أحمد عبدالمعطي حجازي وأنور الياسين

أحمد عبدالمعطي حجازي وأنور الياسين

منذ أن أصدر الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي ديوانه "مدينة بلا قلب" في عام 1959 وقد لفت الأنظار إلى أصالته وجدته الشعرية. لقد كان الديوان يحكي من خلال قصائده عن إحساس الشاعر العميق بالغربة وهو يواجه المدينة العاتية. وهو إحساس لم يفارقه حتى هذه اللحظة حتى بعد أن غادر القاهرة إلى باريس احتجاجا على موقف الرئيس السادات من الصلح مع إسرائيل وبعد أن عاد إليها ليواصل دوره الثقافي كرئيس تحرير لمجلة إبداع القاهرية وككاتب أسبوعي في جريدة الأهرام. وخلال هذه الرحلة ظل مدافعا عن الكلمة ومنحازاً لكل معارك التقدم نثراً وشعراً. ولد عام 1935 في قرية تلا بمحافظة المنوفية. وبدأ يمارس الهوايات الفنية منذ طفولته ونثسر أولى- قصائده في مجلة "الرسالة الجديدة" الأسبوعية يشرف عليها الأديب الراحل يوسف السباعي- ثم نشر في دار الأدب البيروتية أول ديوان له. وقد دخل أحمد عبدالمعاطي حجازي الحياة الثقافية دخولا- مدويا عندها- أثار معركة كبيرة بينه وبين- الكاتب الكبير عباس العقاد حول الشعر الحديث والقديم، فقد كان العقاد الذي كان معروفا بشراسته في الهجوم يرفض الاعتراف، بالشعر الحديث ويعتبره دربا من دروب النثر ولكن الشاعر الشاب في ذلك الوقت تصدى له ببسالة دفاعاً عن أصالته وعن رغبة جيله في التجديد والمغامرة الفنية. أصدر الشاعر ستة من الدواوين الشعرية هي: مدينة بلا قلب "1959" أوراق "في نفس العام". لم يبق إلا الاعتراف "1965" مرثية العمر الجميل " 1972" كائنات مملكة الليل "1978". ديوان أشجار الأسمنت "1989" . بالإضافة إلى العديد من المقالات والدراسات الشعرية. وقد أجرى الحوار معه أثناء وجوده في الكويت مشاركاً في مهرجان "القرين " الثقافي الخامس مدير التحرير أنور الياسين.

  • نود في البداية أن تعطينا لمحة ولو بسيطة عن بداياتك ومشوارك الأدبي؟

- هذه البداية ضروية جدا بالنسبة للجميع وبالنسبة لي خاصة، والكلام عن هذه البدايات مدخل ضروري لفهم عملي- لأنه صورة من صور حياتي- النشاط الفكري والنشاط الفني ليس إلا أسلوبا في مواجهة الحياة وفي معاناتهـا. ولذلك لا يمكن التفرقة بين التمييز الحاد الحاسم الذي نجده عند بعض المفكرين وبعض النقاد وتمييزهم بين الحياة، التجربة الحية عن ناحية والتجربة الفنية من ناحية أخرى- تمييز طبيعي- لا بد من التمييز، مثلا أن نقف أمام منظر طبيعي بتأمله يختلف الأمر كثيراً عما إذا وقفنا أمام لوحة تصور هذا المنظر الطبيعي، التجربتان مختلفتان اختلافا جوهريا. نفسه الأمر إذا ما قرأنا قصيدة عن هذا المنظر.

الاستمتاع بوقت الغروب أو الوقوف أمامه يختلف عما إذا قرأنا قصيدة عن الغروب، أن ونحب مثلا، تدخل تجربة حب حقيقية هذه تختلف عن قراءة قصيدة في الحب أو كتابة قصيدة في الحب، ولكن نحن لا نستطيع أن نكتب قصيدة في الحب إذا لم نعش هذه التجربة- وأنا بطبيعة الحال لا أقول إن كل عملي الفني لا بد أن يكون ترجمة لتجربة عملية خاضها الفنان لأننا نخوض تجارب الحب أيضا من خلال الآخرين، نحن نتمثل تجربة الموت من خلال موت الآخرين، نحن لا نموت أولا ثم بعد ذلك نكتب قصيدة في الموت، كلا، نحن نستشعر الموت في داخلنا- ونحن نراه فيما حولنا، وبالتالي نخوض هذه التجربة من خلال ما نراه وما نعيشه مع الآخرين وفي المجتمع.

والآن أستطيع أن أعود إلى الإجابة المباشرة عن السؤال فأقول : إنني ولدت في منتصف الثلاثينيات بالضبط في عام 1935 يونيو، ولهذا أستطيع أن أقول إن التجارب والوقائع الكبرى التي حدثت في مصر وفي المنطقة وفي العالم من أواخر الثلاثينيات أصبحت جزءا حقيقيا من عالمي ، صحيح أنني ولدت في قرية أو مدينة ريفية في وسط الدلتا المصرية ليست بعيدة عن القاهرة، لكنها قريبة من مدينة مهمة جدا وهي مدينة طنطا، وطنطا في ذلك الوقت كانت صورة مصغرة من مدينة القاهرة، صحيح أن السفر حتى ذلك الوقت بين القرى المصرية وبين المدن والعواصم لم يكن متاحا للجميع، فالطرق كانت محدودة ثم لماذا تسافر، أنت تسافر للتعلم في الجامعة أو في المدرسة الثانوية أو تزور مثلا السيد البدوي أو مسجد الإمام الحسين أو السيدة زينب وتعود مرة أخرى، وهذا لم يكن متاحا للأطفال، وبالتالي أستطيع أن أقول: إنني عشت السنوات الأولى من طفولتي في القرية وحدها في شبه عزلة عن العالم الخارجي، لكن العالم الخارجي منذ أواخر الثلاثينيات أصبح يطرق أبوابنا بشدة بسبب اشتعال الحرب سنة 1939، وبالتالي الصحف أخذت تنشر أخبار الحرب والمذياع كذلك، في ذلك الوقت دخل بلدنا أجهزة المذياع الأولى في أواخر الثلاثينيات لأن الإذاعة المصرية نفسها أظن نشأت سنة 1934 ولا شك في أن بعض البيوت اقتنت أجهزة الراديو وقد سمعت الراديو لأول مرة خارج البيت في بعض المحلات وفي بعض المقاهي بالإضافة إلى أن والدي رحمه الله كان قارئا مواظبا للصحف وكان مهتما بالسياسة لأنه عاش مرحلة أساسية من شبابه في ظل الحركة الوطنية، يعني بالتحديد 1919.

دور المثقف

  • أنت شاعر، وكاتب صاحب رأي في الصحافة العربية، ورئيس تحرير مجلة تعنى بالأدب والنقد والشعر، ولك مساهمات في العمل السياسي في مصر والوطن العربي.. كيف تستطيع أن توفق بين كل هذه المهام، وأيها أحب إلى نفسك؟

- المثقف بطبيعة الأحوال في بلادنا لا بد أن يعمل كل شيء، ويهتم بكل شيء، أولا كانت قضية السياسة، تعني الاشتغال بهموم الوطن، خصوصا في مرحلة تغيير جذري، المرحلة الثورية ، هذه المرحلة الثورية كانت أيضا مناخا عالميا لأنه بعد الحرب العالمية الثانية العالم كله تغير حيث نشأ المعسكر الشرقي والنظم الاشتراكية وما تلا ذلك من قيام الحرب الباردة والصراع ما بين المعسكرين، من ناحية أخرى نشأت حركه التحرر الوطني، أو حركات التحرر الوطني في المستعمرات لأنه حتى نهاية الحرب الثانية كانت معظم إفريقيا وآسيا واقعة تحت الاحتلال الأوربي الإنجليزي والفرنسي وغيرهما، طبعاً من هذه البلاد، بلادنا العربية، فمصر مثلا كان بها بريطانيون، وكذلك فلسطين ، ومنطقة الخليج، والفرنسيون في بلاد المغرب العربي، وهكذا كانت المرحلة هي مرحلة كفاح من أجل الاستقلال ومن أجل التقدم والتنمية، بمعناها الشامل التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. فلم يكن يستطيع المثقف أن يعيش بمعزل عن هذه الحركة، التي هي موجودة في البلاد كما أنها مناخ عالمي، ولكن مثلا عندما ننظر إلى رجل مثل طه حسين فقد كان أستاذا في الجامعة، ولكنه أيضا كان مفكرا يعمل ويخاطب المجتمع وينتج ثقافة للقارئ العادي ويجيب عن أسئلة اجتماعية وفكرية موجودة في داخل المجتمع ، أي لا يكتفي بالدروس التي يقدمها لطلابه في الجامعة، وإنما ينقل عمله التنويري من الجامعة إلى المجتمع ككل، وهو لم يكن يكتفي بإصدار الكتب ، وإنما كان يحرر في الصحافة، كان يكتب وينشر مقالاته الأسبوعية في جريدة السياسة ثم بعد ذلك في كوكب الشرق وفي المجلات الأدبية التي كانت تصدر آنذاك كالرسالة وأحيانا في الهلال إلى آخره، وربما كان الكاتب الوحيد الذي رفض أن يشارك في هذا النشاط وعبر عن حاجته إلى العزلة هو توفيق الحكيم الذي تحدث عن استقلال الفن وأن الفنان يحب ألا يشارك في العمل السياسي ويجب ألا ينزل إلى هذا المعترك الذي يعطله ويؤثر تأثيرا سلبيا على إنتاجه الأدبي. ومع ذلك فتوفيق الحكيم الذي كان يعبر عن فكرة استقلال الفن وحاجة الفنان إلى العزلة كما نجد في كتابيه "من البرج العاجي " أو "تحت المصباح الأخضر" سوى هذين الكتابين من كتب توفيق الحكيم، نجد أيضا في هذين الكتابين أن توفيق الحكيم يعالج شؤون المجتمع، وكل ما هنالك أنه لم ينتم إلى حزب من الأحزاب ولم يشتغل بالعمل السياسي في حين أن هناك مفكرين آخرين يكتبون عن قضايا المجتمع وقضايا سياسية وثقافية ولكنهـم كانوا يشاركون في العمل السياسي والعمل الحزبي كطه حسين الذي أصبح وزيرا في حكومة النحاس باشا، وكان في شبابه أقرب ما يكون لحزب الأحرار الدستوريين ثم انتقل إلى حزب الوفد، والعقد الذي كان زعيما أساسيا من زعماء الوفد ثم بعد ذلك أصبح من زعماء السعديين، إذن الأسئلة الملحة والضرورات التي جعلت المثقف المصري ينهمك في العمل العام كانت أقوى من أن تسمح له بأن يعتزل الناس وأن يلتفت إلى عمله ليجوده كما يحدث في بلاد أخرى يستطيع فيها المثقف أن ينعم بهذه العزلة، لأن المجتمع أنجز الأعمال الكبرى التي تفرض على الجميع حالة التعبئة العامة التي تجعل كل فرد من أفراد المجتمع مثقفا وغير مثقف شابا أو شيخا رجلا أو امرأة، يشارك في نفس العمل، هذه المراحل نجدها مثلا حينما يتعرض المجتمع لأخطار كانت موجودة في بلادنا لأننا لم نكن نتعرض لخطر الاحتلال أو الاستعمار فحسب وإنما كنا نتعرض لأخطار داخلية، خطر التخلف، كنا نريد نتقدم، وكان- خصوصا الفئة المستنيرة- تساهم في كل شيء فإذا لم يكن هناك مثقف مثل طه حسين على رأس وزارة المعارف فمن سيكون إذن؟

الواجب الأخلاقي

أيضا فكرة التشكيك، الدستور، فكرة الديمقراطية؟ إذن كيف يمكنني أن أنصرف عن هذا الواجب. أو أتخلى عنه؟ لا أستطيع، وليس فقط هذا وإنما أخسر أخسر ماذا... أخسر بمعنى أنني أظن الناس الذين خاضوا التجربة التي خضتها وحققوا في عملهم ما حققته أنا. كان أجدر بهم الآن إن يصلوا إلي مرحلة الرضا والراحة المادية- وأن يحققوا من النتائج المادية بأن يساعدهم على أن يستريحوا- هذا لم يتحقق لي- وأنا أضحي به وأنا راض وسعيد لأني أؤدي واجبي الأخلاقي. وبطبيعة الأحوال أن الأمر زائد على الحد. وأنا مضطر لكي أكتب في الصحف المصرية والأجر الذي أحصل عليه لا يساعد على الإطلاق وكان بإمكاني أن أظل في فرنسا أستاذا للأدب العربي في جامعة فرنسا، لكن هل يجوز من أحمد عبد المعطي حجازي الذي ذهب إلى فرنسا احتجاجا علي سياسة الرئيس السادات من قضية الصراع العربي- الإسرائيلي أن يبقي في فرنسا ويترك بلاده هكذا للآن، فهـذا لا يقبله الناس منى ولا أقبله لنفسي، إذن كان لا بد أن أعود، أيضا لا أستطيع أن أعود لكي أتخلى عن كل أفكاري ثم حل مشاكلهم بطرق مختلفة، يعنى هناك كثير من المثقفين ذهبوا إلى هذه البلاد أو تلك حيث يجدون أعمالا تدر عليهـم أجوراً مناسبة لا بأس بها، لكني أنا أيضا لا أستطيع أن أترك مصر وأذهب إلي بلد آخر، ومن هـنا لا بد أن أصنع كل شيء لا بد أن أكتب هنا، وأن أكتب هناك؟ ولا بد أن أكتب في الأهرام لأني أخاطب القارئ المصري. الأهرام يساعدني على أن أخاطب القارئ المصري . ويوفر لي من الحرية ما يساعدني على أن أعبر عن أفكاري وهو منتشر في قاعدة واسعة من القراء، لكن أجرى لا يكفيني وهذا ليس لأني أعيش حياة مرفهـة، لا.. بل أعيش الحياة التي كنت أعيشهـا وأنا في الخامسة والعشرين أو الثلاثين من عمري، لا زيادة عليهـا، بنفسي الشروط، وأنا مازلت مقيما في منزلي الذي اخترته من سنة 66 وحتى الآن يعني الشقة التي أعيش فيها حتى هذه اللحظة. ولا أقارن نفسي ببعض الشبان الصحفيين الذين ظهروا في الثمانينيات أو في منتصفها، إذن عملي هذا ليس هو- المجلة التي أنا رئيس تحريرها طبعا أجري كرئيس تحرير في هذه المجلة لا أستطيع أن أذكره في هذا المجال، لأنه في الكويت قد تكون نكتة، وعملي في المجلة لايدر علي أي دخل على الإطلاق بالعكس يأخذ مني الكثير من الجهد ولايدر علي أي دخل.

ولكنى أعتقد، أنا فلاح- فقد نشأت في بيت يرضى بالقليل ويسعى قبل كل شيء إلى احترام نفسه، فأنا أعتقد أن هذا أساسي بالنسبة لي، وأيضا أساسي بأن أقدمه كنموذج للآخرين لأننا الآن محتاجون للأخلاق من ناحية والمثقف المصري والعربي عامة محتاج إلى أن يحترم نفسه حتى يكون له الحق لأن يلعب دورا وأن يتكلم عبن أن له كلمة يجب أن تحترم، هذا هو الذي أفسر به ضياع وقتي وامتلائه بعمل ليس كله مثمرا، وأنا قادر على الكتابة، أنا رجل عمري الآن 63 عاما- أصبح لي خبرة واسعة، وأصبح لي في هذه المهنة 50 سنة، نصف قرن، وأنا لا أبالغ في هذا، فقد اشتغلت في مجلة روز اليوسف وصباح الخير بداية من سنة 1956، وكنت وقتها في الحادية والعشرين من عمري، واشتغلت في الصحافة المصرية لأنني كنت قد أصبحت شاعرا. وأصبحت أنشر قصائدي والمجلة استدعتني في العمل بها براتب، وهذا لم يكن متاحا في ذلك الوقت، فمعظم الصحفيين آنذاك كان يؤجرون بالقطعة، الذي يقدم خبرا يأخذ ثمن الخير، مثلا 25 قرشاً، الذي يقدم تحقيقا صحفيا يحصل على جنيه، أنا اشتغلت بأجر في سنة 1956 وكنت قد بدأت أنشر أشعاري قبلها بسنة أو سنتين، وهذا معناه أنني أشارك بقلمي في الحياة الأدبية من سنة 1955.

انحسار الشعر

  • يقال إن الشعراء المصريين، لم يعودوا متسيدين ساحة الشعر العربي، بل إن هناك انحسارا وبعدا عن القمة فما رأيك؟ هل هي مقولة صحيحة، وما هو السبب وهل لما يدور من صراع على الساحة السياسية، ومن تسيد بعض التيارات علاقة بالموضوع؟

- أنا ظني، أن انحسار الشعر موجود، في مصر وفي غير مصر، في الأجيال التي ظهرت بعد جيل السياب ومعاصريه، هناك سالم مهدى، على جعفر العلامة، عبد الرزاق عبد الواحد، لكن أيضا هؤلاء جيل الخمسينيات والستينيات. الأن من هم الشعراء العراقيون الذين ظهروا في السبعينيات والثمانينيات ونحن الآن في أواخر التسعينيات؟ هل تذكر اسما من الشعراء العراقيين الجدد- قد يكون- أنا لا أريد أن أقول إنني حصرت، لكن أريد أن أقول فقط إنه يوجد آنحسار في الشعر، الفلسطينيون بعد الجيل القديم، الكرمي وطوقان، ثم جيل يوسف الخطيب، ثم شعراء المقاومة محمود درويش، وسميح القاسم، من الذي ظهر، هؤلاء أيضاً ظهروا في الخمسينيات والستينيات، من هم الشعراء السوريون بعد نزار قباني وأدونيس، أفراد معدودون قليلون وأسماؤهم ليست بهذا اللمعان.

من هم الشعراء اللبنانيون بعد خليل حاوى، هـناك شوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين، وهما أيضا من جيل الستينيات، من الذي ظهر في السنوات العشرين الأخيرة؟

في مصر قبل عشرين سنة. كان هناك صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، وكانت لاتزال الساحة الشعرية في مصر عامرة.

وبالنسبة للخليج، مرحلة الستينيات التي لا تنطبق عليها ما ذكرته، لماذا لأنه بالعكس في الوقت الذي كانت فيه البيئات الأخرى المصرية والسورية والعراقية عامرة بالشعراء لم تكن هـناك أسماء كثيرة لا في الخليج ولا في السعودية، الآن يوجد، وهذا لا بد أن يكون راجعا للنهضة التي حدثت متأخرة، ومع ذلك الشعراء العرب في بلاد الخليج وفي السعودية ظهروا في مناخ غير ملائم ، لأن الحركة العربية الشعرية ليست في أفضل أحوالها. معنى ذلك أيضا أن قراءة الشعر ليست في أحسن أحوالها- وعلاقة الجمهور بالشعر ليست هي العلاقة المطلوبة وبالتالي الشعر الذي يظهر في الكويت أو البحرين أو اليمن. لن يجد ما كان يجده الشعر الذي كان يظهر في الخمسينيات والستينيات وإلا فمن المؤكد نحن نستطيع أن نجد عددا من الشعراء الممتازين في بلاد الخليج، أذكر في هذا الأستاذ العريض في البحرين، والعدواني والسقاف والوقيان في الكويت، وقاسم وعلي الشرقاوي في البحرين، وفي اليمن المقالح وابراهيم الحضراني وعبدالله البردوني، وفي السعودية حربي وعبد الله الفيصل، ومحمد العلي- ولكن الحركة الشعرية العربية عامة.

وأذكر في المغرب العربي هناك عدد من الشعراء الممتازين ، تونس، المنصف، الغزي، وفي المغرب، يوجد ولكن بشكل عام لا بد أن نعترف بأن الحركة الشعرية العربية عامة ليست بأفضل الأحوال، وأستطيع بعد ذلك أيضا أن أذكر أن الحركة الشعرية المصرية طبعا ليست في أفضل أحوالها، وربما يعاني الشعر في مص أكثر مما يعاني في أي بلد عربي آخر، لأنك ذكرت أن مصر هي التي قادت النهـضة الشعرية في أول القرن، وهي التي استعادت للشعر مكانته في الحياة العربية وفي الثقافة العربية. من خلال حركة إحياء التراث القديم لأن أوائل الدواوين العربية القديمة المطبوعة طبعت في مصر، وأوائل دروس النقد الأدبي ونقد الشعر حدثت في المدارس المصرية والماهد المصرية، والجامعة المصرية لعبت دورا مهما في هـذا، وهي أقدم الجامعات العربية والنقاد المصريون لعبوا دورا مهما أيضا وهم من أوائل النقاد العرب في العصر الحديث، وعندما نذكر أمثال البارودي وإسماعيل صبرى وشوقي وحافظ وأحمد نسيم وأحمد محرم والجارم سوف نجد أن الحركة الشعرية المصرية كانت في منتهى القوة والغنى في النصف الأول وإلى الستينيات والسبعينيات من هذا القرن، بعد ذلك كانت الحركة الرمانتيكية أيضا لم يكن لها وجود في أي بلد عربي كما كان لها في مصر. لأنها قامت على قأمات ومواهب شعرية حقيقية من أمثال أحمد زكي أبو شادي، علي محمود طه، إبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، عبدالرحمن شكري، المازني، العقاد، بعد الحركة الرومانتيكية ظهر شعراء مجددون كان في مقدمتهم عبدالرحمن الشرقاوي، صلاح عبد الصبور .. وغيرهـما. الآن تستطيع أن تعد عددا من الشعراء المصريين على رأسهم وفي مقدمتهم محمد عفيقي مطر، حسن طلب، وليد منير أمين، رمضان، هناك شعراء ولكن لا نستطيع أن نقول إنهم يملأون الفراغ الذي تركه عبد الصبور، ودنقل وأمثالهما من الشعراء المصريين.

ظاهرة نزار قباني

  • وفاة نزار قباني أخيرا هل يمكن أن تترك أثرا، وإن كان شعره ظاهرة تسيدت الشعر العربي فترة، فما هو تقييمك لشعره، وماذا سيبقى منه؟

- أنا ظني أن نزار قباني ورحيله تجربة آلمتنا لأننا فقدنا وجوده الشخصي وهذا الوجود كان له إشعاع، وتأثير، ولكني أعتقد أن نزار الشاعر لم يكن يستطيع أن يقدم شيئا في المستقبل، لأن تجربته الشعرية قد اكتملت في ظني- ليس فقط من الآن ولكن قبل عشرين سنة على الأقل، نزار قباني كان يقدم مواقف في الـ 20 سنة الأخيرة- أو حتى أستطيع أن أقول منذ 1967- من هوامش على دفتر النكسة التي كتبها في أعقاب هزيمة 1967 إلى الآن. هذا الشعر، مواقف. قيمته في أنه موقف، وموقف أيضا له طابع خاص، عاطفي يترجم مشاعر الرجل العادي، ولا ينظر ولا يخضع هذه المشاعر للتأمل العميق، ولذلك كان مطلوبا لأنه يعبر عن هذه المشاعر بقدر كاف من الصراحة والجرأة وحتى لا يتورع عن استخدام الشتيمة والهجاء الصريح، هذا الشيء يعجب الجمهور العادي- وهو الذي وسع جمهور نزار قباني، فهو طبعا قبل 67 كان له جمهور وأسع، بالقياس إلى غيره من الشعراء ولكني أعتقد أن تجربة نزار قباني الشعرية من حيث أنها تجربة البحث عن لغة خاصة للكتابة الشعرية انتهت في أواخر الستينيات الباقي كله كان نوعا من الاستمرار والتكرار، قصائده السياسية كلها يشبه بعضها البعض ويقول نفس الكلام، لذلك أنا في ظني- أن رحيلة الآن لم يترك فراغا في الحركة الشعرية

تجربة الشعر السياسي

  • هل يمكن أن تقول أن نزار قبانى وتجربته الشعرية في الشعر السياسي مشابهة لتجربة مظفر النواب، أو الأبنودي؟

- أنا في ظني أن شعر نزار قباني السياسي لا يختلف عن هذا الشعر، الشعر السياسي المباشر الذي يشبه أن يكون شعر تحريض مباشر. ووظيفته وقيمته في قدرته على الإثارة وفي الغالب لا يبقى منة الكثير، لأنه بطبيعته شعر يومي، يعتمد على الحدث ويخاطب الانفعال المترتب على الحدث. فهو لا ينشئ مشاعر، ولا يدفع القارئ لإعادة النظر في مشاعره، أو حقيقة جديدة ، هذا ليس مهما، المهم أن يستثمر الحالة الموجودة- الحالة النفسية والوجدانية والانفعالية الراهنة، ولذلك نجد أنه بالفعل، مثلا واحد مثل مظفر النواب، من 20 سنة لم يكن هناك بيت عربي إلا ويعرفه، ظني الآن أنه حاليا غير موجود، إن معظم شعر نزار قبانى السياسي لن يبقى وأن شعره الذي يحمل قيمة حقيقية ينتهي في أوائل السبعينيات. بعد ذلك فإن شعر قباني هو شعر يتخاطب مع الانفعال العادي البسيط الشائع الشعبي ولا يبقى منه الكثير.

أزمة المثقف العربي

  • نريد أن نتحدث عن أزمة المثقف العربي والإحباط الذي يعبر عنه دائما سواء في شعره أو في مقالاته أو في ندواته أو حتى في المنتديات والمقاهي الثقافية، ما هي أسبابه، وهل من مخرج من هذا المستنقع؟

- نعم الأن.. ولكن بجهاد عنيف.. لماذا؟ لأن أزمة المثقف العربي أولا تكمن في علاقته بالمجتمع، علاقته بالدولة، علاقته بالسلطة، علاقته بالآخرين، المثقف ينبغي أن يمارس دوره، مادام لم يمارس المثقف دوره فهـو في أزمة ، وهو لايستطيع أن يمارس دوره إلا إذا كان مستقلا، والمثقف في حقيقة الأمر لا يستطيع أن يكون مستقلا، المثقف إما أن يكون موظفا هنا أو موظفا هناك، وحتى لو كان مستقلا، سأفترض أنني وارث عن أمي مثلا ألف فدان، مادمت مضطرا إلى مراعاة هذه الثروة أو التركة، هذه المؤسسة أو غيره الأن المؤسسات الديمقراطية غير مكتملة والمؤسسات الإعلامية والثقافية غير مستقلة، فأنا دائما أشعر بهذه الأزمة لأني إما في صدام، والصدام معطل، بالإضافة إلي أن الصدام ليس في كل حين مواتيا. فأنا لا أستطيع أن أكون مصادما في كل وقت لماذا؟ لأنه إذا كنت أستطيع أن أكون مصادما في وقت أفوز فيه على الأقل باعتراف الناس، هذا يرضيني ويشجعني على ممارسة الموقف، أو على اتخاذ هذا الموقف. لكن في مراحل أخرى ومنها المرحلة التي نعيشها الآن، عامة الناس أو الجمهـور العادي أو الرأي العام في جانب والمثقفون في جانب آخر، بالإضافة إلى هذا أفترض أنني لم أجد حلا إلا أن أستسلم، أيضا هذا يسبب لي أزمة، لأن الاستسلام معناه أنني أصبحت معطلا عن ممارسة الدور، ما معنى أزمة الثقافة أو أزمة المثقف؟ أزمة المثقف هي التعطيل عن أداء الدور، هناك المثقف بطبيعته هـو كيان شخصي مؤقت لأن يلعب ويعبر عن هذا الدور لأن يكون حراً، لأن يقدم رأيا وهنا يلعب دوراً المجتمع لا بمؤسساته ولا بقوانينه ولا بمستوى تطوره قادر على أن يضمن للمثقف هذا والمثقف نفسه لا يستطيع أن يضمن لنفسه هذا. لأن المثقفين أيضا أفراد. هناك أعداد غفيرة من المثقفين لكن ليس لهم كيان، هذا هو.. طبعا إذا أضفت إلي هذا أيضا الشعور بعدم الجدوى وبعدم القدرة علي ممارسة الدور يؤدى إلى أن المثقف يذهب ليشرب، يسكر- لأنه يبحث عن النسيم ويريد أن يغيب عني أداء دوره بصورة من الصور أو يضطر إلى هذا أو يكف عن القراءة أو يكف عن العمل لأنه أيضاً يئس واليأس يصل بالمثقف إلى هذا كله. وهذه كلها نماذج موجودة في المثقفين العرب، الذين لا يكفون عن كونهم يشربون، أو المثقفون الذين كفوا عن القراءة منذ عشرين سنة ومازالوا يكتبون. هذا النوع أيضا موجود. المثقفون الذين يعتمدون على وظيفة من الوظائف يستمدون منهـا القدرة علي مواصلة الحياة، فهـو شاعر كبير لأن الصحيفة تكتب عنه هذا. ليس لأنه شاعر كبير في الحقيقة، أو لأنه فنان حاصل على لقب دكتور، أو لأنه عميد كلية.

هذا كله سبب من أسباب أزمة الثقافة، وبالتالي فأزمة الثقافة هي وجه من وجوه الأزمة الشاملة الموجودة في مجتمعنا.

أيضا المواطنون العاديون يشعرون بهـذا الشعور ولكن دون حيرة لأنهم ليسوا مطالبين بالفعل. هذه الأزمة موجودة، وهي تعبر عن نفسهـا قبل كل شيء في الانتماء والشعور به. ضعف الشعور بالانتماء الآن هو موجود، قارن بين شعور الناس بانتمائهم لبلادهم ولأفكارهم وبين الشعور بالانتماء الذي كان موجودا منذ 30 أو 40 سنة. هناك تراجع وهذا أيضا أزمة.

أزمة الوجود

  • ونحن الآن على أبواب دخول القرن الحادي والعشرين ونحن كعرب- أو كما فهمت من حديثك المشوق والممتع. بأننا مازلنا في مؤخرة الركب.. فهل من ضوء في نهاية هذا النفق.. تعتقد؟

- طبعا.. أنا متفائل، وسبب تفاؤلي أنني متشائم جدا بمعنى أنني لا أرى الآن إلا هذه الأزمة "أزمة الوجود" وفي رأيي أن أزمة الوجود لا بد أن يتفجر عنها حل. وأنا شخصيا أجد أن الحياة تدافع عن نفسها، وأن الإنسان قادر. الوجود سواء الوجود الفردي أو الوجود الجماعي لا بد أن يدافع عن نفسه، وهذا الصدام الذي سيحدث لامحالة سيكون صداما مروعا بيننا وبين العالم، لأن العالم كله يمشي في طريق ونحن نمشي بعكسه. هذا الصدام المروع، لن يهدد أرضنا فقط بالاحتلال وإنما يهددنا في كل شيء بما في ذلك كرامتنا ويهدد ثرواتنا وحرياتنا ووجودنا في الداخل "أمنيا" إذا كان الإنسان الآن لا يأمن على نفسه في طريقه أو في منزله، وهذا جائز الآن وموجود في كثير من البلدان العربية. انظر مثلا ما يحدث في الجزائر، وعدة حوادث في مصر، فكرة الأمن، الآن أصبح كل إنسان يظن لنفسه الحق في أن يعترض عليّ فيما آكل وفيما أشرب وفيما ألبس وفيما أقول وأفعل. هذا موجود في الداخل على مستوى الصراع بين قومي وقومي، فإذا نقلت هذا إلى مستوى الصراع بيننا وبين العالم، وهذه الماكينة الهـائلة التي يسمونها العولمة المتمثلة في قوة عسكرية ضخمة لا مثيل لها وحيدة- ولا شريك- ومتمثلة في اقتصاد ساحق هذه القوة الهائلة في الإعلام الغربي وبالذات في الإعلام الأمريكي ساعدها بالقيادات العلمية والتكنولوجية توفر لهـا أن تسيطر عليك وتفرض عليك ما تقوله وما تفعله، الآن العرب لا يأكلون إلا من السندويتشات الأمريكية ولا يلبسون إلا البطلونات الأمريكية ويضعون دون حياء العلم الأمريكي- الأجيال الجديدة، فضلا عن الرقص والغناء الأمريكي، وهذا النوع من التأثير وصل إلى الأجهزة والمؤسسات الحكومية، وما يقدم في التليفزيون الإذاعات العربية لا يختلف عما يقدم في .C.N.N إذن نحن مواجهون بأخطار تهددنا في الصميم نحن وغيرنا إما أن ننتبه لهذه الأخطار، هـناك من يعتقد أن مواجهة هذه الأخطار بالهرب منها إلى الماضي، إلى نوع من الحياة هي البديل عنه بأن يلبس بطريقة معينة، أو يطلق لحيته، ويظن أنه أصبح في أمان، الحقيقة أنك لا تستطيع أن تقاوم هذا إلا بامتلاك هذه القوة، نحن قادرون على امتلاك هذه القوة إذا. أولا- حولنا هذا الكم الهائل والوجود الكمي إلى وجود كيفي، وهذه الجماهير التي لا عمل لهـا سوى أن تأكل وتشرب وتطلب العلاج والتعلم والعمل دون أن تشارك. لأنك لا تستطيع أن تحمي الوجود العربي إلا بتحويله من كم إلى كيف، بالضبط كما فعل الآسيويون، نحن بدأنا قبلهم لذلك عندما أدقق النظر في الحاضر أجد كل شيء لا يدعو إلي التفاؤل، لكن لهذا السبب أرى أنه لن تعد هناك فرصة لمزيد من التراجع، لقد وصلنا إلى الحائط، إذن لا بد أن نعيد التقدم، وأن نتحرك بالعكس، ونتقدم إلى الأمام، لأنه لم يعد هناك مكان آخر إلا القبر، نحن وصلنا إلى الحافة، لا نستطيع التراجع، وصلنا الهاوية.

نحن الهاوية من ورائنا، وليس أمامنا إلا المستقبل وهذا بالضبط ما يجب أن نضعه في أذهاننا.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات