تراجُع الأمم من تراجع التربية والتعليم

تراجُع الأمم من تراجع التربية والتعليم

قد لا تعي الأجيال اللاحقة ما كان يدونه التاريخ في صفحاته، وربما تمحو الأيام وطأة الآلام التي عاشها الإنسان، في فترة آثر فيها النسيان على أن يتذكر المرء ما لم يفهمه من ظلم وعنف وقهر وعدوان.  إنّ التاريخ عماد بناء الحاضر، ومن سقف بناء الحاضر الناضر تتطلع كل الشعوب والأمم إلى مستقبل أفضل. مستقبل لا يُرْسَمُ على الأوراق بوضع خطط واستراتيجيات فقط، إنما يقوم على الأخلاق وشحذ الهِمَم.

نحن أمة ذات تاريخ عريق وحضارة مزدهرة وحاضر حباه الله بالخير والبركة، ولكننا عاجزون اليوم عن بناء مستقبل لا نكاد نرى أو نعرف ماذا سوف يكون، أو نرسم شيئاً ولو كان يسيراً من ملامحه.

عصر جديد
بعد أن دخلنا في الألفية الثالثة للميلاد، تبدت لنا ملامح عصر جديد، افترضنا أن نسميه «عصر التكنولوجيا»، وهو عصر بات فيه التشغيل والتحميل والتحويل والتعديل والتبديل والتحصيل والتمويل، والمراقبة والمتابعة والمقابلة، والقراءة والكتابة، والصحة والتعليم، والسياسة والدين، والتهاني والتعازي والتبريكات والتواصل في كل المناسبات، كل ذلك على جهاز حاسوبي واحد، ينتقل مع الإنسان في كل مكان.
وصار هذا الجهاز يصغر حجماً وتكبر سعته لتشمل وتغطي أكثر احتياجاتنا ومعاملاتنا في كل مناحي الحياة اليومية، حتى أصبح الرفيق الدائم، الذي تفتقده دائماً وتسأل عنه بإلحاح عندما لا تجده معك. وترى الرجال والنساء في كل مراحلهم العمرية حاملين هذا الجهاز، حتى الأطفال، لا يلعبون ولا يمرحون كعادتهم، وكل غارق بمشاهدة تلك الشاشة التي تبث نوراً من المتعة والترفيه والراحة الفكرية والنفسية والثقافية.
 وكعادة الأصدقاء والرفقاء، يكون منهم السوء والخيانة والجفاء، يسلونك حيناً، وقد يكون في تسليتهم لك المَنِيّة، فكم سمعنا ورأينا حوادث في الطريـــــق كان سببها الهاتف النقال. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، حيث استعمل هذا الجهاز في التدمير والتفجير والتهديد والتــــنديد والابتزاز وهتك الأعراض وتسويق الفواحش وتهريب المخدرات وغسل الأموال وتخريب قواعد بيانات البنوك والمصارف وشركات الاستثمار وفضح أسرار أفراد وأُسَر وجماعات ومنظمات ودول.
تحول هذا الجهاز إلى سلاح مدمر مخيف بيد الشرّ والإرهاب. وسيكون لزاماً على الدول والمنظمات الدولية أن تسعى وتعمل جاهدة لإصلاح الفساد فوراً، وليس الوقت في مصلحتها في تشكيل اللجان وتقرير القواعد وعمل الدراسات والخطط الورقية المجدولة على الآماد البعيدة. فمن المضحك أن نرى واحدة من تلك الدراسات تضم آلاف الأوراق المكتوبة، لتُقدَّم لمتخذي القرارات الذين تنهكهم مطالعة رسالة قصيرة في وسائل التواصل الاجتماعي. وكل دراسة لابدّ أن تقرر حلولاً فورية، ثم على المدى القصير جداً، فالقصير والمتوسط، ثم البعيد، هكذا تُحلّ المشكلات والأزمات. 

في مثل هذا الشهر
كعادة المؤرخين، الذين يرون أنّ الحُكم على الأحداث أثناء وقوعها لا يمكن أن يستوعب حجم الواقعة أو يأتي على جميع أسبابها أو جُلّ نتائجها. ولا أدل على ذلك مثــــل حادثـــة التفجيرات في الولايــــات المتحدة الأمــريكيـــة لمركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع (البنتاجون).
فبالرغم من أن تنظيم القاعدة الإرهابي أعلن مسؤوليته عن تلك التفجيرات، التي لم تستهدف أرض معركة أو ساحة قتال، وذهبت أرواح آلاف من الأبرياء ضحية ضلال وعمى رؤية مستقبلية أضرت بالإسلام والمسلمين، فقد رفع رايتها السوداء جهلة ومرتزقة جمعتهم عصابات ووسائل استخبارات مارقة. 
لن نسكت عن الممارسات الإرهابية وإن كانت منّا، وسنُذَكّر أنفسنا ونُعلّم أبناءنا أنّ السلام قُدْرة على التسامح من أجل استمرار الحياة وإعمار الأرض. وإنا لنأسف من ضرب مثلٍ على ما جرى ويجري الآن في وطننا العربي ودول العالم، ولكن ربما يكون تشبيها أقرب إلى واقع الحال، أنّ من جمع هذه الفئة من الجهلة والمرتزقة أشبه ما يكون بالذي قد جمع عقارب وأفاعي وفئراناً جائعة وصراصير، ووضعها جميعاً في جورة مظلمة، ثم نثرها، فعاث هؤلاء الإرهابيون في الأرض فساداً من غير هدى أو علم أو كتاب مبين، فدمروا وفجّروا وقتلوا واغتصبوا وسفكوا الدماء وأرهبوا الناس وفسدوا وأفسدوا الأرض، ألا بُعداً لهم... ألا بُعداً للقوم الظالمين.
واليوم، وبعد مرور ستة عشر عاماً على حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، تراجعت صورة الإسلام والمسلم عند شعوب العالم، وصرنا كعرب ومسلمين ترمقنا نظرات الشك والريبة في كل مكان، ومُنِع كثيرون منا من دخول الدول التي ترى في هذا الدخول خطراً عليها. وانسحبت الأذية على الطلبة والسائحين والعاملين، حتى شمل الأذى الجمعيات الخيرية ومساجد المصلين.
ووصلت الأذية إلى دولنا، فكان من السهل اتهامها واتهام جمعيات النفع العام والمؤسسات الإنسانية فيها بدعم الإرهاب وتمويله. ووضعنا في قفص الاتهام، وأشاروا إلينا بالرجعية والهمجية، وصفات لم نتربّ عليها في ديننا أو بين أهلينا. هكذا، جار الشرّ على الخير فأنهكه، وانسحب الظلم والظلام على النور فأحلكه، وطغى القويُّ على الضعيف فأهلكه.

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
طال ليلنا وطال ظلامه، ولسوف يطول ويكثر نوامه، وتحيك عناكب الخوف خيوطها على أجسادنا فتغطيها، وتدس الأفاعي فينا سمها فتخدرنا، ثم تأتي أراذل الخلائق لتأكلنا من كل ناحية وصوب، ونحن لا ندري من الهوان «أأيقاظ نحن أم نيام؟». تلك مقولة قالها والي خراسان نصر بن سيار بأبيات ضَمّنَها رسالة أرسلها إلى مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، منها:
أرى تحت الرمادِ وميض جمْرٍ 
ويوشك أن يكون له ضرام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أميــــــــة أم نيام؟
فإن أصبحوا وثووا نياماً
فقل قوموا، فقد حان القيام
ففزي عن رحالك ثم قولي
على الإسلام والعُرْب السلام
ويبدو أننا سنعيد كرّة بني أمية في نومنا الطويل، والعالم من حولنا يشتعل ويشتغل. إننا إذا لم نستيقظ الآن ونعمل بجد ونشاط فلا خير فينا، ولا أفادتنا عبرة التاريخ ولا أفادنا كل ما تعلمناه من ماضينا وبنيناه لحاضرنا وتمنيناه لمستقبلنا.

الأحلام... شُغْلُ النيام
ليست المشكلة في أننا مازلنا من النيام، إنما المشكلة الحقيقية في الأحلام، التي استمدها العقل العربي الباطن من تراث زخر بِكَمٍّ هائل من الروايات والأحداث التاريخية التي جمعت بين الكذب والتزوير والتدليس والخرافة، على شكل كرامات ومعجزات وإنجازات، أحاطت بها هالات ضبابية ففسرت بتفاسير ظلامية استندت إلى باطل أسموه «نصوصاً دينية»، معظمها منكر وضعيف وموضوع، والباقي تعمدوا فيه مكراً وضلالاً. ولا أدلّ على ذلك من التنجيم، الذي يسمونه اليوم «علم الأبراج»، كفراً وكذباً وخداعاً، وفيه علّقوا صفات وطبائع الناس وأقدارهم بالنجوم وحركة الكواكب والأفلاك، لترى أكثر البسطاء، وخاصة النساء منهم، قد تعلق بمعرفة طالعه، ظنّا منه أنّه سيعرف مصيره ومستقبله. 
يا لهذا المستقبل السجين بين شفتي عرّاف أو بضرب على الرمل أو بباطن كفٍّ أو في فنجان قهوة!
ولا تقف المشكلة في الضمير العربي عند هذا الحدّ، بل تتعداه إلى استمرار نوم الأمّة بهدف بلوغ المرام في تفسير الأحلام، حيث تزخر المكتبة العربية بكتبٍ غثة، صنفها الوراقون على أنّها كتب متخصصة في تفسير الأحلام. أما قُرّاء تلك الكتب وحفظتها، فقد توهموا وأوهموا الناس بأنّهم في هذا المجال من العالمين العارفين، فأصبحوا قبلة الجهال والموسوسين، الذين رأوا فيهم «أصحاب كرامة» كُشِفَتْ عنهم الحُجُب الغيبية، فصاروا في نظرهم من أولياء الله. ولكن، كيف يصل مثل هذا الأمر إلى درجة التصديق ويتعداه ليصل إلى الإيمان به كعقيدة، ويُتَهم من يخالف ذلك بأن يكون من الضالين المشككين، وربما من الكافرين؟! 
كتبٌ منحولة، وأخرى منسوبة إلى علماء دين من الفقهاء والمحدثين، ككتاب تفسير الأحلام 
لابن سيرين، كتب شاعت بين الناس، فأخذوها مرجعاً لتفسير أحلامهم. ولن ندخل في قضية إثبات قدرة من يدعي المعرفة والعلم في تفسير الأحلام، ولكن نؤكد أنّ تفسير الرؤى والأحلام معجزة لا تتأتى إلا للرسل والأنبياء، مثل سيدنا إبراهيم \ عندما صدق الرؤيا، ويعقوب \ إذ {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (سورة يوسف - 5)، وسيدنا يوسف \ عندما فسّر قصة البقرات اللاتي رآها عزيز مصر في منامه. وبناء على ذلك، فإنه لا يُفسّر الرؤى والأحلام إلا الرسل والأنبياء، ومن سواهم لا يدّعي ذلك إلا الكذابون والنصابون والمشعوذون والسحرة، {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ 
أَتى} (سورة طه: 68).

ومن الخوف ما قتل
من الأوهام الأخرى التي كانت سببا في تأخر الأمة العربية والإسلامية عن ركب الحضارة العالمية، الفكرة الواهمة لتلبّس الجن بالإنسان. ضباب أسود وحيّز غامض، جعل الخوف من الجنّ يصل عند السُذَّج إلى درجة الرعب من المجهول، فهم لم يروا جنّياً، ولن يروه أبدا، ولا يمكن لأحدٍ من الإنس رؤية الجن، باستثناء سيدنا سليمان \، وذلك تصديقا وإيمانا بقوله عزّ وجل في إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (سورة الأعراف - 27). إن الصورة التخيلية الخاطئة لشياطين الجنَّ عند الإنسان، عبارة عن موروث مشَوَّه لمخلوق شرير بشع قذر مخيف. صورةٌ قد يكون أبرز ملامحها: مخلوق أحمر اللون (لأنّه خُلِق من نار)، ذو قرنين (كما ورد في الحديث الشريف)، إلا أنّه، وعلى الرغم من اختلاف العرب على شرح معنى «قرن»، ترى المتخيل يرسم القرنين في خياله على شكل قرني ثور، وربما زاد في الخيال ليكون رأس الشيطان كرأس «ميدوسا» في الميثولوجيا اليونانية، ذات جدائل من الأفاعي وعيون تمسخ البشر حجراً. ولست أدري لماذا جاد خيال الإنسان بوضع «ذيل» أقرب ما يكون على شكل الأفعى، أو شبهٌ لذيل القطّ؟! ربما لأنّه – أي هذا الساذج المرتجف خوفاً - قد تخيّل الشيطان بعينين كعيني القطّ، أو الفهد الأسود، وبنفس الأسنان الحادة للفهد، وليزيد الشكل تخويفاً، يرسم يداً ذات أظفار طوال قذرة، ونصفه الأسفل لحيوانٍ أقرب ما يكون إلى الحمار! وقد يكون ذلك استعارة من أساطير اليونان أيضاً في وصف «السنتور» أو «القنطور» وهو كائن نصفه الأعلى إنسان ونصفه الآخر حصان، كان هذا هو رسم خيال الإنسان للشيطان منذ قديم الزمان. 
ومن العجيب عند المثقفين من عرب الجاهلية، خاصة الشعراء، أنّهم لا يخشون الجنّ ولا الشياطين، بل على العكس، فهم يرون فيهم مصدر إلهام وخيال. وفي قصة الشاعر الصعلوك ثابت بن جابر الفهمي الملقب «تأبط شراً» خير مثال على ذلك، فقد زعموا أنّ الشاعر عشقته أنثى الغول، فقتلها وجزّ رأسها، وأتي أصحابه متأبطاً رأسها. وكانت العرب تعتقد أنّ الغيلان فصيلة من فصائل الجنّ، كالمردة والعفاريت. ثم انسحب الأمر على مثقفي الإسلام من القرن الثاني وما يليه، فهذا عبدالسلام بن حبيب 
ابن رغبان الكلبي يطلق على نفسه لقب «ديك الجنّ» تباهياً وافتخاراً. وكان العرب يعتقدون أيضاً بجمال بعض الجنيّات! فكانت أسمارهم لا تخلو من عشق بني البشر لبنات الجنّ، حتى أطلقوا على جواريهم الحسان أسماءً وأوصافاً جِنِّيَة، وخير مثال على ذلك «ماردة» أم المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وعلى ما يبدو أنّ علاقة الحبّ والغرام بين الإنس والجنّ شاعت لتغص بها قصص ألف ليلة وليلة، وتكون مادة ترفيهية تستمد بقية حكاياتها من الأدب الفارسي والهندي في عصر انفتاح الدولة على هاتين الحضارتين. 
يزعم جاك ريسلر، مؤلف كتاب «الحضارة العربية»، أنّ «ألف ليلة وليلة» عبارة عن ترجمة لكتاب فارسي قديم بعنوان هزار آفسانه، ويعني ألف قصة، ومنه كتب الجهشياري كتابه ألف خرافة، ومع الزمن أضيفت إليه قصص شعبية من مصادر متنوعة. 

صورة الشيطان بين سعدي شيرازي والعقاد
ربما يبالغ الشاعر المتصوف الفارسي سعدي شيرازي (من رجال القرن السابع الهجري) في وصفه للشيطان نفسه. ينقل عباس محمد العقاد في كتابه «مجموعة أعلام الشعر» عن سعدي شيرازي قصيدة، ترجمها العقاد من الفارسية إلى العربية، وتحت عنوان «الشيطان جميل» يُقَدِّم العقاد القصيدة بما يلي: «الشيطانُ...  ما الرأي فيه؟ جميل هو في سيماه أو دميم؟ هو على كلّ حال موصوفٌ بين الناس بصفة لا اختلاف فيها، وهي الغواية». ولهذا قال الشيخ السعدي إنّه جميل، لأنّ الغواية لا غنىً لها من مظهر خادع وصور لا تنفر منها العيون أول نظرة. وتلك هي وجهة نظر الشاعر الفارسي القديم حينما قال:
«رأيت الشيطان في حلم. فيا عجباً لما رأيت!
رأيته على غير ما وهمتُ من صورته الشنعاء التي تخيف من ينظر إليها:
قامة كفرع البانة
عينان كأعين الحور
طلعة كأنها تضيء بأشعة النعيم
قاربته وسألت: أحقٌ أنت الشيطان المَريد؟
أحقٌ ذاك ولا أرى مَلِكًا له جمال محياك
ولا عيْن نَظَرَت إلى شبيه سيماك؟
ما بال أبناء آدم يتخذونك لهم ضحكة فيما يصورونك؟
وفي وسعك أن تجلو لهم وجهاً كصفحة البدر
ونظرةٌ تتهلل ببهجة الرضوان
وابتسامةٌ تُشرِقُ بالنعيم!
أولئك الرسامون يبغضونك إلى العَيْنِ
وحمّامات الإنس تكشفك لنا في صورة تنقبض لها القلوب!
ويقولون لي إنّك كالليل البهيم 
ما أرى أمامي إلا الصبح المنير
سألت وتسمّعت
فتحرّك الحلم الساحر، وترفّع له صوت فخور
ولاحت على طلعته كبرياء، وقال:
لا تصدق يا صاح أنّه مثالي ذاك الذي رأيت فيما يمثلون
فإنّ الريشة التي ترسمني تجري بها يدُ عدو حسود
سلبتهم السماء فسلبوني الجمال!».
وبناء على ما سبق، ولكون الشيطان ملك الغواية وسيد دعاة الباطل، فلابد أن يكون جميل المحيا ليُقبَل، عذب الصوت ليُسمَع، حَسنَ الحجّة ليطاع، ويكون ذلك بطريق الهمس والوسواس في آذان الناس، لتجري وساوسه مجرى الدم في العروق. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسكن الجنّ جسم الإنسان، هذا الجسم الذي ركبه الله تعالي لمقاومة كل دخيل عليه. إلا أنّ موروث الجهل الإنساني أبى إلا أن يُقَعّد تلك الخرافات والأساطير في عقول كثير من الجاهلين، من كل مَشْرَبٍ ومَذْهَبٍ وطائفةٍ ودِين.

الحَسَد والعَيْن والطَيَرَة
تعتمد نظرية الحسن بن الهيثم على إثبات تلقي العين للضوء، بحيث تتشكل الصورة معكوسة ومقلوبة وتسقط على ما أسماه «الطبقة الجليدية الخلفية»، وعندما تصل هذه الصورة إلى المخ، يعدلها إلى وضعها كما في الحقيقية. أثارت هذه النظرية في عصر ابن الهيثم جدلاً كبيراً لدى علماء الدين خاصة، وهم الذين ورثوا الفهم الخاطئ للنص الديني، بزعم قدرة العين على الحسد والتأثير السلبي على حياة الآخرين. الأمر الذي أدى إلى محاربة الحسن بن الهيثم وتكفيره وتسفيه نظريته، ولم يدر هؤلاء بأنّ تلك النظرية ستصبح فيما بعد حقيقة علمية ثابتة. 
ومع الأسف, إنّ سوء الفهم هذا لايزال قائماً إلى يومنا الحالي، فلايزال الجهلة من الناس يؤمنون بقدرة العين على الحسد بتفسيرهم الخاطئ للآية الكريمة {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (سورة الفلق- 5)، ولو ناقشتهم في أمر الحسد وبالقول إن الحاسد يعمل على أذى المحسود عملاً فعلياً من وراء ظهره دون أن يدري، لم يقنعهم هذا التفسير. ويبدو أنّ حواراً لم يُسمع ولم يؤخذ به تردد للدفاع عن نظرية ابن الهيثم، حول نقض النظرية بالأحاديث الشريفة التالية: «العين حقّ» (رواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داوود والترمذي في سننهما ومالك في الموطأ وأحمد في المُسند)، فقيل لهم: «المقصود بالعين عين تملكها وهي حقٌّ لك»، وقالوا: «ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» (رواه مسلم والترمذي وابن ماجة ومالك وأحمد)، فقيل لهم: إنّ سرعة إبصار العين تصل إلى السماء بلحظة، وهذا معنى السَبْق، سبق العين في سرعة الإبصار الذي يصل في لحظات إلى السماء والنجوم البعيدة. وقالوا: وهذا دعاء الرسول [: «أعوذ بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عيْنٍ لامّة» (رواه البخاري في صحيحه وأورده أبو داوود 
وابن ماجة في سننهما)، فقيل لهم: العين اللامة هي التي تأتي على اللمم، وهو صغار الأمور، بمعنى العين التي تتجسس على عورات الناس. وكما يذكر أبوبكر الرازي الطبيب في مناظرته مع أبي حاتم الرازي الداعي الإسماعيلي: «إن أُفحموا طلبوا منك الدليل، وإذا طولبوا بالدليل شتموا» (أعلام النبوة- 55). 
أدى هذا الحوار إلى تكفير ابن الهيثم في وطنه العراق، ما أثر على إنتاجه العلمي في عدم الانتشار، وخاصة كتابه «المناظر». لقد حورب هذا العالم لدرجة أنّ مثقفي وعلماء عصره لم يقرأوا كتابه ولم يسمعوا بنظريته. فهذا نصير الدين الطوسي (ت. 672هـ/1247م)، وهو العالم الموسوعي الذي اشتغل بمرصد مراغة الفلكي، وكانت له الاهتمامات العلمية نفسها التي كانت لابن الهيثم، يقع في أخطاء ما كان ليقع فيها لو أنه اطلع على كتاب المناظر أو سمع بآراء ابن الهيثم.  ولكن، أحد تلاميذ الطوسي النجباء، وهو محمود بن مسعود الشيرازي (ت. 710هـ/1311م)، عرف فضل «المناظر» فأوصى تلميذه كمال الدين الفارسي (ت. 720هـ/1320م) بشرح الكتاب، وأسماه «كتاب تنقيح المناظر لذوي الألباب والبصائر». لم يستطع ابن الهيثم أن يحتمل العزلة في مجتمعه الذي كان يُكَفّر رأيه العلمي الذي يُؤمن به، فترك دياره ووطنه وارتحل... كذلك يفعل علماؤنا اليوم. وعلى الرغم من أنّ العلم قد فَصَلَ وفَصَّل وأثْبَت وثَبَّت، فلم يزل أولو الجهل بأحكامهم يعملون، وللجهل والخوف والرجعية يدعون، ألا ساء اليوم ما يفعلون >