رواية السيرة الذاتية بين الواقع والمتخيل
تعد الرواية السيرية «رواية في السيرة الذاتية» من أحدث أنواع الأجناس الأدبية التي ظهرت أخيراً، وهي مزج بين الواقعية والمصداقية التي يحتمها أدب السيرة الذاتية والخيال، الذي هو إحدى ركائز الرواية، وامتزاجهما معاً نتج عنه أدب أكثر جمالاً وجاذبية، فقد أتاح للكاتب أن يصوغ حياته بشكل أكثر إثارة، وفي الوقت نفسه لا يخرج عن إطاره من الواقعية.
لو تحدثنا عن الأدب الذي خرج من تحت عباءته هذا المزيج لوجدنا أن أدب السيرة الذاتية أو البيوغرافيا، وهو أدب قديم ظهر أول ما ظهر عند الأمازيغ، لم ينتشر إلا بنشر القديس أوغسطين كتابه «اعترافات»، والتي كتبها بنمط ديني بحت، ثم أرسى جان جاك روسو هذا الجنس الأدبي الجديد، والذي قدمه قائلا «إنني مُقْدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته، وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي»... فبهذه الكلمات نستطيع أن نقول إن روسو وضع جنساً أدبياً جديداً سمّي «سيرة ذاتيّة»، والسؤال الذي يظل يطرح نفسه باستمرار: هل يعتبر أدب السيرة الذاتية أدباً مستقلاً بذاته؟
فمنذ ظهور هذا الجنس الأدبي وهو يبحث عن مقوّماته الفنيّة الخاصة به وحده لتضع الحدود بينه وبين الأجناس السّردية الأخرى، لأنه يتشابه مع عدد منها، خاصة أدب المذكّرات واليوميات، فكلاهما يطرح القضايا نفسها، ولكن على الرغم من هذا التشابه الكبير بين أدب السيرة الذاتية وأدب المذكرات، فإن هناك فرقاً جوهرياً يفصل فيما بينهما، فالسيرة الذاتية تروي أحداثاً شخصية على مرور الزمان، ولذلك تعد أعرق من اليوميات التي تدون الأحداث في فترة زمنية معينة ومحددة بشكل أشمل وأكثر اتساعاً، ولكنها تكون أكثر دقة زمنية، لأنها قريبة جداً من الذاكرة.
الباحث الفرنسي والمرجع العالمي الأول في دراسة السيرة الذاتية، فليب لوجون طرح كتباً عدة عن مفهوم أدب السيرة الذاتية (السيرة الذاتية في فرنسا، أنا، أنا هو آخر، السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي)، واستخلص منها أن السيرة الذاتية هي «حكي استيعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّز على حياته الفرديّة، وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة».
ووضع حدوداً خمسة للسّيرة الذاتيّة باعتبارها جنساً قائماً بذاته وهي:
1 - شكل اللّغة، فالسيّرة الذاتيّة هي قصّة نثريّة.
2 - الموضوع المطروح، فهي تروي حياة فردية وتاريخ حياة شخصية معينة.
3 - موقع المؤلف، فلابد من تطابق بين المؤلف والسارد.
4 - تطور الحكي على اعتبار أنه حكي استعادي ضروري.
5 - المرونة اللازمة التي يجب أن تنظر إلى الإبداع الأدبي على أنه متطور وغير قاسٍ.
أدب المذكرات
ومن خلال هذه المعايير الخمسة، حدد المؤلف أدب السيرة الذاتية، واعتبر أي خروج عن أحد هذه المعايير الصارمة يكون الكاتب قد خرج من أدب السيرة الذاتية لصنف آخر من صنوف الأدب، فمثلاً نجد أن غياب المعيار الثّاني المتمثّل في الموضوع المطروق «حياة فرديّة وتاريخ شخصيّة معيّنة» يُخرج الأثر الأدبي من السيرة الذاتية ويضعه في صنف أدب المذكرات، ذلك أن المذكرات لا تنشغل بالحياة الشخصية والفردية بل بالحياة العامة، وغياب المعيار الثالث يُخرج العمل من السيرة الذاتية إلى الرواية الشخصية، وهكذا.
