البشر: قنافـذ وثعالـب

البشر: قنافـذ وثعالـب

للشاعر اليوناني القديم آرخيلوخوس، قصيدة يقول في أحد أبياتها: "الثعلب
يعرف أشياء كثيرة، ولكن القنفذ يعرف شيئا واحدا كبيرا".

وقد اختلف الدارسون والباحثون حول معنى هذا البيت والمقصود منه. وقد لا يتعدى ما يقصده الشاعر أنه على الرغم من كل ما يتميز به الثعلب من مكر وحيلة ودهاء فإنه لن يلبث أن ينهزم أمام الأسلوب الوحيد الذي يجيده القنفذ في الدفاع عن نفسه وهو أن يتكور على ذاته ويشرع أشواكه أو أسلحته التي لا يلبث الثعلب أن يتراجع أمامها مهزوما. ولكن لو أننا نظرنا إلى تلك العبارة أو ذلك البيت من زاوية أخرى واعتبرنا أنه يرمز إلى أمور أبعد وأعمق مما تدل عليه الكلمات في ظاهرها، فإننا قد نرى فيها محاولة للتعبير عن الاختلافات الأساسية التي ينقسم الناس بمقتضاها إلى ثعالب بشرية يتميزون بالمكر والدهاء وسرعة الحركة، والتقلب حسب الظروف وكثرة الانتقالات بين الشيء ونقيضه، والقدرة على التلون وتغيير أسلوب الحياة إلى أشكال متناقضة ومتضارية، بقصد تحقيق الغايات التي يهدفون إليها، وإلى قنافذ بشرية أيضا من الناحية الأخرى يتميزون بالحيطة والحذر والبعد عن المغامرات غير المحسوبة، والتصرف بطريقة معينة لا يكادون يحيدون عنها ويتمسكون بقيم ثابتة وراسخة توجه سلوكهم وعلاقاتهم بالأخرين مهما تغيرت الظروف والأوضاع، ويتحركون بخطوات محسوبة تقوم على استكشاف المواقع والمواضع الجديدة قبل الانتقال إليها وقبولها أو رفضها ولا يقدمون على عمل إلا بعد دراسة متأنية، وأن هذا الأسلوب الذي يقوم على الحيطة هو طريقتهم المثلى في حفظ حياتهم والإبقاء عليها والدفاع عنها بقوة وعنف تنهزم أمامهما حيل الآخرين ومكرهم ودهاؤهم رغم كل ما يملأون به الدنيا من حركة وصخب وضجيج ودعاية مفتعلة.

الحاجة إلى الكمون

ويبدو أن هذه العبارة اليونانية القديمة تلخص حياة صاحبها الشاعر والظروف التي مر بها، كما تعكس الجانبين المتناقضين في شخصيته فهو "قنفذ" بطبيعته وطبعه ومزاجه التي أملت عليه حياة الشعر والأدب، التي تحتاج إلى "الكمون" والهدوء والسكينة وراحة البال للتفكير والتأمل وإطلاق العنان للخيال، ولكنه "ثعلب" بحكم الظروف التي لابست مولده ونشأته. فقد ولد آرخيلوخوس لأب يوناني "حر" وأم من "الرقيق". ومع أن الأب اعترف بانتساب الابن إليه فقد ظل انحداره من أم من الرقيق يطارده طيلة حياته، وكان يقف دائما دون تحقيق أهدافه في موطنه، لدرجة أنه لم يستطع الزواج من المرأة التي أحبها واضطر إلى ترك المدينة والمجازفة والمخاطرة بحياته من خلال الالتحاق بالجيوش المتحارية والاشتراك في عدد من الحروب والإغارات والغزوات، ومع ذلك فقد ظل ذلك "القنفذ" الذي يعبر عن أحزانه وآلامه ووجدانه المضطرم في قصائده، وانتهى به الأمر إلى السخرية من حياة الجندية والبطولة الزائفة التي يضفيها الانتصار في الحرب على المنتصر، فلم يكن يمجد في شعره الحروب، وذلك على العكس من الشعراء الذين سبقوه، وظل ينادي في قصائده بأهمية ومجد الإنسان الفرد ويشيد بالمشاعر الرقيقة النبيلة التى تتضاءل أمامها البطولات الزائفة الممجوجة.

ولقد كانت هذه العبارة ذاتها مصدر إلهام لواحد من أهم فلاسفة ومفكري القرن الحالي وهو المفكر البريطاني آيزايا برلين الذي لا نكاد نعرف عنه شيئا ذا بال في العالم العربي، والذي توفي في الخامس من شهر نوفمبر من العام الماضي "1997" ، دون أن نهتم كثيرا بحياته أو فكره أو موته على الرغم من المكانة المرموقة التي يحتلها في الفكر الأنجلوسكسوني بوجه خاص. فلقد جذبت هذه العبارة بمغزاها ودلالاتها العميقة انتباه وإعجاب آيزايا برلين منذ زمن طويل بحيث أصدر عام 1953 دراسة مطولة بعنوان "القنفذ والثعلب"، استشهد في مطلعها بذلك البيت وحاول أن يصنف في ضوئه الكتاب والمفكرين إلى قنافذ وثعالب تبعا لإسهامهم الفكري وإنجازاتهم الثقافية ونظرتهم إلى الحياة، وإلى الآخرين، وبذلك وضع في باب القنافذ كتابا وروائيين وشعراء وفلاسفة من أمثال دانتي وأفلاطون ولوكريتيوس وباسكال وهيجل ودوستويفسكي ونيتشه وإيسن وبروست، بينما وضع في فئة الثعالب شكسبير وهيرودوت وأرسطو ومونتافي وموليير وجوته وبوشكين وبلزاك ومن إليهم، وذلك تبعا لنمط حياتهم وأسلوب تفكيرهم والموضوعات التي يدور حولها هذا التفكير، واتساع النظر إلى أمور الحياة وتنوع مواقفهم من المشكلات الإنسانية بوجه عام.

وقد لا يكون هذا التصنيف دقيقا، وفيه كثير من التبسيط بل والتسطيح، وشأنه في ذلك شأن كثير من التصنيفات ولكن آيزايا برلين نفسه يقول إن ثمة فجوة واسعة جدا بين الفريقين: الفريق الذي يرد كل شيء لفكرة واحدة مركزية ولنسق واحد شديد الاتساق والتجانس والتماسك والوضوح بحيث يدور حوله وبالإشارة إليه كل عمليات التفكير والفهم والإحساس والشعور، مما يعني أن لديهم مبدأ واحدا عاما وكليا ينظم كل شيء ويعتبر مرجعا يردون إليه كل ما يصدر عنهم من فعل أو قول له معنى محدد، بل إن وجودهم هو نفسه يكتسب معناه ومبرراته من هذا المبدأ الوحيد أو الأوحد.

وعلى الجانب الآخر يقوم الفريق الذي يجاهد في البحث عن أكثر من هدف وتحقيق أكثر من غاية، وكثيرا ما تكون هذه الأهداف والغايات متعارضة بعضها مع بعض ولا يكاد يوجد بينها رابطة، ولكنها تحدث مع ذلك نتيجة لأسباب سيكولوجية أو فسيولوجية دون أن يربطها معا أي مبدأ أخلاقي أو جمالي محدد، ولذا يعيش أفراد هذا الفريق ويتصرفون تبعا لأفكار متنافرة ومتباعدة ومتناثرة وليس تبعا لمبدأ واحد محوري.

والمهم هو أن آيزايا برلين يعتبر القنافذ "أحاديين" في مواقعهم ونظرتهم إلى الحياة بينما الثعالب "تعدديون"، إذا نحن استخدمنا المصطلحات الفلسفية التي يستعين بها هو نفسه لتوضيح الفوارق بين الفئتين.. فالقنافذ الذين يعتنقون النظرة الأحادية أو الواحدية يسلمون بوجود جوهر واحد تستمد منه كل الأشياء كيانها وخصائصها، بينما الثعالب يسلمون بوجود عناصر كثيرة غير متجانسة تدخل في تكوينهم هم أنفسهم، وإن كان من الصعب وضع حد فاصل وقاطع وحاسم بين الفئتين من الخصائص. والمثال الذي يضربه برلين لذلك هو تولستوي الذي يعتبره "ثعلبا" بحكم طبيعته وتكوينه ومزاجه الشخصي وحياته، ولكنه "قنفذ" بأعماله وكتاباته وأفكاره التي يعبر عنها في تلك الأعمال.

حياة مؤثرة

وحياة آيزايا برلين نفسه وتجاريه في الحياة والظروف التي أحاطت بهذه الحياة مسئولة أيضا إلى حد كبير عن اتخاذه هذه النظرة في التمييز بين البشر.

فقد ولد آيزايا في مدينة "ريجا" في لاتفيا عام 1909 لأب كان يعمل في تجارة الخشب، وبذلك يكون قد شهد قيام الثورة الروسية في بتروجراد، وذلك قبل أن تنتقل العائلة إلى بريطانيا عام 1919 وهو في الحادية عشرة من عمره. ويقال إنه كان يبدي منذ صغره نبوغا غير عادي في حفظ ما يقرأ أو يسمع بما في ذلك النصوص الفلسفية الصعبة، وذلك إلى جانب ميله إلى الإغراق في الخيال. وفي عام 1928 أمكنه الحصول على منحة للالتحاق بإحدى كليات جامعة أكسفورد لدراسة الفلسفة، وتزامل في الدراسة مع عدد من الطلاب الذين أصبحوا من أعلام الفلسفة البريطانية فيما بعد، مثل الأستاذ ألفرد جولز آير والأستاذ جون أوستن، وكذلك المجموعة التي ارتبطت بالوضعية المنطقية، وهي المدرسة الفلسفية التي ترفض القضايا التي لا يمكن إخضاعها للاختبار أو البرهنة على صدقها، ونرى أنها مجرد مسائل خالية من المعنى. وكانت هذه المدرسة مزدهرة في أكسفورد أيام دراسته هناك ولا يزال لها بعض الصدى في عدد من أقسام الفلسفة ببعض الجامعات البريطانية على الرغم مما أصابها من تراجع وانكماش.

ولم يلبث أن تنكر لهذا النوع من التفكير الذي يقسم القضايا إلى ما هو قابل للاختبار والبرهنة ويعتبر علميا على هذا الأساس، وبين ما هو غير قابل لذلك، وبذا يكون مجرد هراء خال من المعنى، أو على أحسن الفروض مجرد تعبير عن بعض الرغبات أو نوع من الأدب الخيالي أو غير ذلك من أساليب التعبير التى لا يمكن إخضاعها للصدق التجريبي.

والمهم هو أنه حين تولى عام 1932 بعد تخرجه تدريس الفلسفة في أكسفورد كان من الطبيعي كما يقول هو نفسه أن يهتم بالموضوعات التي كانت تشغل بال الفلاسفة في ذلك الحين، ووقع أثناء ذلك تحت تأثير اثنين من كبار فلاسفة كيمبردج وهما الأستاذ مور والفيلسوف برتراند راسل. وكان من الموضوعات الأثيرة لدى فلاسفة أكسفورد بعض الموضوعات التي ظهرت على السطح نتيجة للعودة إلى النزعة التجريبية التي سادت الفلسفة البريطانية قبل الحرب العالمية الأولى، وكان الموضوع الذي جذب معظم اهتمامه هو "طبيعة المعنى" وعلاقته بالصدق والكذب وكان ذلك بتأثير مدرسة فيينا الذين كانوا هم أنفسهم من أتباع راسل والذين خضعوا أيضا لتأثير مفكرين من أمثال كارناب وفتجنشتاين وشليف.

وقد انتهى الأمر بآيزايا برلين إلى التحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى دراسة تاريخ الأفكار والنظرية السياسية نتيجة التمرد على الاتجاهات الفلسفية في أكسفورد، وإن كان هناك من يرى أن ذلك التحول عن الفلسفة جاء نتيجة تكوينه الشخصي وطبيعة مزاجه الخاص الذي لا يتفق مع التفكير الفلسفي. وهو نفسه يقول في ذلك بأسلوبه الساخر:

"لا يستطيع ممارسة الفلسفة إلا أشخاص على درجة عالية جدا من القدرة والكفاءة، ولست أعتقد أنني أصلح لهذه المهمة، ولذا قررت فى النهاية أنها لا تناسبني لأنني لا أستطيع أن أظل مستيقظا في سريري طوال الليل أفكر في طريقة حل بعض المشاكل الفلسفية المؤلمة" . ولم يمنع هذا القول بعض الكتاب من أن يضعوه على نفس المستوى مع برتراند راسل، على الأقل من حيث تأثيره في الفكر السياسي وفي الحياة العامة على السواء.

كاتب مقال مرموق

وقد امتدت الحياة بآيزايا برلين ثمانية وثمانين عاما أفلح أثناءها في أن يهيىء لنفسه مكاناً مرموقاً

بين أعلام الفكر في بريطانيا وإلى حد كبير في أمريكا، واحتل منزلة عالية بين فلاسفة أكسفورد، وحصل على لقب "سير" وعلى عدد من الأوسمة الرفيعة من ملكة بريطانيا. وقد ارتبط طيلة حياته وحتى مماته بجامعة أكسفورد التي بدأ فيها عمله مدرساً للفلسفة. وانتهى بأن أصبح أول عميد لكلية الفنون التي أنشئت حديثاً بالجامعة وأفلح في أن يضع طابعه الخاص المتميز عليها، مثلما أصبح زميلا شرفيا في أربع من كليات تلك الجامعة فضلا عن منحه عددا من شهادات الدكتوراه الفخرية من بعض الجامعات الأوربية والأمريكية. وكان غزير الإنتاج بشكل غير عادي، ولكن معظم كتاباته كانت تظهر في شكل مقالات ودراسات مطولة وليس في شكل كتب. فهو من كتاب المقال المرموقين، وربما كان وراء ذلك شدة يقظة فكره المتوثب وانتقالات أفكاره السريعة بين مختلف الموضوعات الفلسفية والسياسية والاجتماعية، وقدرته على الإحاطة بمشاكل الفكر والثقافة والإسهام فيها برأيه ورغبته القوية في التعبير عن كل ما يدور في ذهنه ونشره على القارئ المثقف والمتخصص على السواء دون انتظار لوضع تلك الأفكار في شكل كتاب قد يستغرق إعداده عددا من السنين. وربما كان هذا أيضا هو ما جعله من فرسان الكلام والحديث في المؤتمرات والاجتماعات العلمية والأكاديمية وفي الصالونات الثقافية بل وفي الحياة اليومية العادية.

والواقع أن أعمال برلين وكتاباته تغطي عددا كبيراً جدا من الموضوعات والمشكلات الحية في أذهان المفكرين والمثقفين، ونجاحه في فلسفة السياسة التي تحول إليها حين فقد حماسه للفلسفة التي تخصص فيها في أول الأمر، كما كان يكرس جانبا لا بأس به من جهده ووقته للدراسات الروسية وله فيها إسهامات كثيرة. ودراسته عن "القنفذ والثعلب" هي في أساسها دراسة تولستوي، كما أنه نقل إلى الإنجليزية بعض أعمال تورجنييف. وشمل نشاطه في مجال فلسفة السياسة تأليف كتاب عن كارل ماركس، كما امتد ذلك النشاط إلى دراسة فكر وفلسفة عصر النهضة وعصر التنوير. ولكن من بين هذا كله كانت مشكلة الحرية هي التي نالت أكبر قدر من العناية والجهد، بحيث يعتبر دفاعه عن الحرية من أهم ملامح تفكيره الأصيل.

مشكلة الحرية

تعتبر مشكلة الحرية وحرية الإرادة، وبخاصة في المجتمعات الشمولية، هي المحور الأساسي الذي تدور حوله معظم فلسفته السياسية وربما كانت محاضرته الافتتاحية حين انتخب زميلا في كلية All Souls College في أكسفورد عام 1950 عن "مفهومان للحرية" تلخص موقفه بشكل عام بحيث يمكن اعتبارها من أهم ما كتبه خلال كل تاريخه العلمي والأكاديمي.

وتقوم نظريته عن الحرية على أساس التمييز بين ما يسمى بالحرية الإيجابية، والحرية السلبية، ويعطي للحرية السلبية دورا في الحياة أكبر من الحرية الإيجابية وذلك باعتبارها تتعلق بالتحرر "من" كل صور التدخل والقهر والقسر والإجبار مما يترتب عليه التحرر "من" كل القيود التي قد تقرض من الآخرين، مع مراعاة عدم التدخل أيضا في شئون الآخرين، وذلك على العكس من الحرية الإيجابية التي هي حرية الفعل والأداء في إطار محدد، ولذا فهي حرية مزيفة وغير شرعية لأنها تخضع لكل أشكال الضغط والتدخل والقهر والقسر التي تفرض على الآخرين تحت ستار تمكينهم من تحقيق قدراتهم تحت الظروف الملائمة التي يهيئها هؤلاء الآخرون.

وهذا النوع من الحرية هو الذي يسود في المجتمعات الشمولية ويتمسك به الحكام المستبدون والأوتوقراطيون لتبرير الإرهاب والقهر اللذين يمارسان على أفراد الشعب. والمثال الذي يعطيه برلين لهذا النوع من الحرية هو ما يحدث في الصين حيث يذهب حكامها إلى أن الحرية الاقتصادية التي تهدف إلى الارتفاع بمستوى المعيشة وتحسين الأوضاع في الحياة اليومية في ظل نظام شمولي أفضل بكثير من الحرية السياسية التي قد لا تحقق مثل هذا المستوى.

وإذا كانت الحرية السلبية تعني التحرر "من" العوائق التي تمنع الفرد من فعل ما يشاء أو بالأحرى إتاحة الفرصة له للاختيار بين طرق ووسائل وسبل مختلفة يمكنه ارتيادها لتحقيق أغراضه، فإن الحرية الإيجابية أو الموجبة تعني الحرية "لأجل" تحقيق أهداف معينة يتحكم فيها الآخرون. ومن هنا كان موقف آيزايا برلين الرافض للحرية الموجبة، التي كان يتحمس لها في الدول الغربية ذاتها بعض المثقفين اليساريين.

وثمة علاقة بين إيمان آيزايا برلين بالحرية السلبية ودفاعه عنها، وبين الدعوة إلى التعددية التي كان ينادي بها ويؤازرها. فتعدد القيم مسألة موضوعية وجزء من طبيعة أو من ماهية الإنسانية أكثر مما هي محصلة تعسفية للخيال البشري الذاتي حسب تعبيره. ولذا كان يؤمن بتعدد القيم والمجتمعات والثقافات والأمزجة والطباع، ومع ذلك فإن هذا التعدد ليس أمراً لا متناهيا وإنما هناك- بالضرورة- عدد محدود منه في العالم كله، وإن كان يصعب تحديده، والتعددية تعني في آخر الأمر رفض الخطط العامة الكلية التي تزعم إمكان تحسين أوضاع وأحوال الجيش البشري بشكل عام دون أن يؤخذ في الاعتبار حقائق ووقائع التاريخ المحلي وأبعاد الظروف الاجتماعية السائدة في كل مجتمع على حدة. فالموقف العام الذي ينسى أو يتناسى الخصائص والمقومات المميزة لكل مجتمع ولكل ثقافة ولكل شعب لن تؤدي في آخر الأمر إلا إلى الاستبداد والطغيان وفرض الخضوع والاستسلام على الشعوب، ولذا كان ينادي بضرورة العمل على نشر ما يسميه "ثقافة الحرية" التي من شأنها أن تساعد على التسامح بين الناس وبين الشعوب وتعزيز التفاهم بين الدول وتقوية التعاطف بين الأفراد حتى إزاء الأعداء.

وكما سبق أن ذكرنا فإن مكانة آيزايا برلين في الفكر السياسي لا ترجع إلى كتاباته وحدها، وإلى ذلك الكم الهائل من المقالات والدراسات الفريدة التي كان يتناول فيها المشكلات السياسية والاجتماعية والفكرية بدقة ورشاقة، وإنما ترجع أيضا إلى قدرته الفائقة على شرح أكثر الأمور تعقدا ببساطة ووضوح، وهو ما أفلح في تحقيقه كمعلم ومدرس ومحاضر يجذب إليه جمهورا واسعا من الطلاب والأساتذة والمثقفين، فضلا عن مكانته كمتحدث في المؤتمرات والاجتماعات العامة وتأثير ذلك في نشر أفكاره عن طريق الخطاب المباشر، خاصة أنه كان يجيد الحديث في بلاغة وإنطلاق بست لغات مختلفة.

عميل في المخابرات

وثمة قصة كان يحب هو نفسه ترديدها عن ذكرياته أيام الحرب العالمية الثانية. فقد كان يعمل أثناء الحرب في المخابرات البريطانية التي أوفدته إلى واشنطن لمتابعة الأحداث وكتابة تقارير عنها، وكانت هذه التقارير تجذب اهتمام وينستون تشرشل الذي كان يعتمد عليها لدقة المعلومات التي تحتويها، كما يتمتع بالأسلوب الرشيق الذي تصاغ به هذه المعلومات. وحدث أن دعا تشرشل إلى الغداء "برلين" لمناقشته في بعض الأمور، ووجهت الدعوة خطأ إلى "أرفنج" برلين الموسيقار الأمريكي الشهير بدلا من أن توجه إلى "آيزايا" برلين ولم ينتبه تشرشل إلى ذلك، ولذا كانت المناقشة من جانب عن مشاكل الحرب والسياسة والإجابة من الجانب الآخر عن أوضاع الفن والفنانين والموسيقى، وهاج تشرشل بعد الغداء وثار حول المقدرات المزعومة لبرلين والمبالغة في تقديره وكفاءته إلى أن أبلغته زوجته بالخطأ غير المقصود.

وعلى الرغم من كل ما لقيه آيزايا برلين من تكريم وحفاوة خلال حياته الطويلة، فقد ظل على وداعته وتواضعه لدرجة أنه كان يقول عن نفسه: "إنني أعرف أن الناس كانوا يبالغون في تقديري طيلة حياتي، ولن أزعم أن هذا كان يسوءني أو يسبب لي أي نوع من الضيق أو الأسى، وكنت دائما أتمثل بما قاله لي بعض الأصدقاء في إحدى المناسبات، إنه من الأفضل والأحسن للمرء أن ينال من الثناء أكثر مما يستحق بل أكثر مما يظن أنه يستحق. وليس لي اعتراض على ذلك، ولكنني لا أستطيع مع ذلك أن أخدع نفسي".

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات