الصالونات الأدبية المرأة الحاضنة للإبداع

الصالونات الأدبية المرأة الحاضنة للإبداع

تشير النصوص في الثقافة العربية إلى أن أول ظهور لما عُرف فيما بعد بالصالون الأدبي كان بالمدينة المنورة في القرن الأول الهجري (السادس الميلادي)، حيث استضافت السيدة سكينة بنت الحسين (669م - 736م) في منزلها الشعراء والفقهاء ورواة الحديث والمغنين. 
وفي موسم الحج ورد إليها جرير والفرزدق وجميل وكثير ونصيب، وحكمت بينهم ورجحت أشعرهم. 

كذلك كان للمغنين نصيب من عنايتها، إذ يذكر المؤرخون أنها رعت «الفريض» وقدمته لكبار المغنين في عصرها حتى علا شأنه (مجلة الرسالة/ العدد 505/ سعيد الدبو 
هـ جي)، فكان لها تأثير على رواج الفنون والآداب وتقديمها للناس، وكان مجتمع المدينة يطّلع على جديد الشعر والمعرفة من خلال مجلسها.
في فترة زمنية لاحقة، وفي الأندلس، اشتهرت ولّادة بنت المستكفي (994م – 1091م) بمجلسها المشهور في قرطبة، الذي كان، وفقاً لوصف المؤرخين، مقصداً للناس من كل الطبقات ومن كل الأديان، رجالاً ونساء. 
وكانت النساء تقصد مجلسها لتعلّم القراءة والكتابة والموسيقى، وكان من رواده ابن حزم الأندلسي صاحب فلسفة الحب في كتابه طوق الحمامة، وابن زيدون.
في أوائل القرن الماضي، وفي القاهرة، كانت الكاتبة اللبنانية - الفلسطينية مي زيادة (1886م - 1941م) تعقد مجلسها كل ثلاثاء من كل أسبوع، وكان من رواده العقاد وطه حسين والرافعي ولطفي السيد وأحمد شوقي وإبراهيم المازني وخليل مطران وأنطوان الجميل، وانتهى المطاف ببعضهم إلى الوقوع في حب مضيفتهم.
أما في أوربا، فقد ظهر أقدم الصالونات الأدبية في القرن السابع عشر، وكانت تستضيفه الماركيزة رامبوليت (1588م – 1665م)، ثم تتابعت بعده صالونات أخرى مشابهة. 
وكانت معظم المضيفات نساء من أسر نبيلة، الأمر الذي تفسره المؤرخة سوزان هيربت بأن النساء اتخذن تلك الصالونات طريقاً للتعلم والتسلية والهروب من الملل الذي يرسم ملامح حيواتهن.

مكان الصالونات
أُقيمت الصالونات في غرف الاستقبال أو مكتبة المنزل أو غرفة الجلوس، وفي التجمعات المحدودة كانت تُعقد أحياناً في غرفة نوم المضيفة. 
كلمة صالون Salon ظهرت في فرنسا عام 1664م، وهي مأخوذة عن المفردة الإيطالية Salon، التي تعني قاعة استقبال. وقبل ذلك كان مسمى التجمع يعزى إلى مكان إقامته، فأطلق من بين كلمات عدة كلمة Ruell، التي تشير إلى المساحة بين سرير المضيفة حيث تجلس وجدار الغرفة، ففي تلك المساحة كانت توضع كراسي يجلس عليها المشاركون في الحديث (Alpha History 2015).
تبدأ الجلسات عادة بقراءة مقاطع من رواية تم نشرها حديثاً أو مقال أو كتاب فلسفي. ويعد اختيار الضيوف أحد الجوانب المحورية في إدارة الصالون. 
وكانت المضيِّفة تُعد قائمة بأسماء الضيوف، وغالباً ما كنّ يتقصدن اختيار أشخاص من خلفيات مختلفة، وعلى حد النقيض من بعضهم البعض، لتوليد مزيد من الأفكار المختلفة والمثيرة للاهتمام، التي تحمل طابع التحدي، وكان ذلك يشكل مزيداً من الجهد لدى المضيفة، التي تسعى إلى تحقيق توازن بين ضيوفها، حتى لا يغطي أحدهم بظله على الآخر (Alpha History 2015).
في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أصبحت الصالونات الأدبية بمنزلة الجامعات غير الرسمية، مختصة بالأفكار التنويرية والفلسفية والتي مهدت لقيام الثورة لاحقاً.
وكان من روادها دبلوماسيون وزوار أمريكيون أمثال توماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين والاقتصادي الأسكتلندي آدم سميث والسياسي والاقتصادي الفرنسي آن روبير جاك تيرجو والكاتبة والناشطة السياسية أوليمب دو غوج والكاتبة والناشطة مدام دو ستيل.
وظلت مساهمات النسوة المضيفات في الثورة والتنوير والتأثير في العلاقات بين الجنسين محل نقاش للمؤرخين، حيث اعتقد غالبية مفكري القرن الثامن عشر أن العلم والفلسفة والسياسة هي علوم ذكورية، وأن التنوير سيشمل بمنافعه النساء، ولكن النساء بأنفسهن يجب ألا يكنَّ جزءاً منه، ومن هؤلاء المفكرين جان جاك روسو الفيلسوف التنويري (1712م - 1778م) الذي وقف ضد استضافة النساء للصالونات وضد مشاركتهن في المناظرات السياسية، حيث اعتقد أن المرأة تابع فكري وقد تُفسد المناقشات العلمية والفلسفية، في حين اتخذ الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو (1713م – 1784م) وجهة النظر المضادة «على العكس، حضور المرأة يجعل من الضروري مناقشة أشد المواضيع جفافاً بمنطق جذاب وواضح».

أكاديمية للنساء
اشتهرت صالونات أدبية عدة في القرن العشرين في باريس، منها صالون نتالي كليفورد بارني (1876م - 1972م)، التي كانت تقيمه في منزلها رقم 20 بشارع جيكوب كل يوم جمعة من كل أسبوع لمدة 60 عاماً، ونوقشت فيه موضوعات أدبية وموسيقية وفنية، كما كانت تُقرأ فيه مقاطع من الشعر وتؤدى فيه أيضاً أجزاء من مسرحيات ورقصات مختلفة. 
وكجزء من أنشطة صالونها، أقامت نتالي أكاديمية للنساء على غرار الأكاديمية الفرنسية التي كان منتسبوها من الذكور فقط، وكان منهج أكاديميتها غير الرسمية سلسلة من القراءات تقام بشكل دوري في صالون الجمعة. 
استضافت نتالي أشهر الكتّاب في عصرها، منهم باول فاليري و ت. إس إليوت، واجتمع في صالونها الكتّاب والشعراء والمفكرون والناشرون من الفرنسيين والإنجليز والألمان، وشاعر بنغلاديشي وآخر روماني. وكان صالونها وقت الحرب العالمية الأولى بمنزلة الجنة لأولئك المعارضين للحرب.
نختتم هذا العرض التاريخي والثقافي بالصالون الأكثر شهرة، وهو صالون جيرترود ستاين (1874م – 1946)، الكاتبة الأمريكية التي عاشت غالبية سنين حياتها في باريس، ويعد منزلها ذو العنوان (27 Rue de fleurus)، الذي أقامت فيه صالونها، أول متحف للفن الحديث، حيث احتوى على لوحات لبابلو بيكاسو وسيزان وماتيس وجوجان رينوار ومانيه، وقبل أن تؤسس شهرتها ككاتبة، كان جمعها للوحات الفنانين الصغار والمغمورين الذين شكلوا لاحقاً رواداً للفن الحديث, هو ما جعل صالونها يدخل التاريخ. 
ولكثرة ورود الناس إليها لرؤية لوحاتها، ظهرت فكرة صالون يوم السبت، الذي استمر بعد ذلك، حيث استضافت رسّامين هنغاريين ومفكرين فرنسيين وبريطانيين ومن ألمانيا، يمكن أن تلمح بينهم بيكاسو وعشيقته، وماتيس وآرنست هيمنغواي الذي ارتبط اسمه بها دائماً واختارها أماً روحية لابنه، وف. سكوت فيتزجيرالد، وسنكلير لويس، وجيمس جويس، وإليوت، وغيرهم الكثير من رموز عقد العشرينيات (مقال JAMES R. MELLOW 1968). كانت علاقة جيرترود وبيكاسو علاقة صداقة امتدت طويلاً إلى أن أوصلته هو ورفاقه من مدرسة الفن الحديث إلى مستوى من الشهرة، حيث لم يعودوا بحاجة إليها، وخلال قمة شهرته هجر الرسم فجأة وبات يرتاد المقاهي الباريسية ويكتب محاولات شعرية فقيرة. 
وفي محاورة طويلة بينهما نُشرت في كتابها «Everybodys Autobiography» قالت له وهي تهز ياقة معطفه «بعض اللوحات مهينة أكثر من كونها سيئة، وكذلك بعض القصائد، لا أستطيع أن أتحمل شخصاً يقوم بعمل لا يجيده بينما هو عبقري في عمل آخر، لا بأس أن تأخذ من ممارسة الشعر هروباً مؤقتاً، لكن لا تنتظر مني أن أخبرك بأنه شعر جيد! استمر في هروبك إلى أن تشعر أنك أكثر ابتهاجاً أو أقل كآبة، وحينها سوف ترسم لوحة جميلة».
وحتى يتمكن القارئ من استحضار فكرة واضحة عن صالون جيرترود، أقترح مشاهدة فيلم Midnight in Paris الذي يقدم صورة جميلة ومرحة عن صالونها وأسلوبها الأمومي في التعاطي مع الكتّاب والرسّامين. في آخر حياتها زارت جيرترود بلدها للمرة الأخيرة، حيث استضافتها إليانور روزفلت، وذاع صيتها وتحققت أمنيتها التي عبّرت عنها مرة بقولها: «لطالما أردت أن أكون تاريخاً» .