لقد كان لظهور هذا النوع من الأدب في الثقافة الغربية أسباب وعوامل كثيرة، منها الدينية التي تحث على محاسبة النفس، ففي السيرة الذاتية لجان جاك روسو، وهي السيرة التي أسست أدب السيرة الذاتية، نجد محاسبة النّفس وتعريتها وفضحها طلباً للعفو والمغفرة.
ويعتقد البعض أن أدب السيرة الذاتية مستحدث في الأدب العربي، ظهر بعد الرواية، ونتج عن عامل المثاقفة بين الثقافة الأوربية والثقافة العربية، وهذا خطأ جسيم، فإن كان المصطلح لم يعرف إلا حديثاً، فقد دوّن هذا النوع من الأدب منذ قديم الزمن، فالسيرة الذاتية تعود إلى مؤلف ابن خلدون «مقدمة ابن خلدون» ومذكّرات الأمير عبداللّه الموسومة بكتاب «التّبيان» لصاحبها عبداللّه بن بلقين بن باديس بن حبوس بن زيري، ويعد هذا الكتاب وثيقة توضح الوضع الاجتماعي والسياسي في الأندلس، وكتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، ويعد كتاباً تراثيّاً من كتب السيرة الذّاتيّة، وكذلك كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي.
لكن المفهوم الحديث والمعايير الثابتة لأدب السيرة الذاتية ظهرا في كتاب «الأيام» لطه حسين، الذي ساعده كثيراً إلمامه بالثقافة الغربية، واطلاعه على مذكرات روسو وأندريه جيد، على خوض التجربة بنجاح.
والغريب أنه عند نشر كتاب «الأيام» لم ينشغل الجمهور من القراء أو النقاد وقتها بذلك النوع الفني أو الأسلوب الأدبي، وما أثار فضول النّاس هو تلك الصّورة الّتي رسمها مؤلّف الكتاب لنفسه والأحداث التي مر بها، فلم يهمهم أن يكون الكتاب رواية أو قصة أو ترجمة بقدر ما شغلتهم الأحداث.
إن العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية ظلت هي الأكثر التباساً وتداخلاً ومثار جدل بين كثير من الكتَّاب، فقد تتكئ الرواية على السيرة الذاتية، أو تتخفَّى تحت تسمية الراوي، وأتاح المصنف الأدبي الحديث «الرواية السيرية أو رواية في السيرة الذاتية» للكاتب الدمج بين سيرته الذاتية والخيال والإبداع، ويعرف هذا النوع الأدبي بأنه «حَكْيٌ استعاديٌّ نثريٌّ، يَتَّسِمُ بالتماسُكِ والتسلسل في سَرْدِ الأحداث، يقومُ به شخصٌ واقعيٌّ عن وجودِهِ الخاصّ، وذلك عندما يُركّزُ على حياته الفردية وعلى تاريخِ شخصيتِهِ بصفةٍ خاصة، ويُشْتَرَطُ فيهِ أن يُصَرحَ الكاتبُ بأسلوب مباشرٍ أو غير مباشرٍ بأنَّ ما يكتُبُهُ هو سيرةٌ ذاتية».
وقد ظهر هذا النوع مع دوبرفسكي، الكاتب الفرنسي الذي لا يجيد السباحة بعيدًا عن ذاته، وخلق المصطلح العام «تخييل ذاتي» ليتماشى بلا شك مع حاجة أكيدة في الحقل الأدبي الفرنسي في عهده، بعدها ظهرت أعمال فانسان كولون الذي أخذ مصطلح التخييل مأخذ الجد، فوسع مفهوم «التخييل الذاتي» وجعله يشمل حيواتٍ متخيلة أصلاً، بيد أنها مُسندةٌ من قبل الكاتب إلى شخصية تحمل اسمها، بين هذين القطبين انبثقت كل أنواع الدمج الممكنة، الخاضعة لشتّى الأخلاط الوسطى بين علامات السيرة الذاتية وممارسات التخييل، وعلى إثر ذلك تمت استساغة المصطلح من المثقفين والنقاد، وشيئاً فشيئاً استُعمل «التخييل الذاتي» للدلالة على المجال الأوسط القابع بين «السيرة الذاتية» والعمل التخييلي، فنشأت الرواية السيرية، وهي فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، بأسلوب خاصّ، ليصنع منه نصاً سردياً متكاملاً ذا مضمون مقنع ومثير.
ويجب على الراوي ألا يخلُّ بالطابع العام للرواية السيرية، حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل (المتكلّم)، بل قد يستخدم ضمائر أخرى بشرط أن يعرف المتلقي ذلك، لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة.
بُعْد السيرة الذاتية
وترتكز رواية السيرة الذاتية على آلية السرد الاسترجاعي، التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة، ويعد الكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2014 واحداً من أكثر الكتّاب الذين تأخد أعمالهم بُعد السيرة الذاتية، فلم يخلُ عمل له من تداخل ذكريات حياته مع أحداث العمل، إلا أنه لم يطرح أعمالاً تنتمي إلى هذا النوع من السرد بشكل مباشر إلا في «سلالة» و«دفتر العائلة»، وهما روايتان في السيرة الذاتية، فهو لم يحبذ أدب السيرة الذاتية، ورفض أن يكتب حياته في ذلك السياق الأدبي، معللاً ذلك في إحدى مقالاته بمجلة اقرأ الفرنسية «لا يتمثل مسعاي في أن أكتب لأعرف نفسي، ولا لأمارس الاستبطان أو الغوص في أغوار النفس، بل في العمل من خلال عناصر بسيطة مرتبطة بالمصادفة، كالأبوين اللذين كانا لي، وولادتي بعد الحرب، كان عــــليّ إيجاد شيء من الجاذبية في هذه العناصر التي لا تتمتع في حد ذاتها بأهمية، وعلى تجزئتها عبر موشور من المخيال، ولطالما رأيت في مشروع السيرة الذاتية ضرباً من الخديعة، ما لم يتـــوفّر على بُعد شعري، أن في النبرة السيرية الذاتية شيئاً ما سطحياً لأنها تستتبع على الدوام نوعاً من المسرحة. أما لديّ فهي على الدوام مشروع أدبي ومعالجة فنية لعناصر هشة». ولا نستطيع أن ننكر أن تداخل الرواية مع السيرة الذاتية أدى إلى إشاعة التجربة، فإن كان أدب السّيرة الذاتية يحتم على صاحبها كتابتها بنفسه، وهذا ما يفصلها عن أدب السّيرة، الذي يتناول حياة إنسان ما، وتركز على تسجيل أعماله، وتحليلها والتعليق عليها، بقصد الإفادة فيها من خبرات وتجارب في الحياة، ويحتم على كاتب السّيرة أن يقول الكلمة الفصل، إضافة إلى أنها تمتاز بنزعة تاريخيّة، لأنّ الأدوات التي يستــعملها كاتب السّيرة هي الأدوات نفسها التي يستعملها المؤرخ.
وقد منحت الرواية السيرية الحق والحرية بأن يكتب شخص ما حياة شخصية معروفة يكون قد تعايش معها بشكل أو بآخر وكان قريباً منها وشاهداً على أحداث حياتها، فيمزج فيها بين الحقيقة والإبداع، وفي الوقت نفسه يبعد عن القالب الجامد لكتابة «السيرة» الخالي من الخيال أو الفن، لأنه يستند إلى وقائع حقيقية وتواريخ صحيحة وأحداث مرت بالفعل، وإلا سيُتهم بالتزييف.
ومن أشهر ما كُتب في هذا الصدد رواية «عشيقة شارل بودلير»، التي كتبها صديق الشاعر الفرنسي، الشاهد على أحداث حياته ميكائيل برزان، والتي بدأها قائلاً «لي أن أقول لك إني لم أخترع شيئاً. لم أروِ، عن علاقة هذين العاشقين الملعونين، إلا قصة ناقصة مما أعرفه عنهما، كما لم أسرد شيئاً أجهله. لقد شهدتُ بعض مضمون هذه القصة مباشرة، أو كتبته وفقاً لشهاداتٍ أكّدت صدقها الرسائل والجلسات الخاصة. لكن الأساسي من هذه القصة روته لي جان نفسها، التي أعدتُ وصلي بها بعد موت شارل، وبقيت على هذا التواصل معها حتى خبت روحها منذ زمن بعيد».