا الإذعان له. والواقع أن هذا ليس حقيقيا فالتشابكات الاقتصادية ذات الطابع العالمي ليست حدثا طبيعيا بأي حال من الأحوال، وإنما هي نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة. فالحكومات هي التي وقعت الاتفاقيات وسنت القوانين التي ألغت الحدود والحواجز التي كانت تحد من تنقل رءوس الأموال والسلع من دولة إلى أخرى، وهم يروجون لفكرة أن العالم صار سوقا واحدا وأن العولمة أفرزت قرية كونية متشابهة ذات اقتصاد عالمي شمولي بدعوى توحد العالم.

والواقع أن هذه الوحدة أيضا لم تتحقق فالدراسات المتأنية توضح لنا أن العالم لا ينمو نموا يفرز التلاحم والالتئام، فتجمع مليارات من المشاهدين عبر شاشات التلفزيون في وقت واحد لمشاهدة حدث القرن الرياضي وهو افتتاح الدورة الأولمبية لم يخلق تبادلا ثقافيا وتفاهما دوليا لأن هؤلاء المشاهدين اكتفوا بالمشاهدة فقط دون أن يكون لهم أي دور في صنع الأحداث. وبالتالي إذا كانت العولمة تعجز عن مثل هذا الأمر الذي تتقارب فيه درجة المشاعر فإنها تعجز بكل تأكيد عن تقريب مستويات العولمة تفككا من نوع آخر فقد أفرزت مدنا عالية التقنية الإنسانية، فالجزء الأعظم من العالم يتحول إلى عالم بؤس وفاقة .. عالم غني يضم مدنا كبرى فقط، وأحياء فقر وجوع هي الأخرى كبرى ويسكنها مليارات من البشر. إن 358 مليارديرا يمتلكون معا ثروة تضاهي ما يملكه 5. 2 مليار من سكان العالم حيث إن الاستثمارات الخاصة القادمة من البلدان الغنية قد فاقت مجموع المساعدات المالية الحكومية. والمنتفع الأول منها هو مناطق محدودة لا غير. لقد ارتفع المجموع الكلي لمديونية الدول النامية عام 1996 إلى ضعف ما كانت عليه قبل عشرة أعوام، وهذا ما كتب عنه الكاتب المصري محمد سيد أحمد عندما قال لقد فات الأوان وان الحوار بين الشمال والجنوب قد قضى نحبه، لقد ثبت فشل النموذج الغربي ولم تعد هذه الدول قادرة على الوفاء بالتزاماتها والتحكم في التفاوت الاجتماعي المتزايد.

النظرية النقدية وسوق المال العالمي

انطلاقا من النظرية الاقتصادية الليبرالية ألغت الحكومات منذ السبعينيات كل الحواجز التي مكنتها فى السابق من التحكم في تنقلات النقود ورءس الأموال على المستوى الدولي والسيطرة عليها، ولقد ترتب على ذلك أنه عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي دخلت مسرح القوى العالمية طبقة سياسية جديدة وهي طبقة المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذين يوجهون بكل حرية سيلا من الاستثمارات المالية يزداد كل يوم ويتمكنون بالتالي من التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما أي رقابة حكومية تذكر.

إن المروجين لهذه النظرية النقدية يرون أن حرية انتقال الأموال من البلدان الغنية إلى المناطق الغنية بالفرص الاستثمارية عبر جميع الحدود الدولية هي التي ستحقق استخدامه الأمثل للاستثمار وهي التي سوف تحقق أعلى عائد للمدخرين، وبالنسبة للمقترضين سيكون بوسعهم المقارنة بين مقدمي القروض في أنحاء العالم واختيار أدنى الفوائد، ولكن الحقيقة أن هذه النظرة مضللة لأنه كلما كانت الدول أكثر خضوعا لإدارة المستثمرين كانت أكثر رغبة في محاباة هذه الفئة التي تتمتع بالامتيازات أساسا وهي الفئة المالكة للثروات المالية. ويجبر الانفتاح المالي الدول على التنافس في تخفيض الضرائب وتخفيض الإنفاق الحكومي والتضحية بالعدالة الاجتماعية وما ينجم عنها في النهاية من إعادة توزيع شمولية من الأسفل إلى الأعلى. هذا بالإضافة إلى أن الانفتاح المالي أفسح الطريق أمام رءوس الأموال للتهرب من دفع الضريبة في بلادها حيث صار تتبع ثرواتهم المتراكمة أمرا مستحيلا في الواقع العملي. كما صار من المستحيل على المصارف في البلاد المختلفة أن تكشف عن تلك الحسابات الضريبية أو تسمح بأي إجراء يمس سرية معاملاتها وإلا قامت هذه الشركات بنقل نشاطاتها إلى مناطق أخرى. وبناء على ذلك صارت الحكومات عرضة للابتزاز تحت فعل الضغوط التي تمارسها المؤسسات المالية عليها، فهي تقوم بتخفيض الضرائب على الثروات والاستثمارات وخصخصة كل الخدمات المالية وذلك خوفا من المعدلات الضريبية العالية التي قد تسبب الإحباط الذي يقود في النهاية إلى الهجرة للخارج. وهكذا مع تقليص حجم الضرائب تعززت بفعل العولمة اللاعدالة الاجتماعية بصرف النظر عن اختلاف الثقافات أو القيم الاجتماعية.

سيطرة الدولار

يشير المؤلفان إلى أن كلمة العولمة في أسواق المال تعني أمركة العالم، إلى حد أن الضرر الاقتصادي الذي تفرزه هذه التبعية عظيم حتى بالنسبة لأمريكا نفسها، فكلما كان العملاق الأمريكي أشد بطشا في استخدام قبضته، زادت احتمالات ردود الفعل العدائية تجاهه، فانتهاج أمريكا لسياسة أسعار الفائدة العالية على مدى طويل- وبالتالي ارتفاع أسعار صرف الدولار ارتفاعا كبيرا- كان لابد أن يجد مقابلا له ويتمثل هذأ الكمبيوتر المقابل في قيام هصارف الدول الكبرى الأخرى ببيع مليارات الدولارات في وقت واحد مما يتسبب في انهيار سعر الصرف مرة أخرى، ثم تعود لشرائها من جديد محققة بذلك أرباحا كبيرة. ففي سوق العملات الدولي الذي تتعامل فيه المصارف بعضها مع بعض لا وجود للدولة التي تستطيع معاقبة المضاربات المفتعلة ولعل تجربة بنك Negara بماليزيا خير دليل على ذلك.

لقد أصبحت الحكومات الآن تحت مصطلح العولمة تؤمن بأن تراجع الدولة في الاقتصاد على نحو كبير سيؤدي إلى تحقيق الازدهار، وستزداد فرص العمل بصورة عفوية. وبناء على ذلك تم هدم العدد الأكبر من المشروعات الاحتكارية أو شبه الاحتكارية التي كانت تديرها الدولة داخل حدودها الوطنية وتم فتح المجال أمام قلة ضئيلة من المتهافتين على جني الأرباح فصارت المنافسة هي كل شيء ولم تعد هناك أهمية لفرص العمل وأصبح المنتجون الحقيقيون وهم العمال أدوات بالإمكان دفعهم إلى حافة الهاوية، فحينما تتم خصخصة البريد والاتصالات والكهرباء والماء والنقل، ويتم فتح الباب على مصراعيه للمتاجرة الدولية بهذه الخدمات، وتمنح الأسواق الحرية لاتخاذ القرار في كل الأمور ابتداء من التكنولوجيا وحتى أساليب حماية حقوق العاملين، فإن ذلك يعصف بالعمال بلا هوادة. ولقد كان أكثر القطاعات تأثرا بالعولمة هو قطاع المصارف والتأمين، فقد أصبح في إمكان العميل من خلال الهاتف أو من خلال امتلاكه لكمبيوتر إنجاز كل ما يحتاج إليه من خدمات مصرفية كما أن نقل مدخراته من مكان لآخر لا يستغرق سوى دقائق معدودة، ويؤكد المؤلفان استناداً إلى الأبحاث المنشورة أن نصف العاملين في المؤسسات النقدية سوف يفقدون فرص العمل في السنوات العشر القادمة. أما قطاع صناعة برامج الكمبيوتر فلقد انتقلت الصناعة برمتها من الشمال الأوربي إلى الهند مباشرة (بنجالورا) وتم الاستغناء عن 120 ألف عامل سويسري. وفي ألمانيا عملاق صناعة الكمبيوتر تم إلغاء ما يزيد على عشرة آلاف فرصة عمل (ثلاثة هنود بدلا من سويسري واحد). أضف إلى ذلك أن المطلعين على بواطن الأمور في مجال نظم المعلومات يرون أن العمل البشري في هذا القطاع ظاهرة مؤقتة فالتوسع في إنتاج البرامج الجاهزة والتقدم في تطوير لغات جديدة سيؤدي إلى عدم الحاجة إلى العمل البشري إلا بالكاد، وأن استخدام الأجهزة الحديثة سيمكن مبرمجا واحدا في المستقبل من تأدية ما ينجزه اليوم مائة من زملائه.

إن كل واحد يشعر بآثار هذا التحول حتى الذين لا تزال فرص عملهم تبدو آمنة، وأخذ الخوف من المستقبل ينشر ظلاله كما أخذ البناء الاجتماعي ينهار ويتحطم وتتظاهر الحكومات بأن ما يحدت ليس سوى نتيجة للتحولات الهيكلية وللمنافسة في الاقتصاد المعولم الذي لا يعرف الرحمة. إن حصيلة هذا كله هو ما يسمى (jobless growth) أي نمو لا يفضي إلى زيادة في فرص العمل.

وفي غياب أي ضغوط أو رقابة حكومية أخذ يسود مبدأ أن الرابح يحصل بمفرده على كل الثمار (The Winner Takes All) فعندما كان النجاح حليف أي مشروع فيما مضى من الزمن كان هذا النجاح فوزا للمستخدمين أيضا، أما الآن فلم يعد له وجود. ولأن الحصيلة تبرر التضحيات (وهو أحد مبادئ العولمة) فلقد أصبحت أمريكا الآن أكثر اقتصادات العالم إنتاجية وانخفضت نسبة البطالة بها إلى 5.3 % واحتلت مكان الصدارة إلا أن مواطنيها دفعوا ثمنا غاليا، حيث إن أكبر بلدان العالم إنتاجية وثراء أضحى في ذات الوقت أكبر اقتصادات العالم رخصا من حيث الأجور. وعلى الرغم من أنه لم يسبق للمواطنين أن حازوا على ما يحوزونه اليوم من الثروة والدخول فإن المشكلة تكمن في أن النمو المتحقق هو برمته حصة الخُمس الثري أي حصة العشرين مليون عائلة لا غير كما هو ثابت إحصائيا، وما كان يزعمه الماركسيون قبل مائة عام أضحى الآن حقيقة، فالرأسماليون يزدادون ثراء والطبقة العاملة تزداد فقرا، وتطحن المنافسة المعولمة الناس طحنا وتدمر التماسك الاجتماعي. إن الأمر الأكثر خطورة هو التخلي عن الاستراتيجيات التي كانت تنتهجها الحكومات في الماضي بالنسبة للسياسات الاجتماعية مثل مبدأ الاستخدام مدى الحياة والأمان الجماعي الذي كانت تضعه اليابان في مرتبة تسبق مرتبة الربحية الأعلى لرأس المال، وفي فرنسا حقق التكنوقراط نتائج حينما طبقوا سياسات اجتماعية أحرزت مكانة في فرنسا دون أن ينخفض المستوى المعيشي العام وكانت تألقت بما لديها من نظام تدريب غاية في التطور، وبما سادها من تعاون بين رأس المال والعمال وكان المستوى من حيث التكنولوجيا والعمل البشري والوئام الاجتماعي قد غطى على السلبيات السائدة في القطاعات الأقل أداء أما اليوم فقد اختفت كل هذه القيم.

مأزق التسارع

إن التسابق غير المحدود على زيادة الحصة في الأسواق العالمية للسلع والعمل يفقد العمل البشري قيمته على نحو متزايد. فدائما ثمة منافس زهيد الثمن، وبالتالي فإن من يكيف نفسه إنما يجبر أطرافا أخرى على التكيف، فاتحا بذلك الباب على مصراعيه لأن يكون هو نفسه في القريب مجبرا على تكيف آخر يحمل تنازلات جديدة، ومعنى هذا هو أن غالبية العمال لا يمكن أن يخرجوا من هذه اللعبة إلا وهم خاسرون مهما بذلوا من جهود. إن قلة ضئيلة فقط من أصحاب الثروات ومن العاملين ذوي المهارات العالية ستحقق ما تتوخاه من مكاسب، ولن يزيد عدد هذه القلة على خُمس السكان في البلدان الصناعية المتقدمة، وحتى أولئك المدافعون عن الليبرالية الاقتصادية لم يعودوا قادرين على نكران هذا التطور باتجاه مجتمع الخُمس الثري والأخماس الأربعة الفقيرة، فإحصاءات الدخل تشهد على نحو بين على تزايد الهوة بين الفقر والثراء.

إن كسر طوق هذه الحركة اللولبية نحو الأسفل يمكن تحقيقه من خلال بناء استراتيجيات عديدة، المهم أن تتمحور هذه الاستراتيجيات حول إعلاء شأن العمل البشري وذلك من خلال ما يلي:

- الإصلاح الضريبي فرفع كلفة استهلاك الطاقة تدريجيا (النفط والبنزين والغاز والكهرباء) سيؤدي إلى ترشيد استهلاكها ويدفع ذلك المواطنين إلى ترميم عماراتهم ومساكنهم الأمر الذي يحقق فرصة عمل جديدة للعمال الحرفيين، كما أن رفع كلفة المواد الأولية عموما يجعل الحاجة إلى العمل البشري أكبر لأن رفع أسعار هذه السلع سيمنح السلع المعمرة ميزات واضحة من حيث الكلفة مقارنة بمنافستها من السلع ذات العمر القصير غير القابلة للإصلاح في حالة العطل.

- رفع تكلفة النقل لأن المخازن المتنقلة الحاوية على السلع الوسيطة لن تكون اقتصادية من حيث التكلفة.

- تدعيم المهام في القطاع الطبي والتعليمي وفي الريف وفي الضواحي المتدهورة في المدن هناك ما يكفي من الحاجة للعمل البشري إلا أنه ليس هناك شيء من المهام تستطيع المشروعات الخاصة أو السوق النهوض به بمفردها إن الأمر يتطلب أن تأخذ الدول زمام الاستثمار في هذه المجالات.

- زيادة الإيرادات الحكومية من خلال فرض ضريبة على حركة رأس المال العابر للحدود، وستحقق الدولة إيرادات أكثر فيما لو منعت نقل الثروات وهروبها من العبء الضريبي.

إن الاعتراض على مثل هذه الاقتراحات واضح، فبسبب التورط في الاقتصاد المعولم لم تعد الدول الغنية قادرة على النهوض بمثل هذه الإصلاحات الجذرية لأن إشارة واحدة من قبل ممثلي الصناعات- إلى أن رفع أسعار الطاقة سيدفع آلاف المشروعات إلى الانتقال للعالم الخارجي- تكفي لإحباط البرنامج الإصلاحي وبالتالي تفقد الديمقراطية دورها. ومن هنا فإن استعادة الإرادة السياسية أو استعادة أولوية الاستقرار السياسي على الربح الاقتصادي هي المهمة المستقبلية الأساسية، فالتكيف الأعلى مع الضرورات التي تفرزها السوق العالمية يقود المجتمعات إلى فوضى لا مناص منها ويهدم البنية الاجتماعية لها ولا طائل من انتظار ما ستقدمه الأسواق والشركات العابرة للقارات من حلول فلا الأسواق ولا الشركات العابرة للقارات لديها الحلول لمواجهة هذه المخاطر. ويبدو أنه لا مفر من أزمة اقتصادية طاحنة تعصر العالم وأن على العالم أن يدفع ثمنا باهظا قبل أن يدرك خبراء العولمة أن الهيمنة الاقتصادية على العالم من قبل عدة دول لن تتحقق من دون آلام عنيفة تهز كيانات كل الدول.

وبالرغم من كل ذلك مازال خبراء الاقتصاد العالمي يؤكدون أن إزالة الحدود أمام السوق يعبدالطرق أمام العالم الثالث للخروج من مأزق الفقر والتخلف ليلحق بركب البلدان الصناعية، فهم يؤكدون أنه بوسع ستة مليارات مواطن في العالم المشاركة في تلك الانتصارات التي لم ينعم بها حتى الثمانينيات سوى ستمائة مليون مواطن في البلدان الصناعية القديمة لا غير.

إنه هدف نبيل لاشك ولكن هل سيتحقق.. هل سيذهب ما يخسره الشمال من رفاهية إلى فقراء الجنوب حقا بعد هذا الذي قرأناه؟!

زاوية أخرى للنظر

إن الاجابة الأرجح بعد كل ما سبق تكون بداهة أميل إلى النفي. ومن ثم يكون عنوان "فخ العولمة" هو نقطة البداية والنهاية لدائرة حمراء من الرفض رسمت حول أطروحات العولمة. لكن تظل هذه مجرد زاوية للرؤية لا تقطع بعدم وجود زوايا أخرى يمكن أن ننظر منها فنرى شيئا مختلفا، مجندا لسيرورات العولمة هذه المرة، وبرغم أنني استعرت زاوية نظر الكتاب لإكمال عرضه، فهذا لا يعني أنني أتبنى موقفا سلبياً من العولمة، كما أنني لا أتبنى موقفاً إيجابياً صرفاً تجاهها، بل هو موقف أقرب إلى البحث عن الحقيقة الممكنة في هذه اللحظة المبكرة من عمر عالم يفترض كونه جديداً.

لهذا أود أن أفتح ثغرة مناقضة في جدار الرفض لصيغة العالم الجديد، ثغرة يتسلل منها بعض الضوء على الإيجابيات المحتملة في مسار العولمة. فبموازاة اقتصاد السوق الذي لا يعرف الحدود والعابر للقارات وللأقطار، يمكن أن تنشأ شبكة تنظيمية من الفعاليات عابرة الحكومات ومتواصلة مع المؤسسات الشعبية، ومن ثم توافر مزيد من الرعاية والمتابعة الفاعلة لحقوق الإنسان وقضايا البيئة التي لا تعرف الحدود، وكما تسير عولمة الاقتصاد تنتشر عولمة الديمقراطية، وتصبح هناك نقاط التقاء مهنية منها- كمثال- تفاعل القضاة الوطنيين مع القضاء الدولي لإنشاء عدالة (عالمية) جديدة، وبالتالي محاصرة أفضل السلبيات عالمية كالإرهاب وتهريب المخدرات وغسيل الأموال وانتهاك حقوق الإنسان دون إتاحة مهرب للجناة إن في الزمان أو المكان على مستوى العالم كله. ومن ثم يكون فخ العولمة ليس لاقتناص خير العالم لصالح الخُمس، بل لفائدة الكل.

ويبقى أن نفتح عيوننا وننظر، ونختار بحرية، وننتقي- في الرفض أو القبول- ما يحقق صالح شعوبنا.. حتى لا نقع في فخ آخر، هو فخ النظرة المسبقة.. المطلقة.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب