تلفيق التاريخ الإسرائيلي: هجوم على

تلفيق التاريخ الإسرائيلي: هجوم على " مدرسة المؤرخين الجدد" في إسرئيل!!

أثار صدور هذا الكتاب موجة واسعة من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، المهتمة بالصراع العربي. الإسرائيلي ومراحله التاريخية.

تنبع أهمية الكتاب من أنه قدم أطروحة جديدة استهدفت نقض أطروحة جديدة صاعدة ومتزايدة النمو، وهي ما يقدمها تيار " المؤرخون الاسرائيليون الجدد". فهذا التيار يطرح أفكارا ورؤى ونظريات جديدة حول نشوء وخلفيات وتطور قيام دولة إسرائيل بما يخالف ويعارض الرواية الرسمية الإسرائيلية الكلاسيكية التى صورت إسرائيل كحمل وديع محاط "بذئاب عربية "، ومبرأ من العيوب والجرائم.

وقبل التعرض لما جاء في فصول الكتاب نفسه لعله من المفيد التمهيد لذلك بإطلالة سريعة على "المدرسة التاريخية الإسرائيلية الجديدة" وأهم طروحاتهـا. وهنا يمكن التاريخ لبروز هذه المدرسة بصدور كتاب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس حول تهجير الفلسطينيين إبان حرب 1948، والذي صدر عام 1987 بعنوان (ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ". ففي هذا الكتاب الذي صدم الوعي الإسرائيلي وأثار زوبعة أكاديمية وإعلامية واسعة، يثبت موريس- عبر اطلاعه على الوثائق السرية المكشوف عنها في منتصف الثمانينات سواء في إسرائيل أو الولايات المتحدة أو بريطانيا- أن القوات الصهيونية العسكرية مارست بالفعل أساليب طرد وتهجير لمئات الألوف من الفلسطينيين خلال حرب 1948 وقد بحث في صمت أحداث الحرب وتأثير سياسات العصابات الصهيونية على نزوح سكان مئات القرى والحواضر الفلسطينية، وبذلك فقد نقض الرواية الرسمية التي ظلت تردد أن الفلسطينيين هاجروا بمحض إرادتهم، وبناء على نداءات من الحكام العرب كي يخلوا مواقع القتال. ثم أصدر موريس نفسه كتابين آخرين خلافيين الأول عام 1993 بعنوان " حروب إسرائيل الحدودية " والثاني عام 1994 بعنوان "1948 وما بعدها: إسرائيل والفلسطينيون " وفي هذين الكتابين يدحض موريس أسطورة أخرى روجتها إسرائيل على الدوام، ومفادها أن العرب لم يفكروا مطلقًا أو يبحثوا جديًا في أي مقترحات سلام مع إسرائيل رغم أن إسرائيل بقيت باسطة يدها للسلام منذ نشوئهـا!. ويثبت موريس أن إسرائيل كانت على عكس ذلك، بل تبنت سياسات عدائية وتوسعية ولم يكن يهمها سوى تكريس وجودها وقضم مزيد من الأراضي.

تحطيم الأسطورة

بعد هذا التمهيد ننتقل إلى كتاب افرايم كارش "فبركة التاريخ الإسرائيلي" ومناقشة ما يحتويه. يهدف كارش- وهو بروفيسور إسرائيلي شاب يدير قسم الدراسات المتوسطية في كنغز كوليج بجامعة لندن- إلى تحطيم ما يسميه "أسطورة المؤرخين الجدد الإسرائيليين"، ويشن عليهم حملة شعواء لا تترك اتهامًا يمكن لصقه بهم، إلا ويلصقه، ولا خللاً بسيطًا في أعمالهم إلا ويضعه تحت عدسة مكبرة، وهو يطعن في أهليتهم الأكاديمية ومناهجهم البحثية وطرقهم في تفسير الروايات والوثائق التاريخية ويعتبرها انتقائية، كما يتهمها بعدم الاطلاع على كل المصادر. وينتهج كارش نهجا اتهاميا وغاضبًا، فضلأ عن أنه تعميمي لا يترك أحدًا من المؤرخين الجدد أو العديدين الأقل شهرة إلا و"ينتقي" من أعماله ما يصلح للنقض والتفنيد.

وبشكل أساسي يصب كارش جام غضبه على بني موريس، مؤسس التيار الجديد، ويتوسع في محاولة نقض أطروحته عن " تهجير الفلسطينيين"، هذا في الوقت الذي أثبت فيه موريـس وجود بعض ملامح لنزعة الترانسفير عند الحركة الصهيونية قبل الحرب، واقتبس عن بن جوريون نفسه مقولات تؤيد "الترانسفير" باعتباره الحل العملي الوحيد للحصول على دولة يهـودية غالبيتها الكاسحة من اليهود، حيث ينقل عن بن جوريون في خطاباته أمام الوكالة اليهودية والمؤتمرات الصهيونية- خاصة عام 1937 وبعد نشر تقرير بيل لتقسيم فلسطين قوله: " إننا لا نريد تبديل مكان سكن الفلسطينيين، ولكننا نريد تهجيرهم " مشيرا إلى أن هناك مساحات واسعة من الأرض عند العرب يمكنهم أن يستقبلوا الفلسطينيين فيها. وفي عام 1938 يقول بن جوريون بوضوح إنه يدعم فكرة التهجير الإجباري ولا يرى أي شيء غير أخلاقي فيها. مقابل ذلك فإن كارش يدافع عن بن جويون ويحاول أن يثبت آن ما ورد عنه من مقولات بشأن " التهجير" هي مقولات منقوصة ومجزوءة نقلها موريس بعدم أمانة. وأن حقيقة موقف بن جوريون أنه نظر إلى آن الحل الوحيد للحصول على دولة ذات أغلبية يهودية كاسحة هو هجرة مليون ونصف مليون يهودي من أوربا، وهي الهجرة التي يجب أن تكون لها مغريات ودوافع قوية.

ومن المفيد عند هذه النقطة إيراد ما كتبه أحد المؤرخين الجدد الأقل شهرة، وهو توم سيغاف المحرر في آرتس الإسرائيلية، حيث يقول إن الحركة الصهيونية في فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية ، وممثلة في تجمعات اليشوف الاستيطانية، تلقت أنباء اضطهاد اليهود في ألمانيا ومحارقهم بنوع من الترحاب، لأنها اعتقدت أن ذلك الاضطهاد سيدفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين. وفي الحقيقة فإن كارش لا يتوقف عند هذه النقطة كثيرًا ولا يستطيع تبرئة الحركة الصهيونية من استثمار الهولوكست بطريقة لا أخلاقية وبذيئة.

وفي الواقع فإن فكرة "الترانسفير" ضاربة الجذور في التفكير الصهيوني المتعلق بالعودة إلى " أرض الميعاد" وبناء الدولة اليهودية فيها. وتشير الأعمال الموسوعية العميقة التي اشتغل عليها البروفيسور عبدالوهاب المسيري لأزيد من عشرين سنة إلى أن فكرة "الترانسفير" ليست فكرة ثانوية على هامش المشروع، بل هي ركن من أركانه الأساسية، وهذا يتناقض حتى مع "اكتشافات" بني موريس نفسه. فمرريس يعترف بحدوث "الترانسفير" ويدينه، لكنه يرجع أسبابه المباشرة إلى أعمال الحرب، وأنه خلال الحرب تخلق ممارسات تعكس "النزوع نحو الأفكار" ولا تعكس بالضرورة وجود سياسات. ولذلك، ومع إشارته لاقتناع بن جوريون بالترانسفير فإنه غير مقتنع بوجود "خطة ترانسفير صهيونية " مسبقة ومحكمة التصميم.

وبالعودة إلي هجوم كارش على موريس واتهامه له بالانتقائية، فمن الجدير هنا لفت الانتباه إلى أن موريس نفسه قد رد على كتاب كارش وفنده أيضًا، وذلك في دراسة مطولة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية "الطبعة الإنجليزية، واشنطن، شتاء 1998"، وأعاد تهمة الانتقائية إلى كارش حيث قال إن كارش قد نسي وتجاهل كل الأطروحات الأكاديمية المدعمة بالوثائق في كتاب موريس، وانتقى بضع صفحات أفرد لها فُصُولًا في كتابه. وقد نعى على كارش أهليته الأكاديمية أَيْضًا مُذَكِّرًا إياه بماضيه في العمل بجهاز الاستخبارات العسكري الإسرائيلي، وبأن " إنجازاته" الأكاديمة لا تتعده بضع دراسات في الاستراتيجيات العسكرية مصادرها الأساسية هي قصاصات الصحف، وذلك لا يؤهل كارش للدخول إلى ميدان التأريخ الذي هو أرقى من أن يصل إليه كارش!

تقاسم الأرض

الهجوم الثاني الذي تضمنه كتاب كارش كان باتجاه آفي شليم ونظريته حول تقاسم الأرض الفلسطينية بين إسرائيل والأردن. وهنا ومرة أخرى ينفي كارش وقوع أي اتفاق بين الطرفين، رغم أنه لا ينكر حصول اللقاء بين الملك عبدالله وجولدامائير. لكنه لم يستطع دحض مقولات موريس حول مواقف بريطانيا التي كانت راضية عن الاتفاق الثنائي ورعته. وبدوره فقد رد شليم على كارش وأعاد إثبات نظريته التي ساندها أيضا إيلان بابي، مستندًا إلى كم فائق من الوثائق البريطانية المؤيدة لوثائق إسرائيلية كشف النقاب عنها حديثاً. فشليم يشير إلى أن السياسة البريطانية في ذلك الوقت لم تكن منسجمة وواضحة الأمرالذي مكن حدوث الاتفاق وهو الذي أعطى دفعة قوية غير مباشرة لفكرة قيام إسرائيل نفسها، وقد أرادت الحركة الصهييونية الحصول على ذلك الموقف من بريطانيا ليس فقط لتسهيل سيطرة الأردن على القسم المخصص للفلسطينيين من فلسطين الانتدابية، بل لتكريس شرعية قيام الدولة اليهودية بعد أشهر قليلة.

والواقع أن كارش بمعارضته لنظرية شليم يعارض التيار الأكثر اتساعا من المؤرخين الإسرائيليين وغير الإسرائيليين إزاء هذه النقطة. وهو كحالة في معارضته موريس إزاء موضوع التهجير يبدو واقفاً بنشاز على أرضيه أكاديمة هشة. فمن المعروف جداً أن طروحات " المؤرخين الإسرائيليين القدامى"، أو الأطروحة الإسرائيلية الكلاسيكية حول نشوء دولة إسرائيل، إنما هي "فبركة" رسمية انتجت لأغراض دعاوية صرفة، حاولت إسرائيل من خلالهـا التخفيف من وطأة الجرائم التي اقترفتها بحق الشعب الفلسطيني "الذي لم يكن موجوداً في الأرض آلخالية" يحسب النظرية الصهيونية. كما حاولت تلك الأطروحة على الدوام إظهار إسرائيل وكأنهآ ألحمل الوديع الراغب بالسلام والحياة بأمان وتعاون مع جيرانه، وأن المشكلة تكمن في هؤلاء الجيران المتوحشين الذين يريدون أكل الحمل أو إلقاءه في البحر. وقد استفادت إسرائيل بطبيعة الحال من الصورة السلبية التي عكستها الأوضاع العربية إن على مستوى عدم الاستعداد للقتال، بحيث ظهرت إسرائيل المحدودة العدد والقليلة السكان، أكثر قوة وفعالية، أو على مستوى الاستبداد وغياب الديمقراطية، بحيث ظهرت إسرائيل، وعبر مكانتها الإعلامية والإعلام الغربي، على أنها " واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط ". والغريب في كتاب كارش أنه لا يجـد حرجًا أكاديميًا في مناصرة "الرواية الرسمية"، وعدم إدانة الحركة الصهيونية.

وعلى وجه العموم يمكن القول إن موقف الغالبية مني المثقفين والمؤرخين الفلسطينيين يتميز بالترحيب المتحفظ بما يقدمه رموز المؤرخين الجدد. ومثل هذا الترحيب يلحظ عند إدوارد سعيد ووليد الخالدي، وأقل منه بكثير عند الياس صنبر.

الاعتراف بما حدث

أما التحفظات الأساسية التي يمكن إيرادها هنا تجاه المؤرخين الجدد فهـي ما يلي: أولاً: إن ما قدموه من " جديد" هو في حقيقة الواقع التاريخي ليس جديدأ بل هو " اعتراف " بها حدث فعلاً وحقاً، ورصده المؤرخون الفلسطينيون منذ نصف قرن وكتبوه وفصلوا فيه. صحيح أن مشكلة الكتابات العربية التي أرخت للنكبة ظلمت محكومة بلغة عاطفية وإنشائية، وأنها وهو الأهم، ظلت باللغة العربية ولم تجد لها موقع قدم في الأكاديمية العالمية، لكن يبقى أن الاطروحات الأساسية وخاصة فيما يتعلق بتهجير الفلسطينيين وفكرة الترانسفير والتأييد الغربي المطلق كانت واضحة وبارزة ومناقشة بعمق. ثانياً: مازال عدد من المؤرخين الجدد لا يقطعون الشوط كله، إن على مستوى الاعتراف بالواقعة التاريخية أو تحميل المسئولية لإسرائيل تاركين النصف الآخر للفلسطينيين. ثالثاً: هناك تحفظ معهم مرتبط بالنقطة السابقة ارتباطاً وثيقاً، حيث إن نتيجة دعوة المؤرخين الفلسطينيين إلى قطع نصف المسافة، هي المطالبة بوجود مؤرخين جدد فلسطينيين، وهي مطالبة ليست بريئة، إذ ليس هناك ما يمكن أن يعاد تأريخه بشأن حرب 1948 وما قبلها وبعدها من وجهة النظر العربية والفلسطينية. إلا إذا كان المطلوب هو أن يعاد اعتبار النظر للفلسطينيين على أنهم " نصف ضحايا" وليسوا ضحايا كاملين، وبالتالي فإن إسرائيل ارتكبت نصف جريمة. . وهكذا. وربما أمكن ألاتفاق على أن ثمة جوانب تحتاج إلى توسعة للنظر والتعريف بها بشكل أفضل من ناحية تاريخية. وهذه الجوانب التي تحتاج إلى نشر أكثر وليس إلى تأريخ جديد، إذ هي مؤرخة بدقة، متعلقة بالمواقف العربية الرسمية وتخاذلها، وهذا معروف لكنه غير واسع الانتشار. وهو في التحليل الأخير لن يؤثر في جوهر الرواية التاريخية وأركانها الأساسية. وهناك في الختام ملاحظات وتحفظات متعلقة بعدم اعتماد مؤرخي المدرسة الجديدة على آي أرشيفات أو مصادر عربية.

 

 

خلود عمرو

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات