بين السياب والبياتي وعبدالصبور

بين السياب والبياتي وعبدالصبور

حفلت السنوات الأخيرة من النصف الأول للقرن العشرين وما تلاها بنهضة شعرية عامرة، برز فيها شعراء كثيرون كانوا عماد هذه النهضة، فدعموها وأوجدوا حياة نقدية كشفت عن آراء مختلفة ومواقف متباينة، كما أنها أرست ملامح جديدة لحركة الشعر العربي، وعززت من حركة النقد، وهيأت الظروف لظهور مجلة «شعر»، التي كان من روادها وأعضائها يوسف الخال وخليل حاوي وبدر شاكر السيَّاب وأدونيس وغيرهم.

ظهرت خلال هذه النهضة الشعرية مواقف نقدية متباينة وخلافات في وجهات النظر بين بعض الشعراء، كشفت عن خلفيات وآراء مختلفة، ومن مظاهر حركة النقد هذه ما حصل مع بدر شاكر السيَّاب، أحد أهم شعراء تلك المرحلة، عندما نشر قصيدته «أغنية في شهر آب» وتعرض فيها للنقد والتشكيك من قبل الشاعر عبدالوهاب البياتي، متهماً إيّاه بسرقتها من قصيدة إليوت «أغنية العاشق»، ورد السيَّاب على البياتي متهماً إياه بالجهل. 
يقول السيَّاب مخاطبا البياتي: «إن هذا زعم لا يفيد، سوى أنه يُظهر مدى جهل البياتي بشعر إليوت على أحسن الفروض وأغراضه في أسوأ الفروض، وهو - أي البياتي - كان ومازال عالة على شعر إليوت وعلى شعري أيضاً، وأستطيع إثبات ذلك بالنصوص لا بمجرد الكلام المطلق على عواهنه».
ويرى السيَّاب أن البياتي في قصيدته «سوق القرية»، ومطلعها: 
الشمس والحمر الهذيلة والذباب
وحذاء جندي قديم وصياح ديك
دمّر وحدة القصيدة التي ثار من أجلها الشعراء الشباب على التقليد، ويقول في هذا الصدد: أيّ وحدةٍ في القصيدة هذه لولا هذه الواوات لا نفرط كل بيت وقد خرج يبحث له عن مكان. وهو يرى أن أسلوب البياتي أشتات من أساليب إليوت. ولا يتردد السيَّاب في مكان آخر من أن ينعت أبيات صلاح عبدالصبور بالمُخْتَلَّة الزاحفة، وأن لديه شغلاً أهم من سماع هذه الأبيات، ثم يردف: أفتُراهم يريدون منا أن نسكت حين نراه يخطئ في الوزن، حيث قال:
شعر حبيبي حقل حنطة
صنعت من ضلوعي ذلك الصندوق
وجئت بستانك الصغير يا مليكة السماء
وينتقد السياب الصحفيين المصريين الذين وقفوا إلى جانب عبدالصبور لأنه مصري مثلهم بعد أن أثنى عليه رئيف خوري في مطالعته بمجلة الآداب، معتبراً هذا الموقف روحاً إقليمية لا تمتّ إلى روح الشعر بصلة، ولا ينفي السيَّاب نفسه تأثره بالشعر الغربي، حيث ذكر عندما سُئل عمن أُعجب من الشعراء الغربيين أسماء شكسبير ودانتي وهوميروس وغوته وكيتس وستول وإليوت، وأكثر ما تأثر بشيلي وإليوت وكيتس، لذلك يؤكد السياب أهمية الثقافة في دعم عبقرية الشاعر، ويصف أسلوبه في الكتابة على أنه مزيج من طريقة أبي تمام وطريقة إيديث ستويل الشاعر الإنجليزي، بمعنى إدخال عنصر الثقافة والاستعانة بالتاريخ والأساطير والتضمين في كتابة الشعر، حتى إنه انتُقِدَ هو وغيره بالعزلة عن الجماهير واتخاذ مواقف في غاية الغرابة، فقالوا عنه: «لم يعد يؤرق عبدالوهاب البياتي شيء غير ابن ناظم حكمت والعلم الأحمر واسطنبول وعمال مرسيليا»، بمعنى أنه ترك الجماهير وحقوقها وانصرف إلى أمور أخرى حتى أنه لا يحب ألبير كامو لأنه لا يُحب السيَّاب.
 ومن مآخذ السياب على البياتي أنه فشل في استعارة فكرة قصة نزار سليم «أشباح بلا ظلال»، وادعى أن الفكرة سرقها البياتي وضمنها قصيدة سماها «الملجأ العشرون»، وقصّر في التعبير عن جو المأساة التي تلخص معاناة الشعب الفلسطيني، وتصور فكرة تبادلهم الرسائل عن طريق المذياع.
وإذا كان البياتي قد سرق فكرة القصة ثم نظمها، فإنه يكون قد سرق الفكرة القائلة إن اللاجئين ضحايا المأساة الكبرى لم يعودوا غير أشباح وأصداء. 
وفي مكان آخر، اختلفت آراء بعض الشعراء حول السّباق إلى الشعر الحرّ، أهو السيَّاب أم البياتي أم نازك الملائكة، ولاحظت ذلك من حديث للسيَّاب جاء فيه أنه قرأ في أحد أعداد مجلة الآداب حديثاً بعنوان «الشعر الحر»، قال كاتبه فيه: لقد اندلعت الشرارة الأولى في موضوع الشعر الحر حين أراد بعضهم أن يضع السيَّاب على عرش الشعر الحر في العراق، فكتبت الآنسة نازك الملائكة في العدد الأول من السنة الثالثة عشرة في مجلة الأديب مقالاً بعنوان «حركة الشعر الحر في العراق»، لم تذكر فيه شيئاً من ذلك بما يختص بالسيَّاب، وهي كتبت مقالها كردّ فعل على مقال نشره نهاد التكرلي في مجلة الأديب بعنوان «عبدالوهاب البياتي المبشر بالشعر الحديث»، أنكر فيه دور نازك في النهضة الشعرية الحديثة، كما أنكر أدوار عشرات سواها من الشعراء العرب، وقال السيَّاب حرفياً: الحق أن أحداً لم يحاول وضع السياب على عرش الشعر الحر في العراق.
كما أنكر أدوار عشرات سواها من الشعراء العرب، مشيراً إلى أن الأستاذ علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحرّ في ترجمته لرواية شكسبير «روميو وجولييت».
لكن السيَّاب يعود فيذكر في مذكراته التي نشرها وجمعها الأستاذ حسن الغرفي، أننا: إذا تحرينا الواقع مرة أخرى وجدنا أن ديواني الأول «أزهار ذابلة» الذي طبع في مصر وصل إلى العراق في شهر يناير من عام 1947 م، مع العلم بأن قصيدة «هل كان حبّاً» المكتوبة على طريقة الشعر الحر، وهي للسيَّاب نفسه، قد كتبت قبل طبعه بما لا يقل عن شهرين، وبأكثر من عام كما هي الحقيقة، ثم إن الآنسة نازك تقول إن الصحف لم تنشر شيئاً من الشعر الحر في الفترة الواقعة بين ظهور ديواني الأول «أزهار ذابلة» وقصيدتها «الكوليرا» التي هي ليست من الشعر الحر وبين صدور ديوانها «شظايا ورماد». والواقع خلاف ذلك، فقد نشرت أنا - والكلام للسياَّب - في تلك الفترة ما لا يقل عن خمس قصائد من الشعر الحر في الصحف البغدادية والنجفية، كما نشر بلند الحيدري قصيدة أو أكثر في مجلة الأدب، وهناك حقيقة لم يبق مجال لإخفائها (وهنا يحسم السيَّاب الموضوع)، وهي أن الشعراء العراقيين الذين كتبوا على طريقة الشعر الحر لم يتأثروا بخطى نازك ولا خطى باكثير، وإنما تأثروا بخطى كاتب هذه السطور، وهو هنا يوحي بأن التأثر كان في ما كتبه أولاً.
 ويختم السيَّاب في هذا الموضوع قائلاً: ومهما يكن، فإن كوني أنا ونازك أو باكثير أول من كتب الشعر أو آخر من كتب ليس بالأمر المهم، وإنما المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد في ما كتبه، والملاحظ أن السيَّاب استثنى البياتي من مجموعة الشعراء الذين ذكرهم. 

بين السياب ورئيف خوري وعبدالصبور
استكمالاً لقضية الشعر الحر، جاء رد من السيَّاب على مقالة للأديب اللبناني رئيف خوري، يذكر فيه السيَّاب منتقداً مجلة الأديب، لأنها أحالت عددها الشهري إلى رئيف خوري ليقرأه ويعلّق عليه، ويقول في هذا الصدد: كان على المجلة أن تحيل عددها الشهري إلى ناقد من نقاد الشعر المعروفين، فيعلّق عليه بما ينصف به كل من ساهم في هذا العدد الممتاز، ولكنها لسبب ما أحالته إلى الأستاذ رئيف خوري، وهو في رأيي ليس من نقاد الشعر البارزين، بالرغم من أنه أديب كبير، وإني لمن المعجبين به، لكنه قال عن نفسه «له في كل عرس قرص»، والظاهر أن السياب كان يتهيّب وينقز من كل رأي نقدي يخصّه أو ينال منه، ويظهر انفعاله مما كتبه رئيف خوري واضحاً من خلال قوله: إن قابلية خوري متوزعة هنا وهناك، فهو ليس بالناقد البارز والقاص المبدع ولا الشاعر الكبير، وإن كان بمجموعه أديباً كبيراً وهو لا يزاول نقد الشعر إلا مزاولة نظرية. 
ثم يقول: فليعذرني الأستاذ خوري وليعذر القرّاء أيضاً إذا وجدت أن من المتعذر إطلاق وصف ناقد الشعر على من يقرأ قصيدة «الناس في بلادي» للسيد صلاح عبدالصبور فيعجبه منها انتباهه - أي عبدالصبور - للإمكانات الكامنة في وزن الرجز التام والمجزوء، فالأحرى بالأستاذ خوري أن يرجع إلى العدد السادس من «الآداب» عام 1954 فيقرأ «أحد والحرية والربيع» للزميل الأستاذ كاظم جواد و«أنشودة المطر» لكاتب هذه السطور، وكلتاهما من وزن الرجز التام والمجزوء. 
 ويذكر أن أحد الشعراء المصريين دعا إلى الجهاد في سبيل الشعر المصري وإعلان الحرب على السيَّاب والشعراء العراقيين، لأن رئيف خوري مجّد الشاعر المصري صلاح عبدالصبور.
 كما انضم الناقد المصري محمود أمين العالم إلى منتقدي السيَّاب، زاعماً أنه حذا حذو إليوت، وقد أخذ عليه في قصيدته «مرثية الآلهة» كثرة الشروح، بينما ردّ السيَّاب معتبراً تلك الشروح من فضل الكلام، وأن ما يكتبه من صميم التقاليد ودونك أبا تمام لتعرف كيف كان يستخدم التاريخ والأساطير. ويتابع عبدالصبور في مكان آخر هجومه على السيَّاب في مطلع نقدي عنوانه «السلم الذي أصبح سمَّاً»، وفيه أخذ عليه قوله «مازال ناقوس أبيك يقرع المساء»، وكان عليه - أي السيَّاب - إضافة (ياء) بعد كاف أبيك فتصبح أبيكي، لكن لم يدر عبدالصبور أن اللغويين جوزوا إضافة (ياء) بعد كاف أبيك، علاوة على ذلك قراءته من مرثية جيكور بيتاً على هذا النحو: 
سمّ في الحضيض أعلاه 
مرقاه انخفاض وإن بدا كالصعود
فقد استبدل عبدالصبور لفظة سلم التي سقط حرف (ل) منها بلفظة (سم)، فحكم على البيت من اللفظ الذي أمامه دون أن تأخذه القراءة إلى احتمال سقوط الألف من سلم لتصبح (سم). 
 ويختم السيَّاب جداله الشعري مع عبدالصبور بالقول: «ولو شاء الأستاذ عبدالصبور لصنف لي قائمة عشرية الأرقام بالأبيات المختلة وزناً من شعري، وإني لأتحداه أن يفعل»، مضيفاً: «فليثبت لي الأستاذ عبدالصبور أن من بين قصائده التي نشرها طوال عام أو أكثر قصيدتين لا أكثر سالمتان من الأخطاء العروضية واختلال الأوزان. أما ديوانه الأخير «المجد للأطفال والزيتون»، فقد كان تكراراً مملاً لديوانه السابق «أباريق مهمشة»، كما لاحظت أن قصائده كانت شعارات سياسية منظومة تصلح مقالات افتتاحية».
 وأخيراً، بينما ذهبت في تخيل تلك المشاغبات بين الشعراء، استحضرني مشهد كنت فيه، وقد جمع إلى رئيس الجمهورية آنذاك إلياس الهراوي بعض الشعراء، منهم عبدالوهاب البياتي ونزار قباني وسعيد عقل والفيتوري وجوزيف حرب، وكانت المناسبة تكريم الفنان منصور الرحباني، والمفاجئ أنه بعد أن ألقى البياتي قصيدته، وهي مقطوعة من أحد دواوينه، جاء دور سعيد عقل، فصعد المنبر، وغمز من قناة رئيس الجمهورية، ثم انبرى منتقداً وبقسوة قصيدة البياتي، متهماً إياه بالجمود وعدم القدرة على تقديم الجديد. تذكرت هذه الحادثة وأنا أكتب ما كان قد جرى بين السيَّاب وصديقيه البياتي وعبدالصبور .